الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اسمها غضب-1-

نادية خلوف
(Nadia Khaloof)

2018 / 5 / 27
الادب والفن


مهداة إلى تلك الفتاة السّمراء ذات الشعر الأسود التي تقف خلفي تتلصّص علي ما أكتب ، أو حتى على ما أفكر به. أشعر بأنفاسها تصعد من رأس قلمي، وعندما يشتد تأفّفها ينكسر الرّأس، وأتوقف عن الكتابة للحظة ، أضطر إلى استعمال المبراة، مبراتي من النوع الرّديء المتخصص بإعادة كسر رؤوس الأقلام مع أنّني تقصّدت أن أشتريها بسعر غال ، وعلى كفالة البائع. أستمرّ في البري وينتهي المطاف بالقلم أن يتحوّل إلى قطعة صغيرة. أزرع القلم الصغير في حديقة المنزل وأحلم أن يصبح لديّ شجرة أقلام رصاص، لو نجحت الفكرة سوف أزرع أقلام تلوين، وأقلام حبر.
لم تترك غضب الفرصة لي كي أفكّر أين سوف أدفن رفات القلم علّها تصبح شجرة، وعندما يصبح لدينا مزرعة أقلام لن أتجاهل فكرة غضب التي أشارت لي بها وهي تمطّ رقبتها خلف كتفي: بأن يكون قرب الأشجار بئر ماء ، بئر للبزر ،وآخر للعلكة . هذه الأشياء التي تفتقدها حسب قولها.
مهداة إلى أخوات غضب الشقيقات . ختام ،كفى . نقمة. مصائب، نهاية، وتانية
. . .
نحن الآن في عام 2030 ،وأنا أقف الآن على مشارف قرية أم الفقراء الواقعة على ضفة نهر الهموم-بردى سابقاً- في سورية. لم أكن أعرف أن اسم القرية قد تغيّر بعد الحريق الذي اجتاحها. رأيت يافطة كتب عليها: " أم الكرم ترحبّ بكم"
غضبت منها – أعني من غضب- وقلت لها: تتدخلين في كل شاردة وواردة. لماذا لم تقولي أن اسم القريّة قد تغيّر؟ وأن ملامح المكان أصبحت لا تمتّ إلى الحياة بصلة؟ عندما كان اسم قريتكم "أم الفقراء" كانت تحنو على الجميع، والآن لا أرى فيها شيئاً إلا السّواد.
-عندما جلبتني إلى هنا أغمضت عينيّ كي لا أرى ذلك السّواد، خفت أن أنظر إلى السّماء، وأرى الغيمة السّوداء تمطر قطراناً. أو تلومينني ؟ لازلت في العاشرة، وأنت تكتبين قصّتك عن الحياة والأمل. تؤنبينني وكأنّني أنا المسؤولة عن هذا الدّمار. لماذا لا تكونين أنت وأبناء جيلك المسؤول عما حلّ بقريتنا.
-حسن. دليني على طريق الياسمين. سوف أسحب لي صورة فيه، وأكتب عن طريق الياسمين ، وبعدها نذهب إلى بيتكم.
-نحن الآن في حديقة منزلنا، وعلى مقربة من كتفك يقع بيتنا. هو تلك القبة القصيرة.أما الياسمين فهي كذبة جميلة تشدّق بها شاعر تحدّث عن الحبّ كي يغيظ زوجته، وأتى الغرباء إلى أمّ الفقراء، وكانوا يسمعون بالياسمين ولا يعرفونه فقلدوا الشّاعر. هكذا قالت لي جدتي أم أبي، وأضافت: أنّنا جميعاً كنّا نزرع الياسمين والعسلية والورد الجوري، لكن الغرباء لم يتركوا لنا حدائق نزرعها، وكانت تحتفظ بياسمينة في أصيص، عرفتني يومها على الياسمين. قلت لها. هذه الأشجار موجودة في كل العالم، وليس في أمّ الفقراء فقط.
اعتقدت أنّ غضب تمازحني، فقد زرت القرية في الماضي وكان فيها بيوت عاديّة، لكنّها ليست واطئة .حمد ابن القرية المجنون يقول:" هو غضب من الله، وهذا شيء ما يشبه الطير الأبابيل، رمى علينا ناراً فأحرقت الأخضر واليابس. خرج سكان القرية منها، ولم يستقبلهم أحد فعادوا وبنوا بيوتاً بدائية، وبعضهم اكتفى بحفر حفرة عميقة والمبيت فيها، وهو يحمد الله على النّعمة التي هو فيها، وهذا أيضاً عقوبة على الفجور في قريتنا"
استطاعت أمّ غضب أن تبني غرفة صغيرة على شكل قبّة، ومع أن بناء القبة ليس سهلاً فعليها أن تصنع الطين المتماسك وتديره حول الدائرة ثم تختصره بالتّدريج إلى أن يبقى في آخره فتحة صغيرة تزيّنها بحجرة، ولا تنسى ان تصنع الطاقات في القبة من أجل الصيف، وأن تصنع حفرة صغيرة في وسطها تستعملها لحرق الحطب في الشتاء، وبما أنّه لا يوجد حطب ولا أشجار، فقد كانت تجمع بعض ما تذروه الرّيح حتى لو كان عظام كلب، أو بشر، فالشتاء قارس، والحياة تميل نحو السّواد، وعليها أن تكفل استمرار حياة بناتها السّبعة. علّ وعسى واحدة منهنّ تجد حلاً لجميع العائلة لو تزوجت في الخامسة عشر مثلاً لعجوز وافد يطلب تجديد شبابه، لكنّها تخشى أن يكون العجوز طالب متعة بالمجان هذا ما أخبرتني به غضب. قالت لي: أنت كاتبة يمكنك أن تثيري شفقة ثري حولي حتى لو كان من بلاد الواق واق. لا بأس أن يتزوجني لعام واحد. أرغب أن أبني بيتاً لأمي وإخوتي في مكان بعيد عن ذلك المكان.
عندما كانت أم غضب شابّة عازبة كان اسمها بدرة، وبعد أن تزوجت أصبح اسمها أم محمد الفقير، والفقير هي كنية زوجها، ومحمد هو اسم والد زوجها ، ولا شكّ أن الموضوع سوف يكون صعباً إن لم يأت الصبيّ محمد إلى هذا العالم، فمن سوف يحمل اسم عائلة آل الفقير؟
تحتج غضب الآن وهي تستند إلى كتفيّ، وتمدّ رأسها إلى صفحة الكمبيوتر التي أكتب عليها، وتقول لي: اكتبي بقلم الرصاص. نسيتُ صوتي فيه، أومئ لها أنه فيما بعد. فتصرخ وتحتجّ :
لا تتحدّثي عن أمّي .هي لا تعرف ماذا حلّ بها، هي ضائعة، أنا غضب ابنتها السّابعة أتيت بعد سبع سنوات من زواجها. أختي ختام هي الخامسة، وكفى هل السّادسة، وأمي حامل كي تنجب أخي محمد لأنّ أبي غاضب منها لأنّها تنجب البنات. عندما يأتي رؤساء الأحزاب الخمسة -الموجودين في قريتنا التي يقيم فيها فقط أربع عائلات، -إحدى العائلات زوجت ابنها فأسس حزباً جديداً- إلى بيتنا يقول لهم: نحن في عصر لا فرق فيه بين الفتاة والصّبي، يدلّلنا أمامهم، وعندما يذهبون يقول لأمّي إن لم تنجبي لي صبياً قبل بلوغك الأربعين من حقّي أن أتزوج. من سوف يرثني إن لم تنجبي ولداً ذكراً؟ لا زالت أمّي في السابعة والثلاثين .
في إحدى المرات صرخت أمي في وجهه. تزوج وخلّصنا من هذا الكابوس ، لكن لا أحد سوف يرثك. لأنّك من آل الفقير، وهذه العائلة لم تورث أحداً من أبنائها سوى الفقر.
.. .
قاطعتني غضب لأنّني لم أكتب عن بؤسها، ولم أستدعي شيخاً كي يتزوجها. تنظر لي كمسّوق. أحياناً أعتقد أنّها على صواب. أحاكم نفسي: لماذا أكتب، ولمن؟
وأفتح صفحات أقرأ فيها بلغات أخرى. يا للخيبة! كل تلك الصّفحات لا تتحدث عن جسد المرأة كخطيئة، أو كشهوة. تتحدّث عن الرّغبة المشتركة قد تكون بين ذكر وأنثى يتمتّعان معاً بلحظة، أعود لأقارن ما كتب لديهم، مع ما كتب لدّينا. يفاجئني أحد مفكرّي ثورة وضع الكثير من أبناء أم الفقير ثقتهم به، فإذ به يستعمل لفظ النّكاح كإهانة فيقول مرّة عن أعدائه لقد نكحوهم،
وآخر يعلّق عليه بألفاظ جنسية تخصّ جسد المرأة، وداعية يتحدث عن الحلال والحرام، وكلّه تلبسه امرأة ويكون له فيلم بورنو. يتناقله ثوري. يشارك الدّاعية ألفاظه الجنسية على أساس معارضتها.
أهرب إلى صومعتي، ويداي ترتجفان من الخوف أن يتبعني رجل من أيّ صنف من الصفحات التي تابعتها، أغلق باب الصّومعة، أقرأ عن محبّان تركا لنفسهما الفرصة أن يمارسا الحبّ أمام الطبيعة، ويتماهى جسديهما معها في لوحة جميلة. تصفّق الأزهار لهما، وتموء القطط، وتنزل قطرات الندى، يغنّي الجميع حالة حبّ أخرى ليس فيه اسم النكح، ولا رموز الشّرف أو الخطيئة. إنّه الحبّ الذي بحثت عنه، وسوف أبقى أحلم به.
. . .
أنفاس تحرق رقبتي. هي ليست أنفاس حبيب يرغب أن يشمّ بعض عطري, إنّها أنفاس غضب. يبدو أنّها التصقت بي وأصبحت جزءا منّي.
أرمي بالقلم بعيداً عنّي. علّ الأنفاس ترحل معه، لكن هيهات!
غضب هذه التصقت بي ، تكبر معي، أريد انتزاعها، أرغب أن ترحل بعيداً. أتراجع، وأنظر إليّ في ظل شجرة محروقة. أراها كنبتة صغيرة ترافقني، وإن لم ترافقني يكون ظلّها ظلّي.
هكذا أنا كلّما سعيت إلى الحرّية يمسك بعقلي شخص ما، أو فكرة ما تخضعني لها، لكنها المرّة الأولى التي تخضعني فيها طفلة اسمها غضب، ولا أعرف إن كبرت غضب هل يمكن أن أكون جزءاً منها أم سوف تمنحني حرّيتي؟
فيمكان متفحّم من قرية أم الفقراء. زرعت أنا وغضب على كتفي شجرة صبّار. حفرت بأظافري الأرض اليباب، وفجأة رأيت الأرض تنزّ ببعض الماء، ضحكت غضب، نزلت. شاركتني زراعة الشتلة الطّفلة، وضعت على الشّجرة علامة، وسخرت غضب من فكرتي. قالت: عندما يكبر الأطفال تزول العلامات عنهم لأنّ أجسادهم مرنة، وأشارت إلى شجرة وحيدة في المكان. حولها تراب محروق. نظّفناه، وكتبنا عليها بالسّكين: إلى الجهة اليمنى تعيش الصّبارة الطفلة غضب. عندنا بعد فترة، فإذ بالإشارة على الصبّارة قد اختفت، وإذ بالإشارة على الشجرة الأخرى قد ظلّت.
قالت لي: لا تصدّقي ما تقرئين، فالطفولة مرحلة مرنة قد تمر دون انعكاسات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن