الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سجن الرّوح-الحلقة الأخيرة-

نادية خلوف
(Nadia Khaloof)

2018 / 5 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قال لي: نزعوا إيماني عنّي، وتركوني على ناصيّة الطريق. هل لك أن تجلبي لي وجبة طعام مم طبختِ؟
هل يمكنني أن أرد طلب شخص يمارس طقوسه اليومية فوق قطعة كرتون على زاوية الشّارع؟ إنّني ضعيفة أمام الآخر الذي تلاحقني مأساته.
جلبت له صحن طعام وكأس ماء، فطلب منّي أن أجلب له الثلج أيضاً، فجلبته. جلست قربه على الحافة. نظر إلي وقال: ما ديانتك؟ لم أجب طبعاً، لذت بالصمت. أجاب عنّي: يبدو أنّك بلا دين وكما حدث معي حدث معك. نحن متشابهان، فقط أنت تبدين محترمة في نظر المجتمع، وأنا لا أبدو محترماً. رفع كأسه وقال: في صحتك!
قال لي أيضاً: أعرفك . سمعتك وأنت تخطبين في احتفالات الحزب بمناسبة عيد الجلاء. صوتك حاد، والجمهور غائب، وأنت تعوّين. آسف على التّشبيه، لكنّها الحقيقة. هل رأيتِ أبا باسل يقبّل تمثال الرّئيس؟ أنا مثله تماماً هو فقد عقله في فرع الأمن، وأنا فقدته في فرع الرّفاق، أتواصل معه كي نقوم بمسير إلى القرداحة لزيارة أضرحة ذوي الكرامات. نسيت أن أقول لك: ليس كلّ التعذيب هو جسدي. عذبوني ونكّلوا بي، وشهرّوا باسمي، ولم يحدثني بعد حملتهم تلك شخص واحد ، لذا لذت بالجنون كي أختصر عليهم الطريق، وقد ذهبت إلى الجامع كردّ فعل عليهم، لكنّهم يشبهونهم -أعني أئمة الجوامع-.
نزعوا عنّي أغطيتي، إيماني بالله، بالحياة، بالمستقبل، وأنا لست "محكوماً بالأمل" لو قدّر لي أن أكون مشهوراً مثلهم لاخترت جملة يردّدها الشّعب المعتوه مثلك ومثلي، كجملة" محكومون بالأمل "
كان ذلك قبل زمن طويل، حدثني به شخص معروف في المدينة أنه يسهر على " كرتونة" في زوايا الشّوارع، وينام حتى الصّباح في الشّارع. رأيته مرّة أخرى في شارع آخر لكن لم يجر بيننا حديث، وسمعت مؤخراً أنّه قد مات.
. . .
لا أخفيكم سرّاً لو قلت لكم أبحث عن شيء جميل لأقرأه فقد جافتني القراءة منذ ساعة حلّت فيها القضايا، وأصبح الحديث ممانعاً، أو مناضلاً، فأنا امرأة أبحث عن الجمال، ولم أستطع أن أصنعه لسبب بسيط أنّني كنت محاصرة بكم. نعم أتهمكم جميعاً فحتى هذه اللحظة تتحاربون مع أفكاري صنعتم حلفاً وطنياً في مواجهتي، وأنا وحدي أهيم بين النجوم أحياناً، وفي المقابر أحياناً. علني أقف على حقيقة واحدة.
أرغب أن ألتقي ببشر عاديين، ولا أجد ،فكلّ من ألتقي بهم في العالم الحقيقي، أو الافتراضي يثيرون غيرتي لعظمتهم. جميعهم عظماء. لا أعرف كيف لي أن أتخلّص من صداقة العظماء حيث يجب أن تكون البهيمة الوحيدة بينهم ليتندّروا بك كغبيّ.
لا أعرف أن أشرح كيف هو شعوري، لكن لو وصلت إلى شخص عادي سوف أطلب منه أن يعاملني كأنا فقط، وينسى من لهم علاقة بي من أي نوع.
. . .
كنت أحاول أن أكتب كما يكتب الكثير من السّوريين. إما عن الوطن، أو عن تمجيد الفقر، أو الحزن على الضحية، وفي أحسن الأحوال عن أمّي . أتلاعب بالكلمات، لكن لا أعرف إن كان من سوء حظي أم من حسنه أنّهم لم ينشروا لي، فقد أرسلت مرّة قصة أطفال مصورة لمجلة أسامة، ولم يأتني الرّد حتى الآن، نشرت في صوت المرأة التابعة لرابطة النساء-وليتك تعرف ماهي تلك الرابطة-لكنهم ينشرون لي بدون تذييل ما أكتب باسمي. لولا أنّني تماسكت لأصابني كما أصاب أبو باسل، أو ذلك الشّخص الذي قرأ لي الحياة على زاوية بيتنا. أمامك خياران هنا: أن تعلن جنونك، وعندها تعيش برضا، أو تغلق بابك، ولا يفوتك أي أمر فلا شيء تغير منذ ولادتي حتى اليوم، واخترت الحلّ الثاني.
التقيت بإحدى الرّفيقات، وكانت طالبة معي في دار المعلّمات. كنت أحسدها لآنها تستطيع أن ترسم بنات جميلات. دردشنا طويلاً. حسدتها هذه المرّة على ذكائها، فعندما أردت أن أحدثها عن مارسيل خليفة وشعر محمود درويش: قالت لي: رجاء. دعينا نكمل الجلسة دون أن نفقد صداقتنا. كدت أنسحب من الجلسة، فأنا تلك الثورية التي تحفظ كلمات الشّعراء عن ظهر قلب تهزّئني صديقة الشّباب الأوّل. ربتت على كتفي وقالت: سوف أمر مروراً سريعاً على ماكنت سوف تقولين ، وأترك لك الجواب بعدها:
لا أنكر أنك تملكين موهبة أحسدك عليها، وهي القدرة عن التّعبير، لكنّ موهبتك في حكم الميتة. لن أناقش أمرك، ولكن دعي كلامي يذهب كحلقة في أذنك. كلّ الذين طبعوا ونشروا على حساب اتحاد الكتاب كان لهم مفتاح، وكلّ مما انتشر من حديث عن عظمة الشعراء والكتاب روجته دوائر أمنية، والدائرة الأمنيّة ليست مقتصرة على الأجهزة الأمنية السّورية. بل على الأحزاب الفلسطينيّة، وعلى الموال
ين للرؤساء، فالقذافي يشتري أكبر كاتب ثوري على سبيل المثال-كان القذافي يومها على قيد الحياة-. بل هناك من يدافع عن جنونه. لو أردت أن نصنّف شهرتهم. مثلاً نزار قباني. كان دبلوماسياً سورياً، وأصبح مع ياسر عرفات وصدام فاشتهر، ونسي جميع القراء أنّ زواجه الثّاني كان كزواجه الأوّل تماماً، فقد كان أبو زوجته الأولى صاحب سلطة ومال، وكذلك كان والد زوجته الثانية. لا علاقة للحبّ بذلك.
هذا الحديث جرى حقيقة وكنا نحن الاثنتان قد تجاوزنا الأربعين من عمرنا ، وقلت لها يومها أنك تعمّمين، لا شكّ أن لدى هؤلاء موهبة. أجابت: أنا حزينة لأجلك يا صديقتي. لم يعد ذهنك منفتحاً. أنت تعيشين كذبهم، وتصدقينه. هم يبثون، ونحن نتلقى. أتمنى أن ألتقيك يوماً خارج سورية، فأنا عازمة على الرّحيل. طلقني زوجي، هو من طلّقني لأنّني كنت جبانة مثلك. اعتقدت أن الصبر مفتاح الفرج. وحصلت الآن على عقد تعليم في دبي، ولا أعرف أين مصيري بعد دبي، لكنّني سوف أفتح قلبي للعالم.
. . .
أكتب عن ألم بعض من عرفتهم، وليس عنّي. كنت أنا بلا ألم، وبلا فرح أيضاً. أراقب، أراوح مكاني، يؤرّقني الليل، ويطلب منّي أن أواجه نفسي، وواجهتها. قالت: كل ما فعلته على مدى عمرك متعلّق بكلمة واحدة هي السّذاجة. تكرّرين التّجربة ولا تستفيدين منها، فتكررينها ثانية، وثالثة ورابعة. . . وهكذا دواليك.
طبعاً اعتذرت لصديقتي بعد فوات الأوان لأنّني لم أفهمها، وقلت لها في محادثة على الفايبر. لقد طويت الماضي ووضعته في حفرة. منذ اليوم لا أصدّق أحداً سواء سمى نفسه معارضاً أو موالياً. لن يكون لي نصيب مع جيل تشوّه فكره، ولا يريد أن يصحو. إنّني منسحبة من كل القضايا، ومن كل الكلمات التي تحتوي كلمة الوطن، أو العبقري، أو العظيم. صفقت لي عن بعد. قالت نحن نتبادل الأدوار. مرّة تكونين أنت على صواب ومرّة أكون أنا، لكنني أسألك بكلمة واحدة هل لا زلت مع الثورة ؟
أجبتها: نعم لو عاد أولئك الشّباب من القبور، ورأيتهم يهتفون للحريّة لكتبت مرّة أخرى صباح الحرية. ولو أتى جيل يشبههم لكتبت لهم أيضاً. أما والأمر محصور بين من همشنا كنظام وأصبح معارضة فهمّشنا، فالأمر محسوم. أبحث الآن عن نفسي ضمن العالم. أرغب أن أتمتّع بحضوري في هذه الحياة. أرغب أن أنجز مع الغرباء ما رغبت بإنجازه مع الأحبّة ومانعوا في ذلك.
أرغب أن أختم ببعض مشاعري التي شعرت بها يوماً بأنّ سورية قد سجنت ليس روحي فقط. بل حجبت المعرفة عن عقلي، وسطّحت أفكاري، ووضعتني في دائرة تشبه السّلسلة لا أستطيع الانفكاك منها، ولا السّير برفقتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هذه
ماجدة منصور ( 2018 / 5 / 14 - 00:38 )
الروح التي تمتلكينها...لا يمكن أن تكون سجينة0
لقد ازددت ثراءا بقراءة كل حديثك عن سجن الروح0
طالما تستطيعين الكتابة بهذا الشكل العميق...فثقي بأن روحك حرة لأبعد الحدود0
شكرا أستاذة
تمتعت بقراءة عقلك و روحك
احترامي

اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر