الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل الماركسية معنية فقط بالاستغلال الاقتصادي؟

أشرف عمر

2018 / 5 / 18
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


ترجمة أشرف عمر الناشر وحدة الترجمة – مركز الدراسات الاشتراكية

لوقتٍ طويل، ظلَّت التهمة المُوجَّهة للماركسية بأنها “اختزالية” – أي أنها ترفع من شأن ما هو “اقتصادي” على حساب ما هو “سياسي”، وتُعلي شأن الاستغلال فوق مظاهر الاضطهاد المُتعدِّدة – رائجةً في أوساط اليسار، وبالأخص اليسار الأكاديمي. ومن الصحيح حقًا أن الكثير من الاشتراكيين، تاريخيًا، قد تبنُّوا تفسيراتٍ غير ملائمة للعلاقة بين البُعدَين الأساسيَّين للرأسمالية: الاستغلال والاضطهاد.

ماذا تعني هذه المصطلحات؟ الاستغلال يعني السرقة التي يعاني منها كل العمال من خلال عدم تلقيهم القيمة الكاملة لعملهم، والتي يناضلون ضدها بالإضرابات وغيرها من التحرُّكات من أجل الحصول على أجورٍ ومنافع اقتصادية أعلى.

أما الاضطهاد، فيعني التمييز، والعنف، وغيرهما من المظاهر السلبية التي تعاني منها فئاتٌ مُعيَّنة، على أساس الجنس أو العرق أو الإثنية أو الهوية الجنسية أو الدين، وغيرها من العوامل.

تعاني الطبقة العاملة ككل من الاضطهاد بأشكالٍ وصورٍ مختلفة – على سبيل المثال، يُعد نظام التعليم الذي تسير الطبقة العاملة وفقه أدنى من نظام تعليم أبناء الطبقة الحاكمة. لكننا حين نتحدَّث عن الاضطهاد، فعادةً ما نتناول التأثير الواقع على – والمقاومة التي تمارسها – فئاتٌ مُعيَّنة تنضوي في شرائح الطبقة العاملة وكل الطبقات الأخرى.

تكمن المشكلة في فصل هذين البُعدَين للرأسمالية، أو وضع أحدهما قبل الآخر في أولويات أجندة المقاومة.

ومع تصاعد الاهتمام بالاشتراكية، صار لدى الاشتراكيين الذين لطالما عارضوا وكافحوا ضد مثل هذه التفسيرات غير الملائمة الفرصة من أجل إعادة تقديم ما كان يُطرَح ويُدافَع عنه دائمًا: أن النضالات ضد الاستغلال والأشكال المختلفة من الاضطهاد متشابكة في ما بينها، بل وتُشكِّل بعضها البعض بصورةٍ أساسية، ولا يمكن كسب المعركة ضد أحد هذه الأشكال دون شنِّ النضال ضد الآخر.

تفاعلاتٌ مُتبادَلة
من أين إذن نشأت تهمة “الاختزالية” ضد الماركسية؟

سعى ماركس وإنجلز لفهم القوة الدافعة للمجتمعات الطبقية. لقد جادلا بأن نقطة البدء في فهم أي مجتمعٍ هي الطرق التي يُنظِّم المجتمع بها مُتطَلَّبات المعيشة (أي الاحتياجات المادية)، والتكاثر (أي إنتاج الجيل المقبل والذي بعده، وهكذا).

تُشكِّل القاعدة الاقتصادية البنية الفوقية السياسية، وكذلك الأفكار التي تنبع من القاعدة الاقتصادية للمجتمع. في كتابه “الاشتراكية العلمية والاشتراكية الطوباوية”، يوضح إنجلز أن الرؤية المادية التاريخية للماركسية هي أن:

“كل التاريخ الماضي… كان تاريخًا للصراعات الطبقية؛ أن هذه الطبقات المتصارعة في المجتمع كانت دائمًا نتاجًا لأنماط الإنتاج والتبادل. بعبارةٍ أخرى، كان تاريخًا للظروف الاقتصادية السائدة فيه؛ إذ تُوفِّر البنية الاقتصادية دائمًا القاعدة الحقيقية، التي يمكننا بدءًا منها أن نُحدِّد التفسير النهائي لكل البنية الفوقية للمؤسسات القضائية والسياسية، وكذلك الأفكار الدينية والفلسفية، وغيرها من الأفكار لأي فترةٍ تاريخيةٍ بعينها”.

في بعض الأحيان، يُرفَض هذا المفهوم باعتباره حتميًا، إذ يضع الشأن “الاقتصادي” كحجرِ أساسٍ، ويطرح تفاعلًا أحادي الجانب يُشكِّل فيه “الاقتصاد” كل الأبعاد السياسية والثقافية والاجتماعية الأخرى للمجتمع.

لكن نقطة البدء هذه للماركسية – حيث “تُوفِّر البنية الاقتصادية للمجتمع دائمًا القاعدة الحقيقية” التي تتطوَّر منها الأيديولوجيا والعلاقات الاجتماعية والمؤسسات السياسية – لا تتطابق مع الادعاء القائل بأن الظروف الاقتصادية أهم، أو أن التأثير لا يسير إلا في اتجاهٍ واحد.

مثالٌ على ذلك هو أن أصل العنصرية في المجتمع الرأسمالي الحديث اليوم مرتبطٌ بأصول التصنيع الرأسمالي في أوروبا – وأكثر ارتباطًا بنظام العبودية في مستعمرات القوى الأوروبية في “العالم الجديد”.

وكما يصف المؤرِّخ اليساري البريطاني روبِن بلاكبورن في كتابه ” The Making of New World Slavery – صناعة عبودية العالم الجديد”، فإن العمل العبودي الذي استُخدِمَ في بادئ الأمر في الإنتاج الزراعي في شمالي ووسط وجنوبي أمريكا اتَّخَذَ شكل اختطاف الأفارقة من قارتهم ونقلهم إلى النصف الغربي من الأرض.

حدث هذا فقط حين جرت محاولاتٌ آلت إلى الفشل في تطبيق أشكال أخرى من العمل القسري على نطاقٍ واسع. كان عبيد السخرة الأوروبيون، الذين عملوا بالتعاقد مع مُلَّاكهم، هم الشكل الأول، لكنهم لم يقتنعوا بالقدومِ إلى المستعمرات إلا بمُغرَيات الأرض والحرية التي سيحصلون عليها بعد انتهاء فترات عقودهم.

ومن ثم استُعبِدَ السُكَّان الأصليون من قِبَلِ مُستَعمِريهم، لكن كانوا يتمكَّنون دومًا من الهرب لأنهم على درايةٍ جيِّدةٍ بأراضيهم، بينما لقى بعضهم حتفه بأعدادٍ كبيرة جرَّاء الأمراض الأوروبية.

هذا ما ترك الأفارقة، الذين كانوا بمثابة بحرٍ من العمالة الرخيصة غير المحدودة، خيارًا لتُجَّار ومُلَّاك العبيد.

لم تكن هناك عنصريةٌ مُمَنهَجة بناءً على اللون قبل هذا التطوُّر الاقتصادي. وبصورةٍ كبيرة، ابتُكِرَ هذا النظام من الاضطهاد، الجسدي والأيديولوجي على حدٍّ سواء، من أجل تمكين وتبرير انتزاع السود من قارتهم الأفريقية، ونقلهم عبر ما سُمِّيَ بـ”الممر الأوسط” في ظروفٍ لا توصف وحشيتها، ومعاملتهم بأبشع الصور هجميةً في ظلِّ استعبادهم.

أُطيحَ في النهاية بنظامِ العبودية، لكن العنصرية استمرت في شكلٍ جديد، مُوَفِّرةً وسائل فُرِضَ بها وضعٌ وظروفٌ أدنى على المُضطَهَدين، وكذلك وفَّرَت التبرير الأيديولوجي بأن هذا النظام كان “طبيعيًا”.

وهكذا فإن الاضطهاد العنصري كان يُقَولَب ويُعاد تشكيله على الدوام وفقًا للتطوُّرات في النظام الاقتصادي – لكن هذه التطوُّرات في المقابل أيضًا كانت مُعتمدةً بالكامل على الحفاظ على العنصرية. الاستغلال الاقتصادي والاضطهاد العنصري كانا، ولا يزالا، غير مُنفصِلَين.

أولويات؟
لابد من فصل مسألة أولوية “الاقتصادي” في فهم تطوُّرِ الاستغلال والاضطهاد والعلاقة بينهما عن قضية كيف نناضل ضدهما.

على سبيل المثال، حين نقول أن “الاقتصادي” يُشكِّل ويُقولِب الأفكار المُهيمِنة في المجتمع، مثل العنصرية، لا يعني أن “الاقتصادي”، تلقائيًا هكذا، هو الأهم في النضال. وكما يُظهِر تاريخ حركة الطبقة العاملة في الولايات المتحدة، فإن التمرُّدات ضد العنصرية قد صقلت النضال الطبقي ضد ظروف الاستغلال.

لكن فهم أن الاستغلال والاضطهاد مُرتبطان ببعضهما يؤكِّد نقطةً هامة هي أن العنصرية لا يمكن إلحاق هزيمة نهائية بها دون الإطاحة بالرأسمالية، والعكسُ بالعكسِ.

وهكذا فإن التهمة المُوجَّهة للماركسية بأنها “اختزالية” تكمن في الخلط بين إجابتيّ السؤالين التاليَين: ما هو أصل ومسار تطوُّر الأشكال المختلفة مع الاضطهاد؟ وكيف نناضل ضد الاضطهاد من أجل وضعِ حدٍّ له؟

ولأن الاضطهاد مرتبطٌ بالرأسمالية ومُندمِجٌ فيها بقوة، فلا يمكن الفصل بين الاستغلال والاضطهاد.

أدرك الثوري الروسي فلاديمير لينين أن الاشتراكيين بحاجةٍ للنضال ضد الاستغلال، وأيضًا ضد كافة أشكال الاضطهاد. كَتَبَ لينين:

“لا يمكن أن يكون وعي الطبقة العاملة وعيًا سياسيًا حقًّا، إذا لم يتعوَّد العمال الرد على كلِّ حالةٍ من حالات الطغيان والظلم والعنف والاستغلال على اختلافها، وبصرف النظر عن الطبقة التي تُوجَّه إليها، على أن يكون الرد من وجهة النظر الاشتراكية الديمقراطية، لا من أية وجهة نظر أخرى.

ولا يمكن أن يكون وعي جماهير العمال وعيًا طبقيًا حقًّا إذا لم يتعلَّم العمال الاستفادة من الوقائع والحوادث السياسية الملموسة والمُلِحَّة في الوقت نفسه، لمراقبة كل طبقة من الطبقات الاجتماعية الأخرى في جميع مظاهر حياتها الفكرية والأخلاقية والسياسية؛ إذا لم يتعلَّموا أن يُطبِّقوا في العمل التحليل المادي والتقدير المادي لجميع أوجه نشاط وحياة جميع طبقات السُكَّان وفئاتهم وجماعاتهم.

إن كل من يُوجِّه انتباه الطبقة العاملة وقوة ملاحظتها ووعيها إلى نفسها فقط، أو إلى نفسها بالدرجة الأولى، ليس باشتراكي ديمقراطي، لأن معرفة الطبقة العاملة لنفسها مرتبطٌ ارتباطًا لا ينفصم بمعرفتها معرفةً واضحةً تامة للعلاقات المتبادلة بين جميع طبقات المجتمع الراهن، معرفة ليست نظرية وحسب. والأصح أن نقول: ليست معرفةً نظريةً بمقدار ما هي مبنية على تجربة الحياة السياسية.

ولذلك فإن منطق أن النضال الاقتصادي هو الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل لجذب الجماهير إلى الحركة السياسية هو أمرٌ ضارٌ منتهى الضرر ورجعي منتهى الرجعية من حيث نتائجه العملية”.

لعل الجملة الأخيرة من هذا الاقتباس هامةٌ لأولئك الاشتراكيين الذين يمكن أن يُطلَق عليهم “اختزاليون” نظرًا لأن تحليلهم لا يعترف بالعلاقة المُتبادَلة بين الاستغلال والاضطهاد.

النقطة الأساسية لدى لينين هي أن النتائج العملية من “التركيز الحصري على النضال الاقتصادي” – أو تلك النتائج المُترَتِّبة على الاعتقاد الحتمي بأن النضال الطبقي سوف يتولَّى مشكلات الاضطهاد ويحلها – مُضرَّة لحركة الطبقة العاملة. وعلى الأقل، يؤدي هذا بالاشتراكيين إلى أن يفقدوا فرص الانتصار للنضالات التي تتقدَّم الحركة ككل.

وعلى الجانبِ الآخر، فإن أولئك الذين يُسدِّدون تهمة الاختزالية ضد الماركسية يقعون في نفس الخطأ النظري بالاعتقادِ أن الاستغلال والاضطهاد يمكن فصلهما إلى حقلَين مُنفصِلَين ذاتيًا لا يتفاعل الواحدُ منهما مع الآخر بأكثر الطرق حسمًا.

في المقابل، ترى الماركسية الاستغلال والاضطهاد كجزئين عضويَّين من كلٍّ واحد. وهكذا فإن المقاربة القائلة بأن العنصرية قد “أُدخِلَت” في الكعكة الرأسمالية، لهي مقاربةٌ خاطئة بالنسبة للماركسية. العنصرية مُكوِّنٌ رئيسي بلا جدالٍ في النظام، لكن ما مِن طريقةٍ لاستئصالها نهائيًا من المُنتَج النهائي. الكعكة كلها يجب أن تفنى.

* هذا الموضوع مُترجَم عن موقع The Socialist Worker الأمريكي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تعتقل عدة متظاهرين في جامعة تكساس


.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم




.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟


.. شرطة نيويورك تعتقل متظاهرين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة




.. الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا