الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قواعد النّقد السياسي-6

محمد ابداح

2018 / 5 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


إن المجتمعات التي تسود فيها قبضة الثوابت والمسلمات الدينية تستورد المعرفة العلمية ولا تُنتجها، فالبوذي مهما بلغ من التأمل والحكمة لن يصنع طائرة أو جهاز حاسوب أو دواءا كالبنسلين، ورغم أن حكمة قد ينطق بها البوذي عن الحياة أو الكون تعادل كل آراء الغزالي أو ابن تيمية المتطرفة، إلى أن ذلك البوذي ومنذ ألاف السنين لازال يقبع في كهوف ومعابد جبلية ويمضغ الأعشاب لتسكين ألمه ثم يموت في سلام، وأما العرب فلا يزالوا يقبعون في كهوف الثوابت والمسلمات، ويمضغون الحسرة والألم، ثم لا يموتون بسلام.
وأمام هذه التشوهات الفكرية المماثلة لأمراض نزلاء المصحات العقلية؛ ثمة عدم ادراك لواقع انقطاع تام عن منهج النقد العلمي، مع فُصام تنظيري تاريخي لايضمن حدا أدنى للموضوعية، وإن كنا من حملة راية العلم والتجديد؛ فسنحذ السير في شارع محمد على بالقاهرة في ستينيات القرن الماضي قافزين بزمن وجيز فوق الكوارث التي ستأتي بعد قليل لتشطر تاريخ العرب إلى شطرين؛ معركة نفارين البحرية عام 1827م، وطموحات محمد على باشا مؤسس مصر الحديثة في احتكار السلطة، وطعنه لظهر الدولة العثمانية، وقيام التحالف السياسي الديني الوهابي- السعودي في شبه الجزيرة العربية على يد محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود، وفي ذات الوقت سقوط القلعة البحرية الغربية للوطن العربي وحصن العرب المنيع في البحر الأبيض المتوسط بيد الفرنسيين وهي الجزائر، بعد تدمير أسطولها البحري والذي كان يوما ما يفرض الجزية في البحر الأبيض المتوسط على كافة سفن دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية قبل معركة نافارين.
لقد حجبت السياسة العربية عن نفسها كل ماهو سياسي، كما يحجب الليل ضوء النهار، وانها لذات الخطب الزعامية المقدسة المستنسخة بدماء الشعوب، وإنها لذات العقول الباردة، وإنه لانفصام له ما يُفسّره؛ فكل حقبة من تاريخ أنظمة الحكم العربي المعاصر تستمدُّ حضورها المتعاقب من كونها تحمل في ذاتها خاصية التدمير الذاتي؛ ابتداءا من حروب محمد علي بدعم فرنسيّ كامل ضد الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر، والتي وصلت إلى مشارف أنقرة، وأجبرت الأتراك على الإستنجاد بعدوهم الروسيّ الذي فسّخ اركان الدولة العثمانية غربا من بلغراد حتى اليونان، والسماح له بادخال أسطوله الحربي لمضيق البوسفور، مما عجل بالتدّخل البريطاني الفرنسي في المنطقة لاقتسام ما تبقى من التركة العثمانية، ومرورا بمراسلات الشريف حسين البائسة مع بريطانيا لمحاولة الحفاظ على عرشه في مكة، وفشله الذريع بذلك الأمر لحساب عائلة أل سعود التي استطاعت اقناع البريطانيين آنذك باستعدادهم تحقيق أهداف بريطانيا الإستعمارية في المنطقة العربية للمائة عام القادمة، والتي من أهم فصولها تنفيذ صفقة القرن- تصفية القضية الفلسطينية - على يد أحد أحفاد الملك السعودي المؤسّس، مرورا بمغامرات جمال عبد الناصر العسكرية في اليمن والسودان، وغزوات معمّرالقذافي الدنكوشوتية التي انتهت بسحله وتفتيت ليبيا، وانتهاءا بمغامرة صدام حسين في الكويت في تسعينيات القرن الماضي والتي انتهت بتدمير العراق وتقسيمه، وقتل علمائه، وتهجير الملايين من سكانه، ناهيك عن الكارثة المأساوية التي حلت بسوريا وشبعها والتي ليست بأفضل حال من كارثة العراق.
نعم أيها المواطن العربي، تلك هي خاصية التدمير الذاتي لدى الأنظمة العربية الحاكمة، إنه حقا لانفصام ذو ضرر هائل، مادام قادرا على جعل أوضاعنا اليومية غير مفهومة على الإطلاق، إذ يجعل من ظهر مجتمعاتنا العربية ومن وجها واحدا. وإذا كانت الخيبات العربية المتواصلة بمواكبها الرئاسية الوهمية الفخمة لم تصب الكثيرين؛ فمردّ ذلك فيما يبدو لي نتيجة حمل الوقائع والحقائق على محمل الجد، فكيف للمرء أن لا يهرب من الواقع كالآخرين واكتشاف الحاضر الذي نعيش فيه، وأن لا يقع في سخف الثوابت الدينية والفكرية المشوهّة ومسلمات الأحداث التاريخية والسيّاسية المزوّرة إن لم يتمكن من دحرهما في معركته مع الذات؟
قد تلتقي المتوازيات عند الناقد أو المعارض السياسي المدين بقروح مادية أو معنوية ضد جهة ما، فتراه يتصيّد من متحف الماضي أو مستجد الحاضر ما قد يُبرىء له قرحه أو يسدد عنه بعضا من ثأره، وفي واقع الأمر فإن التشويش الذهني الذي يصيب تلك الفئة من النقاد أو المعارضين تجعل منهم كمن يحاول أن يخلق مناطق محررة بين اللحم والعظم، أو تفسير سّر ما بين السماء والأرض في التجسيد، فبأي حق يُفترض أن تملك الميثولوجيا النقدية قدرا هائلا من العبثية بما يفيدنا عن الواقع السياسي القائم، أو عن التنظيمات الثورية والسياسية المعارضة، ورغم أن كلا النسقين يتطلّب التزاما مساويا للإحترام الذي يستأهله القانون، ويشكل امتيازا لكل مثقف حُر يُحيله إلى جدل يشعر بخجل في الإنعتاق منه؛ إلا أن عدم إهتمام معظم الأدباء والنقاد والمعارضين السياسيين العرب المعاصرين لقواعد النقد الأدبي والسياسي ؛ يقضم أو ربّما يقطع الحبل السّري للنمّو الفكري السياسي العربي عن الحضارة البشرية، ويُخضعه لقوانين غامضة وبشكل أدق مضللة.
إن كافة المناضلين العرب الذين يمزّقون سرّا أوراق خيباتهم السيّاسية ويلقون بها في سلة المهملات، يسألون أنفسهم بمرارة الأسئلة ذاتها؛ أين الجميع ! هل تراني وصلت مبكرا جدا أم متأخرا جدا؟
هل تراه السلطان محمد علي باشا سأل نفسه هذا السؤال؟ لم نصحه المندوب الفرنسي بتصفية ما يقارب 500 نفس من أمراء المماليك غدرا عام 1811م، وذلك في فيما أُطلق عليها بمذبحة القلعة، حيث دعاهم لتناول الطعام بمناسبة تنصيب ابنه أحمد طوسون لقيادة حملة عسكرية ضد الحركة الوهابية في الحجاز، وبعد أن أتخمهم بالطعام والشراب قام بقتلهم بدم بارد، معتقدا بذلك أنه تخلص من شر البريطانيين الداعمين للمماليك أنذك، ومعتقدا بسذاجة أن فرنسا التي -عجزت عن احتلال عكا- ستستمر في دعمه ضد بريطانيا، وبأن الحكم سيتقر له، فقام هو بفتح عكا وتدمير القوة العسكرية العثمانية المرابطة فيها؛ فمهّد ذلك لاحقا لاحتلالها من قبل البريطانيين، ولم يعلم بأن السياسة قائمة أصلا على البراغماتية وتبادل المصالح، وبأن فرنسا التي ساعدته في بناء أسطوله البحري ودعمته عسكريا ضد الدولة العثمانية؛ ستتحالف لاحقا مع بريطانيا ورسيا وستدمّر اسطوله البحري في معركة نافارين البحرية عام 1827م، فضلا عن تدمير الأسطول البحري العثماني، غير أن أكبر الخاسرين من تلك المعركة كان هو الأسطول البحري الجزائري الذي خسر قوته العسكرية البحرية المهيبة والمرعبة في ذات الوقت حد الأساطير والروايات الغربية التي حاولت الإساءة إليهم وتصويرهم على أنهم مجرد قراصنة ولصوص على غرار رواية ( القرصان جاك سبارو) وذلك بسبب عجز القوى البحرية الغربية آنذك عن مواجهتهم وهزيمتهم، نتيجة لقوة البحارة الجزائريين ذوي الخبرات العسكرية الطويلة وشدة بأسهم ومدي مهارتهم في الحروب البحرية منذ زمن فتح الأندلس، والتي كانت تخيف كل الأساطيل البحرية الغربية آنذك، وتبعد خطورتها عن شمال العالم الإسلامي، كما وفقدت الجزائر كافة العائدات المالية التي كان يجنيها أسطولها الحربي من فرض الضرائب على السفن التجارية الغربية والأمريكية في البحر الأبيض المتوسط ، فأصاب هيبتها الدولية وقوّتها العسكرية والإقتصادية في مقتل، ولم يتطلب الأمر أكثر من ثلاث سنوات حتى سقطت الجزائر - والتي لم تعد قادرة على حماية حدودها البحرية- بيد فرنسا عام 1830م.
لا شك بأن محمد على باشا نجح بتأسيس دولة مصرية حديثة ومعاصرة؛ فعسكريا قام بانشاء الجيش المصري الحديث وفق المواصفات العسكرية المعاصرة آنذك، وإنشاء مصانع الإنتاج الحربي، وقام ببناء أسطوله البحري من جديد، واقتصاديا قام بإصلاحات إقتصادية واسعة وأدخل زراعة القطن لمصر، وقام بانشاء مصانع النسيج والعديد من الصناعات الحيوية الأخرى، وقام بنهضة علمية وثقافية واجتماعية واسعة، غير أنه في الحقيقة هو المسؤول الأول عمّا يحدث في كافة الدول العربية المعاصرة من فسادٍ ماليٍّ وإداريٍّ وفشلٍ اجتماعيٍّ واقتصاديٍّ بل وحضاريٍّ تام عقب سقوط ما يسمّى بالخلافة الإسلامية العثمانية.
إن المُحال في عالم الميثولوجيا العربية هو ما لايمكن له أن يحدث، غير أنه عند الذين باتو يعمرون الفضاء هو فقط ما لم يحدث بعد.
يُتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص