الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(4) الإحساس الضائع

فوزى سدره

2018 / 5 / 14
الادب والفن


أولاد الشوارع من إنتاج مجتمع فاسد

العِشرة تُولِدْ الأُلفة والأُلفة تَصنع رباطاً من المودة والمحبة لتلك النفوس الحساسة التى تتوجع لفقدان أليف كان لديها . لأن العشرة لا تَهونْ إلا عند النفوس صاحبة المعادن الرخيصة ، وميكو كان من أعز الرباطات إلى قلبى . فقد تَكَوَنتْ بيننا علاقة لذيذة . علاقة حوار وثقة وإخلاص . قلما تجدها بين بنى البشر ...
ولم تكن مشكلة ميكو . فى حظه العاثر غير صراحته . فهو لم يعرف الرياء ولا النفاق ولا المديح . ولا المواربة . هو يقول كلمته . وعلى مصيره السلام .
هذه صفة يدفع ثمنها من يستخدمها من بنى البشر ، فكم من أشخاص كان مصيرهم السجون أو التخلص منهم نهائياً لقول كلمة حق لحكام إبْتَلتْ بهم الشعوب .
وكم من رجال دين قفلوا باب الرحمة وفتحوا كل أبواب الإتهامات لمن سولت له نفسه فى البحث والسؤال والاستفسار عن أشياء أقلقت ضمائرهم.
هكذا ميكو الصديق المخلص طُرد من أجل كلمة حق ووضع مُعوج أراد أن يعدله . وميزان مالت فيه كفة الظلم فتاق أن يعدلها .
ولكن أين أنت يا ميكو ؟
لقد بحثت عنك فى كل مكان يمكن أن تكون فيه ،فى كل الملاجئ ،وأقسام الشرطة والمستشفيات ، وأعْلَنت عنك فى الجرائد ومنحت جوائز مالية لمن يجدك ..
طمأنتنى نفسى بأن ميكو ليس بالكلب العادى فهو ذكى لدرجة أنه يعرف كيف يدبر حاله، ويعرف كيف يتعامل مع الظَلَمة والمُستغلين ويحاور الجهلة والأغبياء ...
بل راودنى هاجس أن ميكو سوف يرجع إلى بيته بعد أن تهدأ النفوس وتُشفَى الجراح .
وتحضرنى ذكرى لميكو أكدت لى ثقافته فى حسن الاستماع واستخلاص العبر من الأحداث .كنا نعرف أسرة لا يمضى يوماً عليها . إلا ويتقاتل طرفاها الزوج والزوجة ، كل للأخر يتصيد عيوبه ونواقصه ، وتدخل رجال الخير والإصلاح وبدلاً من يكحلوها عموها بإشاعة الأسرار وبقى الحال كما هو عليه ، وذات يوم زارنا الزوج شاحب الوجه هزيل الجسد من كثرة خوضه معارك النفور والاستهجان وكان ميكو يجلس تحت أقدامنا يسترق السمع ...
وموهبة الاستماع فن من الفنون تتألق عند حسن إستخدامها ، والناس تُقدرُ الإنسان لحسن استماعه أكثر من حديثه حتى ولو كان لبقاً.
قلت للرجل :لست وحدك فهى آفة العصر . كان الناس أيام الزمن الجميل يتزوجونلإنتاج ذرية صالحة . أما الآن فيتزوجون ليتقاتلونوينشرون عقدهم النفسية.
لم ينطق ميكو بحرف واحد . حتى خرج الضيف ثم قال :
- عندما يموت إنسان يبكون بكاءاً هستيرياً متناسين كل سيئاته ،فأنتم تذكرون الشئ الجميل الذى كان فيه . وللأسف تذكرون ذلك فقط عندما تفتقدونه ، والشئ الجميل لا ترونه أثناء حياته لأنكم لا تريدون رؤية الأشياء الجميلة فى الواقع ...
ولذلك . لو أن أحد الأزواج أعطى لنفسه فسحة بعيدا عن الطرف الآخر، فترة خلوة وهدوء يراجع فيها مواقفه.، فقد يساعد ذلك العين فى الفحص ورؤية الأشياء الجميلة والتغاضى عن النواقص .
- برافو يا ميكو
- ولكن هذه القاعدة ليس على إطلاقها فربما الغياب والإنفصال ينقلب لجفاء ..
إلا إذا كان أحد الأطراف أدخل طرفاً ثالثاً فهنا يكون الضعف الشخصى سيد القرار
وأشياء كثيرة ، أتذكرها لميكو ... وحقاً فنحن لا نَشعر بطعم الأشياء إلا عندما نفقدها فلم نكن نحس بها ونقدرها عندما كانت بين أيدينا ، فالصحة لا نشعر بها ولا نستمتع بها عندما تكون فى داخلنا ولكن إذا فقدناها نجدها تيجان فوق رؤوس غيرنا .
وكذلك المال قد لا نشعر بقيمته ولا نعرف كيف نستخدمه عندما كنا نمتلكه ولكن عندما نفقده نشعر بقيمته والحاجةإليه ، وأشياء كثيرة قد تكون معنا ولا نحس بها .
فكلنا نتذكر أيام زمان ، عندما كانت الأم تجمع الأسرة وتلم شملها بمحبة على مائدة غذاء أو عشاء أيام الإجازات ، ونحن جميعا نفتقد هذه الأيام الجميلة أيام ( لم الشمل ) ونبكى عليها عند رحيل الأم فقد يرحل كل شئ جميل معها .
وكثيرون يعيشون بيننا ولا نشعر بهم وقد نتجاهلهم وعند فقدهم نولول وننوح ، ونقول كانت خسارة كبيرة للجميع.
لا أكون مبالغاً إذا قلت أننى شعرت بالحزن عندما رحل ميكو .. لقد كان أنيس وحدتى . ومفجر ميادين الخيال فى ذهنى .
فلم يترك ميكو حلما إلا وكان بطله ...
وفى ليلة من ليالى أحلامى . سمعت طَرقاً بالباب وبكاء بأنين أعرفه .. إنه ميكو .. فهرولت أفتح الباب وإذ به يقف ومعه مجموعة من الكلاب ..
استاذننى ميكو ..هل ممكن أن تستضيف أصدقائى فى بيتك ؟
قلت له : من هؤلاء يا ميكو ؟
قال : انهم ساكنو الشوارع . وجدتهم يرتعشون بردا وينكمشون من الجوع ، والأطفال تقذفهم بالحجارة ولا أحد يحن عليهم بكسرة خبز أو يدفئهم فى حجر دافئ .فعرضت عليهم أن يجيئوا معى إلى بيتك الكريم . ربما يجدون لمسة عطف وحماية من وجع وقسوة الشوارع والناس ذوى القلوب السيئة .
- أنا لا يمكن أن استبقى هؤلاء فى بيتى يا ميكو فلا أعرف حالتهم الصحية أو تاريخهم الأسري أو طباعهم المكتسبة من الشوارع ، ولكنى أستطيع أن أعطيهم طعاما يدفئ احساسهم .
قال ميكو : ولكنى لا أستطيع أن أنعم بالدفء وبآنية مليئة بالطعام وأترك أخوتى هؤلاء يعانون قسوة العراء ، بلا فرش أو غطاء
قلت :آه يا ميكو أنت دائماً تعذبنى بعذاب الضمير .
قال : تصور يا صديقى أن هؤلاء أخوتى منذ زمن طويل يقاسون كل أهوال جنون الطبيعة وقساوة الإنسان والبحث عن طعام ، والناس على أنواعهم الغنى والفقير والأمير والصعلوك . كل هؤلاء لا يعيرونهم أى إلتفاتة أو لمسة شفقة ، وحتى بعض الرجال الذين يعظون الناس عن الرحمة يفتقدونها . هل قرأت عن رجل الدين الذى وجد فى طريقه جريحا يحتاج إلى يد حانية فلم يعطه غير غلاظة قلب وعجرفة إحساس .
أحسست أن ميكو يعنينى بهذا الكلام فأصبحت حائراً فى حلمى منزعجاً عاجزاً ولم يكن هناك حل غير أن أستيقظ منزعجاً ولم أرَ ميكو ولا أصحابه .
فى أحلامنا تحل علينا الكوابيس المزعجة ، وما هى إلا رموز من أمور حياتنا وخبراتنا ترسخت داخل أعماقنا على مر الزمن ، ولم نعرف كيف نتعامل معها . فدفناها ولكنها تظل حية تريد أن تجد لها متنفسا فتخرج كوحوش فى أحلامنا .
لو قُدر لنا معرفتها لأستطعنا حل لغز قلقنا وحيرتنا . شغلنى هذا الحلم وشغل فكرى ومشاعرى ، وإنتقلت من كلاب الشوارع إلى أولاد الشوارع ، أولاد الإنسانية المعذبة الذين طُردوا من بيوتهم ، أو خرجوا من بيوت محطمة خربة ليبحثوا عن بيوت لهم فى شوارع يمكن أن تكون أكثر دفئا،ولكن للأسف الشوارع جعلت منهم مجرمين وعاهرين ومشوشين . فلم يجدوا يدا حانية مع هذا الكم من التكنولوجيا التى عجزت عن تضميد جراح الإنسانية . بل انقلبت التكنولوجيا الى الإتجار فى أعضاء هؤلاء المهمشين .
مَنْ أَنتج وصَنع أولاد الشوارع على أنواعهم وأشكالهم ؟ مَنْ جَرَحَ فئة من المجتمع وأهان إنسانيتها ، وَشَوشَ وهَمَشَ آدميتها ؟ مَنْ السبب ومَن المسئول ومَنْ المجرم ؟
مَنْ الذى أَجَرَمَ فى حق الإنسان الضال التائه المُغَربْ الذى لم يجد له غير أرض يتخذها فرشاً وسماءً يتخدها غطاءً .
كيف أصبحت البيوت التى أخرجت هؤلاء عارية من أى دفء ؟ من أى احتضان . وكيف انشرخ سقفها وتشققت جدرانها فهرب منها أولادها ؟
إنها الأسرة .. زوج وزوجة إتفقا أولم يتفقا فى عقد زواج أن يخدع ويغش كل طرف الآخر ، إتفقا أو لم يتفقا أن يكون رباطهما رباط الأنانية والكراهية والبغضة .
لقد اتفقا أو لم يتفقا أن يجئ كل طرف بما ورثه من أسلافه من أمراض عضوية ونفسية مُخبأة فى الأعماق معروفة أو غير معروفة .يرتدون أقنعة ويتجملون وراء الكواليس وخلف جدران ما يسمى بعقد الزواج وما تلبث أن تظهر حقيقتهمابصورتها الوحشية . فهل يمكن لهذا الكم الهائل من السوس أن يصنع أطفالا معتدلين ؟؟
إن كل هذه الزيجات لم يجمعها الله . بل وفقها إبليس وما وفقه إبليس لابد من إنكساره . لا دفء .لا سلام .لا سعادة ، ولا نفع معه لكل المحاولات اليائسة بل يحتاج إلى يد عليا .
جعلنى هذا الحلم أفكر وأنْشَغلْ .
لقد بُنيتْ المعابد وما أكثرها وَوَظَفَنا رجالاً لخدمتها وما أكثرهم ، والعقل الإنسانى أَبَدعَ واخترع مالم يكن يُصدَقْ فى الخيال والأحلام ، ولكن هذا العقل عجز عن خدمة نفسه ولم يفلح فى الرقى بنفسه ، بل اخترع الأسلحة ليدمر بها إنسانيته.
*****
كانت كل أحلامى كوابيس بطلها ميكو ..
وكانت مشاعرى الجوانية تكتب السيناريو وتضع المشاهد . ولكنها لم تشفى وجيعة الفرقة ولوعة الاشتياق .
ومرت أيام ، ومع الأيام تشتغل نعمة النسيان التى تُضمدْ وتُهبطْ الأحزان ، وإذا فى صحوة يوم مشرق . لم يكن فى البيت غير أوراقى وكتبى ، يتطرق إلى أذنى أصوات خربشة من وراء الباب . ظننت فى بادئ الأمر أنها رياح أو بعض قطط تلعب مع بعضها ، ولكن تَطورت الخربشة إلى صوت طرق على الباب ..
وهنا بادرنى حسى ليقول أنه صوت ميكو وخربشة ميكو وطَرقْ ميكو .
ولم يخب ظنى فقد وجدت ميكو واقفاً وراء الباب .
*****








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير