الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسفة البديل العقلاني العراقي

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2018 / 5 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


إذا كان تاريخ الأمم هو مختلف أنواع الصيغ السردية الجليلة أو العادية من أحداث وشخصيات ومجريات، فإن حقيقته تقوم في مدى فاعليته الواقعية بالنسبة لتأسيس وعي الذات القومي والحكمة السياسية. إذ لا حكمة سياسية خارج تراكم وعي الذات القومي. ونعثر على هذه الحالة في استعادة وتكرار الماسي. فالتكرار في التاريخ هو مأساة البقاء بمعايير الزمن. بمعنى البقاء ضمن اجترار النفس دون أية بدائل فعلية تذلل عقبات التطور التاريخي من اجل الارتقاء بالأمة إلى مصاف جديدة.
ومن مفارقات التاريخ العراقي أن يكون العراق صانع فكرة التاريخ ومفتقدها في نفس الوقت! وتشكل هذه المفارقة العصب غير المرئي لتوتره العنيف وفقدان القدرة على تأمل ما فيه. فإذا كان تاريخ الأمم هو مختلف أنواع الصيغ السردية الجليلة أو العادية من أحداث وشخصيات ومجريات، فإن حقيقته تقوم في مدى فاعليته الواقعية بالنسبة لتأسيس وعي الذات القومي. ومن ثم حجم ونوعية تراكمه فيما ندعوه بالحكمة التاريخية للأمم. إذ لا حكمة تاريخية خارج تراكم وعي الذات القومي. ونعثر على هذه الحالة في استعادة وتكرار الماسي. فالتكرار في التاريخ هو مأساة البقاء بمعايير الزمن. بمعنى البقاء ضمن اجترار النفس دون أية بدائل فعلية تذلل عقبات التطور التاريخي من اجل الارتقاء بالأمة إلى مصاف جديدة. ولا يعني ذلك في الواقع سوى المراوحة البليدة والبقاء ضمن زمن المواجهة للمشاكل المتكررة لا الارتقاء بها ومن خلالها إلى عوالم جديدة.
وعندما ننظر إلى التاريخ العراقي الحديث، فإن حصيلته على امتداد القرن العشرين تشير إلى انه مازال يواجه نفس إشكاليات ظهوره الأول، أي قضية الدولة والوحدة الوطنية والنظام السياسي والعلاقة بالمحتل وقضية الأقليات القومية. وتكشف هذه الحالة عن طبيعة مأساته التاريخية الفعلية، بمعنى مراوحته في الزمن فقط. فهو يقف عاريا أمام الرؤية النقدية كما لو انه بلا تاريخ، أي بلا حكمة على الإطلاق. وإلا فكيف يمكن له أن يقف بعد قرن من التضحيات الجسيمة أمام إشكاليات كان يفترض حلها بوصفها المقدمات الضرورية والعادية للدولة والأمة بشكل عام والعصرية بشكل خاص. بعبارة أخرى إننا نقف أمام حالة يمكن دعوتها بخلو العراق من فكرة وعي الذات القومي. وهو أمر جلي حالما ننظر إلى طبيعة ونوعية الصراع الدائر فيه حاليا. إذ نقف أمام تمزق وحرب دموية تفتقد إلى ابسط مقومات الرؤية الوطنية والقومية. إنها تستعيد النفسية المميزة لحالة "الطوائف" الأندلسية رغم فارقها الجوهري. فالعراق لا يمكنه أن يكون شيئا آخرا غير العراق. من هنا لا يعني الاستمرار في صراعاته الدموية سوى الإنهاك المستمر لقواه الذاتية والانتهاك المستمر لهويته الوطنية والقومية.
وإذا كانت هذه الفكرة جلية بمقاييس المنطق وعصية بمعايير المواقف والأفعال السياسية، فان ذاك دليل على وجود خلل في منطق القوى المتصارعة وسلوكها العملي. ويمكن وضع هذه النتيجة في سؤال بسيط ومباشر وهو: لماذا لم ينعم العراق بالاستقرار بعد قرن من تأسيس الدولة والأمة؟ أما الإجابة فإنها بسيطة على قدر السؤال، وهي أن الاستقرار يفترض التوازن، أي توازن الدولة والمجتمع والثقافة. وهو توازن ممكن فقط في ظل سيادة مرجعية الحرية والنظام. لاسيما وأنها المرجعية الوحيدة القادرة على صنع توازن ديناميكي، ومن ثم الوحيدة القادرة على صنع الحكمة التاريخية بوصفها عملية متراكمة من الاحتراف والكفاءة المحكومة بنظام شرعي متكامل. بينما لم يكن تاريخ العراق في كل مجرى النصف الثاني من القرن العشرين أكثر من تجارب مرة ومريرة للراديكالية السياسية، أي للتجريب الخشن في عدائه واحتقاره لفكرة التراكم التاريخي. وفي هذا كانت وما تزال تكمن القوة اللاعقلانية الفاعلية في تخريب وإهدار الكفاءة والاحتراف في كل ميادين الحياة والشرعية منها بشكل خاص. أما السلسلة الوحيدة التي تربط تاريخه فهي زمن الانقلابات وفكرة المؤقت. من هنا تشابه أحداث 1958 و1963 و1968 و2003 من حيث إثارتها للهياج والصراع والحرب والمؤامرة والمغامرة والمقامرة بالمصالح الجوهرية للعراق. وبغض النظر عن اختلاف مقدماتها وتباين تأويلاها في "منطق" و"سلوك" القوى السياسية المتصارعة، إلا أن نتائجها كانت على الدوام واحدة، وهي انعدام الاستقرار وتحوله إلى الشيء الوحيد الأكثر ثباتا وديمومة. بحيث يمكننا الحديث عن منظومة انعدام الاستقرار في العراق، بينما حقيقة الدولة منظومة. ولا يمكن تعايش الدولة وانعدام الاستقرار. وفي هذا يكمن السر التاريخي لانهيار الدولة في عام 2003 بقوة الاحتلال الأمريكي. وهي "التجربة" الوحيدة في التاريخ العربي المعاصر.
وتدل هذه التجربة من حيث أبعادها الواقعية والرمزية على فقدان معنى التاريخ ووعي الذات القومي والحكمة السياسية. وهي نتائج مترتبة على سيادة زمن الراديكالية السياسية في العراق. وبهذا المعنى يمكن النظر إلى سقوط الدولة العراقية عام 2003 بأثر الغزو الأمريكي على انه سقوط لنمط الدولة الراديكالية التي مثلت الصدامية احد نماذجها الأكثر تخريبا. مع أن تجربة سنتين من انعدام الاستقرار وانعدام الوفاق الوطني وتلاشي الحكمة السياسية هو دليل إضافي على أن سقوط صدام لم يعن بعد سقوطا للصدامية من حيث كونها صيغة نظرية وعملية لأحد النماذج الراديكالية العراقية، بقدر ما يعني سقوط أحد أشكالها وإحدى حلقات "الزمن السيئ" في تاريخ العراق الحديث.
فقد كان "تاريخ" الراديكالية في العراق زمنا عرضيا. بمعنى أن حصيلته هي تهشيم وتحطيم وتبذير للقيم العقلانية المتراكمة في بنية الدولة والمجتمع والثقافة. فقد أدت هذه العملية مع مرور الزمن إلى جعل الأفراد ونزواتهم منظومة ما فوق تاريخية بحيث جرى رفعها إلى مصاف "الضرورة" و"المقدس". بينما لم يعن ذلك من الناحية الفعلية سوى رفع العبودية والإرادة المشوهة إلى مصاف المثال الأرقى للدولة ونظام الحكم والمرجعيات الكبرى. أما النتيجة فهي رجوع قهقري نحو البنية التقليدية، أي بنية ما قبل الدولة العصرية، مع ما يترتب عليه من نخر دائم لأسس الثبات الضروري للدولة ومؤسساتها، والاستقرار السياسي لنظام الحياة ككل. وترتب على ذلك ما أسميته بمنظومة عدم الاستقرار التي لا سبيل إلى الاحتفاظ بها بغير "تنظيم" البؤس والانحطاط والتخلف في نظام الوجود. فهو الأسلوب الوحيد للحفاظ على "الأمن" بوصفه استقرارا. فقد جعل هذا الانقلاب في المفاهيم والرؤية والغاية من كل مسام الوجود في العراق منافذ لعرق الرذيلة والانحطاط. أما النتيجة فهي كمون مقدمات انهيار الدولة ومؤسساتها، والمجتمع وقواه الحية، والثقافة ورصيدها العقلاني والإنساني. وكشف احتلال العراق عن هذه الأمور بحيث انهارت كل قواه كما لو أنه لم يكن أكثر من كيان هش فارغ. ولم يكن بإمكان هذه النتيجة أن تحدث، مهما كانت الأسباب الخارجية وأساليب فعلها، في ظل وجود استقرار ديناميكي في بنية الدولة والمجتمع والثقافة. وما زال هذا الخلل الجوهري يثقل بكاهله على العراق. كما انه "الإرث" الذي يدفع بقواه المتخلفة في مواجهة كل تحول نوعي جديد في بنية الدولة والمجتمع والثقافة. وقد يكون هذا الإرث الأكثر شراسة في تاريخنا الحديث، وذلك لأنه ينبع من واقع التخلف والانحطاط الشامل في العراق. وهو انحطاط يرتقي إلى مصاف "المنظومة" التي صنعتها تقاليد الراديكالية السياسية الدنيوية. وليس مصادفة أن نرى الآن صعود مختلف أشكال الراديكالية الدينية والعرقية والطائفية، أي الصيغ الأكثر تخلفا وانحطاطا للنزعة الراديكالية.
طبعا أن هذا الصعود الجديد لمختلف أشكال الراديكالية لم يكن فعلا طارئا أو غريبا أو محكوما بالاحتلال، بقدر ما انه النتاج "الطبيعي" لانعدام التطور الطبيعي في تاريخ الدولة العراقية الحديثة. وهو مؤشر واقعي على مدى واقعية الانحطاط والتخلف السياسي الذي هو الثمرة الأكثر مرارة للدكتاتورية والتوتاليتارية السابقة. وهو واقع متناقض من حيث مقدماته ونتائجه. بمعنى أن القوى التي تدعي أو تحاول تذليل تقاليد الراديكالية هي ذاتها الصيغة الأكثر تخلفا لها. وذلك لأن الراديكالية السياسية العراقية التي تراكمت منذ أربعينيات القرن العشرين قد تمرست بمفاهيم وتقاليد الدنيوية القومية والوطنية الشعبوية والديمقراطية الليبرالية واليسارية الاشتراكية والشيوعية، بينما نقف الآن أمام نماذج جزئية محكومة بنفسية وذهنية الانعزال العرقي والطائفي والجهوي وفاعلة في بيئة محكومة بغريزة المواجهة اللاعقلانية ودمار هائل للبنية التحتية والمعنوية للعراق والعراقيين على السواء. ويكشف هذا الواقع عن مدى وحجم التعقيد الفعلي الذي يواجه الخروج من أزمة العراق التاريخية بشكل عام والحالية بشكل خاص. بمعنى كيفية تذليل تقاليد الراديكالية السياسية من جهة، وتذليل مرحلة الانتقال من اللاشرعية إلى الشرعية في ظل انتشار واستفحال القوى العرقية والطائفية من جهة أخرى. وهي المهمة التي تشكل مضمون البديل العقلاني في العراق.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة


.. قوات الاحتلال تعتقل شابا خلال اقتحامها مخيم شعفاط في القدس ا




.. تصاعد الاحتجاجات الطلابية بالجامعات الأمريكية ضد حرب إسرائيل


.. واشنطن تقر حزمة مساعدات عسكرية جديدة لإسرائيل وتحذر من عملية




.. قوات الاحتلال تقتحم بلدة شرقي نابلس وتحاصر أحياء في مدينة را