الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلِكْترا: الفصل السادس 1

دلور ميقري

2018 / 5 / 24
الادب والفن


مرة أخرى، رأت السيّدة السورية نفسها في فيللا الأسرة المُحسنة.
مكالمة الرسام الفرنسيّ العجوز، كانت قد بلبلت الخانم بسبب ما حفلت به من ملابسات غريبة. إذ حملق فيها، عبرَ السماعة، صوتٌ ضعيف يكتنفه الخَوَر واليأس: " أرغب برؤية ابنة الشريفة، وبأقرب وقت لو كان بإمكانك تدبّر الأمر. سأمضي في سفرة بعيدة، ولعلني لا أرجع قط إلى المغرب.. ". ثم واصل كلامه بنفسٍ ممتلئة غماً، مردداً اسمَ الطفلة كأنه يُطلق أنيناً: " خَجيْ، خجي..! إنني مقصّرٌ في حقها. والدتها كانت ربيبة لي. فإنني بمثابة جدّها، أليسَ كذلك؟ أنتَ تفهمين عليّ، يا سيّدتي! نعم، لقد قررتُ أن أترك لها شيئاً في وصيّتي، عسى أن تنتفع به عندما تكبر ". قبل أن يتسنى لها التعقيب على كلامه، كان الرجلُ يضع السماعة كما لو أنه أصيبَ بنوبة أو خرّ مغشياً عليه.
شعورُ الحَرَج، جعل " سوسن خانم " تقبل سلفاً دعوة العشاء، المقترحة من لدُن " سُميّة ". فإنها رأت أنه سيكون أقلّ وطأة إبلاغُ الأسرة بطلب المسيو الفرنسيّ، حينما تجتمع معهم في جوّ من البهجة. وإنها هيَ " سميّة "، من ردت على الهاتف، يوم أمس، حينَ اتصلت بها الخانم بغيَة إبلاغ الأسرة بأمر الزيارة. كانت سعيدة، نافدة الصبر، لما تهيأت لها هذه السانحة على حين فجأة: " نحن لا نحظى برؤيتك إلا نادراً، وا أسفاه! "، اختتمت قولها الابنةُ الكبرى للأسرة في غير قليل من التصنّع. يبدو أنها كانت تبحث عن فرصة مناسبة، للتقرب مجدداً من السيّدة السورية الغنية ـ كما يبحث كلبُ صيد عن طريدةٍ يُرضي بها صاحبه.
وصلت في الموعد المقرر، كعادتها. كانت الساعة تمام السابعة مساءً، لما اجتازت الفناء الضيّق للفيللا، الأشبه بالدهليز بانحصاره بين جدران المسكن الداخلية والخارجية. دخلت الصالة بهيئتها المبهرة، متبوعة بحاشيتها. على أثر نظرة خاطفة على الحضور، بدت الضيفةُ عالية المقام راضيةً مغتبطة. على أنّ هذا الشعور ما عتمَ أن خمدَ مع ابتسامتها، آنَ تكلمت " سميّة " عن قرب وصول ابنة الخالة مع رجلها العراقيّ: " تأخرا قليلاً، لأنهما بحَسَب ظنّي سيمران على أحد المحلات ". عندئذٍ، عضت الخانم على شفتها السفلى في حركة من تذكّر أمراً ملحّاً: " آه، ذهني المضطرب جعلني أسلوَ شراء حلوى لمناسبة العشاء "، خاطبت نفسها قبل أن تميل على مرافقتها لتهمس شيئاً في أذنها. هذه الأخيرة، ما لبثت أن مضت إلى خارج الفيللا بعدما تمتمت بضع كلمات عن نسيانها حاجةٍ ما. اتجهت إلى السيارة، المركونة أمام مدخل الفيللا، في ذات الوهلة الشاهدة على نهوض الخادمة كي تتبع " خدّوج " إلى الدور الثاني لإلقاء نظرة على الطفلة.
" أوه، الجميع هنا إذاً؟ يا لها من صحبة نادرة! "، هكذا هتفت ابنة الخالة حالما ولجت الصالة. لاحَ أنها كانت تتكلم مع " زين "، التي عادت أدراجها إلى الصالة وهي تداري ارتباكها. كانت بالكاد قد فتحت باب " الرانج روفر "، مهتديةً بضوء القمر الضئيل، حينَ هتفت لها امرأة العراقيّ من خلال نافذة سيارتهما. ويبدو أن هذه قد تكهنت بسبب خروج مرافقة الخانم؛ فما كان منها إلا أن أعادتها، ملوّحة بعلبة حملتها بيدها: " اشترينا ما يكفي من الحلوى.. ". ثم أضافت خالعةً صفة الازدراء على نبرتها: " سأكلم مخدومتك، فلا تخشيَنّ شيئاً من هذه الناحية! ". انصاعت المرافقة على مضض، وما لبثت أن تبعت الزوجين السعيدين، الذين سارا نحو باب الفيللا وقد وضعَ كلّ منهما يده في يد الآخر.
وهذا " رفيق "، يلقي بدَوره نظرة على السيّدة السورية فيها ما فيها من استهانة. دخل الصالة شامخَ الرأس بأنف الصقر، محوطاً ذاته كمألوف العادة بمظهر العظمة والتحفظ. ثم حضرَ الطبيب العجوز، " عبد المؤمن "، قبيل موعد تقديم العشاء، ليُشغل مَن يَدعوه تحبباً " مواطني المشرقيّ " عن ضغينته تجاه عدوّة أيام زمان. استهل العجوزُ الحديثَ، باعثاً شيئاً من الحيوية في جوّ الصالة الصامت. توجه نحوَ عميدة الأسرة، ليقول لها فجأةً وهوَ يرمش بعينيه الرخوتين كعينيّ الحردون: " رأيته أخيراً، ذلك الطيفَ المستوطن منزلكم زمناً. ألا إنه قد انتقل إلى مسكني، وربما لمجرد تغيير الجو! ". استولت الدهشة على ملامح المرأة المُسنّة، مشفوعة بتمتمة من شفتيها لتعويذة أو ما أشبه. في الأثناء، كانت ضحكة ضيفتها قد انطلقت بصورة لا إرادية. على أنّ الخانم استعادت مظهرها الجاد، الصارم. قدّرت ولا شك مشاعرَ أولئك الناس، المتطيرين من سيرة الأشباح والأطياف والجنّ وأضرابهم. خاطبته " سميّة " بلهجة مراعية، وكانما تهدهد طفلاً: " هوّن عليك، يا صديقي. طيفُ منزلنا، لم يعد له وجود حقاً. لعله أخفى نفسه بين حوائج شقيقي وزوجته، حينما انتقلا إلى منزلهما الجديد "
" كلا، لا يمكن هذا. أنا رأيته بعينيّ أكثر من مرة، أؤكد لك. بل إنه.. إنه جالسني مرةً على الأريكة، دونما أن ينطق بنأمة.. "
" ألا يمكن أن تكون رأيت شقيقك الراحل في الحلم، أثناء نومك على الأريكة؟ "
" لا، أبداً. هل أنا قاصرُ العقل كي لا أميّز بين صورة شقيقي البهية وصورة ذلك العجوز الشقيّ، الأشبه بالحلّوف؟! "، أجابها زاعقاً بصوت خنزيرٍ بين فكيّ فهدٍ مفترس. وإنما في هذه الأجواء، المفعمة بالمرح والجزَع في آنٍ واحد، استهلت الخانم في عرض طلب " مسيو جاك " بخصوص الطفلة.
كانت أكثر هدوءاً ودِعَة، لما عادت تلك الليلة ووجدت نفسها في صالة مقر إقامتها. راحت ترشفُ النبيذ الفرنسيّ الفاخر، بينما كانت تقلّب في رقة وكلف أوراق مخطوطة " مسيو غوستاف " وكأنما هيَ تتأمل صوَرَ شخصياتها: " أولئك الأصدقاء والمعارف، أغلبهم مات أو اختفى سواء أكان عزيزاً أو فاسداً. ربما ينضم الرسام العجوز إلى إحدى هاتين الفئتين، بعدما أضجرته حياة الوحدة والعزلة في الضاحية المنحوسة تلك. وتبقى المدينة الحمراء مثل مطحنة الجحيم، تسحق عظامَ عشاقها وأرواحهم بدون كلل أو رحمة ".

> مستهل الفصل السادس/ الجزء الثاني، من رواية " كعبةُ العَماء "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تسلم إيدك!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
أفنان القاسم ( 2018 / 5 / 24 - 14:39 )
معجمك الكلاسيكي الصارخ راح أو يكاد، يبقى بعضُهُ، هنا وهناك، غيرُ مستساغٍ في توظيفه، لكني واثق من أنامل الرسام أناملك...


2 - تسلم إيدك!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
أفنان القاسم ( 2018 / 5 / 24 - 14:39 )
معجمك الكلاسيكي الصارخ راح أو يكاد، يبقى بعضُهُ، هنا وهناك، غيرُ مستساغٍ في توظيفه، لكني واثق من أنامل الرسام أناملك...


3 - الصديق أفنان القاسم
دلور ميقري ( 2018 / 5 / 25 - 23:08 )
أغلب الروائيين العرب، معجمهم لا يزيد عن 200 ـ 400 كلمة، يجترونها ويعلكونها
والمصيبة، أنها نفس الكلمات، التي سبق واجترها من قبلهم
أنا هذا أسلوبي، ومعجمي لا يمكن ان ينضب طالما أنني أغرف من بئر بلا قرار ( اللغة العربية ) ولا أجتر معاجم غيري الهزيلة

اخر الافلام

.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي


.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و




.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من


.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا




.. كل يوم - -الجول بمليون دولار- .. تفاصيل وقف القيد بالزمالك .