الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قانون الاستجابة و تفسير حدوث النشوء و التطور

جلال مجاهدي

2018 / 5 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عرفت الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1925 محاكمة مثيرة للجدل سميت بمحاكمة القرد , حيث مثل أمام محكمة ولاية تينيسي , أستاذ للبيولوجيا يدعى جون طوماس سكوبس بتهمة تدريس نظرية التطور و الارتقاء لتلاميذه ,معتمدا على مقرر دراسي كان معروفا باسم "البيولوجيا المدنية " و الذي كان مخالفا لقانون بلتر المعتمد في الولاية الذي يمنع تدريس نظرية داروين للتلاميذ بها , القصة انتهت بحكم برأ ساحة الاستاذ في المرحلة الاستئنافية بعد إلغاء حكم ابتدائي قضى بأدائه غرامة قدرها 100 دولار والمثير في المحاكمة هي أنها انتقلت من مجرد محاكمة لشخص إلى محاكمة لنظرية داروين ككل ,حيث استعان محامي المدرس المسمى دارو بعلماء بيولوجيا دافعوا عن صحة النظرية , كما ناظر رجل دين مسيحي أثناء المحاكمة و أفحمه و قد توجت مجهودات المحامي بالحصول على براءة موكله و سميت هذه المحاكمة بمحاكمة القرد , كدلالة على محاكمة نظرية داروين التي ترجع أصل الإنسان إلى المملكة الحيوانية.

إلى تاريخ وقوع أحداث هذه المحاكمة الشهيرة ,لم يكن من المتصور أن هذا الإنسان الذي هو نفسه نتاج عملية تطورية ,سيستطيع يوما ما من خلق كائن حي ليجيب بذلك بشكل تجريبي عن إمكانية حدوث النشوء دون تدخل مباشر لقوى خارجية , نعم , حدث ذلك في سنة 2014 حين تمكن علماء بيولوجيا بجامعة كاليفورنيا من خلق خلية بكتيرية حية دون استنساخ, و بذلك انتهى الكلام بخصوص إمكانية حدوث النشوء هكذا في الطبيعة, لكن كيف يمكننا تفسير سريان الحياة في الخلية ؟

لا شيء يحدث في الطبيعة إلا وفقا لقوانين محددة , الإنسان و الحيوان و النبات و الأحياء محكومة بقوانين الطبيعة و فهم هذه القوانين الواجبة الانطباق و النافذ حكمها هو الذي يمكننا من معرفة كيف و لم تحدث الأشياء و في حالات عديدة يمكننا سبقا التنبؤ بالنتائج , و هذه القوانين بطبيعتها تحيل على أصناف من السيرورات المحددة, فمتى تجمعت شروط حدوث شيء ما فهو يحدث لزوما استجابة لاستجماع هذه الشروط, وهذا القانون الذي يربط بين اجتماع الشروط و بين تحقق نتائجها في الطبيعة سنطلق عليه اسم قانون الاستجابة .

كما سلف الذكر , ففي سنة 2014 تمكن علماء بيولوجيا من جامعة كاليفورنيا من خلق خلية بكتيرية اصطناعية دون استنساخ و طبعا فالحديث عن خلية بكتيرية هو حديث عن كائن حي , لذلك تساءلنا عن كيف سرت الحياة في هذا الكائن الذي هو الخلية البكتيرية ؟ هنا يجيبنا قانون الاستجابة بأنه كلما استجمعت شروط حدوث شيء ما فهو يحدث , نعم دبت الحياة ونشأت في هذا الكائن بفعل اجتماع شروط نشوئها و بفعل اشتغال قانون الاستجابة.

إنه لمن الخطأ استبعاد قانون السببية و إخراج مسائل تتعلق بالحياة أو التطور من حكمه , كل شيء في كوننا محكوم بقانون السببية و لا توجد نتيجة دون سبب و السبب في نشوء الحياة من هذا المنظور , يرجع إلى وجود قانون استجابة سببي اشتغل بمجرد توفر شروط النشوء مجتمعة , لذلك يكون نشوء الحياة مجرد استجابة لاجتماع شروطها و نتيجة لوجود قانون استجابة يشتغل.

تكيف الكائنات الحية مع محيطها و اختلاف صفات نفس النوع , تجد تفسيرها أيضا في قانون الاستجابة, فكما يوجد دب أبيض يعيش في القطب المتجمد استجاب جسمه لضرورة العيش في مناطق باردة جدا و لضرورة الصيد في مناطق متجمدة , يوجد دب بني بخصائص تمكنه من العيش في مناطق دافئة و كما توجد سلاحف تعيش في البر و لها خصائص معينة كشكل الأرجل ,توجد سلاحف أخرى تعيش في البحار تشبه أرجلها الزعانف و استجاب جسمها لظروف عيشها في الماء و حتى النباتات هنالك أنواع داخل نفس النوع و اختلافها راجع إلى استجابتها لضرورة التكيف مع الظروف المناخية و مع الأنواع المختلفة من التربة لتتأقلم مع الوسط البيئي الذي تعيش فيه.

نظرية التطور و الارتقاء هي أيضا تجد تفسيرا لحدوثها في قانون الاستجابة , فالتطور قد حدث استجابة لضرورات البقاء واستجابة لمسارات سلكتها الأنواع, فمثلا من القطط تلك التي استجاب جسمها لضرورة الافتراس و طورت مقدراتها في هذا الاتجاه كالأسود و النمور فأصبحت لها مخالب و أنياب طويلة و أجسام كبيرة مقارنة بباقي القطط وهناك أيضا من الطيور من طورت مقدرات عالية في الطيران و الصيد كالنسور و الصقور و الأمثلة كثيرة و معروفة , لذلك نستنتج أن قانون الاستجابة يفسر مسارات التطور.

قانون الاستجابة يجيب كذلك عن السؤال الذي يطرحه معارضو نظرية التطور حينما يتساءلون عن سر عدم تطور القرود مثل البشر رغم وجود الجد المشترك و يعنون بالقرود هنا الرئيسيات كالشمبانزي و البونوبو و كجواب بسيط نقول بأن الشروط التي يقتضي استجماعها قانون الاستجابة في اتجاه تطور البشر لم تتحقق بالنسبة للرئيسيات و أن توجه أسلاف البشر المتمثل في استخدام عقولهم بشكل كبير نمى ملكة استخدام العقل وأبرز قدراته , في حين أنه بالنسبة للقرود فلا يمكن لقانون الاستجابة و لمسار التطور أن يشتغلا على تنمية قدراتها العقلية مثل البشر في غياب استخدام مماثل لها كالبشر, ونرى أن مسار التطور بالنسبة للقرود سار في اتجاه تعزيز قدراتها الجسدية و العضلية تمكنها مثلا من التسلق و القفز بسهولة و ببراعة كاستجابة بيولوجية لظروف عيشها و لحمايتها من المفترسين.

حقيقة الحديث عن نظرية داروين صار حديثا متجاوزا في العديد من الأوساط العلمية , حيث أصبح العلماء يتحدثون عن ما يسمى "التوليف التطوري " بعدما دمجت نظرية التطور في علم الوراثة و صارا علما واحدا والذي يهتم بكيفية حدوث التطور على مستوى الحمض النووي و الجينات و بذلك أصبح البحث في الطفرات و التحولات الجينية مفتاح الإجابات , لكن , فعلا إن كان كما قال عالم الوراثة بوبينر بأن الطفرات هي المواد الخام الأساسية التي يقوم عليها التطور و إذا كانت الطفرات تحدث عشوائيا و تنقسم حسب التصنيفات إلى طفرات ضارة و أخرى مفيدة و طفرات مفقدة للوظائف و أخرى مكسبة لها و طفرات مميتة ....... فكيف نتحدث عن وجود مسار تطوري و الحال أن الطفرات هي مجرد تغييرات عشوائية ؟ فأين قانون الاستجابة من كل هذا ؟

للإجابة عن التساؤل بشكل مبسط نأخذ مثالا بسيطا و هو مسار تطور الثعابين , أسلاف بعض هذه الزواحف و بفعل قانون الاستجابة طورت أنزيمات دفاعية ذات خصائص عدوانية خطيرة و هي السموم , لكن الطفرات المتعلقة بالأنزيمات كانت عشوائية و كونت سموما مختلفة لدى مجموعات مختلفة من الثعابين , فنجد أن الثعابين البحرية و أنواع الكوبرا قد طورت سما يهاجم الجهاز العصبي ,بينما نجد أن سم فصيلة الأفعويات مثل الأفعى المجلجلة و أفعى بوشماستر, فهو يهاجم الدورة الدموية و الأجهزة المتعلقة بها كالقلب و الشرايين ,لذلك نقول بأن قانون الاستجابة استجاب لعدوانية الثعابين التي طورت سمومها لكن على شكل طفرات عشوائية مختلفة و لم تؤثر العشوائية في مسار التطور أو في قانون الاستجابة.

و للإضافة نشير إلى أنه قد تم اكتشاف طفرات جينية سببت اختلافا كبيرا في مظهر الثعابين, بحيث أن هذه الأخيرة فقدت أرجلها منذ 100 مليون سنة بعد مسار تطوري ابتدأ منذ 150 مليون سنة و السبب في فقدان الأطراف حسب علماء الجينات, يرجع إلى عدم ترسب البروتينات على الجين المسؤول عن نمو الأطراف لعدد من الثعابين التي لا زالت تحتفظ بعظام أرجل صغيرة داخل جسمها , و بخصوص الثعابين الأخرى المتطورة التي فقدت نهائيا وجود آثار عظام الأطراف بداخلها كالكوبرا مثلا ,فإن الجين المسؤول عن نمو الأطراف قد فقد العديد من خصائصه , لذلك فإن قانون الاستجابة قد استجاب لرغبة الثعابين في السير المتموج عن طريق الزحف و في التخلي عن أطرافها و منه نستنتج أن مسار الطفرات في اتجاه التطور يتحكم فيه قانون الاستجابة الطبيعي.

و ختاما نؤكد أنه إذا كان كل شيء يحدث وفقا لقوانين الطبيعة, فإن الحديث عن التطور و عن الارتقاء و عن النشوء يستلزم أن نحيل هذه الأمور على قانون أو قوانين طبيعية تفسر حدوثها , فلا يحدث حادث أو ينتج ناتج إلا وفقا لقانون معين و لذلك يكون قانون الاستجابة السببي كما تم بيانه أعلاه عبارة عن قانون طبيعي يفسر وفقا لمبدأ السببية وبشكل واضح لم حدث النشوء بمجرد توفر شروطه و على أي ناموس طبيعي يستند تطور الأحياء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء