الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ترامب والقدس...عندما يختلط الدين بالسياسة

محمد عمارة تقي الدين

2018 / 5 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ترامب والقدس...عندما يختلط الدين بالسياسة
دكتور محمد عمارة تقي الدين
" لقد اتخذ الرئيس ترامب اليوم قرارًا شجاعًا، دعونا نُصلّي جميعًا في هذا اليوم التاريخي من أجل أمتنا وأمة إسرائيل، ندعو الله أن تظل الولايات المتحدة على التزامها ودعمها لإسرائيل، يقول الكتاب المقدس إذا وقفت ضد إسرائيل وشعبها فهو كما لو كنت تتحدى الله ذاته".
هكذا أعلن القس المسيحي الصهيوني والأمريكي الجنسية جون هاجي تأييده المطلق وفرحته الغامرة بقرار دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
بل ويضيف هاجي :" هذا الإعلان جاء متوافقًا مع توقيت الكتاب المقدس بدقة مطلقة، إنه واحد من أهم القرارات شجاعة التي جرى اتخاذها على مدار تاريخ الإدارات الأمريكية ... إن العديد من الرؤساء الأمريكيين وعدوا بإعلان القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، لكنهم لم يوفوا بوعدهم .... عندما تحدثت مع الرئيس ترامب في البيت الأبيض حول هذا الأمر قال لي: لقد خيب آمالكم رؤساء سابقون، لكنني لن أخذلكم في هذه القضية، وسوف أقف مع إسرائيل" .
ولكن ما الذي يجعل ترامب متحمساً لهذا القرار على هذا النحو؟
الإجابة قولاً واحداً هي: رغبةً في إرضاء تيار المسيحية الصهيونية، ذلك التيار الذي كان أحد الأسباب الرئيسية وراء فوزه بالمنصب الرئاسي، فقد أثبتت الكثير من التقارير الأمريكية أن ترامب حقق هذا الفوز نتيجة للإقبال الكبير للناخبين من أتباع هذا التيار المسيحي الصهيوني، بل وجرى وصفه باعتباره الإقبال الأكبر في التاريخ الأمريكي.
كان ذلك الإقبال بسبب مجموعة من التعهدات الانتخابية التي أطلقها ترامب وكان على رأسها المساندة المطلقة لإسرائيل والاعتراف بالقدس عاصمة لها، إذ يؤمن أتباع المسيحية الصهيونية بشكل عام بأن هناك ثلاث وعود إلهية ستتحقق قبل أن يعود المسيح إلى الأرض، وهي: قيام إسرائيل كدولة وتمددها على كامل أرض إسرائيل بحدودها التوراتية، وسيطرة إسرائيل على مدينة القدس، وإعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى.
والجدير بالذكر أن المسيحية الصهيونية قد تحولت إلى قوة سياسية ذات ثقل في العقود الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ باتت تلعب دورًا سياسيًا كبيرًا داخلها، فقد كانوا أحد الأسباب الرئيسية وراء فوز بوش الابن بالانتخابات الأمريكية، ثم وفي عام 2017م قادت إلى فوز ترامب ومن ثم دفعته لاتخاذ قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وبالقطع فحركة المسيحيين الصهاينة ترفض أي معاهدات سلام من شأنها تسليم أراض للفلسطينيين بل الحرب لديهم هي القاعدة كشرط لتحقق الخلاص الديني، فها هو القس المسيحي الصهيوني جيمي سواجارت يؤكد استحالة تحقق السلام فيما يتعلق بصراع الشرق الأوسط قائلًا:"يمكنهم توقيع كل معاهدات السلام التي يريدونها لكنهم لن يحققوا السلام فهناك أيام سوداء قادمة"، وهي ذات الأطروحات التي يدفع القس والتر ريجانز باتجاهها إذ يقول:"إن اتفاقيات السلام هي خيانة لله وللشعب اليهودي فالسلام هو دعوى شيطانية" .
كما أن أحداث آخر الزمان وفقًا لقناعات هذا التيار يجب أن يسبقها مذابح ودمار، وهو أمر من شأنه أن يبرر عمليات العنف والقتل ضد الفلسطينيين بذريعة تطهير الأرض المقدسة من الأغيار(العرب) طردًا أو إبادة، والسعي لهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل مكانه ليتسنى المجيء الثاني للمسيح، فوفق معتقداتهم يُعد بناء الهيكل شرطاً من دونه لن يأتي المسيح المُخلِّص.
ومن ثم تُمثِّل الصهيونية المسيحية عقبة أمام المجتمع الدولي تحول دون اتخاذه ردود أفعال حقيقية ضد جرائم الكيان الصهيوني وبخاصة المتعلقة بالاستيطان في الأراضي المحتلة والذي تدفع به الصهيونية المسيحية إلى حده الأقصى تعجيلًا بالخلاص الديني.
وهي من أجل ذلك تساند الكيان الصهيوني مساندة مطلقة، بل وتعتبر إعلان قيامه كدولة إحدى بشارات الخلاص، يقول القس جيري فالويل أحد أشهر مُنظِّريها :"إن اليوم الذي تم فيه إعلان قيام إسرائيل هو أهم الأيام على الإطلاق منذ صعود المسيح للسماء" .
وبضغط منهم سارع الرئيس الأميركي ويلسون بالموافقة على وعد بلفور عام 1917م معلقًا بالقول:"يتحتم بذل كل الجهود من أجل إعادة الأرض المقدسة إلى أصحابها"، ثم وبعدها بمائة عام بالضبط وفي عام 2017م كان قرار الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل.
لقد ادعى أتباع المسيحية الصهيونية أن أمريكا قوية لأنها تقف مع إسرائيل وأن كل مُعادٍ لإسرائيل ستحل عليه اللعنة استنادًا لتفسيرهم المنحرف لما ورد في الكتاب المقدس"أبارك مباركيك وألعن لاعنيك"، إذ يزعمون أن دولة إسرائيل الحالية هي المقصودة بهذه الفقرة في مخالفة جوهرية لصحيح تفسيرها.
وتحظى المسيحية الصهيونية انتشارًا أسطوريًا داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فلك أن تتخيل أن هناك، وبحسب البعض، أكثر من 50 مليونًا من أتباع تلك الجماعة داخلها، بل وهناك من يصل بهذا الرقم لأكثر من سبعين مليونًا، فلا توجد إحصاءات دقيقة بهذا الشأن.
كما أن هناك مجموعة من الولايات الأمريكية التي يسيطر عليها المسيحيين الصهاينة بشكل مُطلق، ويطلق عليها "الحزام الإنجيلي " أو " حزام أمن إسرائيل" .
وبالعودة لترامب وقراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بضغط من هذا التيار، فها هو مايك إيفانز القيادي المسيحي الصهيوني يؤكد أن ذلك كان استجابة لتعهدات انتخابية سابقة، يقول إيفانز:"لقد وعدنا الرئيس ترامب بأن يعترف بالقدس وأن ينقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ونحن نؤمن إيمانًا راسخًا بأن هذا الوعد غير قابل للتفاوض، وسيجري تنفيذه خلال فترة رئاسته للإدارة الأمريكية".
وهو ما حدث بالفعل في ديسمبر 2017م إذ أعلن ترامب اعتراف أمريكيا بالقدس عاصمة لإسرائيل، وعليه رحب مايك إيفانز بهذا القرار بشدة، إذ قال:" لقد أصبحنا في قلب النبوءة الدينية، هذا الحدث رسالة هامة لكل أعداء وكارهي إسرائيل... ترامب مثله مثل الملك كورش الأكبر الذي ساعد إسرائيل في العصور القديمة .... سألتقي الرئيس ترامب في البيت الأبيض وسأقول له: أنت كورش العظيم الله يقودك لتحقيق خططه الإلهية " .
وها هو جوني مور المتحدث باسم مجموعة ترامب من المستشارين الإنجيليين يشيد بالقرار مؤكدًا أن قضية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل كانت أحد الوعود الانتخابية الرئيسية التي على أساسها انتخب الإنجيليون ترامب، ومن ثم أكد ترامب لأنصاره بهذا القرار أنه رجل يفي بوعوده وسيفعل أي شيء من أجلهم.
وهو ذات ما دفع باتجاهه القس المسيحي الصهيوني والأمريكي الجنسية بات روبرتسون، الذي عبر عن سعادته البالغة بقرار ترامب، بل وتحدث حديثاً لا يخلو من فانتازيا إذ قال:" لقد أتاني الله في المنام بالأمس وأراني المستقبل، لقد اصطحبني الله إلى السماء وحينها رأيت الرئيس ترامب جالساً بجوار الله وعلى يمينه" .
وهناك المبشرة المسيحية الصهيونية بولا وايت والتي تعمل كمستشارة للرئيس ترامب وتحظى شعبية كبيرة داخل الولايات المتحدة وخارجها، وقد صرحت بأن:" الرئيس ترامب هو الملك الذي أعطاه الله هذا المنصب من أجل مساندة إسرائيل"، فهو اختيار الله سواء أراد الناس ذلك أم لا.
شبَّهت بولا وايت الرئيس ترامب بأستير تلك الشخصية اليهودية في الكتاب المقدس والتي أصبحت ملكة بلاد فارس واستطاعت منع مؤامرة لإبادة الشعب اليهودي، تقول وايت :" ترامب يشبه أستير في أنهم تجاوزوا خلفياتهم العلمانية ليصبحوا قادة عظيمين" ومن ثم فترامب، وعلى الرغم من علمانيته، قد اختاره الله لإنقاذ إسرائيل، بل إن وايت ترى أن الذين ينتقدون أو يعارضون ترامب إنما يعارضون إرادة الله.
وقد علّقت وايت على قرار ترامب الاعتراف بالقدس قائلة:" الرئيس ترامب حقق وعوده الانتخابية، مرة أخرى يُظهر الرئيس ترامب للعالم ما كنت أعرفه دائمًا عنه، إنه زعيم يفعل ما يعتقد أنه صحيح بصوت عال دون أن يعبأ بالمشككين والمنتقدين، الإنجيليون في حالة نشوة كبيرة لأن إسرائيل بمقدساتها أصبحت لنا والشعب اليهودي هم أصدقاؤنا الأعزاء".
ولكن ما الذي يقود ترامب نحو الطاعة العمياء لهذا التيار ومن ثم تلبية كل مطالبه؟ الحقيقة أن ترامب مثله مثل سائر الأمريكيين يعلم حجم هذا التيار جيداً ومدى نفوذه داخل المجتمع الأمريكي وخارجه، إذ يذهب البعض إلى أن هذا التيار بإمكانه القضاء على المستقبل السياسي لأي سياسي أمريكي لا يخضع لمطالبه، وجون ماكين خير مثال على ذلك إذ استطاعوا إسقاطه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2000م نتيجة لمواقفه الرافضة لهم فقد كان يصف المسيحيين الصهاينة دائماً بعدم التسامح تجاه الآخر.
والحقيقة أن غالبية الرؤساء الأمريكيين كانوا من المنحازين لإسرائيل نتيجة لضغوط هذا التيار، وإن جاء هذا الانحياز بدرجات مختلفة، بخلاف الرئيس جون كنيدي الذي حاول تبني موقف معتدل من الصراع العربي الإسرائيلي، تأسيسًا على قناعة لديه مفادها أن الدعم الأمريكي المُطلق لإسرائيل لا يهدد استقرار الشرق الأوسط فحسب بل يهدد الولايات المتحدة والعالم كله ويضع السلم العالمي على حافة المجهول، ومن ثم دعا كيندي إلى إنهاء هذا الصراع وتسويته بشكل عادل بما يضمن حقوق الشعب الفلسطيني، غير أنه جرى اغتياله وقيل إن الصهيونية العالمية هي من دبرت هذا الحادث، بل واتهم البعض المخابرات الإسرائيلية بشكل صريح بالتخطيط لهذا الاغتيال إلا أن التحقيقات تمت في ظروف غامضة ولم تسفر عن شيء، غير أن الدلالة التي يمكن رصدها فيما يتعلق بهذا الاغتيال أن السياسة الأميركية تحولت تجاه إسرائيل إلى التأييد المطلق وخفت صوت معارضتها بشكل كبير، فهو درس قد استوعبه الساسة الأمريكيون جيدًا ومفاده أن أي سياسي يجرؤ على معارضه إسرائيل فإن مصيره إما التصفية المعنوية أو الجسدية.
ودونالد ترامب هو واحد من هؤلاء، فهو رجل أعمال علماني، وبراجماتي يبحث عن مصالحه والتي رأى أنها تكمن في التحالف مع هذا التيار المسيحي الصهيوني وإن جاء تحالفاً لا أخلاقياً المهم إنجاز تلك المصالح، فهو- أي ترامب - ابن الحضارة الغربية في أبشع تجلياتها، هو أحد منتجاتها الأكثر رداءة، هو تعبير عن النزعة اللاقيمية الكامنة داخل النسق القيمي لتلك الحضارة بكل ما تستدعيه الكلمة من انتهازية سياسية ونفعية ونسبية أخلاقية وعدم الثبات على المبدأ.
هو تعبير عن شعار "هنا والآن" الذي تسربلت به تلك الحضارة، والذي يعني تحقيق السعادة الذاتية الآنية بأقصى حدودها وإن كانت أثمانها آلام ومعاناة الآخرين.
والحقيقة أن ترامب مدفوع بهذا الاتجاه، ربما دون رغبة منه، لكنه مُجبر على ذلك ولا يملك التراجع عن هذا المسار، فهكذا استطاع تيار المسيحية الصهيونية السيطرة على كثير من الرؤساء الأمريكان عبر مراكمة خبرة سياسية طويلة تمكن من خلالها هذا التيار من إجادة اللعبة السياسية الأمريكية بشكل كبير.
فترامب عليه ضغوط كبيرة، إذ أن هناك الكثير من الملفات التي يجري تهديده بها، وأنه يمكن فتحها في أي وقت ومن ثم تناولها بشكل واسع في وسائل الإعلام لتعيد صياغة الرأي العام الأمريكي وتأليبه ضده، لعل أبرز هذه الملفات: فضائحه الجنسية، وقضية الاتصال بروسيا وقت الانتخابات لمساعدته في الفوز وإقصاء هيلاري كلينتون،وهي كلها ضغوط تُمثل ضمانة من شأنها إبقاء ترامب تحت السيطرة فلا يحيد عن الدور المرسوم له سلفاً.
وفي التحليل الأخير فإن ما تطرحه المسيحية الصهيونية من فكر ديني هو بعيد كل البعد عن المسيحية الحقة بل هي لا تعدو كونها أطماع سياسية تم توظيف العقائد الدينية لتسويغها، وهو ما يدفع عبد الوهاب المسيري باتجاهه، إذ يرى أن فكرهم هو جزء أصيل من الحضارة الغربية، وأن هذا الفكر هو في حقيقة الأمر فكر استعماري أُضفيت عليه تبريرات دينية.
لقد انتهي الأمر بهذا التيار المسيحي الصهيوني أن شوه العقيدة المسيحية إذ أضحت لديه مجرد أيديولوجية سياسية عنصرية مغلقة تدعو للحرب والقتل كإستراتيجية لا بديل عنها لتحقيق الخلاص الديني المزعوم في تنافر وتضاد واضح مع رسالة المسيح في إصدارها الأول والداعية للسلام والتسامح مع الجميع.
والسؤال الذي يبحث عن إجابة: ما العمل إزاء تلك المواقف الأمريكية المغالية في تطرفها ودعمها المطلق للكيان الصهيوني دون أن تعبأ بالحقوق العربية والإسلامية، وهي المواقف المحمولة على أطماع سياسية ذات ديباجات وتبريرات دينية نتيجة لضغوط هذا التيار المسيحي الصهيوني على الإدارات الأمريكية وسيطرته على القرار السياسي بشكل كبير؟ فهل من إستراتيجية للمواجهة؟ ذلك ما سيجري تناوله في مقال قادم بإذن الله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاب كويتي «مبتور القدمين» يوثق رحلته للصلاة في المسجد


.. القبض على شاب هاجم أحد الأساقفة بسكين خلال الصلاة في كنيسة أ




.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا


.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز




.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب