الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لايموت الصبار عطشا /رواية (من حكايات انتفاضة اذار 1991 )الفصل السابع

ذياب فهد الطائي

2018 / 5 / 29
الادب والفن



الفصل السابع


ذرات الرمل المتطايرة من سطح " اللوري " تتسلل الى أجساد الركاب الواقفين يستند أحدهم على الآخر كلما أهتز" اللور ي " وهو يجتاز الحفر التي خلفتها الدبابات على الشارع الاسفلتي النازل الى الكوت .
كان نهارا ربيعيا جميلا ... على الجانب الايسر كانت مزارع الحنطة تمتد زاهية ، سيقانها الخضراء تتماوج تحت أشعة الشمس فيما راحت عصافير نزقة تطارد مئات الفرا شات الملونة التي تتدارى بالزهور البرية، على الجانب الايمن بساتين تفتحت عن طلع لايزال حليبا تحتضنة أشجار النخيل التي تعد برطب جني، الربيع لم يهجر العراق .
على سطح "اللوري" كان الركاب منكفئين على همومهم يبحثون خصوصياتهم بحذر كي لا تفصح سحناتهم عن شيء ، من يدري قد يستطيع احد ما الدخول الى ما يفكرون به ‍‍ ..."الاخرون" أخطبوط تمتد مجساته بكل الاتجاهات ... السلامة في ألا تفكر ... لاتناقش نفسك حتى بالصمت الاخرس لقد تعلموا ذلك بالتجربة .
تطلع في الوجوه عله يتعرف على شخص ما ، على شيء مختبئ في عمق العيون ، على فكرة ما قد تطفو على النظرات الحزينة والمقهورة ... هل بإمكانهم أن يضحكوا ... حسنا .. أن يبكوا ... ربما هم مستعدون لذلك ولكن الوقت قد لايكون مناسبا وبالتالي توجه لهم تهمة ما ‍‍‍‍‍‍‍!! ربما تهمة الاساءة , تذكر قصة الألماني الذي ضحك بصوت عال يوم وفاة أم الزعيم فسجن لانه لم يشارك الشعب بالمصاب الاليم !! يوم خروجه من السجن وقف على الجسر ... طويل اللحية رث الملابس يبكي ماضاع من عمره ... سجن أيضا لانه لم يشارك الشعب بفرحته بعيد ميلاد الزعيم ... الفصول تتعاقب والدنيا تتغير إلا الزعيم .
قال السائق ـ الكوت ، هل من يرغب بالنزول ؟
توقفت السيارة عند مدخل الشارع المتفرع من الشارع الرئيس ... نزل معه إثنان .. كانت وجوههم تحمل طبقة من الاتربة وتحولت الاجفان الى خطوط سريالية ... لم يتكلم احد منهم ... شعر بالخوف وهو لايجد غير الصمت الثقيل يطبق على كيانه .
كانت تقف على مدخل الشارع النازل للمدينة دبابتان ، جلس فوقهما بضعة جنود لم يكلموهم ،كانت نظراتهم لامباليه .. أحس أنها جزعة تعبر عن نفاذ الصبر .. لم يشعر أنهم قد التفتوا الى الربيع الملقى أمامهم على امتداد الشارع.
المدينة خالية تقريبا الا من بعض المارة الذين يقطعون الشارع الرئيس ... من الواضح أنهم يتجنبون المشي وسط الرصيف الواسع ، فهم يسلكون الممر المحاذي للحائط ... كان يرين على وجوههم صمت مترقب يعطي لنظراتهم هدوء الانتظار ... وسط الساحة التي حولتها مياه الامطار الى بركة، تنتصب جدارية كبيره ملونة عليها صورة ربما ثلاثة امثال الحجم الطبيعي .. كانت الملابس العسكرية تزدان بأوسمة ونياشين ، وتمنح الجدارية الشارع والمارين والنائمين في بيوتهم إبتسامة عريضة ، شامتة تحاول أن تداري لؤما غريزيا مزروعا في القسمات .
على الكورنيش المحاذي لدجلة في الجهة المقابلة للجسر كانت مديرية المخابرات ... بناية كبيرة على مبعدة عدة أمتار منها لافتة كبيرة مثبة على عارضة خشبية "" ممنوع السير على هذا الجانب ""
أمام الباب الرئيس أربعة جنود مسلحين بالرشاشات ، على السطح وضعت أسلاك شائكة تحوطا من قيام بعض المتسللين بالصعود .
على الأركان فوق السطح صفت أكياس رمل كساتر لحماية الجنود الذين يقفون خلف رشاشات ثقيلة ... على الباب " بوستر " ملون ، كان يداعب طفلا ويقسر نفسه على ابتسامة حاول أن يجعلها ودودة ... كان الطفل متشنجا يحس بثقل وطأة الكف على رأسه ويبدو إن المصور وأمه يلوحان له ليبقى ثابتا وأن تظل الابتسامة البريئة على وجهه ... هذا عمو حتى وإن كانت يده ثقيلة و معروقة ... عليه أن يكون شجاعا ويبتسم .
ساحة وقوف السيارات على الجانب الاخر ، الجسر ... دمّر مساراته صاروخ اطلقته احدى طائرات الحلفاء التي الحقته بقذيفة اخرى جعلته ينتكس معلنا أن لا مرور... من يحاول فعلى مسؤليته !! الطائرات لم تستهدف مديرية المخابرات رغم إنها كانت تطلق النار من مدافعها الرشاشة و من جهاتها الاربع وكانت هدفا سهلا ! لماذا تظل الاسئلة حائرة ... متى سيأتي الجواب ؟
كان دجلة لايحييه أحد ... غاضبا كئيبا ولكنه صامت .. المويجات الصغيرة تعبّر عن رفض مكتوم ، حمل الجثث مكرها ، وزّعها على البدعة و الكحلاء والمشرح ، واخيرا خص شط العرب بالحصة الكبرى ،لم يكن يرغب بهذه الحمولات ولكنه كان مقهورا ، مشى متثاقلا ، كان هو أيضا يطوي جانحيه على همومه ، يخشى أن يحملوه الى أرض اخرى كما حملوا نخيل البرحي من بساتين البصره ، يخشى أن يصبح عقيما بعد ذلك كما هو نخيل البصرة في مواقع الاعتقال !!
كانت ساحة وقوف السيارات خالية من أية سيارة . مجوعات كبيرة من الراغبين بالسفر ينتظرون ، كانوا واجمين ، بعض الرجال يدخنون بحرقة وكأنهم يعوضون الألم والإحساس بالعجز ، بعضهم الاخر كان يدخن لقتل الوقت ومداراة البرد .
ـ متى غادرت آخر سيارة ؟
سأل خالد رجلا كان يقف مراوحا ، امرأته ترضع طفلا ويغفو الاخر بحجرها .
ـ وهل غادرت أول سيارة!!
كان الجواب مراوغا ولكنه ينضح بالسخرية المرة لم يكن خالد هو ا لمعني بها، لقد فهم ذلك و قدر أن الرجل متعب أنهكه الإنتظار الطويل والبرد ولجاجة الأطفال .
تابع الرجل ـ قضينا اكثر من عشر ساعات بالإنتظار ... لا أحد يدري متى يلوح الفرج ... اننا ندفع جزاء ما فعلناه ... علينا أن نتوقع الاسوء !!
لم يعلق بشيء أحس أن هذا الاستسلام هو الذي سيأتي بالاسوء ، لماذا تعتمد ثقافتنا على عقدة الذنب الموروثة ... ترك الرجل وسار الى الجانب الاخر ، كانت مجموعة من الشباب تصغي الى مذياع يحمله أحدهم ... كان المذيع يقدم تحليلا سياسيا معطيا صوته اقصى مايملكه من التفخيم ، بنطق العبارات دون أن يهتم بما قد يسببه ذلك من أذى لحباله الصوتية ، وهكذا أيها الاخوة المستمعون سنظل " نلعب " دورا رئيسا على المستوى الاقليمي والعربي والدولي .
لاحت على وجهه ابتسامة غارقة بالمرارة ، نعم " ستلعبون " انه اللعب العبثي , لعب المأساة التي لاتبدو نهايتها قريبة ... انكم لاتؤدون عملا ولكن تلعبون !!
عاد ثانية يتجول في الساحة يتطلع في الوجوه المتعبة التي أمضها الإنتظار والترقب ... صرخ طفل أنه جائع ... حاولت الام اسكاته بكسرة خبز ... قال رجل يشتم إمراته ... وأخيرا ماذا سأفعل!! إرتفع صوت المذياع بأغنية راقصة ، بدى الإيقاع السريع نشازا، قال شاب لزميله.... ليس وقته، أنصت .... الحركة غير عادية ، ماذا يحصل ؟
على الجانب الاخر بدأ يسمع بوضوح صوت اطلاقات متفرقة ... شاهد الجنود على بوابة مديرية المخابرات يدخلون بسرعة ... انصفق الباب الحديد وراءهم على نحو صاخب سمع في الكراج ، كانوا عجلين ،استفز هذا المتجمعين في الساحة ، اشرأب بعضهم يستطلع وتحرك البعض نحو الجسر .
بإمتداد الشارع المتعامد مع الجسر بدأ يشاهد حشد من الناس ... كتلة بشرية متراصة تتقدم وهي تكبر .
أطلق الجنود من على السطح زخات من الرشاشات الثقيلة ... تحولت الزمجرة المبهمة الى أصوات مختلطة غاضبة وهي تقترب .. عبر الجسر ... أيقن أنه لن تأت سيارة بمثل هذا الوضع وانه يتحرق لمشاهدة ميلاد انتصار الناس ولو لمرة واحدة !! كانت نسوة يحملن اطفالهن فزعات يركضن بأتجاه الجسر للهروب الى الجهة الاخرى ... يتقدمهن صبيان حفاة يصرخون ... لقد احتلوا الكوت ... زغردت إمرأة ... قالت عجوز وهي تستند الى الجزء المتبقي من سياج الجسر تنظر نحو الماء وهي تدخن ،
ـ وبعدين !
اشتد اطلاق النار ... ظهرت مجموعة صغيرة من الشباب المسلحين ... كانت أسلحتهم متباينة .. بعضهم يحمل العصي وبعضهم الحراب وقلة تحمل بنادق... التحق بهم بضعة شباب يحملون رشاشات كلاشنكوف،كان واضحا انهم الاقرب الى التنظيم ... تعالى هتاف حاد من مكبر محمول ... الله أكبر ..رددت المجموعات كلها الهتاف .. زغردت النسوة اللواتي كنّ خلفهم..... زغاريد النسوة تدفع بحماس الشباب الى أعلى مستوياته... شاهد محاولات فاشلة لتسلق سور المديرية .. سقطت بضعة أجساد ثقبها الرصاص واندفع الدم على الإسفلت حارا لزجا ... أمكن تسلق السور الشرقي ... هبط الجنود قفزا تاركين الرشاشات .. تعالى دخان من قلب البناية ... فتح الباب الرئيس وبدأت أعلام ملونة تتقدم من كل صوب ... أطلق المقاتلون الذين استولوا على البناية زخات من الرصاص الى أعلى معبرين عن الفرح ... قال رجل وصل من الجانب الاخر .... لقد أخرجوا السجناء بعضهم كان مختفيا منذ سنوات .
تقدمت جموع مسلحة غاضبة تعبر الجسر ... انه مشهد يصعب نسيانه ... توق مقهور للحرية رفع عنه الغطاء ... والبناء الذي شيد على الرعب والخوف ينهار بسرعة ، بدأت سيارات عسكرية تمر خلف الكراج محملة بالجنود وصناديق الذخيرة .
لم يعبأ الجنود بالحشود المتقدمة وكانهم يشاهدون منظرا لاعلاقة لهم به، أخلي المعسكر على عجل وبهذا تم تجنب مذابح متوقعة ... لوح المهاجمون للجنود المغادرين ولكن أحدا منهم لم يرد .... سقطت مدينة الكوت وسقط المعسكر .
المساء يزحف باردا ينشر القلق والغموض ... لم تحل الفوضى بالمدينة فقد تم تنظيم كل شيئ بسرعة ، ساعد على ذلك أن العديد من الناس لزموا البيوت منتظرين ، في الشوارع مجموعات مسلحة تقوم بالحراسة .... فكر إن هذا لن يستمر وان عليه أن يغادر بسرعة ... سار باتجاه الشارع العام تاركا الكوت خلفه .... انتهت الضجة والصخب .... شعر انه منهك ... كان الهواء البارد يلفح وجهه باعثا في جسده الرجفة ... بضعة بيوت متناثرة تنام خلفها مدينة صغيرة ... كان كل شيء هادئا ... في المقدمة مقهى صغير تركه زبائنه مبكرين ... في الداخل شاهد رجلا يقوم بكنس الارضية .
