الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا يموت الصبار عطشا /رواية -من حكايات انتفاضة اذار 1991 /الفصل الخامس

ذياب فهد الطائي

2018 / 5 / 24
الادب والفن


لا يموت الصبار عطشا
رواية /من حكايات انتفاضة اذار 1991
الفصل الخامس
ذياب فهد الطائي

الفصل الخامس

أ لشمس ماتزال تشرق زاهية، والعصافير تتقافز على سعف النخيل والفرات يجري حرونا ... انه الربيع ، الذي يبدأ في العراق حييا متألقاً ثم يتخابث فيدفع موجات المطر تعكر على الناس رغبة الاستمتاع بالمشي على الطرقات الزراعية ، ويعابث النهر الذي لا يستطيع أن يحمي نفسه فيندفع كمن يهرب من المواجهة حاملا اثقال المطر ... تطل الحياة مدهوشة كترانيم طفل يتطلع الى قوس قزح ، ولكن حيث يتناسل الخراب تنطفئ عينا الطفل وتتحول الترنيمة الى صراخ مفجع ، انه طفل اليوم مفقوء العينين،لايجد الحليب في صدر أمه التي يتشبث بها، يفاجئ بالرعب الذي يجوس خلال البيوت فتأخذه نوبة عويل مجنونة.
على جدران البيوت في الشامية كانت شعارات سياسية ، يوحي خطها البدائي بالتفرد الذي يأ خذها من الالف الى الياء ....كانت بعيدة عن الشجاعة والبسالة التي في عيون المقاتلين الذين شاهدهم ... كانت تلهث ورائهم محاولة اعطائهم صيغة ما .... سمع صهيل الخيل في هذه السهول وهي تندفع وعليها أجدادهم المتلهفون لمواجهة الإنكليز في ثورة العشرين ، سمع شاعرهم يتهدد " الطوب أحسن لو مكواري " لم تك لهم شرفات تغطيهم ولهذا تشردوا في براري العراق ، فهل نصلي منذ الان للحظات الانكسار القادمة فوق صهوات الرياح تحرسها طائرات الحلفاء الشامتة ، أي قدر هذا الذي يعيد تفجر العواطف المكبوتة بذات سياقات المأساة ؟؟
ـ أبو احمد ... أرجو ان تعذرني لما سأقوله ،البنزين لدي غير كاف ولا يوجد من يبيعه الا شخص واحد يستغل الموقف , دائما هناك المستفيدون !!
تنهد متأسفا ثم تابع ـ اقترح أن نحاول مع قيادة الثوار في حسينية الشامية و أفضل أن تحاول أنت ذلك مع " السيد " ، اسمه عبد الحافظ ، بأن يزودنا ببضعة لترات من محطة بنزين الشامية التي يسيطرون عليها .
دخلا السوق المزدحم ... الشامية تستضيف أكثر من عشرة آلاف مهاجر وفي مثل هذه الساعة ، الكل في السوق اما ليشتري أو ليقضي الوقت ... المقاهي مزدحمة وعلى الأرصفة وقفت النسوة يثرثرن متحدثات عن كل شيء وبصوت مرتفع ... لا شيء يمكن أن يكون سرا هنا
الحسينية بناء رحب يقع في وسط السوق يتميز جدارها الخارجي بطراز بنائه وبنوع الطابوق الاصفر الفاقع وبالباب الخشبي المشغول بالآيات القرآنية .. على الباب كانت بقع من الحناء الطرية ... عند الباب مجموعة من المسلحين ، بعضهم يجلس على الرصيف يتشاغل بتدخين لفافات من السكائر وآخرون يسدون المدخل للحراسة ... كانوا في معظمهم شبابا يرتدون ملابس متنوعة ولكنهم جميعا يضعون حول رؤوسهم أشرطة خضراء كتب عليها " الله اكبر " .
ـ الى أين ؟ قال أحد الحراس
ـ أود مقابلة السيد عبد الحافظ ، أنا غريب ... من بغداد
ـ لحظة رجاء . قال مقاتل آخر وتقدم نحو خالد ليفتشه ولكنه لم يسأله لماذا.
ـ تفضل
كان مدخل الحسينية يفضي الى قاعة كبيرة ... ساحة مبلطة " بالموزاييك " الملون ثم أعمدة من الاسمنت ترتكز عليها القبة المشغولة بالفسيفساء ...خلفها كان رواقا دائريا مفروشا بالسجاد ، على الجانب الايسر مجموعة من المقاتلين يجلسون على الأرض محيطون بشاب في الثلاثينيات يضع على رأسه عمامة سوداء ويرتدي قفطانا فوقه عباءة من الصوف حمراء مطرزة حوافها بالإبرسيم الأسود.... كان الشاب يعطي تعليماته الى المقاتلين بصوت هادئ واضح النبرات وهم مصغون باهتمام.
ـ السلام عليكم
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . رد الجميع وتطلعوا نحوه
ـ السيد عبد الحافظ ؟
ـ نعم ...
رفع وجهه نحو خالد ... لحيته السوداء المشذبة يعلوها وجه يميل الى السمرة ، وعينان ودودتان عميقتان تحملان هما يحاول أن يداريه .
ـ سيد عبد الحافظ ... أنا من بغداد وقد تقطعت بي السبل ونفد البنزين من السيارة ولا يوجد مصدر يمكن الشراء منه في الشامية ... أكون ممتنا لو ساعدتموني ببضعة لترات من محطة التعبئة .
ـ أهلا وسهلا بك ... أقدر حاجتك تماما ولكن يؤسفني أن أقول أن هذا مستحيل ففي المحطة كمية محدودة من البنزين ونستخدمه لسيارات المقاتلين ولا توجد اية امكانية لتعويضنا من مصادر اخرى ... انت ترى انه بحكم الضرورة يتعذر علينا التفريط بلتر واحد ، ثانية أكرر اسفي .
لم يناقشه أو يعيد الطلب فقد كان الرجل واضحا وقاطعا في ايضاحه ... شكره وخرج .
في الطريق أخذ أبو زينب يسأل من يعرفهم عن عبد الحسين درنفيس, ضحك خالد ... قال أبو زينب
ـ يسمونه درنفيس لآنه لايتردد عن القيام بأي عمل من أجل النقود كما أنه يتمتع بالقدرة على ايجاد الحل لاية مشكلة ، اذا فقدت سلعة من السوق فانه يكون الوحيد القادر على توفيرها ...لا احد يعرف كيف .
قال رجل ـ نعم كان هنا وذهب الى كراج حجي محمد
في الكراج كان عبد الحسين يتهامس مع شخص آخر وحينما رآهما متوجهين نحوه صمت بتواطئ واضح مع الشخص الاخر ،
ـ السلام عليكم
ـ وعليكم
ـ عبد الحسين.... لدي كلمة معك بعد أن تنتهي مع الاخ
ـ لقد انتهيت .... في خدمتك
انتحيا جانبا ... تهامسا والقى عبد الحسين نظرة عجلى نحو خالد ، عادا اليه
ـ حسنا لقد تم تدبير خمسة عشر لترا و أعتقد أنها كافية
في شارع ترابي جانبي وقفا بأنتظار عبد الحسين الذي سرعان ما عاد بصفيحة ،
ـ خمسة عشر لترا
أفرغ البنزين في خزان السياره وقال ـ خمسة وسبعون دينارا
ـ ولكن هل هي فعلا خمسة عشر لترا !!
أقسم بالله وبالرسول وبالامام انها كذلك ...
ـ خمسة عشر لترا ... لماذا لم تتأكد قبل افراغها ؟.. على اية حال يمكنك اعادتها ... غيرك العشرات يبحثون عن لتر واحد و لانك ابن مدينتي اسرعت بتلبية احتياجك !!
اخرج ابو زينب حافظة نقوده ولكن خالد بادر بالدفع .
استقلا السيارة وعبرا جسر الشامية ،على امتداد الطريق الزراعي كانت سيارات مختلفة تسرع نحو الكوفة محملة بالمقاتلين .... كانوا من فلاحي المنطقة ، بعضهم يهزج أو يرتجز لبث الحماس وبعضهم كان جاد الملامح قاسي النظرات ، يعرفون جيدا انهم قد لايعودون ولكنهم مصممون على المواجهة ... على جانبي الطريق كان مئات الاشخاص .... عوائل كاملة يفترشون الارض... النساء تعد الطعام والاطفال لاهون باللعب والمشاجرة أو منطلقين يجرون بكل اتجاه فوق العشب الندي أما الرجال فقد كانوا يتطلعون الى الطريق بلا مبالاة.
كانت الساعة الواحدة حينما انعطفا يمينا ... على اليسار كان مصنع الاسمنت المتوقف عن العمل , أمامهم كان جسر الكوفة المفضي الى مرقد مسلم بن عقيل ... بمحاذاة شاطئ الفرات طريق اسفلتي وعلى الجانب الاخر بساتين تفوح منها روائح عبقة ، أمامهم على الجسر ما زالت جموع غفيرة تزحف باتجاه طريق الشامية، فوق سماء الكوفة والنجف كانت اربع طائرات هيليكوبتر تتبادل المراكزو تراقب الارض بدقة وتصوب صواريخها نحو مصادر نيران المقاتلين أو تجمعاتهم .
كانت الصواريخ تصدر اصواتا صاخبة حادة يحدث ارتطامها بالارض دويا هائلا يعقبه ارتفاع سحابة من الدخان والاتربة ... المعركة تبدو من بعيد أشبه بلوحة بانواراما صاخبة فيما راحت رشاشات المقاتلين تئز على نحو متصل متحدية ، ثابتة لا تترك مجالا للشك انهم ما يزالون هناك وانه ماازال الوقت مبكرا لان يرتاح " الاخرون ".
توقف أبو زينب عند مدخل تقاطع الطريق القادم من الشامية مع الشارع النازل من جسر الكوفة ،
ـ يمكن أن أنتظرك هنا حتى الخامسة فاذا لم تعد ساغادر الى البيت لانه من غير المستحسن استعمال الاضاءه ، السيارة في الظلام موضع شبهة ولهذا تستهدفها الطائرات.
تطلع الى الجهة الثانية من النهر وقا ل
ـ أفضل أن تنتظر قليلا حتى تخف حدة القتال
سمعا دويا هائلا اعقبه بعد ثوان دوي آخر وشعر بان الارض تتحرك تحت قدميه ،شاهد مياه النهر تضرب الشاطئ بغيظ فيندفع رذاذ بارد الى الشارع
قال ابو زينب ـ يبدو انهم مصممون على تدميرالمدينة ... هذه اصوات صواريخ سكود .
عبرت فوقهم وعلى ارتفاع منخفض طائرات التحا لف ، كان من الواضح انها لم تكن على عجلة من أمرها فقد دارت مرتين فوق المدينة وكأنها تستغرب استمرار المقاتلين واصرارهم على البقاء ثم اختفت !!
على ا لحشائش كان بعض النازحين يأخذون شيئا من الراحة ليعاودوا المسير ... ينظرون الى مدينتهم تدمر ... وجوههم تنطق برعب قاتل ، توالت الانفجارات في مناطق مختلفة .
قال ابو زينب ـ هذه قذائف ا لدبابات وا لهاونات.
على الجسر ازدادت كثافة الازدحام وبدا الناس بالركض باتجاه البساتين، قال رجل يمسك بطفلة مرعوبةحافية تجمدت الدموع في عينيها ، ا نهم يقتحمون المدينة بالدبابات .
ودّع أبي زينب واخترق الجموع ،على جسر الكوفة كان وحيدا يواجه مئات القادمين ، اللذين ينظرون اليه باستغراب ولكن أحدا لم يعلق بشيء سلب الخوف من عيونهم الاحساس بالاخرين، يجرون كعوالم متباعدة يمسك احدهم يد ابنه بآلية ويركض لايرى غير الجسر الذي يفصله عن عالم آخر لم تصله الدبابات ولا الجنود ذوي الضفائر الطويلة والعيون الصفراء .
اية حكايا سيقصونها لاطفالهم عند النوم !! لقد ماتت الاميرة ذات الظفائر الشقراء والعيون بلون البنفسج البري وعاد الجني الى قمقمه المسحور .
على الجانب الاخر لم يلحظ حركة واضحة ولكنه استمر يسمع بوضوح رشقات لا تنقطع من الرشاشات ، كانت قريبة بحيث لم تعد تصله صوتا واحدا ، كانت مختلفة الصدى ، وفي الازقة الضيقة الخالية أصبح الصدى موحشا ، الابواب مغلقة ولا يوجد ما يشير الى اية مظاهر تدل على ان أحدا من سكان البيوت مازال في الداخل، شعر بشيء من الخوف فأرتجف... أنه يواجه قدرا مجهولا فهو الوحيد هنا الذي قد يطاله رصاص الفريقين !!

بدت قبة ضريح مسلم بن عقيل تحت شمس يوم صحو من ايام آذار أقل توهجا ترين عليها وحشة غريبة .
أصبح أكثر قربا من الشارع العام الذي يربط الكوفة بالنجف وأصبح صوت زخات الرصاص أكثر حدة وصوت أزيز قذائف المدفعية أبحّا له لها ث شرس .
كان المدافعون عن المدينة يتمترسون على جوانب الأزقة المطلة على الشارع العام ، توقفت دبابة بعد إصابتها بقذيفة آر بي جي ...قفز بضعة جنود ... سقط بعضهم واحتمى الاخرون بجسم الدبابة المتوقفة .
استدار حول مرقد مسلم بن عقيل ، كانت الجهة المواجهة للشارع العام من القبة قد دمرتها قذيفة مدفع فاحدثت فيها فجوة كبيرة ... على امتداد الشارع كانت الجثث مبعثرة في كل مكان تنبئ بحدوث معارك شرسة ... سمع أصوات رشاشات قريبة وصراخا مؤلما من بعض المصا بين ... توقف يدرس الموقف ليقرر هل يستمر في التقدم أم يعود ... شاهد بضع دبابات تتقدم وهي تطلق نيران رشاشاتها الثقيلة بكل الاتجاهات ... أصبح القتال أكثر شرا سة وعنفا فانسحبت الدبابات .. سدت الطريق دبابة اعطبها مقاتل كان يعتمر كوفية بيضاء تغطي وجهه ، ثم انسحب الى داخل الزقاق .. التفت ا لدبابات مهشمة أبواب عدد من المحال التجارية ثم انعطفت على الرصيف فسحقت عشرات الجثث المبعثرة ... كانوا جنودا ومقاتلين ... كان المنظر بالغ البشاعة .. احس بمعدته تتقلص وبرغبة مجنونة بأن يتقيئ .. بدأ المقا تلون يظهرون بحذر على منعطفات الازقة ..
كبّر أحدهم فتبعته مئات الاصوات ... سمع صوت وقع حوافر حصان يمشي خببا ... كانت عربة نقل مفتوحة الجوانب يقودها فتى في الخامسة عشر ... كان يضرب الحصان برفق بعصا على جانبيه ليحثه على الاسراع ... على العربة تكدست مجموعة من الجثث البشرية ... كانت ملامحها مغطاة بالدم ... بعضها قد تدلت أيديها فهي تسح على ا لشارع الاسفلتي .. مسح الصبي أنفه بكم دشداشته السوداء وألقى نظرة على حمولته ثم تابع حث الحصان على المسير .......
أية مفارقة..... الصبي اللامبالي بالموت والعمل الذي يمكن أن يكون مؤجلا!
عاد الى الجسر .. هدأت حدة القتال فقد تراجعوا الى الحدود الغربية للمدينة، وتسمع الان أصوات قذائف الدبابات على نحو متقطع كما خفت رشقات الرشاشات ... عادت طائرات الهليكوبتر تتصيد المقاتلين، وعبرت السماء التي بدت ذات لون رمادي فاتح ، طائرات الحلفاء .
على الحشائش في الجهة الجنوبية لمصنع الاسمنت كان أبو زينب جالسا القرفصاء يتلمس بقايا دفء في شمس ما بعد الظهيرة التي ارتفعت كقرص معدني كامل الاستدارة ولكن لا يوحي باية انطباعات ... كان الاحساس في الداخل ، كل يفتش في أعماقه ، لم يكن للعالم الخارجي ذاك السحر الذي يوحي به التأمل ،
على مقربة كان ثلاثة شبان ، أحدهم كان يبكي بصمت ... يضع في حجره رشاشته ، وكان الثاني يتطلع الى الكوفة بأحباط وحسرة ، يتكئ على الرشاش وهو ممددعلى الحشيش الاخضر الذي لازال نديا ، أما الثالث فقد كان يجاذب ابي زينب الحديث .
ـ حسنا نحن نخسر ... هذا مؤكد ، ولكنا لن نستسلم ... المشكلة هي كيف سنوفر السلاح ... الذخيرة نفدت من معظم المقاتلين ... لقد فعلنا ما نستطيع
ـ ألا تصلكم امدادات
ـ نعم ولكنها شحيحة ولاتكفي ... نحن نحارب حكومة كانت قبل أيام ترعب العالم !! التناقض الذي لاافهمه هو موقف الحلفاء ... بالامس كان بوش يدعو الى اسقاطهم واليوم يتواطأ معهم !! نحن نشعر بأنا قد خدعنا ... طائرات الحلفاء تتفرج ... كيف يمكن أن نثق بهم !!
المشكلة أني لا استطيع العودة للجامعة اذا ما نجوت ... هل تعتقد أنه من السهل أن أستمع للمحاضرات وأستوعب ؟ ... دروس التشريح ستصيبني بالدوار ... سأرى فيها صور القتال والدم الذي تفجر كنافورات صغيرة من أجساد المجاهدين !!
ـ هل انت في كلية الطب ؟
ـ نعم في الصف الرابع .
ـ كيف التحقت بالحركة المسلحة ؟
ـ ولماذا لا تسميها ثورة ؟ ! ... فشلنا .. نعم ولكنها ثورة ... أعدم أخي في العام الماضي ... دهمنا رجالهم في ليلة غاب عنها القمر ... اعلمونا أنه مات ... هكذا بكل بساطة ، والأكثر مرارة أنهم أمرونا ألا نبكيه أن نغلق الباب ولا نتحدث مع أحد بشأنه ... اذلال مقصود لانهم يعرفون موقفنا من الميت !! ... أن تنزف بصمت وأن يقتل القهر مشاعرك شيئ اكثر بشاعة من الموت ...بمن تعتقد أني سألتحق ؟...ولكن الان وبعد كل هذا واذا ما كتب لي أن أعيش ماذا سيتبقى ؟ الذكريات ... نعم ..ولكن الحلم سيموت !!
تذكر ناديه ... بابا كان جيلكم أفضل من جيلنا ... لا اأ عني من حيث قدراته أو ابداعاته .. اعني الظروف المتاحة له .. كان بإمكانكم أن تعلنوا آرائكم ... تتظاهرون من أجل مطلب أو موقف سياسي ... كان لديكم فسحة تتنفسون فيها .. إن جيلنا هو جيل القرود الثلاثة ... ليس أمامنا أن نتكلم وليس أمامنا أن نرفض ... لم نخرج في مظاهرة إلا لنصفق أو لنرقص ولو كان الطبّا ل جيدا لهان الامر بعض الشيء ... ولكن يا عزيزتي ... الى أين سيفضي بك هذا ... لقد قادت الوجودية أستاذتك الى الحزب الشيوعي فألى اين ستقودك ؟ ... ألا تعتقدين أن الوجودية أصبحت موضة قديمة ... والطريق لم تعد سالكة كما في السابق !!... لقد ماتت دي بوفوار.... ولم تنجب الوجودية بعد (ساغان )عبقرية صغيرة... فهل تعتقدين أنك المرشحة ؟
قال شاب يتوجه بالحديث الى أ بي زينب ـ ما يؤلم أننا لانعرف ماذا سنفعل !!... أين نتوجه ... ماهي الخطوة التالية ؟
صمت وهو يتطلع الى طائرات الحلفاء تتقاطع في الجو باستعراض بهلواني فيما راحت الهيلوكوبترات تطلق صواريخها على المدينة ... قال( ميجر) وهو يتقدم لزعامة حزب المحافظين ...
" الشعب العراقي صعب " ... حسنا لابد من إدخاله دورة تأديبية ... أنت يا ناديه وأنت أيها الشاب مطلوب منكما أن تنهيا الدورة ... تذكرا درجة العبور المطلوبة ! بعدها هناك حديث آخر .
ـ هل سنعود ؟
ـ نعم .
ـ ولكن ماهي خططك ؟
سأعود الى بغداد وارجو أن أجد سيارة في الشامية .
ـ هناك باص يذهب الى الديوانية وقد يسعفك الحظ فتجد سيارة تذهب الى بغداد ... الحركة بطيئة جدا ولكنها لم تنقطع .
في الطريق أخرج خالد من محفظته مئتي دينار .
ـ أخ أبو زينب .. لقد تعبت معي كثيرا ، تركت عملك وعائلتك وغامرت بالمجيئ معي الى الكوفة وأكرمتني الى أبعد الحدود في بيتك ... أرجو أن يوفقك الله ويبارك لك في أولادك , كما أرجو أن تقبل مني هذا المبلغ، لايمكن أن يكون تعويضا عما فعلته ،ا عتبره هدية للاولاد .
ـ ماهذا؟ !!
قالها بحدة وقطب وجهه متضايقا
ـ العياذ بالله ... ياأخي اذا أخذت منك مالا فلن أكون أكثر من سائق بالاجرة لن أكون صاحب واجب تجاه ضيف , احتفظ بنقودك وادعو الله أن يزيح هذه الغمة وأن نلتقي بظروف أفضل ... من يعرف فقد أزور بغداد !!
انزوى في الباص الصاعد الى الديوانية ... كان الركاب بضع نسوة وعدد من الاطفال الذين علمهم الخوف أن يصمتوا ،جمع الأجرة صبي دون أن يتكلم مع أحد وسلمها للسائق الذي لم يدقق في المبلغ ... حين بدأ الباص بالتحرك كبرت النسوة بصوت واحد " الله أكبر .. اللهم صلي على محمد وآل بيت محمد " تطلع الاطفال من النوا فذ الزجاجيه كأنهم يودعون الشامية ولاحظ أن أحدا منهم لم يبتسم، الايام تمر وهو أسير فكرة واحدة هي كل حياته الان ،أن يجد عائلته ... أن يضع وجه فاتن بين كفيه ويحدق في عينيها ... يتطلع الى غابات النخيل في جيكور كما كان يفعل مساء كل خميس في البصرة ... يرقب شط العرب يسير الهوينى متثاقلا الى البحر ... أن يشاكس ناديه وهو يستمع الى شروحاتها عن حركة التاريخ الاجتماعي والجدل عند هيغل وأثر الوجودية في الفكر الماركسي في فرنسا ... أن يجلس مع أحمد يستمع اليه وهو يتحدث عن احلامه وطموحاته ... يود أن يحضنهم جميعا ... أن يشعر أنهم قربه وأن يسمع أصواتهم وأن يصغي للخلافات الدائمة بين احمد وناديه ... أن يرى فاتن تعد خلطة السمك المشوي ... كانت تذكرهم في كل مرة أن هذه بنت البصرة ... الطريقة التي تجعل السمكة مستودعا للفلفل ...
ماذا سيفعل من دونهم ... إ ن مجرد التفكير بهذا يرعبه .. لابد أن يراهم أن يعودوا للبيت ... لم يعرف حياة أخرى غير حياتهم ... كانت هي الهدف الذي يسعى له ومن أجله .. كان يجد السعادة في تحقيق طموحاتهم .... يا الهي لماذا استكانوا لإغراء السفر الى النجف !! .
توقف الباص عند مدخل الديوانية ، صعد شاب يحمل بندقية ويضع على محزمه صفين من الذخيرة وتتدلى على جنبيه ثلاث قنابل يدوية .
ـ السلام عليكم ... أرجو من الجميع إبراز هوياتهم
دقق الهويات وشمل الركاب بنظرة هادئة ونزل وهو يتمنى للجميع ليلة سعيدة .


الفصل الخامس

أ لشمس ماتزال تشرق زاهية، والعصافير تتقافز على سعف النخيل والفرات يجري حرونا ... انه الربيع ، الذي يبدأ في العراق حييا متألقاً ثم يتخابث فيدفع موجات المطر تعكر على الناس رغبة الاستمتاع بالمشي على الطرقات الزراعية ، ويعابث النهر الذي لا يستطيع أن يحمي نفسه فيندفع كمن يهرب من المواجهة حاملا اثقال المطر ... تطل الحياة مدهوشة كترانيم طفل يتطلع الى قوس قزح ، ولكن حيث يتناسل الخراب تنطفئ عينا الطفل وتتحول الترنيمة الى صراخ مفجع ، انه طفل اليوم مفقوء العينين،لايجد الحليب في صدر أمه التي يتشبث بها، يفاجئ بالرعب الذي يجوس خلال البيوت فتأخذه نوبة عويل مجنونة.
على جدران البيوت في الشامية كانت شعارات سياسية ، يوحي خطها البدائي بالتفرد الذي يأ خذها من الالف الى الياء ....كانت بعيدة عن الشجاعة والبسالة التي في عيون المقاتلين الذين شاهدهم ... كانت تلهث ورائهم محاولة اعطائهم صيغة ما .... سمع صهيل الخيل في هذه السهول وهي تندفع وعليها أجدادهم المتلهفون لمواجهة الانكليز في ثورة العشرين ، سمع شاعرهم يتهدد " الطوب أحسن لو مكواري " لم تك لهم شرفات تغطيهم ولهذا تشردوا في براري العراق ، فهل نصلي منذ الان للحظات الإنكسار القادمة فوق صهوات الرياح تحرسها طائرات الحلفاء الشامتة ، أي قدر هذا الذي يعيد تفجر العواطف المكبوتة بذات سياقات المأساة ؟؟
ـ أبو احمد ... أرجو ان تعذرني لما سأقوله ،البنزين لدي غير كاف ولا يوجد من يبيعه الا شخص واحد يستغل الموقف , دائما هناك المستفيدون !!
تنهد متاسفا ثم تابع ـ اقترح أن نحاول مع قيادة الثوار في حسينية الشامية و أفضل أن تحاول أنت ذلك مع " السيد " ، اسمه عبد الحافظ ، بأن يزودنا ببضعة لترات من محطة بنزين الشامية التي يسيطرون عليها .
دخلا السوق المزدحم ... الشامية تستضيف أكثر من عشرة آلاف مهاجر وفي مثل هذه الساعة ، الكل في السوق اما ليشتري أو ليقضي الوقت ... المقاهي مزدحمة وعلى الارصفة وقفت النسوة يثرثرن متحدثات عن كل شيئ وبصوت مرتفع ... لاشيئ يمكن أن يكون سرا هنا
الحسينية بناء رحب يقع في وسط السوق يتميز جدارها الخارجي بطراز بنائه وبنوع الطابوق الاصفر الفاقع وبالباب الخشبي المشغول بالآيات القرآنية .. على الباب كانت بقع من الحناء الطرية ... عند الباب مجموعة من المسلحين ، بعضهم يجلس على الرصيف يتشاغل بتدخين لفافات من السكائر وآخرون يسدون المدخل للحراسة ... كانوا في معظمهم شبابا يرتدون ملابس متنوعة ولكنهم جميعا يضعون حول رؤوسهم أشرطة خضراء كتب عليها " الله اكبر " .
ـ الى أين ؟ قال أحد الحراس
ـ أود مقابلة السيد عبد الحافظ ، أنا غريب ... من بغداد
ـ لحظة رجاء . قال مقاتل آخر وتقدم نحو خالد ليفتشه ولكنه لم يسأله لماذا.
ـ تفضل
كان مدخل الحسينية يفضي الى قاعة كبيرة ... ساحة مبلطة " بالموزائيك " الملون ثم اعمدة من الاسمنت ترتكز عليها القبة المشغولة بالفسيفساء ...خلفها كان رواقا دائريا مفروشا بالسجاد ، على الجانب الايسر مجموعة من المقاتلين يجلسون على الارض محيطون بشاب في الثلاثينيات يضع على رأسه عمامة سوداء ويرتدي قفطانا فوقه عباءة من الصوف حمراء مطرزة حوافها بالابريسم الاسود.... كان الشاب يعطي تعليماته الى المقاتلين بصوت هادئ واضح النبرات وهم مصغون باهتمام.
ـ السلام عليكم
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . رد الجميع وتطلعوا نحوه
ـ السيد عبد الحافظ ؟
ـ نعم ...
رفع وجهه نحو خالد ... لحيته السوداء المشذبة يعلوها وجه يميل الى السمرة ، وعينان ودودتان عميقتان تحملان هما يحاول أن يداريه .
ـ سيد عبد الحافظ ... أنا من بغداد وقد تقطعت بي السبل ونفد البنزين من السيارة ولا يوجد مصدريمكن الشراء منه في الشامية ... أكون ممتنا لو ساعدتموني ببضعة لترات من محطة التعبئة .
ـ أهلا وسهلا بك ... أقدر حاجتك تماما ولكن يؤسفني أن اقول أن هذا مستحيل ففي المحطة كمية محدودة من البنزين ونستخدمه لسيارات المقاتلين ولا توجد اية امكانية لتعويضنا من مصادر اخرى ... انت ترى انه بحكم الضرورة يتعذر علينا التفريط بلتر واحد ، ثانية أكرر اسفي .
لم يناقشه أو يعيد الطلب فقد كان الرجل واضحا وقاطعا في ايضاحه ... شكره وخرج .
في الطريق أخذ أبو زينب يسأل من يعرفهم عن عبد الحسين درنفيس, ضحك خالد ... قال أبو زينب
ـ يسمونه درنفيس لآنه لايتردد عن القيام بأي عمل من أجل النقود كما أنه يتمتع بالقدرة على ايجاد الحل لاية مشكلة ، اذا فقدت سلعة من السوق فانه يكون الوحيد القادر على توفيرها ...لا احد يعرف كيف .
قال رجل ـ نعم كان هنا وذهب الى كراج حجي محمد
في الكراج كان عبد الحسين يتهامس مع شخص آخر وحينما رآهما متوجهين نحوه صمت بتواطئ واضح مع الشخص الاخر ،
ـ السلام عليكم
ـ وعليكم
ـ عبد الحسين.... لدي كلمة معك بعد أن تنتهي مع الاخ
ـ لقد انتهيت .... في خدمتك
انتحيا جانبا ... تهامسا والقى عبد الحسين نظرة عجلى نحو خالد ، عادا اليه
ـ حسنا لقد تم تدبير خمسة عشر لترا و أعتقد أنها كافية
في شارع ترابي جانبي وقفا بأنتظار عبد الحسين الذي سرعان ما عاد بصفيحة ،
ـ خمسة عشر لترا
أفرغ البنزين في خزان السياره وقال ـ خمسة وسبعون دينارا
ـ ولكن هل هي فعلا خمسة عشر لترا !!
أقسم بالله وبالرسول وبالامام انها كذلك ...
ـ خمسة عشر لترا ... لماذا لم تتأكد قبل افراغها ؟.. على اية حال يمكنك اعادتها ... غيرك العشرات يبحثون عن لتر واحد و لانك ابن مدينتي اسرعت بتلبية احتياجك !!
اخرج ابو زينب حافظة نقوده ولكن خالد بادر بالدفع .
استقلا السيارة وعبرا جسر الشامية ،على امتداد الطريق الزراعي كانت سيارات مختلفة تسرع نحو الكوفة محملة بالمقاتلين .... كانوا من فلاحي المنطقة ، بعضهم يهزج أو يرتجز لبث الحماس وبعضهم كان جاد الملامح قاسي النظرات ، يعرفون جيدا انهم قد لايعودون ولكنهم مصممون على المواجهة ... على جانبي الطريق كان مئات الاشخاص .... عوائل كاملة يفترشون الارض... النساء تعد الطعام والاطفال لاهون باللعب والمشاجرة أو منطلقين يجرون بكل اتجاه فوق العشب الندي أما الرجال فقد كانوا يتطلعون الى الطريق بلا مبالاة.
كانت الساعة الواحدة حينما انعطفا يمينا ... على اليسار كان مصنع الاسمنت المتوقف عن العمل , أمامهم كان جسر الكوفة المفضي الى مرقد مسلم بن عقيل ... بمحاذاة شاطئ الفرات طريق اسفلتي وعلى الجانب الاخر بساتين تفوح منها روائح عبقة ، أمامهم على الجسر ما زالت جموع غفيرة تزحف باتجاه طريق الشامية، فوق سماء الكوفة والنجف كانت اربع طائرات هيليكوبتر تتبادل المراكزو تراقب الارض بدقة وتصوب صواريخها نحو مصادر نيران المقاتلين أو تجمعاتهم .
كانت الصواريخ تصدر اصواتا صاخبة حادة يحدث ارتطامها بالارض دويا هائلا يعقبه ارتفاع سحابة من الدخان والاتربة ... المعركة تبدو من بعيد أشبه بلوحة بانواراما صاخبة فيما راحت رشاشات المقاتلين تئز على نحو متصل متحدية ، ثابتة لا تترك مجالا للشك انهم ما يزالون هناك وانه ماازال الوقت مبكرا لان يرتاح " الاخرون ".
توقف أبو زينب عند مدخل تقاطع الطريق القادم من الشامية مع الشارع النازل من جسر الكوفة ،
ـ يمكن أن أنتظرك هنا حتى الخامسة فاذا لم تعد ساغادر الى البيت لانه من غير المستحسن استعمال الاضاءه ، السيارة في الظلام موضع شبهة ولهذا تستهدفها الطائرات.
تطلع الى الجهة الثانية من النهر وقا ل
ـ أفضل أن تنتظر قليلا حتى تخف حدة القتال
سمعا دويا هائلا اعقبه بعد ثوان دوي آخر وشعر بان الارض تتحرك تحت قدميه ،شاهد مياه النهر تضرب الشاطئ بغيظ فيندفع رذاذ بارد الى الشارع
قال ابو زينب ـ يبدو انهم مصممون على تدميرالمدينة ... هذه اصوات صواريخ سكود .
عبرت فوقهم وعلى ارتفاع منخفض طائرات التحا لف ، كان من الواضح انها لم تكن على عجلة من أمرها فقد دارت مرتين فوق المدينة وكأنها تستغرب استمرار المقاتلين واصرارهم على البقاء ثم اختفت !!
على ا لحشائش كان بعض النازحين يأخذون شيئا من الراحة ليعاودوا المسير ... ينظرون الى مدينتهم تدمر ... وجوههم تنطق برعب قاتل ، توالت الانفجارات في مناطق مختلفة .
قال ابو زينب ـ هذه قذائف ا لدبابات وا لهاونات.
على الجسر ازدادت كثافة الازدحام وبدا الناس بالركض باتجاه البساتين، قال رجل يمسك بطفلة مرعوبةحافية تجمدت الدموع في عينيها ، ا نهم يقتحمون المدينة بالدبابات .
ودّع أبي زينب واخترق الجموع ،على جسر الكوفة كان وحيدا يواجه مئات القادمين ، اللذين ينظرون اليه باستغراب ولكن أحدا لم يعلق بشيء سلب الخوف من عيونهم الاحساس بالاخرين، يجرون كعوالم متباعدة يمسك احدهم يد ابنه بآلية ويركض لايرى غير الجسر الذي يفصله عن عالم آخر لم تصله الدبابات ولا الجنود ذوي الضفائر الطويلة والعيون الصفراء .
اية حكايا سيقصونها لاطفالهم عند النوم !! لقد ماتت الاميرة ذات الظفائر الشقراء والعيون بلون البنفسج البري وعاد الجني الى قمقمه المسحور .
على الجانب الاخر لم يلحظ حركة واضحة ولكنه استمر يسمع بوضوح رشقات لا تنقطع من الرشاشات ، كانت قريبة بحيث لم تعد تصله صوتا واحدا ، كانت مختلفة الصدى ، وفي الازقة الضيقة الخالية أصبح الصدى موحشا ، الابواب مغلقة ولا يوجد ما يشير الى اية مظاهر تدل على ان أحدا من سكان البيوت مازال في الداخل، شعر بشيء من الخوف فأرتجف... أنه يواجه قدرا مجهولا فهو الوحيد هنا الذي قد يطاله رصاص الفريقين !!

بدت قبة ضريح مسلم بن عقيل تحت شمس يوم صحو من ايام آذار أقل توهجا ترين عليها وحشة غريبة .
أصبح أكثر قربا من الشارع العام الذي يربط الكوفة بالنجف وأصبح صوت زخات الرصاص أكثر حدة وصوت أزيز قذائف المدفعية أبحّا له لها ث شرس .
كان المدافعون عن المدينة يتمترسون على جوانب الأزقة المطلة على الشارع العام ، توقفت دبابة بعد إصابتها بقذيفة آر بي جي ...قفز بضعة جنود ... سقط بعضهم واحتمى الاخرون بجسم الدبابة المتوقفة .
استدار حول مرقد مسلم بن عقيل ، كانت الجهة المواجهة للشارع العام من القبة قد دمرتها قذيفة مدفع فاحدثت فيها فجوة كبيرة ... على امتداد الشارع كانت الجثث مبعثرة في كل مكان تنبئ بحدوث معارك شرسة ... سمع أصوات رشاشات قريبة وصراخا مؤلما من بعض المصا بين ... توقف يدرس الموقف ليقرر هل يستمر في التقدم أم يعود ... شاهد بضع دبابات تتقدم وهي تطلق نيران رشاشاتها الثقيلة بكل الاتجاهات ... أصبح القتال أكثر شرا سة وعنفا فانسحبت الدبابات .. سدت الطريق دبابة اعطبها مقاتل كان يعتمر كوفية بيضاء تغطي وجهه ، ثم انسحب الى داخل الزقاق .. التفت ا لدبابات مهشمة أبواب عدد من المحال التجارية ثم انعطفت على الرصيف فسحقت عشرات الجثث المبعثرة ... كانوا جنودا ومقاتلين ... كان المنظر بالغ البشاعة .. احس بمعدته تتقلص وبرغبة مجنونة بأن يتقيئ .. بدأ المقا تلون يظهرون بحذر على منعطفات الازقة ..
كبّر أحدهم فتبعته مئات الاصوات ... سمع صوت وقع حوافر حصان يمشي خببا ... كانت عربة نقل مفتوحة الجوانب يقودها فتى في الخامسة عشر ... كان يضرب الحصان برفق بعصا على جانبيه ليحثه على الاسراع ... على العربة تكدست مجموعة من الجثث البشرية ... كانت ملامحها مغطاة بالدم ... بعضها قد تدلت أيديها فهي تسح على ا لشارع الاسفلتي .. مسح الصبي أنفه بكم دشداشته السوداء وألقى نظرة على حمولته ثم تابع حث الحصان على المسير .......
أية مفارقة..... الصبي اللامبالي بالموت والعمل الذي يمكن أن يكون مؤجلا!
عاد الى الجسر .. هدأت حدة القتال فقد تراجعوا الى الحدود الغربية للمدينة، وتسمع الان أصوات قذائف الدبابات على نحو متقطع كما خفت رشقات الرشاشات ... عادت طائرات الهليكوبتر تتصيد المقاتلين، وعبرت السماء التي بدت ذات لون رمادي فاتح ، طائرات الحلفاء .
على الحشائش في الجهة الجنوبية لمصنع الاسمنت كان أبو زينب جالسا القرفصاء يتلمس بقايا دفء في شمس ما بعد الظهيرة التي ارتفعت كقرص معدني كامل الاستدارة ولكن لا يوحي باية انطباعات ... كان الاحساس في الداخل ، كل يفتش في أعماقه ، لم يكن للعالم الخارجي ذاك السحر الذي يوحي به التأمل ،
على مقربة كان ثلاثة شبان ، أحدهم كان يبكي بصمت ... يضع في حجره رشاشته ، وكان الثاني يتطلع الى الكوفة بأحباط وحسرة ، يتكئ على الرشاش وهو ممددعلى الحشيش الاخضر الذي لازال نديا ، أما الثالث فقد كان يجاذب ابي زينب الحديث .
ـ حسنا نحن نخسر ... هذا مؤكد ، ولكنا لن نستسلم ... المشكلة هي كيف سنوفر السلاح ... الذخيرة نفدت من معظم المقاتلين ... لقد فعلنا ما نستطيع
ـ ألا تصلكم امدادات
ـ نعم ولكنها شحيحة ولاتكفي ... نحن نحارب حكومة كانت قبل أيام ترعب العالم !! التناقض الذي لاافهمه هو موقف الحلفاء ... بالامس كان بوش يدعو الى اسقاطهم واليوم يتواطأ معهم !! نحن نشعر بأنا قد خدعنا ... طائرات الحلفاء تتفرج ... كيف يمكن أن نثق بهم !!
المشكلة أني لا استطيع العودة للجامعة اذا ما نجوت ... هل تعتقد أنه من السهل أن أستمع للمحاضرات وأستوعب ؟ ... دروس التشريح ستصيبني بالدوار ... سأرى فيها صور القتال والدم الذي تفجر كنافورات صغيرة من أجساد المجاهدين !!
ـ هل انت في كلية الطب ؟
ـ نعم في الصف الرابع .
ـ كيف التحقت بالحركة المسلحة ؟
ـ ولماذا لاتسميها ثورة ؟ ! ... فشلنا .. نعم ولكنها ثورة ... أعدم أخي في العام الماضي ... دهمنا رجالهم في ليلة غاب عنها القمر ... اعلمونا أنه مات ... هكذا بكل بساطة ، والاكثر مرارة أنهم أمرونا ألا نبكيه أن نغلق الباب ولا نتحدث مع أحد بشأنه ... اذلال مقصود لانهم يعرفون موقفنا من الميت !! ... أن تنزف بصمت وأن يقتل القهر مشاعرك شيئ اكثر بشاعة من الموت ...بمن تعتقد أني سألتحق ؟...ولكن الان وبعد كل هذا واذا ما كتب لي أن أعيش ماذا سيتبقى ؟ الذكريات ... نعم ..ولكن الحلم سيموت !!
تذكر ناديه ... بابا كان جيلكم أفضل من جيلنا ... لااعني من حيث قدراته أو ابداعاته .. اعني الظروف المتاحة له .. كان بإمكانكم أن تعلنوا آرائكم ... تتظاهرون من أجل مطلب أو موقف سياسي ... كان لديكم فسحة تتنفسون فيها .. إن جيلنا هو جيل القرود الثلاثة ... ليس أمامنا أن نتكلم وليس أمامنا أن نرفض ... لم نخرج في مظاهرة إلا لنصفق أو لنرقص ولو كان الطبا ل جيدا لهان الامر بعض الشيئ ... ولكن ياعزيزتي ... الى أين سيفضي بك هذا ... لقد قادت الوجودية أستاذتك الى الحزب الشيوعي فألى اين ستقودك ؟ ... ألا تعتقدين أن الوجوديه أصبحت موضة قديمة ... والطريق لم تعد سالكة كما في السابق !!... لقد ماتت دي بوفوار.... ولم تنجب الوجودية بعد ساغان عبقرية صغيرة... فهل تعتقدين أنك المرشحة ؟
قال شاب يتوجه بالحديث الى أ بي زينب ـ ما يؤلم أننا لانعرف ماذا سنفعل !!... أين نتوجه ... ماهي الخطوة التالية ؟
صمت وهو يتطلع الى طائرات الحلفاء تتقاطع في الجو بأستعراض بهلواني فيما راحت الهيلوكبترات تطلق صواريخها على المدينة ... قال( ميجر) وهو يتقدم لزعامة حزب المحافظين ...
" الشعب العراقي صعب " ... حسنا لابد من إدخاله دورة تأديبية ... أنت ياناديه وأنت أيها الشاب مطلوب منكما أن تنهيا الدورة ... تذكرا درجة العبور المطلوبة ! بعدها هناك حديث آخر .
ـ هل سنعود ؟
ـ نعم .
ـ ولكن ماهي خططك ؟
سأعود الى بغداد وارجو أن أجد سيارة في الشامية .
ـ هناك باص يذهب الى الديوانية وقد يسعفك الحظ فتجد سيارة تذهب الى بغداد ... الحركة بطيئة جدا ولكنها لم تنقطع .
في الطريق أخرج خالد من محفظته مئتي دينار .
ـ أخ أبو زينب .. لقد تعبت معي كثيرا ، تركت عملك وعائلتك وغامرت بالمجيئ معي الى الكوفة وأكرمتني الى أبعد الحدود في بيتك ... أرجو أن يوفقك الله ويبارك لك في أولادك , كما أرجو أن تقبل مني هذا المبلغ، لايمكن أن يكون تعويضا عما فعلته ،ا عتبره هدية للاولاد .
ـ ماهذا؟ !!
قالها بحدة وقطب وجهه متضايقا
ـ العياذ بالله ... ياأخي اذا أخذت منك مالا فلن أكون أكثر من سائق بالاجرة لن أكون صاحب واجب تجاه ضيف , احتفظ بنقودك وادعو الله أن يزيح هذه الغمة وأن نلتقي بظروف أفضل ... من يعرف فقد أزور بغداد !!
انزوى في الباص الصاعد الى الديوانية ... كان الركاب بضع نسوة وعدد من الاطفال الذين علمهم الخوف أن يصمتوا ،جمع الأجرة صبي دون أن يتكلم مع أحد وسلمها للسائق الذي لم يدقق في المبلغ ... حين بدأ الباص بالتحرك كبرت النسوة بصوت واحد " الله أكبر .. اللهم صلي على محمد وآل بيت محمد " تطلع الاطفال من النوا فذ الزجاجيه كأنهم يودعون الشامية ولاحظ أن أحدا منهم لم يبتسم، الايام تمر وهو أسير فكرة واحدة هي كل حياته الان ،أن يجد عائلته ... أن يضع وجه فاتن بين كفيه ويحدق في عينيها ... يتطلع الى غابات النخيل في جيكور كما كان يفعل مساء كل خميس في البصرة ... يرقب شط العرب يسير الهوينى متثاقلا الى البحر ... أن يشاكس ناديه وهو يستمع الى شروحاتها عن حركة التاريخ الاجتماعي والجدل عند هيغل وأثر الوجودية في الفكر الماركسي في فرنسا ... أن يجلس مع أحمد يستمع اليه وهو يتحدث عن احلامه وطموحاته ... يود أن يحضنهم جميعا ... أن يشعر أنهم قربه وأن يسمع أصواتهم وأن يصغي للخلافات الدائمة بين احمد وناديه ... أن يرى فاتن تعد خلطة السمك المشوي ... كانت تذكرهم في كل مرة أن هذه بنت البصرة ... الطريقة التي تجعل السمكة مستودعا للفلفل ...
ماذا سيفعل من دونهم ... إ ن مجرد التفكير بهذا يرعبه .. لابد أن يراهم أن يعودوا للبيت ... لم يعرف حياة أخرى غير حياتهم ... كانت هي الهدف الذي يسعى له ومن أجله .. كان يجد السعادة في تحقيق طموحاتهم .... يا الهي لماذا استكانوا لإغراء السفر الى النجف !! .
توقف الباص عند مدخل الديوانية ، صعد شاب يحمل بندقية ويضع على محزمه صفين من الذخيرة وتتدلى على جنبيه ثلاث قنابل يدوية .
ـ السلام عليكم ... أرجو من الجميع إبراز هوياتهم
دقق الهويات وشمل الركاب بنظرة هادئة ونزل وهو يتمنى للجميع ليلة سعيدة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا