الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل نحن على ابواب حرب تجارية عالمية حقا؟

محمد عبد الشفيع عيسى

2018 / 5 / 26
العولمة وتطورات العالم المعاصر


هل نحارب على أبواب حرب تجارية عالمية حقاً ..؟

د. محمد عبد الشفيع عيسى
أستاذ في معهد التخطيط القومي بالقاهرة

وقّع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يوم الخميس 8 مارس 2018 قرار فرض رسوم جمركية على واردات الصلب (بنسبة 15%) و الألمومنيوم (بنسبة 10%) من العالم الخارجي. وقد ذكر في معرض تبرير القرار إن التجارة الدولية (العدائية) دمرت صناعة الصلب فى أمريكا و أن أمريكا تخسر 500 مليون دولار سنويا بسبب التجارة عموما منذ فترة طويلة. هذا علماً بان واردات الصلب والألومنيوم معاً لا تزيد حصتها عن 2% من إجمالى الواردات السلعية الأمريكية للعام الماضى والبالغة فى جملتها 2,4تريليون دولار.
و تضمن قرار فرض الرسوم استثناء المكسيك وكندا حتى يتم إعادة التفاوض فى إطار "منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية" (نافتا). و يبدأ سريان التعريفة الجديدة بعد 15 يوماً من تاريخ إصدار القرار، ويكون فرضها مرتبطاً -جزئياً- بالعلاقات العسكرية مع الدول الأخرى؛ (و سنكون منفتحين على الإعفاء للدول الصديقة) وفق ما قال.
وذكر مسئولون أوربيون (منهم مفوض الشئون المالية فى الاتحاد الأوروبى) أن القرار يمثل اعتداء على نظام التجارة الدولية، مع تهديد بإعمال (ترسانة) كاملة من الإجراءات المضادة المحتملة، وذلك بالنظر إلى أن الاتحاد الأوربي أكبر المتضررين من الإجراء، إذ يصدر قرابة 5 مليون طن من الصلب إلى الولايات المتحدة في السنة، ومنه ألمانيا التي تصدر إلى أمريكا بما قيمته نحو 2 مليار يورو، وفرنسا بحوالي 2,5 مليار يورو. ودعا بعضهم إلى فرض رسوم على الواردات من السلع الأمريكية مثل الدراجات والتبغ والمشروبات الروحية والبرتقال، بالاستناد إلى نصوص اتفاقات "منظمة التجارة العالمية"WTO بما في ذلك المادة 21 من اتفاقية (جات 1994) و يميل الاتجاه الغالب إلى تقديم شكوى في إطار آلية فض المنازعات بالمنظمة المذكورة. وبمثل ذلك تحدث اليابانيون. أما الصينيون فقد نددوا بالقرار بوصفه نذيرا بحرب تجارية، قائلين إن التصنيف الأمريكي للصين كمنافس استراتيجي خاطئ تماما، وذلك في ضوء عمق علاقة الشراكة ذات الطابع التكاملي بين الطرفين.
من الوجهة الأخرى، ونظرا للربط الذي أجراه دونالد ترمب بين الإعفاء من الرسوم والعلاقات العسكرية مع الدول الأخرى، فقد بلغت ميزانية الإنفاق العسكرى للحكومة الأمريكية نحو 700 مليار دولار فى عام 2017 ، مقابل 611ملياراً تقريبا فى عام 2016 بما يمثل 36% من الإجمالى العالمى للإنفاق العسكري.
فهل نحن على أبواب حرب تجارية حقاً، ولماذا تبدأ مثل هذه (الحرب) –إنْ وُجِدتْ- بسلعة مثل الصلب ..؟
لنتذكر هنا أن دونالد ترامب جاء إلى سدّة الرئاسة محمولاً على صهوة جواد أبيض جامح ، إذ اعتمد إلى حد كبير على أصوات العمال الأنجلو سكسون ذوى البشرة البيضاء ، الذين تضرروا جرّاء المنافسة من الدول الأجنبية، وبالأحْرى: من الشركاء التجاريين الكبار للولايات المتحدة الأمريكية وخاصة دول الاتحاد الأوروبى ، واليابان ، والصين، و دول (نامية) عدة في مقدمتها كوريا الجنوبية. فقد انتقل شطر واسع من الصناعات التقليدية (الأمريكية) منذ سبعينات القرن المنصرم من عقر دار أمريكا إلى بلدان أخرى ، تنخفض فيها تكلفة الإنتاج نسبياً ، أو تتوفر لديها ميزات تنافسية قوية بفعل عوامل أخرى .. وكانت حركة (انتقال الصناعات) جزء من عملية أوسع للتحول الهيكلى الكبير فى الاقتصادات المتقدمة ، بما فيها الاقتصاد الأمريكى ، قصد مزيد التركيز على الصناعات الخدمية للتكنولوجيا العالية (هاى تك) فى قطاعاتها البارزة ، اتصالاً بما يسمى بالثورة الصناعية الثالثة فالرابعة أو "التحول الرقمى". من أجل ذلك تخلت أمريكا ، أو (تخففت) من بعض صناعاتها ذات تكلفة العمالة المرتفعة إلى حيث (الأجور المنخفضة) أو (العمالة الرخيصة) فى شرق آسيا ، أو تلك (الملوثة للبيئة) . كما تركت المجال لشركائها للتوسع فى صناعات (الثورة الصناعية) الأولى والثانية والثالثة أيضا ، ابتداء من الحديد إلى شرائح السيليكون الرقيقة. كان ذلك، من الجانب الآخر، جزء من لعبة دولية أوسع فى عصر (الحرب الباردة) بين القوتين العظميين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى) – عصر "القطبية الثنائية" - التى صاحبها اشتداد الحرب "الساخنة" منذ الخمسينات والستينات (فيتنام ...الخ) على وقع حرب أيديولوجية معلنة بين منظومة التفكير الرأسمالى "الحر" ، ومنظومة التفكير "الاشتراكى" تحت راية (الشيوعية) وخاصة من طرف الروس والصينين بطرق مختلفة ، برغم نزاعهما العقائدى المشهود.
كان تزويد الشركاء الرئيسيين فى الحرب الساخنة والباردة والعقائدية، من طرف أمريكا، بأسباب القوة الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية، جزءً من "اللعبة الكبرى" آنئذ . ومن هنا انبثق نموذج إنمائى كامل سمّى بنموذج النمو المدفوع بالصادرات، ابتداء من اليابان بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية، وخاصة منذ 1957 (..... التنمية السريعة)- اتصالا بالبلدان الآسيوية التى اقتفت أثر اليابان متنبعة نموذجها الإنمائى – التصديرى ، القائم– فى البدايات – على أساس استغلال (ميزة العمل الرخيص) . هذه هى عملية تعميم النموذج اليابانى فى التنمية Japanization . وصبرت أمريكا طويلاً على شركائها الآسيويين، و قد نمت صناعاتهم سواء فى المجال التقليدى (المنسوجات والملابس) أو فى المجال غير التقليدى (الأجهزة الكهربائية والالكترونية) وكذلك صناعات الصلب و بناء السفن.
فتحت أمريكا أبوابها مشرعة منذ النصف الأخير للستينات ، مروراً بالسبعينات وحتى أوائل الثمانينات ، أمام السلع الواردة من آسيا الشرقية .. اليابان ومعها الدول السائرة على النموذج اليابانى سواء من "الجيل الأول"- كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة ومقاطعة هونج كونج الصينية ، أو من "الجيل الثانى"- تايلند والفلبين وخاصة ماليزيا.
ثم كان لحاق الصين بسائر آسيا الشرقية منذ مطلع السبعينات على يد خليفة ماوتسي تونج – "غير الماوتسى" – دينج هيسياو بينج، الذى نفذ – بالاشتراك مع الرئيس الأمريكي نيكسون – العملية الكبرى للانفتاح المتبادل، مع فتح الأبواب على أوسع مصاريعها – فى الصين – أمام الاستثمارات الأمريكية والأوروبية. ثم فى المقابل فتح الأبواب على مصاريعها – فى أمريكا – أمام الصادرات الرخيصة من السلع التقليدية و "فوق التقليدية" القادمة من آسيا الشرقية بمعناها الواسع : اليابان و (اليابانيون) الآخرون، بمعنى ما ، والصين . وكذلك حدث من طرف الاتحاد الأوروبى المتوسع فى حقبة ازدهار مشروعه الاندماجي الاقتصادي والسياسي، عبر مسيرة التطور الدائبة : من جماعة أوروبية للفحم والصلب فى أواسط الخمسينات ، إلى مشروع سوق مشتركة فى إطار "الجماعة الأوروبية" فى الستينات والسبعينات والثمانينات ، ثم "السوق الواحدة" فى مطلع التسعينات ، والاتحاد النقدى وتوحيد العملة (اليورو) باستثناء بريطانيا في مطلع الألفية– ومن ثم إعلان قيام (الاتحاد الأوروبى) .
ولكن عند انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991 و الإطاحة بمنظومة القطبية الثنائية، أطل عصر "القوة العظمى الوحيدة" Lonely super power بعد سبق تمهيد كثيف خلال إدارة الرئيس الأمريكى رونالد ريجان طوال حقبة الثمانينات.
و مع عملية انهيار القطبية الثنائية وشحوب حرب الباردة، خلال الثمانينات، أخذت الولايات المتحدة فى انتهاج شبه حرب تجارية صوب شرائها الآسيويين والأوروبيين عبر ما يسمى بالحمائية الجديدة . كانت تلك الحمائية الأمريكية بالذات – فى الثمانينات ، ومطلع التسعينات – قائمة على استخدام سلة أدوات غير مجربة كثيراً ، تسمى بالأدوات غير الجمركية مثل ما كان يسمى "قيود التصدير الاختيارية" التى تفرض على الشركاء، والتشدد فى المواصفات التقنية والبيئية والمهنية والصحية، وفرض رسوم الإغراق و "فيضان الواردات" . واستغلت أمريكا فى ذلك، النصوص (المطاطة) فى اتفاق التعريفات والتجارة (الجات) لعام 1947 وخاصة ما يسمى (نص التخلص من الالتزام بتحرير التجارة) بدعوى "المصلحة الوطنية". علما بأن إدارة ترامب قد استندت أخيرا إلى قانون أمريكى قلما تم اللجوء إليه، يسمح للرئيس بحماية الصناعة المحلية بحجة الأمن القومى( القسم 232 من القانون التجاري الأمريكي لعام 1962)، وذلك برغم أن معظم واردات الصلب تأتي من دول حليفة لأمريكا ولا تشكل تهديداً للأمن القومى ، وهى كندا والاتحاد الأوروبى والمكسيك وكوريا الجنوبية.
وعودة إلى ما سبق، فإنه لما بدأ السحر ينقلب على الساحر، أواخر الثمانينات من القرن المنصرم، شرعت الولايات المتحدة فى البحث عن مخارج من تهديد الحرب التجارية المتبادلة تحت ظل " الحمائية الجديدة" – ومن ثم بدأت جولة موسعة من المفاوضات التجارية متعددة الأطراف فيما سمى بجولة أوروجواى منذ عام 1986 .
وبعد مفاوضات شاقة تم التوصل إلى معالم نظام تجارى جديد يحقق للجميع – الكبار خاصة- مزايا مشتركة من خلال فتح الباب أمام حرية التجارة المتبادلة على أوسع نطاق ، بما فيها حرية الاستثمار، وتنظيم حقوق الملكية الفكرية وفق القياس المناسب لحرية الحركة للشركات عابرة الجنسيات فى نقل التكنولوجيا .
حينئذ تهيأ المناخ –بعد لأْي – لعقد اتفاق إقامة منظمة التجارة العالمية أو"اتفاقية مراكش" لعام 1994. و مع الاتفاق الأساسى لإقامة هذه المنظمة الدولية الجديدة، عقدت سلسلة من الاتفاقات فيما سمى (الجات الجديدة) أو (جات 1994) فى مجالات:السلع الزراعية، و الألياف والمنسوجات، وتجارة الخدمات ؛ واتفاقية الاستثمار ، واتفاقية الملكية الفكرية – ذائعة الصيت (تريبس) .
كان تحرير التجارة أهم معالم النظام التجارىّ المنبثق، مع نصوص بتخفيضات جمركية متدرجة، واستثناءات وإعفاءات للدول النامية بالذات، مع السماح بفرض رسوم جمركية فى حالات الضرورة وخاصة: حالة الإغراق أى الخفض المتعمّد لأسعار السلع المصدرة إلى دول أخرى – وحالة "فيضان الواردات" الذى يعنى بالتوسع الكمّي غير الاعتيادي فى أحجام الواردات، بما يهدّد فى الحالتين بالإضرار بالصناعات والقطاعات المحلية .
وتم النص بصفة خاصة على تقييد أو تقنين "الحواجز غير الجمركية" على التجارة مثل دعم الإنتاج المحلى والصادرات، بالإضافة إلى جداول بالخفض المتدرج للتعريفات الجمركية على التجارة وفق التعهدات المقدمة من الدول الأعضاء. كما تمت العناية بتحرير تجارة الخدمات – خدمات النقل والخدمات المالية والسياحة ..إلخ . أما فى حالة التضرر من تحرير التجارة من قبل طرف أو عدة أطراف، فقد تضمنت الأحكام المنظمة للتجارة، نصوصا تبيح تقديم الشكاوى، ووضعت آلية قانونية وقضائية لفض المنازعات التجارية.
ولكن .. مرة أخرى .. تأكد أن حرية التجارة تلعب دائما فى صالح الطرف الأقوى فى مباراة العّدْو السريع ، والذى يبدأ من النقطة الأقوى فى السباق (غير المتكافىء) . لذلك بدأت الدول النامية – بقيادة الهند والبرازيل – بالمطالبة بمراعاة حقوقها إزاء الأطراف الأكثر تقدماً، وخاصة من حيث حماية السلع الزراعية للدول النامية من طوفان الدعم الذى تتمتع به السلع المصدَرة من دول الاتحاد الأوروبى خاصة، بالإضافة إلى ضرورة وضع ضمانات لنقل التكنولوجيا إلى الدول النامية فى وجه الممارسات الاحتكارية للشركات عابرة الجنسيات، كما في حالة الدواء. من أجل ذلك انعقدت جولة مفاوضات تجارية، على المستوى الوزارى، تُوّجت بما يسمّى "إعلان الدوحة" عام 2001، والذى تقرر من خلاله عقد جولات تفاوضية مكمّلة، بغية التوصل إلى حلول توافقية تراعى مصالح مختلف الأطراف .
بعد اربعة عشر عاماً من المفاوضات غير المنتجة ، تم (تدشين) إخفاق جولة الدوحة عام 2015 ، إذْ لم يتم التوصل إلى اتفاقات ملزمة فيما يتعلق بقضايا (إعلان الدوحة) ، وأصبح المناخ الدولى معبأ بسموم "الحماية التجارية" من كل طرف . فى هذا المناخ المسموم جاء دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية في يناير 2017 ، ببرنامج اقتصادى يقلب رأساً على عقب الالتزام بنظام حرية التجارة ، رافعاً شعار "أمريكا أولاً" . وفى سبيل ذلك قام بسلسلة من الإجراءات والتصرفات ذات الطابع الجذرى: مثل الانسحاب من (اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادى) TPP Trans-Pacific Partnership لاحتواء التوسع التجارى الصينى،علماً بأنه تم تثبيت الاتفاق بين الدول الأعضاء الأحد عشر الآخرين، فى الفترة الأخيرة . وكذلك دعا ترامب إلى إعادة التفاوض حول "اتفاق الشراكة عبر الأطلنطى" ، لمحاولة احتواء القوة التجارية للاتحاد الأوروبى، وخاصة بعد بدء مسيرة الانسحاب البريطانى من الاتحاد الأوربي وفق ما يسمى "بريكست" BREXIT ودع عنك الانسحاب من الاتفاقية الإطارية للمناخ – اتفاقية باريس.
يضاف إلى كل ذلك، دعوة متكررة لمراجعة الالتزامات الأمريكية بتحرير التجارة ، وإلى استعادة المصانع الأمريكية التى تم نقلها فى غمار حركة "انتقال الصناعات" المشار إليها سابقا، منذ السبعينات، بل قام ترامب مؤخراً، فى مناسبة فرض الرسوم على واردات الصلب والألمنيوم، بدعوة الشركات الأجنبية إلى الاستثمار الصناعي داخل أمريكا، فيما يشبه "النقل المعاكس للصناعات" .. ويمثل ذلك تجسيداً لدعوته أثناء الحملة الانتخابية إلى إعطاء الأولوية لمصالح أمريكا و خاصة الشق التقليدي لصناعتها التقليدية، بما ذلك من آثار على العمالة المحلية، وهو ما يترجم من خلال العمل على زيادة معدل التشغيل وخفض البطالة ، إلى جانب التخفيضات الضريبية على الشركات الكبيرة.
فإلى أين من هنا ..؟
هل تندلع حرب تجارية على وقْع الإجراءات الأمريكية الأخيرة ؟ يلفت النظر أن الرئيس الأمريكى قد ربط احتمال الإعفاء من الرسوم الجديدة على واردات الصلب والألمنيوم ، بالعلاقات العسكرية (والسياسية بالطبع) مع (أصدقاء أمريكا). التجارة هنا قرينة السياسة بمعناها الاستراتيجى الأوسع .. إنه إذن "المدخل الاستراتيجى" للتنافسية الهجومية offensive .
و نعلم أنه فى إطار الفكر الاقتصادى الدولى الحديث يقف "المدخل الاستراتيجي" على طرف نقيض مع ما يسمى (المدخل الليبرالى) القائم على حرية التجارة الصرف، والذى يتبناه عادة "المحافظون" فى الولايات المتحدة، بمن فيهم غلاة المحافظين، مثل السيناتور (جون ماكين) المرشح الرئاسى الأسبق – والذى أعلن معارضته القوية لقرار ترامب الأخير بفرض الرسوم ، نظرا لأثره السلبى على حرية التجارة، وكذلك فعل قطاع عريض من "الحزب الجمهوري" الذى ينتمى إله ترامب .
هذا، و لسوف يصب قرار فرض الرسوم فى المجرى العام للسياسة الأمريكية المستحدثة فى إطار (أمريكا المعتزلة) أمريكا الأقوى عسكرياً .. فهل ياترى – يمضى الشوط إلى نهايته ..؟
تميل (الإيكونوميست-8 مارس 2018) إلى القول إن خطوة ترامب هذه ليست فى حد ذاتها بالغة الأهمية، أذ لا تزيد مساهمة واردات الصلب والألومينيوم فى الناتج المحلى الإجمالى للولايات المتحدة عن 0,2% فقط ؛ ولكن الخطورة أن تتبع الخطوة خطوات لاحقة، ثم تتلوها ردود فعل دفاعية من الأطراف المستهدفة وتصب جميعها فى الاتجاه الحمائى بما يتضمنه من احتمال تدمير النظام العالمى لحرية التجارة. ولكن النهاية حينئذ يمكن أن تكون مأساوية على الجميع. و إذا صمد الرئيس الأمريكى فى معركته (النبيلة) حتى آخرها ، الذى هو آخر يوم في مدته الرئاسية الراهنة على الأرجح ، فسيكون للأمر تداعيات أخرى وبدايات أخرى أيضا بعد سنوات ثلاثة ..!
وفي الختام، إننا نتوقع اشتداد النزاعات التجارية في الفترة القادمة، ولكن سيكون هناك عمل على التوصل إلى تسويات متبادلة ذات طابع توافقى ، وإن شابها "التوتر" التجارى و "القلق" – الجيو استراتيجى. ومن بعد التوتر والقلق، من يدرى ؟ فلعله يسود مناخ أكثر "سلمية" ..! بعد ثلاث سنوات. و لننتظر لنرى.

قراءات مختارة
1- حول الحدث والتحليل الخبري ، أنظر :
1-The Rules-based system is in grave danger, Donald Tramp s Tariffs on steel and Aluminum would be Just the start,in : The Economist, March 8Th 2018 .
2- حول الخلفية التاريخية ، أنظر :
- محمد عبد الشفيع عيسى ، " الحمائية التجارية الرأسمالية وأثرها على العالم الثالث”، فى : الفكر الاستراتيجى العربى ، بيروت ، أكتوبر 1991 ، صص 217-432 .
3- أعمال ندوة "التسلح ونزع السلاح والأمن الدولى"، الإسكندرية، 11-12 فبراير (شباط) 2017 ، التى نظّمها المعهد السويدي بالإسكندرية، بالاشتراك مع مركز دراسات الوحدة العربية ، بما فى ذلك :
SIPRI, Fact Sheet, February 2017, Trends in International Transfers, 2016.






هل نحارب على أبواب حرب تجارية عالمية حقاً ..؟

د. محمد عبد الشفيع عيسى
أستاذ في معهد التخطيط القومي بالقاهرة

وقّع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يوم الخميس 8 مارس 2018 قرار فرض رسوم جمركية على واردات الصلب (بنسبة 15%) و الألمومنيوم (بنسبة 10%) من العالم الخارجي. وقد ذكر في معرض تبرير القرار إن التجارة الدولية (العدائية) دمرت صناعة الصلب فى أمريكا و أن أمريكا تخسر 500 مليون دولار سنويا بسبب التجارة عموما منذ فترة طويلة. هذا علماً بان واردات الصلب والألومنيوم معاً لا تزيد حصتها عن 2% من إجمالى الواردات السلعية الأمريكية للعام الماضى والبالغة فى جملتها 2,4تريليون دولار.
و تضمن قرار فرض الرسوم استثناء المكسيك وكندا حتى يتم إعادة التفاوض فى إطار "منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية" (نافتا). و يبدأ سريان التعريفة الجديدة بعد 15 يوماً من تاريخ إصدار القرار، ويكون فرضها مرتبطاً -جزئياً- بالعلاقات العسكرية مع الدول الأخرى؛ (و سنكون منفتحين على الإعفاء للدول الصديقة) وفق ما قال.
وذكر مسئولون أوربيون (منهم مفوض الشئون المالية فى الاتحاد الأوروبى) أن القرار يمثل اعتداء على نظام التجارة الدولية، مع تهديد بإعمال (ترسانة) كاملة من الإجراءات المضادة المحتملة، وذلك بالنظر إلى أن الاتحاد الأوربي أكبر المتضررين من الإجراء، إذ يصدر قرابة 5 مليون طن من الصلب إلى الولايات المتحدة في السنة، ومنه ألمانيا التي تصدر إلى أمريكا بما قيمته نحو 2 مليار يورو، وفرنسا بحوالي 2,5 مليار يورو. ودعا بعضهم إلى فرض رسوم على الواردات من السلع الأمريكية مثل الدراجات والتبغ والمشروبات الروحية والبرتقال، بالاستناد إلى نصوص اتفاقات "منظمة التجارة العالمية"WTO بما في ذلك المادة 21 من اتفاقية (جات 1994) و يميل الاتجاه الغالب إلى تقديم شكوى في إطار آلية فض المنازعات بالمنظمة المذكورة. وبمثل ذلك تحدث اليابانيون. أما الصينيون فقد نددوا بالقرار بوصفه نذيرا بحرب تجارية، قائلين إن التصنيف الأمريكي للصين كمنافس استراتيجي خاطئ تماما، وذلك في ضوء عمق علاقة الشراكة ذات الطابع التكاملي بين الطرفين.
من الوجهة الأخرى، ونظرا للربط الذي أجراه دونالد ترمب بين الإعفاء من الرسوم والعلاقات العسكرية مع الدول الأخرى، فقد بلغت ميزانية الإنفاق العسكرى للحكومة الأمريكية نحو 700 مليار دولار فى عام 2017 ، مقابل 611ملياراً تقريبا فى عام 2016 بما يمثل 36% من الإجمالى العالمى للإنفاق العسكري.
فهل نحن على أبواب حرب تجارية حقاً، ولماذا تبدأ مثل هذه (الحرب) –إنْ وُجِدتْ- بسلعة مثل الصلب ..؟
لنتذكر هنا أن دونالد ترامب جاء إلى سدّة الرئاسة محمولاً على صهوة جواد أبيض جامح ، إذ اعتمد إلى حد كبير على أصوات العمال الأنجلو سكسون ذوى البشرة البيضاء ، الذين تضرروا جرّاء المنافسة من الدول الأجنبية، وبالأحْرى: من الشركاء التجاريين الكبار للولايات المتحدة الأمريكية وخاصة دول الاتحاد الأوروبى ، واليابان ، والصين، و دول (نامية) عدة في مقدمتها كوريا الجنوبية. فقد انتقل شطر واسع من الصناعات التقليدية (الأمريكية) منذ سبعينات القرن المنصرم من عقر دار أمريكا إلى بلدان أخرى ، تنخفض فيها تكلفة الإنتاج نسبياً ، أو تتوفر لديها ميزات تنافسية قوية بفعل عوامل أخرى .. وكانت حركة (انتقال الصناعات) جزء من عملية أوسع للتحول الهيكلى الكبير فى الاقتصادات المتقدمة ، بما فيها الاقتصاد الأمريكى ، قصد مزيد التركيز على الصناعات الخدمية للتكنولوجيا العالية (هاى تك) فى قطاعاتها البارزة ، اتصالاً بما يسمى بالثورة الصناعية الثالثة فالرابعة أو "التحول الرقمى". من أجل ذلك تخلت أمريكا ، أو (تخففت) من بعض صناعاتها ذات تكلفة العمالة المرتفعة إلى حيث (الأجور المنخفضة) أو (العمالة الرخيصة) فى شرق آسيا ، أو تلك (الملوثة للبيئة) . كما تركت المجال لشركائها للتوسع فى صناعات (الثورة الصناعية) الأولى والثانية والثالثة أيضا ، ابتداء من الحديد إلى شرائح السيليكون الرقيقة. كان ذلك، من الجانب الآخر، جزء من لعبة دولية أوسع فى عصر (الحرب الباردة) بين القوتين العظميين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى) – عصر "القطبية الثنائية" - التى صاحبها اشتداد الحرب "الساخنة" منذ الخمسينات والستينات (فيتنام ...الخ) على وقع حرب أيديولوجية معلنة بين منظومة التفكير الرأسمالى "الحر" ، ومنظومة التفكير "الاشتراكى" تحت راية (الشيوعية) وخاصة من طرف الروس والصينين بطرق مختلفة ، برغم نزاعهما العقائدى المشهود.
كان تزويد الشركاء الرئيسيين فى الحرب الساخنة والباردة والعقائدية، من طرف أمريكا، بأسباب القوة الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية، جزءً من "اللعبة الكبرى" آنئذ . ومن هنا انبثق نموذج إنمائى كامل سمّى بنموذج النمو المدفوع بالصادرات، ابتداء من اليابان بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية، وخاصة منذ 1957 (..... التنمية السريعة)- اتصالا بالبلدان الآسيوية التى اقتفت أثر اليابان متنبعة نموذجها الإنمائى – التصديرى ، القائم– فى البدايات – على أساس استغلال (ميزة العمل الرخيص) . هذه هى عملية تعميم النموذج اليابانى فى التنمية Japanization . وصبرت أمريكا طويلاً على شركائها الآسيويين، و قد نمت صناعاتهم سواء فى المجال التقليدى (المنسوجات والملابس) أو فى المجال غير التقليدى (الأجهزة الكهربائية والالكترونية) وكذلك صناعات الصلب و بناء السفن.
فتحت أمريكا أبوابها مشرعة منذ النصف الأخير للستينات ، مروراً بالسبعينات وحتى أوائل الثمانينات ، أمام السلع الواردة من آسيا الشرقية .. اليابان ومعها الدول السائرة على النموذج اليابانى سواء من "الجيل الأول"- كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة ومقاطعة هونج كونج الصينية ، أو من "الجيل الثانى"- تايلند والفلبين وخاصة ماليزيا.
ثم كان لحاق الصين بسائر آسيا الشرقية منذ مطلع السبعينات على يد خليفة ماوتسي تونج – "غير الماوتسى" – دينج هيسياو بينج، الذى نفذ – بالاشتراك مع الرئيس الأمريكي نيكسون – العملية الكبرى للانفتاح المتبادل، مع فتح الأبواب على أوسع مصاريعها – فى الصين – أمام الاستثمارات الأمريكية والأوروبية. ثم فى المقابل فتح الأبواب على مصاريعها – فى أمريكا – أمام الصادرات الرخيصة من السلع التقليدية و "فوق التقليدية" القادمة من آسيا الشرقية بمعناها الواسع : اليابان و (اليابانيون) الآخرون، بمعنى ما ، والصين . وكذلك حدث من طرف الاتحاد الأوروبى المتوسع فى حقبة ازدهار مشروعه الاندماجي الاقتصادي والسياسي، عبر مسيرة التطور الدائبة : من جماعة أوروبية للفحم والصلب فى أواسط الخمسينات ، إلى مشروع سوق مشتركة فى إطار "الجماعة الأوروبية" فى الستينات والسبعينات والثمانينات ، ثم "السوق الواحدة" فى مطلع التسعينات ، والاتحاد النقدى وتوحيد العملة (اليورو) باستثناء بريطانيا في مطلع الألفية– ومن ثم إعلان قيام (الاتحاد الأوروبى) .
ولكن عند انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991 و الإطاحة بمنظومة القطبية الثنائية، أطل عصر "القوة العظمى الوحيدة" Lonely super power بعد سبق تمهيد كثيف خلال إدارة الرئيس الأمريكى رونالد ريجان طوال حقبة الثمانينات.
و مع عملية انهيار القطبية الثنائية وشحوب حرب الباردة، خلال الثمانينات، أخذت الولايات المتحدة فى انتهاج شبه حرب تجارية صوب شرائها الآسيويين والأوروبيين عبر ما يسمى بالحمائية الجديدة . كانت تلك الحمائية الأمريكية بالذات – فى الثمانينات ، ومطلع التسعينات – قائمة على استخدام سلة أدوات غير مجربة كثيراً ، تسمى بالأدوات غير الجمركية مثل ما كان يسمى "قيود التصدير الاختيارية" التى تفرض على الشركاء، والتشدد فى المواصفات التقنية والبيئية والمهنية والصحية، وفرض رسوم الإغراق و "فيضان الواردات" . واستغلت أمريكا فى ذلك، النصوص (المطاطة) فى اتفاق التعريفات والتجارة (الجات) لعام 1947 وخاصة ما يسمى (نص التخلص من الالتزام بتحرير التجارة) بدعوى "المصلحة الوطنية". علما بأن إدارة ترامب قد استندت أخيرا إلى قانون أمريكى قلما تم اللجوء إليه، يسمح للرئيس بحماية الصناعة المحلية بحجة الأمن القومى( القسم 232 من القانون التجاري الأمريكي لعام 1962)، وذلك برغم أن معظم واردات الصلب تأتي من دول حليفة لأمريكا ولا تشكل تهديداً للأمن القومى ، وهى كندا والاتحاد الأوروبى والمكسيك وكوريا الجنوبية.
وعودة إلى ما سبق، فإنه لما بدأ السحر ينقلب على الساحر، أواخر الثمانينات من القرن المنصرم، شرعت الولايات المتحدة فى البحث عن مخارج من تهديد الحرب التجارية المتبادلة تحت ظل " الحمائية الجديدة" – ومن ثم بدأت جولة موسعة من المفاوضات التجارية متعددة الأطراف فيما سمى بجولة أوروجواى منذ عام 1986 .
وبعد مفاوضات شاقة تم التوصل إلى معالم نظام تجارى جديد يحقق للجميع – الكبار خاصة- مزايا مشتركة من خلال فتح الباب أمام حرية التجارة المتبادلة على أوسع نطاق ، بما فيها حرية الاستثمار، وتنظيم حقوق الملكية الفكرية وفق القياس المناسب لحرية الحركة للشركات عابرة الجنسيات فى نقل التكنولوجيا .
حينئذ تهيأ المناخ –بعد لأْي – لعقد اتفاق إقامة منظمة التجارة العالمية أو"اتفاقية مراكش" لعام 1994. و مع الاتفاق الأساسى لإقامة هذه المنظمة الدولية الجديدة، عقدت سلسلة من الاتفاقات فيما سمى (الجات الجديدة) أو (جات 1994) فى مجالات:السلع الزراعية، و الألياف والمنسوجات، وتجارة الخدمات ؛ واتفاقية الاستثمار ، واتفاقية الملكية الفكرية – ذائعة الصيت (تريبس) .
كان تحرير التجارة أهم معالم النظام التجارىّ المنبثق، مع نصوص بتخفيضات جمركية متدرجة، واستثناءات وإعفاءات للدول النامية بالذات، مع السماح بفرض رسوم جمركية فى حالات الضرورة وخاصة: حالة الإغراق أى الخفض المتعمّد لأسعار السلع المصدرة إلى دول أخرى – وحالة "فيضان الواردات" الذى يعنى بالتوسع الكمّي غير الاعتيادي فى أحجام الواردات، بما يهدّد فى الحالتين بالإضرار بالصناعات والقطاعات المحلية .
وتم النص بصفة خاصة على تقييد أو تقنين "الحواجز غير الجمركية" على التجارة مثل دعم الإنتاج المحلى والصادرات، بالإضافة إلى جداول بالخفض المتدرج للتعريفات الجمركية على التجارة وفق التعهدات المقدمة من الدول الأعضاء. كما تمت العناية بتحرير تجارة الخدمات – خدمات النقل والخدمات المالية والسياحة ..إلخ . أما فى حالة التضرر من تحرير التجارة من قبل طرف أو عدة أطراف، فقد تضمنت الأحكام المنظمة للتجارة، نصوصا تبيح تقديم الشكاوى، ووضعت آلية قانونية وقضائية لفض المنازعات التجارية.
ولكن .. مرة أخرى .. تأكد أن حرية التجارة تلعب دائما فى صالح الطرف الأقوى فى مباراة العّدْو السريع ، والذى يبدأ من النقطة الأقوى فى السباق (غير المتكافىء) . لذلك بدأت الدول النامية – بقيادة الهند والبرازيل – بالمطالبة بمراعاة حقوقها إزاء الأطراف الأكثر تقدماً، وخاصة من حيث حماية السلع الزراعية للدول النامية من طوفان الدعم الذى تتمتع به السلع المصدَرة من دول الاتحاد الأوروبى خاصة، بالإضافة إلى ضرورة وضع ضمانات لنقل التكنولوجيا إلى الدول النامية فى وجه الممارسات الاحتكارية للشركات عابرة الجنسيات، كما في حالة الدواء. من أجل ذلك انعقدت جولة مفاوضات تجارية، على المستوى الوزارى، تُوّجت بما يسمّى "إعلان الدوحة" عام 2001، والذى تقرر من خلاله عقد جولات تفاوضية مكمّلة، بغية التوصل إلى حلول توافقية تراعى مصالح مختلف الأطراف .
بعد اربعة عشر عاماً من المفاوضات غير المنتجة ، تم (تدشين) إخفاق جولة الدوحة عام 2015 ، إذْ لم يتم التوصل إلى اتفاقات ملزمة فيما يتعلق بقضايا (إعلان الدوحة) ، وأصبح المناخ الدولى معبأ بسموم "الحماية التجارية" من كل طرف . فى هذا المناخ المسموم جاء دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية في يناير 2017 ، ببرنامج اقتصادى يقلب رأساً على عقب الالتزام بنظام حرية التجارة ، رافعاً شعار "أمريكا أولاً" . وفى سبيل ذلك قام بسلسلة من الإجراءات والتصرفات ذات الطابع الجذرى: مثل الانسحاب من (اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادى) TPP Trans-Pacific Partnership لاحتواء التوسع التجارى الصينى،علماً بأنه تم تثبيت الاتفاق بين الدول الأعضاء الأحد عشر الآخرين، فى الفترة الأخيرة . وكذلك دعا ترامب إلى إعادة التفاوض حول "اتفاق الشراكة عبر الأطلنطى" ، لمحاولة احتواء القوة التجارية للاتحاد الأوروبى، وخاصة بعد بدء مسيرة الانسحاب البريطانى من الاتحاد الأوربي وفق ما يسمى "بريكست" BREXIT ودع عنك الانسحاب من الاتفاقية الإطارية للمناخ – اتفاقية باريس.
يضاف إلى كل ذلك، دعوة متكررة لمراجعة الالتزامات الأمريكية بتحرير التجارة ، وإلى استعادة المصانع الأمريكية التى تم نقلها فى غمار حركة "انتقال الصناعات" المشار إليها سابقا، منذ السبعينات، بل قام ترامب مؤخراً، فى مناسبة فرض الرسوم على واردات الصلب والألمنيوم، بدعوة الشركات الأجنبية إلى الاستثمار الصناعي داخل أمريكا، فيما يشبه "النقل المعاكس للصناعات" .. ويمثل ذلك تجسيداً لدعوته أثناء الحملة الانتخابية إلى إعطاء الأولوية لمصالح أمريكا و خاصة الشق التقليدي لصناعتها التقليدية، بما ذلك من آثار على العمالة المحلية، وهو ما يترجم من خلال العمل على زيادة معدل التشغيل وخفض البطالة ، إلى جانب التخفيضات الضريبية على الشركات الكبيرة.
فإلى أين من هنا ..؟
هل تندلع حرب تجارية على وقْع الإجراءات الأمريكية الأخيرة ؟ يلفت النظر أن الرئيس الأمريكى قد ربط احتمال الإعفاء من الرسوم الجديدة على واردات الصلب والألمنيوم ، بالعلاقات العسكرية (والسياسية بالطبع) مع (أصدقاء أمريكا). التجارة هنا قرينة السياسة بمعناها الاستراتيجى الأوسع .. إنه إذن "المدخل الاستراتيجى" للتنافسية الهجومية offensive .
و نعلم أنه فى إطار الفكر الاقتصادى الدولى الحديث يقف "المدخل الاستراتيجي" على طرف نقيض مع ما يسمى (المدخل الليبرالى) القائم على حرية التجارة الصرف، والذى يتبناه عادة "المحافظون" فى الولايات المتحدة، بمن فيهم غلاة المحافظين، مثل السيناتور (جون ماكين) المرشح الرئاسى الأسبق – والذى أعلن معارضته القوية لقرار ترامب الأخير بفرض الرسوم ، نظرا لأثره السلبى على حرية التجارة، وكذلك فعل قطاع عريض من "الحزب الجمهوري" الذى ينتمى إله ترامب .
هذا، و لسوف يصب قرار فرض الرسوم فى المجرى العام للسياسة الأمريكية المستحدثة فى إطار (أمريكا المعتزلة) أمريكا الأقوى عسكرياً .. فهل ياترى – يمضى الشوط إلى نهايته ..؟
تميل (الإيكونوميست-8 مارس 2018) إلى القول إن خطوة ترامب هذه ليست فى حد ذاتها بالغة الأهمية، أذ لا تزيد مساهمة واردات الصلب والألومينيوم فى الناتج المحلى الإجمالى للولايات المتحدة عن 0,2% فقط ؛ ولكن الخطورة أن تتبع الخطوة خطوات لاحقة، ثم تتلوها ردود فعل دفاعية من الأطراف المستهدفة وتصب جميعها فى الاتجاه الحمائى بما يتضمنه من احتمال تدمير النظام العالمى لحرية التجارة. ولكن النهاية حينئذ يمكن أن تكون مأساوية على الجميع. و إذا صمد الرئيس الأمريكى فى معركته (النبيلة) حتى آخرها ، الذى هو آخر يوم في مدته الرئاسية الراهنة على الأرجح ، فسيكون للأمر تداعيات أخرى وبدايات أخرى أيضا بعد سنوات ثلاثة ..!
وفي الختام، إننا نتوقع اشتداد النزاعات التجارية في الفترة القادمة، ولكن سيكون هناك عمل على التوصل إلى تسويات متبادلة ذات طابع توافقى ، وإن شابها "التوتر" التجارى و "القلق" – الجيو استراتيجى. ومن بعد التوتر والقلق، من يدرى ؟ فلعله يسود مناخ أكثر "سلمية" ..! بعد ثلاث سنوات. و لننتظر لنرى.

قراءات مختارة
1- حول الحدث والتحليل الخبري ، أنظر :
1-The Rules-based system is in grave danger, Donald Tramp s Tariffs on steel and Aluminum would be Just the start,in : The Economist, March 8Th 2018 .
2- حول الخلفية التاريخية ، أنظر :
- محمد عبد الشفيع عيسى ، " الحمائية التجارية الرأسمالية وأثرها على العالم الثالث”، فى : الفكر الاستراتيجى العربى ، بيروت ، أكتوبر 1991 ، صص 217-432 .
3- أعمال ندوة "التسلح ونزع السلاح والأمن الدولى"، الإسكندرية، 11-12 فبراير (شباط) 2017 ، التى نظّمها المعهد السويدي بالإسكندرية، بالاشتراك مع مركز دراسات الوحدة العربية ، بما فى ذلك :
SIPRI, Fact Sheet, February 2017, Trends in International Transfers, 2016.






هل نحارب على أبواب حرب تجارية عالمية حقاً ..؟

د. محمد عبد الشفيع عيسى
أستاذ في معهد التخطيط القومي بالقاهرة

وقّع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يوم الخميس 8 مارس 2018 قرار فرض رسوم جمركية على واردات الصلب (بنسبة 15%) و الألمومنيوم (بنسبة 10%) من العالم الخارجي. وقد ذكر في معرض تبرير القرار إن التجارة الدولية (العدائية) دمرت صناعة الصلب فى أمريكا و أن أمريكا تخسر 500 مليون دولار سنويا بسبب التجارة عموما منذ فترة طويلة. هذا علماً بان واردات الصلب والألومنيوم معاً لا تزيد حصتها عن 2% من إجمالى الواردات السلعية الأمريكية للعام الماضى والبالغة فى جملتها 2,4تريليون دولار.
و تضمن قرار فرض الرسوم استثناء المكسيك وكندا حتى يتم إعادة التفاوض فى إطار "منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية" (نافتا). و يبدأ سريان التعريفة الجديدة بعد 15 يوماً من تاريخ إصدار القرار، ويكون فرضها مرتبطاً -جزئياً- بالعلاقات العسكرية مع الدول الأخرى؛ (و سنكون منفتحين على الإعفاء للدول الصديقة) وفق ما قال.
وذكر مسئولون أوربيون (منهم مفوض الشئون المالية فى الاتحاد الأوروبى) أن القرار يمثل اعتداء على نظام التجارة الدولية، مع تهديد بإعمال (ترسانة) كاملة من الإجراءات المضادة المحتملة، وذلك بالنظر إلى أن الاتحاد الأوربي أكبر المتضررين من الإجراء، إذ يصدر قرابة 5 مليون طن من الصلب إلى الولايات المتحدة في السنة، ومنه ألمانيا التي تصدر إلى أمريكا بما قيمته نحو 2 مليار يورو، وفرنسا بحوالي 2,5 مليار يورو. ودعا بعضهم إلى فرض رسوم على الواردات من السلع الأمريكية مثل الدراجات والتبغ والمشروبات الروحية والبرتقال، بالاستناد إلى نصوص اتفاقات "منظمة التجارة العالمية"WTO بما في ذلك المادة 21 من اتفاقية (جات 1994) و يميل الاتجاه الغالب إلى تقديم شكوى في إطار آلية فض المنازعات بالمنظمة المذكورة. وبمثل ذلك تحدث اليابانيون. أما الصينيون فقد نددوا بالقرار بوصفه نذيرا بحرب تجارية، قائلين إن التصنيف الأمريكي للصين كمنافس استراتيجي خاطئ تماما، وذلك في ضوء عمق علاقة الشراكة ذات الطابع التكاملي بين الطرفين.
من الوجهة الأخرى، ونظرا للربط الذي أجراه دونالد ترمب بين الإعفاء من الرسوم والعلاقات العسكرية مع الدول الأخرى، فقد بلغت ميزانية الإنفاق العسكرى للحكومة الأمريكية نحو 700 مليار دولار فى عام 2017 ، مقابل 611ملياراً تقريبا فى عام 2016 بما يمثل 36% من الإجمالى العالمى للإنفاق العسكري.
فهل نحن على أبواب حرب تجارية حقاً، ولماذا تبدأ مثل هذه (الحرب) –إنْ وُجِدتْ- بسلعة مثل الصلب ..؟
لنتذكر هنا أن دونالد ترامب جاء إلى سدّة الرئاسة محمولاً على صهوة جواد أبيض جامح ، إذ اعتمد إلى حد كبير على أصوات العمال الأنجلو سكسون ذوى البشرة البيضاء ، الذين تضرروا جرّاء المنافسة من الدول الأجنبية، وبالأحْرى: من الشركاء التجاريين الكبار للولايات المتحدة الأمريكية وخاصة دول الاتحاد الأوروبى ، واليابان ، والصين، و دول (نامية) عدة في مقدمتها كوريا الجنوبية. فقد انتقل شطر واسع من الصناعات التقليدية (الأمريكية) منذ سبعينات القرن المنصرم من عقر دار أمريكا إلى بلدان أخرى ، تنخفض فيها تكلفة الإنتاج نسبياً ، أو تتوفر لديها ميزات تنافسية قوية بفعل عوامل أخرى .. وكانت حركة (انتقال الصناعات) جزء من عملية أوسع للتحول الهيكلى الكبير فى الاقتصادات المتقدمة ، بما فيها الاقتصاد الأمريكى ، قصد مزيد التركيز على الصناعات الخدمية للتكنولوجيا العالية (هاى تك) فى قطاعاتها البارزة ، اتصالاً بما يسمى بالثورة الصناعية الثالثة فالرابعة أو "التحول الرقمى". من أجل ذلك تخلت أمريكا ، أو (تخففت) من بعض صناعاتها ذات تكلفة العمالة المرتفعة إلى حيث (الأجور المنخفضة) أو (العمالة الرخيصة) فى شرق آسيا ، أو تلك (الملوثة للبيئة) . كما تركت المجال لشركائها للتوسع فى صناعات (الثورة الصناعية) الأولى والثانية والثالثة أيضا ، ابتداء من الحديد إلى شرائح السيليكون الرقيقة. كان ذلك، من الجانب الآخر، جزء من لعبة دولية أوسع فى عصر (الحرب الباردة) بين القوتين العظميين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى) – عصر "القطبية الثنائية" - التى صاحبها اشتداد الحرب "الساخنة" منذ الخمسينات والستينات (فيتنام ...الخ) على وقع حرب أيديولوجية معلنة بين منظومة التفكير الرأسمالى "الحر" ، ومنظومة التفكير "الاشتراكى" تحت راية (الشيوعية) وخاصة من طرف الروس والصينين بطرق مختلفة ، برغم نزاعهما العقائدى المشهود.
كان تزويد الشركاء الرئيسيين فى الحرب الساخنة والباردة والعقائدية، من طرف أمريكا، بأسباب القوة الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية، جزءً من "اللعبة الكبرى" آنئذ . ومن هنا انبثق نموذج إنمائى كامل سمّى بنموذج النمو المدفوع بالصادرات، ابتداء من اليابان بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية، وخاصة منذ 1957 (..... التنمية السريعة)- اتصالا بالبلدان الآسيوية التى اقتفت أثر اليابان متنبعة نموذجها الإنمائى – التصديرى ، القائم– فى البدايات – على أساس استغلال (ميزة العمل الرخيص) . هذه هى عملية تعميم النموذج اليابانى فى التنمية Japanization . وصبرت أمريكا طويلاً على شركائها الآسيويين، و قد نمت صناعاتهم سواء فى المجال التقليدى (المنسوجات والملابس) أو فى المجال غير التقليدى (الأجهزة الكهربائية والالكترونية) وكذلك صناعات الصلب و بناء السفن.
فتحت أمريكا أبوابها مشرعة منذ النصف الأخير للستينات ، مروراً بالسبعينات وحتى أوائل الثمانينات ، أمام السلع الواردة من آسيا الشرقية .. اليابان ومعها الدول السائرة على النموذج اليابانى سواء من "الجيل الأول"- كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة ومقاطعة هونج كونج الصينية ، أو من "الجيل الثانى"- تايلند والفلبين وخاصة ماليزيا.
ثم كان لحاق الصين بسائر آسيا الشرقية منذ مطلع السبعينات على يد خليفة ماوتسي تونج – "غير الماوتسى" – دينج هيسياو بينج، الذى نفذ – بالاشتراك مع الرئيس الأمريكي نيكسون – العملية الكبرى للانفتاح المتبادل، مع فتح الأبواب على أوسع مصاريعها – فى الصين – أمام الاستثمارات الأمريكية والأوروبية. ثم فى المقابل فتح الأبواب على مصاريعها – فى أمريكا – أمام الصادرات الرخيصة من السلع التقليدية و "فوق التقليدية" القادمة من آسيا الشرقية بمعناها الواسع : اليابان و (اليابانيون) الآخرون، بمعنى ما ، والصين . وكذلك حدث من طرف الاتحاد الأوروبى المتوسع فى حقبة ازدهار مشروعه الاندماجي الاقتصادي والسياسي، عبر مسيرة التطور الدائبة : من جماعة أوروبية للفحم والصلب فى أواسط الخمسينات ، إلى مشروع سوق مشتركة فى إطار "الجماعة الأوروبية" فى الستينات والسبعينات والثمانينات ، ثم "السوق الواحدة" فى مطلع التسعينات ، والاتحاد النقدى وتوحيد العملة (اليورو) باستثناء بريطانيا في مطلع الألفية– ومن ثم إعلان قيام (الاتحاد الأوروبى) .
ولكن عند انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991 و الإطاحة بمنظومة القطبية الثنائية، أطل عصر "القوة العظمى الوحيدة" Lonely super power بعد سبق تمهيد كثيف خلال إدارة الرئيس الأمريكى رونالد ريجان طوال حقبة الثمانينات.
و مع عملية انهيار القطبية الثنائية وشحوب حرب الباردة، خلال الثمانينات، أخذت الولايات المتحدة فى انتهاج شبه حرب تجارية صوب شرائها الآسيويين والأوروبيين عبر ما يسمى بالحمائية الجديدة . كانت تلك الحمائية الأمريكية بالذات – فى الثمانينات ، ومطلع التسعينات – قائمة على استخدام سلة أدوات غير مجربة كثيراً ، تسمى بالأدوات غير الجمركية مثل ما كان يسمى "قيود التصدير الاختيارية" التى تفرض على الشركاء، والتشدد فى المواصفات التقنية والبيئية والمهنية والصحية، وفرض رسوم الإغراق و "فيضان الواردات" . واستغلت أمريكا فى ذلك، النصوص (المطاطة) فى اتفاق التعريفات والتجارة (الجات) لعام 1947 وخاصة ما يسمى (نص التخلص من الالتزام بتحرير التجارة) بدعوى "المصلحة الوطنية". علما بأن إدارة ترامب قد استندت أخيرا إلى قانون أمريكى قلما تم اللجوء إليه، يسمح للرئيس بحماية الصناعة المحلية بحجة الأمن القومى( القسم 232 من القانون التجاري الأمريكي لعام 1962)، وذلك برغم أن معظم واردات الصلب تأتي من دول حليفة لأمريكا ولا تشكل تهديداً للأمن القومى ، وهى كندا والاتحاد الأوروبى والمكسيك وكوريا الجنوبية.
وعودة إلى ما سبق، فإنه لما بدأ السحر ينقلب على الساحر، أواخر الثمانينات من القرن المنصرم، شرعت الولايات المتحدة فى البحث عن مخارج من تهديد الحرب التجارية المتبادلة تحت ظل " الحمائية الجديدة" – ومن ثم بدأت جولة موسعة من المفاوضات التجارية متعددة الأطراف فيما سمى بجولة أوروجواى منذ عام 1986 .
وبعد مفاوضات شاقة تم التوصل إلى معالم نظام تجارى جديد يحقق للجميع – الكبار خاصة- مزايا مشتركة من خلال فتح الباب أمام حرية التجارة المتبادلة على أوسع نطاق ، بما فيها حرية الاستثمار، وتنظيم حقوق الملكية الفكرية وفق القياس المناسب لحرية الحركة للشركات عابرة الجنسيات فى نقل التكنولوجيا .
حينئذ تهيأ المناخ –بعد لأْي – لعقد اتفاق إقامة منظمة التجارة العالمية أو"اتفاقية مراكش" لعام 1994. و مع الاتفاق الأساسى لإقامة هذه المنظمة الدولية الجديدة، عقدت سلسلة من الاتفاقات فيما سمى (الجات الجديدة) أو (جات 1994) فى مجالات:السلع الزراعية، و الألياف والمنسوجات، وتجارة الخدمات ؛ واتفاقية الاستثمار ، واتفاقية الملكية الفكرية – ذائعة الصيت (تريبس) .
كان تحرير التجارة أهم معالم النظام التجارىّ المنبثق، مع نصوص بتخفيضات جمركية متدرجة، واستثناءات وإعفاءات للدول النامية بالذات، مع السماح بفرض رسوم جمركية فى حالات الضرورة وخاصة: حالة الإغراق أى الخفض المتعمّد لأسعار السلع المصدرة إلى دول أخرى – وحالة "فيضان الواردات" الذى يعنى بالتوسع الكمّي غير الاعتيادي فى أحجام الواردات، بما يهدّد فى الحالتين بالإضرار بالصناعات والقطاعات المحلية .
وتم النص بصفة خاصة على تقييد أو تقنين "الحواجز غير الجمركية" على التجارة مثل دعم الإنتاج المحلى والصادرات، بالإضافة إلى جداول بالخفض المتدرج للتعريفات الجمركية على التجارة وفق التعهدات المقدمة من الدول الأعضاء. كما تمت العناية بتحرير تجارة الخدمات – خدمات النقل والخدمات المالية والسياحة ..إلخ . أما فى حالة التضرر من تحرير التجارة من قبل طرف أو عدة أطراف، فقد تضمنت الأحكام المنظمة للتجارة، نصوصا تبيح تقديم الشكاوى، ووضعت آلية قانونية وقضائية لفض المنازعات التجارية.
ولكن .. مرة أخرى .. تأكد أن حرية التجارة تلعب دائما فى صالح الطرف الأقوى فى مباراة العّدْو السريع ، والذى يبدأ من النقطة الأقوى فى السباق (غير المتكافىء) . لذلك بدأت الدول النامية – بقيادة الهند والبرازيل – بالمطالبة بمراعاة حقوقها إزاء الأطراف الأكثر تقدماً، وخاصة من حيث حماية السلع الزراعية للدول النامية من طوفان الدعم الذى تتمتع به السلع المصدَرة من دول الاتحاد الأوروبى خاصة، بالإضافة إلى ضرورة وضع ضمانات لنقل التكنولوجيا إلى الدول النامية فى وجه الممارسات الاحتكارية للشركات عابرة الجنسيات، كما في حالة الدواء. من أجل ذلك انعقدت جولة مفاوضات تجارية، على المستوى الوزارى، تُوّجت بما يسمّى "إعلان الدوحة" عام 2001، والذى تقرر من خلاله عقد جولات تفاوضية مكمّلة، بغية التوصل إلى حلول توافقية تراعى مصالح مختلف الأطراف .
بعد اربعة عشر عاماً من المفاوضات غير المنتجة ، تم (تدشين) إخفاق جولة الدوحة عام 2015 ، إذْ لم يتم التوصل إلى اتفاقات ملزمة فيما يتعلق بقضايا (إعلان الدوحة) ، وأصبح المناخ الدولى معبأ بسموم "الحماية التجارية" من كل طرف . فى هذا المناخ المسموم جاء دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية في يناير 2017 ، ببرنامج اقتصادى يقلب رأساً على عقب الالتزام بنظام حرية التجارة ، رافعاً شعار "أمريكا أولاً" . وفى سبيل ذلك قام بسلسلة من الإجراءات والتصرفات ذات الطابع الجذرى: مثل الانسحاب من (اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادى) TPP Trans-Pacific Partnership لاحتواء التوسع التجارى الصينى،علماً بأنه تم تثبيت الاتفاق بين الدول الأعضاء الأحد عشر الآخرين، فى الفترة الأخيرة . وكذلك دعا ترامب إلى إعادة التفاوض حول "اتفاق الشراكة عبر الأطلنطى" ، لمحاولة احتواء القوة التجارية للاتحاد الأوروبى، وخاصة بعد بدء مسيرة الانسحاب البريطانى من الاتحاد الأوربي وفق ما يسمى "بريكست" BREXIT ودع عنك الانسحاب من الاتفاقية الإطارية للمناخ – اتفاقية باريس.
يضاف إلى كل ذلك، دعوة متكررة لمراجعة الالتزامات الأمريكية بتحرير التجارة ، وإلى استعادة المصانع الأمريكية التى تم نقلها فى غمار حركة "انتقال الصناعات" المشار إليها سابقا، منذ السبعينات، بل قام ترامب مؤخراً، فى مناسبة فرض الرسوم على واردات الصلب والألمنيوم، بدعوة الشركات الأجنبية إلى الاستثمار الصناعي داخل أمريكا، فيما يشبه "النقل المعاكس للصناعات" .. ويمثل ذلك تجسيداً لدعوته أثناء الحملة الانتخابية إلى إعطاء الأولوية لمصالح أمريكا و خاصة الشق التقليدي لصناعتها التقليدية، بما ذلك من آثار على العمالة المحلية، وهو ما يترجم من خلال العمل على زيادة معدل التشغيل وخفض البطالة ، إلى جانب التخفيضات الضريبية على الشركات الكبيرة.
فإلى أين من هنا ..؟
هل تندلع حرب تجارية على وقْع الإجراءات الأمريكية الأخيرة ؟ يلفت النظر أن الرئيس الأمريكى قد ربط احتمال الإعفاء من الرسوم الجديدة على واردات الصلب والألمنيوم ، بالعلاقات العسكرية (والسياسية بالطبع) مع (أصدقاء أمريكا). التجارة هنا قرينة السياسة بمعناها الاستراتيجى الأوسع .. إنه إذن "المدخل الاستراتيجى" للتنافسية الهجومية offensive .
و نعلم أنه فى إطار الفكر الاقتصادى الدولى الحديث يقف "المدخل الاستراتيجي" على طرف نقيض مع ما يسمى (المدخل الليبرالى) القائم على حرية التجارة الصرف، والذى يتبناه عادة "المحافظون" فى الولايات المتحدة، بمن فيهم غلاة المحافظين، مثل السيناتور (جون ماكين) المرشح الرئاسى الأسبق – والذى أعلن معارضته القوية لقرار ترامب الأخير بفرض الرسوم ، نظرا لأثره السلبى على حرية التجارة، وكذلك فعل قطاع عريض من "الحزب الجمهوري" الذى ينتمى إله ترامب .
هذا، و لسوف يصب قرار فرض الرسوم فى المجرى العام للسياسة الأمريكية المستحدثة فى إطار (أمريكا المعتزلة) أمريكا الأقوى عسكرياً .. فهل ياترى – يمضى الشوط إلى نهايته ..؟
تميل (الإيكونوميست-8 مارس 2018) إلى القول إن خطوة ترامب هذه ليست فى حد ذاتها بالغة الأهمية، أذ لا تزيد مساهمة واردات الصلب والألومينيوم فى الناتج المحلى الإجمالى للولايات المتحدة عن 0,2% فقط ؛ ولكن الخطورة أن تتبع الخطوة خطوات لاحقة، ثم تتلوها ردود فعل دفاعية من الأطراف المستهدفة وتصب جميعها فى الاتجاه الحمائى بما يتضمنه من احتمال تدمير النظام العالمى لحرية التجارة. ولكن النهاية حينئذ يمكن أن تكون مأساوية على الجميع. و إذا صمد الرئيس الأمريكى فى معركته (النبيلة) حتى آخرها ، الذى هو آخر يوم في مدته الرئاسية الراهنة على الأرجح ، فسيكون للأمر تداعيات أخرى وبدايات أخرى أيضا بعد سنوات ثلاثة ..!
وفي الختام، إننا نتوقع اشتداد النزاعات التجارية في الفترة القادمة، ولكن سيكون هناك عمل على التوصل إلى تسويات متبادلة ذات طابع توافقى ، وإن شابها "التوتر" التجارى و "القلق" – الجيو استراتيجى. ومن بعد التوتر والقلق، من يدرى ؟ فلعله يسود مناخ أكثر "سلمية" ..! بعد ثلاث سنوات. و لننتظر لنرى.

قراءات مختارة
1- حول الحدث والتحليل الخبري ، أنظر :
1-The Rules-based system is in grave danger, Donald Tramp s Tariffs on steel and Aluminum would be Just the start,in : The Economist, March 8Th 2018 .
2- حول الخلفية التاريخية ، أنظر :
- محمد عبد الشفيع عيسى ، " الحمائية التجارية الرأسمالية وأثرها على العالم الثالث”، فى : الفكر الاستراتيجى العربى ، بيروت ، أكتوبر 1991 ، صص 217-432 .
3- أعمال ندوة "التسلح ونزع السلاح والأمن الدولى"، الإسكندرية، 11-12 فبراير (شباط) 2017 ، التى نظّمها المعهد السويدي بالإسكندرية، بالاشتراك مع مركز دراسات الوحدة العربية ، بما فى ذلك :
SIPRI, Fact Sheet, February 2017, Trends in International Transfers, 2016.






وقّع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يوم الخميس 8 مارس 2018 قرار فرض رسوم جمركية على واردات الصلب (بنسبة 15%) و الألمومنيوم (بنسبة 10%) من العالم الخارجي. وقد ذكر في معرض تبرير القرار إن التجارة الدولية (العدائية) دمرت صناعة الصلب فى أمريكا و أن أمريكا تخسر 500 مليون دولار سنويا بسبب التجارة عموما منذ فترة طويلة. هذا علماً بان واردات الصلب والألومنيوم معاً لا تزيد حصتها عن 2% من إجمالى الواردات السلعية الأمريكية للعام الماضى والبالغة فى جملتها 2,4تريليون دولار.
و تضمن قرار فرض الرسوم استثناء المكسيك وكندا حتى يتم إعادة التفاوض فى إطار "منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية" (نافتا). و يبدأ سريان التعريفة الجديدة بعد 15 يوماً من تاريخ إصدار القرار، ويكون فرضها مرتبطاً -جزئياً- بالعلاقات العسكرية مع الدول الأخرى؛ (و سنكون منفتحين على الإعفاء للدول الصديقة) وفق ما قال.
وذكر مسئولون أوربيون (منهم مفوض الشئون المالية فى الاتحاد الأوروبى) أن القرار يمثل اعتداء على نظام التجارة الدولية، مع تهديد بإعمال (ترسانة) كاملة من الإجراءات المضادة المحتملة، وذلك بالنظر إلى أن الاتحاد الأوربي أكبر المتضررين من الإجراء، إذ يصدر قرابة 5 مليون طن من الصلب إلى الولايات المتحدة في السنة، ومنه ألمانيا التي تصدر إلى أمريكا بما قيمته نحو 2 مليار يورو، وفرنسا بحوالي 2,5 مليار يورو. ودعا بعضهم إلى فرض رسوم على الواردات من السلع الأمريكية مثل الدراجات والتبغ والمشروبات الروحية والبرتقال، بالاستناد إلى نصوص اتفاقات "منظمة التجارة العالمية"WTO بما في ذلك المادة 21 من اتفاقية (جات 1994) و يميل الاتجاه الغالب إلى تقديم شكوى في إطار آلية فض المنازعات بالمنظمة المذكورة. وبمثل ذلك تحدث اليابانيون. أما الصينيون فقد نددوا بالقرار بوصفه نذيرا بحرب تجارية، قائلين إن التصنيف الأمريكي للصين كمنافس استراتيجي خاطئ تماما، وذلك في ضوء عمق علاقة الشراكة ذات الطابع التكاملي بين الطرفين.
من الوجهة الأخرى، ونظرا للربط الذي أجراه دونالد ترمب بين الإعفاء من الرسوم والعلاقات العسكرية مع الدول الأخرى، فقد بلغت ميزانية الإنفاق العسكرى للحكومة الأمريكية نحو 700 مليار دولار فى عام 2017 ، مقابل 611ملياراً تقريبا فى عام 2016 بما يمثل 36% من الإجمالى العالمى للإنفاق العسكري.
فهل نحن على أبواب حرب تجارية حقاً، ولماذا تبدأ مثل هذه (الحرب) –إنْ وُجِدتْ- بسلعة مثل الصلب ..؟
لنتذكر هنا أن دونالد ترامب جاء إلى سدّة الرئاسة محمولاً على صهوة جواد أبيض جامح ، إذ اعتمد إلى حد كبير على أصوات العمال الأنجلو سكسون ذوى البشرة البيضاء ، الذين تضرروا جرّاء المنافسة من الدول الأجنبية، وبالأحْرى: من الشركاء التجاريين الكبار للولايات المتحدة الأمريكية وخاصة دول الاتحاد الأوروبى ، واليابان ، والصين، و دول (نامية) عدة في مقدمتها كوريا الجنوبية. فقد انتقل شطر واسع من الصناعات التقليدية (الأمريكية) منذ سبعينات القرن المنصرم من عقر دار أمريكا إلى بلدان أخرى ، تنخفض فيها تكلفة الإنتاج نسبياً ، أو تتوفر لديها ميزات تنافسية قوية بفعل عوامل أخرى .. وكانت حركة (انتقال الصناعات) جزء من عملية أوسع للتحول الهيكلى الكبير فى الاقتصادات المتقدمة ، بما فيها الاقتصاد الأمريكى ، قصد مزيد التركيز على الصناعات الخدمية للتكنولوجيا العالية (هاى تك) فى قطاعاتها البارزة ، اتصالاً بما يسمى بالثورة الصناعية الثالثة فالرابعة أو "التحول الرقمى". من أجل ذلك تخلت أمريكا ، أو (تخففت) من بعض صناعاتها ذات تكلفة العمالة المرتفعة إلى حيث (الأجور المنخفضة) أو (العمالة الرخيصة) فى شرق آسيا ، أو تلك (الملوثة للبيئة) . كما تركت المجال لشركائها للتوسع فى صناعات (الثورة الصناعية) الأولى والثانية والثالثة أيضا ، ابتداء من الحديد إلى شرائح السيليكون الرقيقة. كان ذلك، من الجانب الآخر، جزء من لعبة دولية أوسع فى عصر (الحرب الباردة) بين القوتين العظميين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى) – عصر "القطبية الثنائية" - التى صاحبها اشتداد الحرب "الساخنة" منذ الخمسينات والستينات (فيتنام ...الخ) على وقع حرب أيديولوجية معلنة بين منظومة التفكير الرأسمالى "الحر" ، ومنظومة التفكير "الاشتراكى" تحت راية (الشيوعية) وخاصة من طرف الروس والصينين بطرق مختلفة ، برغم نزاعهما العقائدى المشهود.
كان تزويد الشركاء الرئيسيين فى الحرب الساخنة والباردة والعقائدية، من طرف أمريكا، بأسباب القوة الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية، جزءً من "اللعبة الكبرى" آنئذ . ومن هنا انبثق نموذج إنمائى كامل سمّى بنموذج النمو المدفوع بالصادرات، ابتداء من اليابان بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية، وخاصة منذ 1957 (..... التنمية السريعة)- اتصالا بالبلدان الآسيوية التى اقتفت أثر اليابان متنبعة نموذجها الإنمائى – التصديرى ، القائم– فى البدايات – على أساس استغلال (ميزة العمل الرخيص) . هذه هى عملية تعميم النموذج اليابانى فى التنمية Japanization . وصبرت أمريكا طويلاً على شركائها الآسيويين، و قد نمت صناعاتهم سواء فى المجال التقليدى (المنسوجات والملابس) أو فى المجال غير التقليدى (الأجهزة الكهربائية والالكترونية) وكذلك صناعات الصلب و بناء السفن.
فتحت أمريكا أبوابها مشرعة منذ النصف الأخير للستينات ، مروراً بالسبعينات وحتى أوائل الثمانينات ، أمام السلع الواردة من آسيا الشرقية .. اليابان ومعها الدول السائرة على النموذج اليابانى سواء من "الجيل الأول"- كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة ومقاطعة هونج كونج الصينية ، أو من "الجيل الثانى"- تايلند والفلبين وخاصة ماليزيا.
ثم كان لحاق الصين بسائر آسيا الشرقية منذ مطلع السبعينات على يد خليفة ماوتسي تونج – "غير الماوتسى" – دينج هيسياو بينج، الذى نفذ – بالاشتراك مع الرئيس الأمريكي نيكسون – العملية الكبرى للانفتاح المتبادل، مع فتح الأبواب على أوسع مصاريعها – فى الصين – أمام الاستثمارات الأمريكية والأوروبية. ثم فى المقابل فتح الأبواب على مصاريعها – فى أمريكا – أمام الصادرات الرخيصة من السلع التقليدية و "فوق التقليدية" القادمة من آسيا الشرقية بمعناها الواسع : اليابان و (اليابانيون) الآخرون، بمعنى ما ، والصين . وكذلك حدث من طرف الاتحاد الأوروبى المتوسع فى حقبة ازدهار مشروعه الاندماجي الاقتصادي والسياسي، عبر مسيرة التطور الدائبة : من جماعة أوروبية للفحم والصلب فى أواسط الخمسينات ، إلى مشروع سوق مشتركة فى إطار "الجماعة الأوروبية" فى الستينات والسبعينات والثمانينات ، ثم "السوق الواحدة" فى مطلع التسعينات ، والاتحاد النقدى وتوحيد العملة (اليورو) باستثناء بريطانيا في مطلع الألفية– ومن ثم إعلان قيام (الاتحاد الأوروبى) .
ولكن عند انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991 و الإطاحة بمنظومة القطبية الثنائية، أطل عصر "القوة العظمى الوحيدة" Lonely super power بعد سبق تمهيد كثيف خلال إدارة الرئيس الأمريكى رونالد ريجان طوال حقبة الثمانينات.
و مع عملية انهيار القطبية الثنائية وشحوب حرب الباردة، خلال الثمانينات، أخذت الولايات المتحدة فى انتهاج شبه حرب تجارية صوب شرائها الآسيويين والأوروبيين عبر ما يسمى بالحمائية الجديدة . كانت تلك الحمائية الأمريكية بالذات – فى الثمانينات ، ومطلع التسعينات – قائمة على استخدام سلة أدوات غير مجربة كثيراً ، تسمى بالأدوات غير الجمركية مثل ما كان يسمى "قيود التصدير الاختيارية" التى تفرض على الشركاء، والتشدد فى المواصفات التقنية والبيئية والمهنية والصحية، وفرض رسوم الإغراق و "فيضان الواردات" . واستغلت أمريكا فى ذلك، النصوص (المطاطة) فى اتفاق التعريفات والتجارة (الجات) لعام 1947 وخاصة ما يسمى (نص التخلص من الالتزام بتحرير التجارة) بدعوى "المصلحة الوطنية". علما بأن إدارة ترامب قد استندت أخيرا إلى قانون أمريكى قلما تم اللجوء إليه، يسمح للرئيس بحماية الصناعة المحلية بحجة الأمن القومى( القسم 232 من القانون التجاري الأمريكي لعام 1962)، وذلك برغم أن معظم واردات الصلب تأتي من دول حليفة لأمريكا ولا تشكل تهديداً للأمن القومى ، وهى كندا والاتحاد الأوروبى والمكسيك وكوريا الجنوبية.
وعودة إلى ما سبق، فإنه لما بدأ السحر ينقلب على الساحر، أواخر الثمانينات من القرن المنصرم، شرعت الولايات المتحدة فى البحث عن مخارج من تهديد الحرب التجارية المتبادلة تحت ظل " الحمائية الجديدة" – ومن ثم بدأت جولة موسعة من المفاوضات التجارية متعددة الأطراف فيما سمى بجولة أوروجواى منذ عام 1986 .
وبعد مفاوضات شاقة تم التوصل إلى معالم نظام تجارى جديد يحقق للجميع – الكبار خاصة- مزايا مشتركة من خلال فتح الباب أمام حرية التجارة المتبادلة على أوسع نطاق ، بما فيها حرية الاستثمار، وتنظيم حقوق الملكية الفكرية وفق القياس المناسب لحرية الحركة للشركات عابرة الجنسيات فى نقل التكنولوجيا .
حينئذ تهيأ المناخ –بعد لأْي – لعقد اتفاق إقامة منظمة التجارة العالمية أو"اتفاقية مراكش" لعام 1994. و مع الاتفاق الأساسى لإقامة هذه المنظمة الدولية الجديدة، عقدت سلسلة من الاتفاقات فيما سمى (الجات الجديدة) أو (جات 1994) فى مجالات:السلع الزراعية، و الألياف والمنسوجات، وتجارة الخدمات ؛ واتفاقية الاستثمار ، واتفاقية الملكية الفكرية – ذائعة الصيت (تريبس) .
كان تحرير التجارة أهم معالم النظام التجارىّ المنبثق، مع نصوص بتخفيضات جمركية متدرجة، واستثناءات وإعفاءات للدول النامية بالذات، مع السماح بفرض رسوم جمركية فى حالات الضرورة وخاصة: حالة الإغراق أى الخفض المتعمّد لأسعار السلع المصدرة إلى دول أخرى – وحالة "فيضان الواردات" الذى يعنى بالتوسع الكمّي غير الاعتيادي فى أحجام الواردات، بما يهدّد فى الحالتين بالإضرار بالصناعات والقطاعات المحلية .
وتم النص بصفة خاصة على تقييد أو تقنين "الحواجز غير الجمركية" على التجارة مثل دعم الإنتاج المحلى والصادرات، بالإضافة إلى جداول بالخفض المتدرج للتعريفات الجمركية على التجارة وفق التعهدات المقدمة من الدول الأعضاء. كما تمت العناية بتحرير تجارة الخدمات – خدمات النقل والخدمات المالية والسياحة ..إلخ . أما فى حالة التضرر من تحرير التجارة من قبل طرف أو عدة أطراف، فقد تضمنت الأحكام المنظمة للتجارة، نصوصا تبيح تقديم الشكاوى، ووضعت آلية قانونية وقضائية لفض المنازعات التجارية.
ولكن .. مرة أخرى .. تأكد أن حرية التجارة تلعب دائما فى صالح الطرف الأقوى فى مباراة العّدْو السريع ، والذى يبدأ من النقطة الأقوى فى السباق (غير المتكافىء) . لذلك بدأت الدول النامية – بقيادة الهند والبرازيل – بالمطالبة بمراعاة حقوقها إزاء الأطراف الأكثر تقدماً، وخاصة من حيث حماية السلع الزراعية للدول النامية من طوفان الدعم الذى تتمتع به السلع المصدَرة من دول الاتحاد الأوروبى خاصة، بالإضافة إلى ضرورة وضع ضمانات لنقل التكنولوجيا إلى الدول النامية فى وجه الممارسات الاحتكارية للشركات عابرة الجنسيات، كما في حالة الدواء. من أجل ذلك انعقدت جولة مفاوضات تجارية، على المستوى الوزارى، تُوّجت بما يسمّى "إعلان الدوحة" عام 2001، والذى تقرر من خلاله عقد جولات تفاوضية مكمّلة، بغية التوصل إلى حلول توافقية تراعى مصالح مختلف الأطراف .
بعد اربعة عشر عاماً من المفاوضات غير المنتجة ، تم (تدشين) إخفاق جولة الدوحة عام 2015 ، إذْ لم يتم التوصل إلى اتفاقات ملزمة فيما يتعلق بقضايا (إعلان الدوحة) ، وأصبح المناخ الدولى معبأ بسموم "الحماية التجارية" من كل طرف . فى هذا المناخ المسموم جاء دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية في يناير 2017 ، ببرنامج اقتصادى يقلب رأساً على عقب الالتزام بنظام حرية التجارة ، رافعاً شعار "أمريكا أولاً" . وفى سبيل ذلك قام بسلسلة من الإجراءات والتصرفات ذات الطابع الجذرى: مثل الانسحاب من (اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادى) TPP Trans-Pacific Partnership لاحتواء التوسع التجارى الصينى،علماً بأنه تم تثبيت الاتفاق بين الدول الأعضاء الأحد عشر الآخرين، فى الفترة الأخيرة . وكذلك دعا ترامب إلى إعادة التفاوض حول "اتفاق الشراكة عبر الأطلنطى" ، لمحاولة احتواء القوة التجارية للاتحاد الأوروبى، وخاصة بعد بدء مسيرة الانسحاب البريطانى من الاتحاد الأوربي وفق ما يسمى "بريكست" BREXIT ودع عنك الانسحاب من الاتفاقية الإطارية للمناخ – اتفاقية باريس.
يضاف إلى كل ذلك، دعوة متكررة لمراجعة الالتزامات الأمريكية بتحرير التجارة ، وإلى استعادة المصانع الأمريكية التى تم نقلها فى غمار حركة "انتقال الصناعات" المشار إليها سابقا، منذ السبعينات، بل قام ترامب مؤخراً، فى مناسبة فرض الرسوم على واردات الصلب والألمنيوم، بدعوة الشركات الأجنبية إلى الاستثمار الصناعي داخل أمريكا، فيما يشبه "النقل المعاكس للصناعات" .. ويمثل ذلك تجسيداً لدعوته أثناء الحملة الانتخابية إلى إعطاء الأولوية لمصالح أمريكا و خاصة الشق التقليدي لصناعتها التقليدية، بما ذلك من آثار على العمالة المحلية، وهو ما يترجم من خلال العمل على زيادة معدل التشغيل وخفض البطالة ، إلى جانب التخفيضات الضريبية على الشركات الكبيرة.
فإلى أين من هنا ..؟
هل تندلع حرب تجارية على وقْع الإجراءات الأمريكية الأخيرة ؟ يلفت النظر أن الرئيس الأمريكى قد ربط احتمال الإعفاء من الرسوم الجديدة على واردات الصلب والألمنيوم ، بالعلاقات العسكرية (والسياسية بالطبع) مع (أصدقاء أمريكا). التجارة هنا قرينة السياسة بمعناها الاستراتيجى الأوسع .. إنه إذن "المدخل الاستراتيجى" للتنافسية الهجومية offensive .
و نعلم أنه فى إطار الفكر الاقتصادى الدولى الحديث يقف "المدخل الاستراتيجي" على طرف نقيض مع ما يسمى (المدخل الليبرالى) القائم على حرية التجارة الصرف، والذى يتبناه عادة "المحافظون" فى الولايات المتحدة، بمن فيهم غلاة المحافظين، مثل السيناتور (جون ماكين) المرشح الرئاسى الأسبق – والذى أعلن معارضته القوية لقرار ترامب الأخير بفرض الرسوم ، نظرا لأثره السلبى على حرية التجارة، وكذلك فعل قطاع عريض من "الحزب الجمهوري" الذى ينتمى إله ترامب .
هذا، و لسوف يصب قرار فرض الرسوم فى المجرى العام للسياسة الأمريكية المستحدثة فى إطار (أمريكا المعتزلة) أمريكا الأقوى عسكرياً .. فهل ياترى – يمضى الشوط إلى نهايته ..؟
تميل (الإيكونوميست-8 مارس 2018) إلى القول إن خطوة ترامب هذه ليست فى حد ذاتها بالغة الأهمية، أذ لا تزيد مساهمة واردات الصلب والألومينيوم فى الناتج المحلى الإجمالى للولايات المتحدة عن 0,2% فقط ؛ ولكن الخطورة أن تتبع الخطوة خطوات لاحقة، ثم تتلوها ردود فعل دفاعية من الأطراف المستهدفة وتصب جميعها فى الاتجاه الحمائى بما يتضمنه من احتمال تدمير النظام العالمى لحرية التجارة. ولكن النهاية حينئذ يمكن أن تكون مأساوية على الجميع. و إذا صمد الرئيس الأمريكى فى معركته (النبيلة) حتى آخرها ، الذى هو آخر يوم في مدته الرئاسية الراهنة على الأرجح ، فسيكون للأمر تداعيات أخرى وبدايات أخرى أيضا بعد سنوات ثلاثة ..!
وفي الختام، إننا نتوقع اشتداد النزاعات التجارية في الفترة القادمة، ولكن سيكون هناك عمل على التوصل إلى تسويات متبادلة ذات طابع توافقى ، وإن شابها "التوتر" التجارى و "القلق" – الجيو استراتيجى. ومن بعد التوتر والقلق، من يدرى ؟ فلعله يسود مناخ أكثر "سلمية" ..! بعد ثلاث سنوات. و لننتظر لنرى.

قراءات مختارة
1- حول الحدث والتحليل الخبري ، أنظر :
1-The Rules-based system is in grave danger, Donald Tramp s Tariffs on steel and Aluminum would be Just the start,in : The Economist, March 8Th 2018 .
2- حول الخلفية التاريخية ، أنظر :
- محمد عبد الشفيع عيسى ، " الحمائية التجارية الرأسمالية وأثرها على العالم الثالث”، فى : الفكر الاستراتيجى العربى ، بيروت ، أكتوبر 1991 ، صص 217-432 .
3- أعمال ندوة "التسلح ونزع السلاح والأمن الدولى"، الإسكندرية، 11-12 فبراير (شباط) 2017 ، التى نظّمها المعهد السويدي بالإسكندرية، بالاشتراك مع مركز دراسات الوحدة العربية ، بما فى ذلك :
SIPRI, Fact Sheet, February 2017, Trends in International Transfers, 2016.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نواب في الحزب الحاكم في بريطانيا يطالبون بتصنيف الحرس الثوري


.. التصعيد الإقليمي.. العلاقات الأميركية الإيرانية | #التاسعة




.. هل تكون الحرب المقبلة بين موسكو وواشنطن بيولوجية؟ | #التاسعة


.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة علما الشعب جنوبي لبنان




.. المتحدث باسم البنتاغون: لا نريد التصعيد ونبقي تركيزنا على حم