الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جماليات العمارة الإسلامية في العصر العباسي - المدرسة المستنصرية، نموذجا

تحسين الناشئ

2018 / 5 / 24
الادب والفن


خلال العصر العباسي الذي امتد على مدى خمسة قرون ونيف، ترسخت دعائم الفن العربي الإسلامي بشكل واضح وكبير وتنوعت مجالاته وصوره وتمكن من بلوغ مراتب رفيعة بين فنون العالم التي كان لها صداها ومكانتها ابان تلك العصور. وقد بلغ فن العمارة تحديدا، في عهد العباسيين اوج نضجه وتطوره وازدهاره. فخلال تلك الفترة توسعت حركة البناء والعمران وتنامت عملية انشاء المدن وبناء القصور والمساجد والمدارس ودور العلم والجامعات في بغداد وفي مدن مهمة اخرى من المدن التابعة لأمبراطورية العباسيين الواسعة، وقد تميز اغلب تلك المباني بطابعه المعماري الملفت رفيع المستوى سواء من ناحية فخامة الأبنية وسعتها او جمالية طرزها او براعة تنفيذها، إضافة الى بروز الهوية الشرقية الإسلامية في جميع نواحيها، وقد حضيت المدارس ودور العلم على وجه الخصوص باهتمام ملحوظ على صعيد ترسيخ القيم المعمارية والجمالية من فخامة وسعة ورقي.
ابان عهد العباسيين الذي دام زهاء خمسة قرون ونيف من الزمن، كانت بغداد عاصمة العالم العربي والإسلامي قبلة الأدباء والشعراء والعلماء والفلاسفة، وكانت مركز اشعاع حضاري وفكري كبير على العالم كله، ولم يأت كل ذلك من فراغ فقد استقطبت بغداد لوحدها اهم واكبر واقدم المدارس ودور العلم والجامعات منذ ذلك الزمن، والتي بلغ عددها اكثر من ثلاثين مدرسة في بغداد وحدها وست مدارس في نينوى، ولقد تمسكت تلك المدارس بالهوية العربية الإسلامية بوضوح حالها حال المباني الأخرى. ولعل ابرز تلك المدارس وأكثرها أهمية هي، المدرسة النظامية وبيت الحكمة والمدرسة المستنصرية وغيرها. الا ان دور العلم تلك لم تسلم من عوادي الزمن واحداثه المتواصلة حالها حال العديد من المباني الأثرية والشواهد العمرانية الرائعة التي كانت تطرز ارض الرافدين من شمالها الى جنوبها، فلم يبق شاخص من تلك المدارس اِلا القليل، ولحسن الحظ ان واحدة من اهم واشهر تلك المدارس بقيت ماثلة الى يومنا هذا، لتكون شاهدا على عصور الازدهار العمراني والعلمي والثقافي في بغداد، انها (المدرسة المستنصرية)، دار العلم العربية الأشهر خلال الفترة الأخيرة من حكم العباسيين وما تلاها. وهي اليوم شاهد مهم على نهضة فن العمارة خلال العصر العباسي تحديدا، وعلى تقدم ورقي الفن المعماري في بلاد الرافدين بشكل عام.
تقع المدرسة المستنصرية التي تعتبر احدى اقدم الجامعات في العالم العربي والاسلامي، على الجانب الشرقي من مدينة بغداد على ضفة نهر دجلة وتشغل مساحة تقدر بحوالي 4836 مترا مربعا، بنيت هذه المدرسة في عهد الخليفة العباسي المستنصر باللـه وسميت باسمه، امتدت فترة بنائها من عام 1227 حتى عام 1233، اما موقعها فتم اختياره بعناية ليكون مميزا غير بعيد عن قلب بغداد وعلى ضفاف نهر دجلة الخالد. وقد خُصصت هذه المدرسة (الجامعة) لتدريس علوم القرآن والفقه والحديث واللغة العربية والطب والصيدلة والرياضيات والفلسفة وغير ذلك من العلوم.
اما من الجانب الهندسي والإنشائي فقد اتصف النموذج المعماري للمدرسة بطبيعة الحال بالطابع العربي الإسلامي حيث ازدانت بالأقواس العربية الجميلة والواجهات العريضة الغائرة والأروقة والمداخل العالية، كذلك وجود المحاريب والنوافذ السقفية والنقوش التي تطرز جدران المبنى. واضافة الى العناصر الجمالية المعمارية تبرز عناصر الزخرفة الأسلامية من خلال النقوش والكتابات المحفورة، والملاحظ في تصميم هذه المدرسة استخدام الأقواس المدببة بشكل واسع، اذ تم التركيز على هذا النوع منها اضافة لوجود بعض الأقواس المنحنية. هذا بالنسبة للأقواس التي تعلو المداخل والبوابات والمحاريب مثلما هو الحال في جميع المباني الإسلامية. وقد تم بناء المدرسة بالآجر الرافديني الأصفر المعروف وزينت واجهتها واركانها وجدرانها الداخلية وافاريزها بنقوش اسلامية دقيقة تميز بها ذلك العصر فأضفت عليها هويتها العباسية بوضوح، وهي نقوش وزخارف آية في الدقة والجمال، تنوعت بين النقوش الهندسية والنباتية، تلك النقوش الرائعة تمتد بشكل واسع على سطوح الجدران في جميع اركان البناء داخليا وخارجيا وهي محفورة على قطع الآجر العراقي الصلب الذي يؤلف البناء.
واضافة للنقوش المنوعة، توجد مساحات كبيرة وافاريز طويلة من الكتابات العربية البارزة المحفورة بتناسق اخاذ وبالخط العربي الجميل. كذلك تطرز بوابتها الخارجية الكبيرة المصنوعة من الخشب والمؤلفة من جزئين، حلية بهية من النقوش الرائعة المنحوتة بدقة متناهية تعكس بشكل جلي براعة الفنانين المهرة الذين قاموا بتصميمها ونحتها. ويعلو هذه البوابة واجهة المدخل وهي واجهة كبيرة الأرتفاع واسعة العرض تغور الى الداخل بعمق ويزينها صفوف من الأفاريز ترتفع الى اعلى المدخل لتتخذ شكل قوس مدبب مثلما هو الحال في شكل الأقواس الأخرى التي تعلو البوابات والمداخل والمحاريب. وتزين اركان المدخل وواجهته مجموعة رائعة وكبيرة من النقوش الإسلامية المنفذة بمهارة منقطعة النظير، كما يطرز الواجهة والمبنى كله صفوف الحجر العراقي الأصفر الذي رٌص بتنسيق هندسي رائع.

يحتوي بناء المدرسة على ساحة مركزية مكشوفة يطلق عليها الباحة الوسطية او – صحن المدرسة – وهي مستطيلة الشكل، تبلغ ابعادها حوالي 62.40x 27.40 مترا، تحيط بهذا الصحن مجموعة كبيرة من الغرف والقاعات والأواوين والتي خصص كل منها لغرض معين، فالأواوين وعددها سبعة تقع في الجهة الجنوبية من المدرسة وخصصت للتدريس، اذ صممت تلك الأواوين بمساحات كبيرة وبارتفاع يبلغ عشرة امتار لكي تناسب الغرض الذي وظفت لأجله. اما الغرف وهي اصغر حجما من الأواوين فخصصت لسكن الطلاب، وبعضها استخدم كمخازن للكتب والأدوية ومؤونة المطابخ والعٌدد والأدوات وغير ذلك، كما يضم بناء المدرسة دارا للصلاة وحمامات عديدة. اما الطابق العلوي الذي يشغل مساحة كبيرة فيحتوي مجموعة اخرى من الغرف لسكن واستراحة ومنام الطلاب، تلك الغرف تكون مواجهة لفناء المدرسة الأمامي (الصحن) ويحيط بها رواق طويل يمتد على طول المساحة العرضية للغرف جميعا.

وقد تضمنت الباحة الوسطية (صحن المدرسة) بركة ماء - حوض كبير- مستطيل الشكل، كان يُزود بالماء بواسطة دولاب مركب تحت مسناة المدرسة يقوم برفع الماء الى البركة من نهر دجلة المحاذي للمدرسة، وقد اُلحق بالمدرسة المستنصرية فيما بعد دار للشفاء - مستشفى – خُصصت لمعالجة الطلبة والعاملين في المدرسة وغيرهم، وهي تقع في ايوان بني خصيصا مقابل المدرسة. كما ضمت المدرسة ايضا جناح خاص سمي دار الحديث. وفي شمال المدرسة بنيت (دار القرآن) التي تحولت الى تكية ثم الى مسجد جميل متناسق يسمى الان (جامع الآثفية) وهو يماثل اواوين المدرسة في ارتفاعه ومساحته ونقوشه. والملفت للنظر في تصميم هذا الصرح العلمي التأريخي هو الأهتمام الكبير بالنقوش المحفورة التي تزين الواجهات وسطوح المبنى ومداخل الأواوين والواجهة الأمامية، والتي يغلب عليها العناصر والأشكال الهندسية، مع الأخذ بالأعتبار خصائص ومزايا الزخرفة الإسلامية من ناحية التكرار والتناظر وعدم ترك فراغات بين الاشكال، الى غير ذلك.
ضمت المدرسة المستنصرية انذاك مكتبة كبيرة سميت (دار الكتب)، احتوت مجاميع كبيرة من الكتب والمخطوطات المهمة والمنوعة في مجالات الدين والأدب والعلوم والفلسفة، وكان يتولى ادارة هذه المكتبة ثلاثة مشرفين بسبب سعتها وكثرة اعداد الكتب التي تضمها، فقد قّدر عدد كتبها بحوالي 450 ألفا من المجلدات النفيسة والمخطوطات النادرة، وهو عدد يعتبر كبيرا جدا خلال تلك العصور خصوصا ان اغلبها كان يتم نسخه او خطه باليد.
زار المدرسة العديد من المعماريين والباحثين والمؤرخين وكتبوا عنها واشادوا بروعة بنائها وفخامتها ودورها في ترسيخ نواحي العلم والمعرفة انذاك. استمرت الدراسة في هذه الجامعة العريقة زهاء اربعة قرون من الزمن ثم توقفت نتيجة ظروف قاهرة مرت بها البلاد، لكن بناءها الجميل لازال قائما الى اليوم على ضفاف دجلة يؤمه الزوار والسائحين من كل بلاد العالم للاطلاع عليه ودراسة مزاياه الفنية المعمارية كأثر تأريخي عمراني علمي خالد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في