الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قمر الجزائر 15

أفنان القاسم

2018 / 5 / 2
الادب والفن


عند ذلك، شان سعدي البحر، وكره عليَا مدمر القصبة. قال عنه غيرَ جزائريّ، يَعْتَبِرُ القصبةَ روما. هل يمكنه مجابهة البحر؟ وذلك الأستاذ الفلسطيني العجوز، هل يمكنه انتزاع كرامته من بحر حتى السمك يموت فيه؟ لمح قطعة من وجهه، قمرًا مغدورًا به. تذكر انقضاض النساء المحجبات الغاضبات اللواتي أتين يحتججن لأجل لتر من الزيت أو كيلو من السميد، فقال لنفسه: عليهن أن يصنعن من أحجبتهن أعلامًا للموت كي يأكلن، وعلى القمر أن يكون خؤونًا والشمس ابنة مومس! إذن ما هذا الزمن الذي يجد فيه شخصٌ متقدمٌ في السن نفسَهُ مضطرًا للإلحاح في طلب حقه في التقاعد، وامرأةٌ في طلب حقها في الشَّبَع؟ هذا غيرُ إنسانيّ. ألقى التبعية على عاتق حسيبة. بغلطتها إذا كان قلبه ميتًا، إذا كان علي لابوانت يمارس الإرهاب على الناس، إذا كان صلاح موضوعَ ذُلٍّ وإخزاء، إذا كانت حسيبة الأخرى وَرِكًا للدعارة. بالمقابل، حسيبة التي له، لن تكون حسيبة. ستكون البطاطا. حسيبة الأخرى لن تكون. حسيبة ستكون البطن، الفخذ، الثدي، ولن تكون حسيبة الأخرى. ستكون ربما عَلجية البربرية، لكنها لن تكون حسيبة الأخرى، وستبقى حبيبته الأولى. أراد سعدي أن يصرخ في وجه البحر" "أيتها القوة العديمة الشفقة التي تتحدى العالم بلا عقاب!". سيحفظها من العار. لكنه انطوى على عقبيه مضطربًا، وتوغل في الليل. سيذهب إلى موعده المسائي، وسيصعد السلم المعلق، وسيحمل نفسه إلى زوبعة الوجع والدم. سيضمها هامسًا: "لنذهب من هنا، لنبن حياتنا في مكان آخر". هكذا، لن يتحول إلى جبان، إلى نصف رجل، لكنه سيعود رجلاً حقيقيًا كما يريد أبوه. "اخرس!". – "اخرس، اخرس، ما حيلتي أنا؟". سيحفظها من العار. ستحميها ذراعاه من قرار الكبار، ولن يكتشف ابن عمها أنها نزفت. سيوفر عليها الخزي، و، لأجلها، سيقاتل. سيتحدى البحر كالقلوع، ويجعل منها سيفًا من النار. ابتعد عن البحر الذي كان يعوي، هائجًا، كالذئب في أثره. ومرة أخرى، أحس بنفسه مضطربًا.
هدأ هدير الأمواج في اللحظة التي وصل فيها حي القصبة، وانقطع ضجيج الظلال الصامتة. رافقه حضور نبوي، فتوغل قليلاً أكثر في ظلام الأزقة: كان خائفًا من الذهاب حتاها. كيف إنقاذها؟ إنقاذها لتوقعه في الشَّرَك؟ البيت، الأولاد، الكُسْكُسِي، روائح الطنجرة من الصباح إلى المساء؟ زوج، فأب، فجد، ولن تغدو الحياةُ غيرَ انتظارٍ للموتِ بشرفٍ عائليّ! عاد يفكر في روائح اللحم المغلي، في السعال، في المرض، في الانتظار نهارًا كاملاً عند الطبيب لأجل دواء لا يوجد في الصيدليات. لا، لن يحمل صليبه. الموت أفضل. أن يموتَ اليومَ شابًا وجميلاً على أن يموتَ غدًا عجوزًا وعاجزًا. ستذبل حسيبة، نعم، ستذبل. لِمَ كل هذا العناء إذن لأجل قطفها؟ لقد امتلكها. شهوةٌ، جمالٌ، تفجرٌ بالشباب والوَجْد. والآن، والليل يغمره في الزقاق الرطب، استرجعَ لحظةَ اللَّذةِ والروع.
نَظَرَ إلى السماء، إلا أنه بدلاً من التضرع إلى الله، تابع طريقه بتصميمٍ وعزم، في اتجاه بيت حسيبة، وهو ينوي أن يقطع معها نهائيًا، ويطلب منها أن تأخذ الأمر على عاتقها. هي أرادت، فلتتحمل. أهو دمه الذي نضح على الوَرِكَيْن البرنزيتين؟ أهي بكارته التي افتضت على السطح الراسي في عتمة الفضيلة؟ أهو شرفه الذي تجرجر في الوحل؟ حقًا كان الفاعل، لكنها كانت إرادة الفاعل. إذن، فلتتحمل مسئوليتها. فلتتزوج من ابن عمها، ولتتحمل، أو، فلتنتحر، وهذا أفضل للجميع.
رأى السلم معلقًا، إلا أنه اختبأ من وراء العمود، وعزم على الذهاب للارتماء على قدمي أبيه طالبًا أن يغفر له. "لا، لن أخرس!". سيكون ابنًا جديرًا بالثقة، لن يتطوع في الجيش، وعندما يتوفى حبيبي بابا، سيعتني بالأرض، لكنه لن يستغل الفلاحين. عندما يموت بَعْدَ حبيبي بابا، سيترك الأرض التي يرثها عبادي الصالحون، لا الذين يصلون وينافقون، أو الذين ينتظرون في القصبة امرأة عجوزًا ليسرقوها. الجماهير الشعبية لخويا الكبير. سيدشن زمنًا آخر مختلفًا عن زمن علي لابوانت. طَرِبَ سعدي على هذه الفكرة. لن يتزوج من حسيبة. لن يكون له وريث يحرم الفلاحين من أرضه. بامتناعه عن الزواج من حَسِي، يقوم بواجب وطني يتباهى به أكثر من ثوري كبير، أكثر من ثوري أكبر من كبير – "هل يوجد واحد؟ لا، لا، أنا لم أقل شيئَا". قفز من الفرح. اكتشف أنه أقرب إلى الثورة من أيِّ واحدٍ من الأبطال كلهم. حقًا لم يشارك فيها في الماضي، لأنه لم يكن مولودًا، لكنه سيشارك فيها في المستقبل، لأنه كان مولودًا، ومشاركته ستكون أكثر فخارًا من كل المشاركات الأخرى. زد على ذلك، لن يكتفي بالمشاركة فيها، سيصبحها، فالثورة هي الأرض، والأرض هي ما سيرثه الفلاحون بعد موته. شرط ألا يتزوج من حسيبة، وألا يكون له وريث يحرمه من شرف إنجاز أكثر الأعمال وطنية... ويش تاني!
عاد إلى الوراء. لن يتسلق السلم. لن يضع الحبل حول عنقه. إن صَعَدَ، ضَعُفَ أمام لهثاتها، واستسلم، وخسر كل شيء: أباه والأرض والثورة والفلاحين. سيخسر أيضًا شبابه، وَسَيُمْضِي باقيَ عمرِهِ المديد بين روائح الطنجرة والانتظارات اللامجدية عند الطبيب. لا، ليست قطرة دم انبجست من الوَرِكَيْن البرنزيتين ستخضعه. لا بد أنها اغتسلت بعدها، وأزالت كل أثر عنها، واستعادت نقاء قطرات الندى في مظهرها، على الرغم من شرخها العميق. ماذا يهم ذلك؟ المظهر، لها، هو الأهم. ما يستلفت النظر إلى عرق الياسمين المكسور قطرات الندى. المظهر في حالتها هو الأهم، والجوهر في حالته هو الأعم. الأرض التي سيتركها للفلاحين بعد موته هي جوهره، وسيتجاوزهم جميعًا. ثورتهم هم كانت، ثورته هو ستكون. لا سعدي ياسيف سيساويه، ولا علي لابوانت، ولا العربي بن مهيدي، ولا كل أبطال الغائط الآخرين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا