الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمات التعليم في تونس و إدارة التوحش

إقبال الغربي

2018 / 5 / 2
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


خيم على التونسيين في الأسابيع الأخيرة كابوسا مرعبا تمثل في إضراب عام لقطاع التعليم الثانوي و التهديد بسنة بيضاء كانت ستلحق ضررا كبيرا بآلاف التلاميذ و بعائلاتهم . فإضراب قطاع التعليم يؤثر مباشرة على حوالي تسعة مئة ألف تلميذ و يزعزع صورة المدرسة التونسية و القطاع العام بصفة عامة .
و بينت هذه الأزمة بين النقابات من جهة و السلطة التنفيذية من جهة أخرى أن العلاقة بين المجتمع والدولة والرهانات الاقتصادية الذي تسببت في تفجير الثورات العربية،هي إلى يومنا هذا لا تزال معارك غير محسومة.
و نتج عن هذه الإضرابات حرب غير معلنة بين الأساتذة و بقية المجتمع و خاصة الطبقات الوسطى التي تراهن دائما على نجاح أبنائها مدرسيا . و أدى هذا "التدافع الاجتماعي " إلى توترات و مشاحنات أدت إلى حرب نفسية عنيفة تنبؤ بتوحش غير مسبوق في العلاقات الاجتماعية في بلداننا . وهو ما ساهم في تردي مستوى التعليم من جهة والى تردي صورة المدرس واختزال العلاقة التربوية النبيلة و المتعالية في مجرد علاقة مالية من جهة أخرى .
وفي هذا الإطار، نعلم أن البورجوازية مزقت الحجب العاطفية التقليدية و جردت من هالتها أصناف النشاطات التي كانت مجللة بالوقار و تحاط باحترام مقدس .فالمعلم الذي كاد أن يكون رسولا و الشاعر و العالم و الطبيب جعلتهم جميعهم أجراء في خدمتها . فتزعزعت الأوهام و التصورات التقليدية و تحطمت الأفكار العتيقة و الوقورة و أصبح المقدس مدنس وهو ما زاد في تفاقم الأزمة التربوية الأخيرة .
و لعل هذه الأزمة التربوية ستجبر الجميع إلى فحص شروط حياتهم و رهانات علاقاتهم المتبادلة بعقل واع و بأعين صاحية .فالمسؤول الأول عن هذه الماسي ليس الأستاذ و لا الولي بل منظومة رأسمالية متوحشة .
كيف ذلك
في أواخر القرن التاسع عشر أطلق الرأسمال العالمي موجة الاستعمار المباشر و وضع يده على ثمانين بالمائة من أراضى اليابسة . و هكذا وضع يده على ثروات هائلة و خلق أسواقا جديدة يصرف فيها منتوجاته .

لكن مع دخول النظام الرأسمالي العالمي أزمـاتـه الاقتصادية خـلال سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته في عهد الليبرالية الجديدة ، اكتشف الأعراف و خبرائهم من منظمات التعاون و التنمية الاقتصادية و صندوق النقد الدولي، منجمين ماليين جديدين و هما المصادر المالية للدولة و الخدمات العمومية للتصدي لانخفاض معدلات الربح . فهي بالنسبة لهم مستعمرات جديدة لرأس المال العالمي لا تحتاج إلى احتلال محلي و لا إلى قوة سلاح . إن ذلك يعني وضع اليد على المصادر المالية للدولة و تسخيرها فقط لصالح القطاع الخاص . و هو ما يفسر إحداث الاقتطاعات الغامضة و المستمرة في صلب قطاعات الصحة و الضمان الاجتماعي و صناديق التعويض و التعليم في نفس الوقت الذي ترفع فيه الضرائب و الرسوم . أما الخدمات العمومية ، مثل الخدمات البريدية و الإذاعات و التلفازات و الشركات الجوية و في بعض الأحيان جمع القمامة و إدارة السجون، فقد وقع التفريط فيها بسخاء لا مثيل له و بأرخص الأثمان للقطاع الخاص الذي سيقبض أرباحها الطائلة من عرق العمال و أتعابهم .
و هكذا فرضت المنظمات المالية الدولية على العديد من دول العالم إطلاق حرية السوق و خصخصة القطاع العام كشرط مسبق للحصول على التمويل اللازم للخروج من أزماتها الاقتصادية . و بالتالي انقضت هذه الدوائر المالية على سياسة الرفاهة الاقتصادية القديمة واستهدفت التعليم كأحد أهم مكونات قطاع الخدمات . و هكذا تخلت الدولة عن مسؤوليتها تجاه تطويره و دعمه بحجة عدم القدرة على تحمل نفقاته و أعباء الطلب المتزايد على الخدمات التعليمية .
و دفع المزج بين آليات العولمة من جهة و فكر الليبرالية الحديثة من جهة أخرى باتجاه خصخصة التعليم و تعزيز الابعاد التجارية و السلعية للمعرفة .حيث أتيح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية لفتح فروع لجامعات عابرة للحدود مثل السربون هارفارد في كل البلدان مع تصدير كوادرها الإدارية و الاكادمية .
ويقول الخبراء أن ميزانية التعليم تفوق - 2000 - مليار دولار سنويا وهو ما يشكل اقتصاد عملاق و كنز ثمين يسيل لعاب العديد من المستثمرين . و هكذا في عالم تسوده المردودية تحولت قيمة الفكر و المعرفة من قيمة الاستعمالية إلى قيمة تبادلية في سوق تحكمها قوانين العرض و الطلب و تخضع لمنطق الربح .


فالذين يحثون اليوم على تقليص تمويل القطاعات الاجتماعية، وضمنها التعليم لأقصى حد، استجابة لحاجات السوق الرأسمالية العالمية، ورأس حربتها الشركات العملاقة العابرة للقارات هدفهم تخريب القطاع العام .
و هم منطقيا يريدون خلق مجال استثمارات مربحة في قطاع التعليم، وذلك بإجبار الأسر على سحب أبنائها من التعليم العمومي، وتسجيلهم في القطاع الخاص، كبديل عن تردي المدرسة العمومية. و إذا علمنا أن الأولياء مستعدون أن يدفعوا أموالا طائلة من قوتهم و أنهم لن يترددوا أمام أية تضحيات كي يعلموا أبناءهم و يجنبوهم البطالة يمكننا أن نكون فكرة عن الأرباح الهائلة التي يمكن نهبها .
وبالتالي يصبح التلاميذ لا شباب الغد الذي يجب على المجتمع أن يكونهم و يساعدهم على تسيير حياتهم و التحكم فيها ، بل حرفاء و مستهلكين يجب عليهم دفع معاليم دروسهم التي لم تعد هي نفسها سوى منتوجات معدة للبيع .

إن خوصصة التعليم سيؤدي إلى إفـراغه من مضمونه التنموي والتحرري والمقاوم للقمع والاستغلال، ومن المضمون المعرفي الإبداعي والنقدي و سيحوله إلى مؤسسات موجهة لخدمة الاقتصاد الرأسمالي مشبعة بمعايير الربح، وبقيم الأنانية، والمنافسة، والفردية.
و في هذا الصدد نذكر أن بلدانا مثل فنلندا التي تتصدر ترتيب المنظومات التربوية مثلا، تكاد تخلو من المؤسسات التعليمية الخاصة لأن دستورها يقدس الحق في التعليم وكذلك الصحة المجانيتين. وتمنح حق التداوي المجاني لكل تلميذ أو طالب

إنّ أيّ محاولة مسّ أو إضعاف لمكانة المدارسة العمومية في بلداننا من قبل قوى مرتبطة برؤوس أموال تريد أن تستثمر في ضعف الدّولة ومؤسّساتها للانقضاض على قطاع لا يرون فيه أكثر من فرصة للارتزاق ونيل الأرباح الطّائلة، سيهدد مستقبل الإنسانية ويحول دون رفع تحدّي بناء مجتمع أفضل غير الذي يريدون فرضه علينا تكون فيه المدرسة فضاء لتقاسم المعلومة و تبادل الأفكار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل بدأ العد العكسي لعملية رفح؟ | #التاسعة


.. إيران وإسرائيل .. روسيا تدخل على خط التهدئة | #غرفة_الأخبار




.. فيتو أميركي .. وتنديد وخيبة أمل فلسطينية | #غرفة_الأخبار


.. بعد غلقه بسبب الحرب الإسرائيلية.. مخبز العجور إلى العمل في غ




.. تعرف على أصفهان الإيرانية وأهم مواقعها النووية والعسكرية