ـ السلام عليكم
رفع الرجل رأسه متفحصا
ـ وعليكم السلام ... لقد اقفلنا
كان يريد ان يقطع عليه طلب الجلوس
ـ ولكني لا أقوى على السيرولا توجد سيارات ...انا بحاجة الى شيء من الطعام ... سأدفع ماتطلبه .
ـ اجلس ... هل أنت من بغداد ؟
ـ نعم
ـ لهجتك مختلفة عن هذه النواحي ... حسنا وما الذي جاء بك في مثل هذه الظروف ؟
كان من الطبيعي أن يوجه له مثل هذه الأسئله إضافة الى أنه يدرك إن من عادة الفلاحين الفضول الذي لايجدون فيه أمرا غير مألوف .
ـ كنت في طريقي الى النجف ... تركت سيارتي قبل الاحداث لاصلاحها فهي بحاجة الى سمكرة ... "عمرة " كبيرة
لم يشأ ان يتحدث عن عائلته لان من شأن ذلك أن يدخله" باستجواب" لانهاية له
ـ انقلاب أم اصطدام ؟
ـ الاثنين ... أنقلاب أدى الى اصطدامها
ـ وماذا ستفعل الان ؟
ـ لاأدري ، ولكن الذي أدريه الان أني بحاجة الى شيء من الطعام والشاي ... ألا يوجد مطعم ؟
ـ الان ! لا .. ولكن بسيطة .
نهض الرجل الى الموقد فأشعل ورقة ليضعها تحت بضع خشبات احترق نصفها وملأ ابريقا نحاسيا بالماء من الزير الفخاري الذي بدأ ت طحالب خضراء تملأ سطحه الخارجي .
سيكون الشاي جاهزا خلال دقائق .... المشكلة في الطعام .... لا أستطيع المغادرة ... راقب الماء وخذ راحتك لاني أود أن القي نظرة على الطريق .
خرج الرجل متجها الى الشارع العام يستطلع وليتأكد أن الجيش لن يعود الليلة الى الكوت ... كان قد تجاوز الاربعين ولكن هيأته العامه توحي بأنه قد قضى حياة مليئة يالمتاعب أثقلت قسمات وجهه بغضون ثقيلة وحولت عينيه الى بركتين صغيرتين تنزان ماء .... لم تتحمل كتفاه ما تعرض له فقوست ظهره بأنحناءة واضحة .. كانت دشداشته ذات اللون البني في يوم ما قد تحول لونها الى لون باهت مختلط ... ربما لم يكن يشعر بالبرد فهو لايلبس سترة أو عباءة ...كان في قدميه صندلا بلاستيكيا لايقيهما من الماء .
أعد خالد الشاي ووجد بضع كسرات من الخبز اليابس ... جلس ممددا ساقيه على "التخت " الخشبي الذي راح يموء تحته ... أحس بتكسر الخبز اليابس تحت أسنانه ... قليل من الشاي وتعود للخبز طراوته .....
كان طعم الخبز لذيذا لم يتذوقه من قبل ... ناديه المتفحصة هل أستكانت لقدرها ؟ فاتن لن تسمح لاحمد بالخروج ... الوقوف عند الباب خطر .... ولكن ياعزيزتي وسعي قليلا من حدود حريته ... ان عليه أن يحس بالحرية في مسؤليته عن تصرفاته .... المراقبة في المدارس ... في الدوائر ... في المقاهي ... لماذا نضيف نحن أيضا مراقبة جديدة ! ثم لماذا لاتستمتعي بوقتك؟... ألا تتعبك مثل هذه المتابعه ... ولكن أريده أن يصبح رجلا .... أرجو ألا تعقّد الامور !... ستظل متابعاتنا مطلوبة حتى لو كنا في معتقل !! .. السلوك تربية ... ثم تضحك لتدفعه الى تغيير الموضوع .
بدأت دوريات من الشباب المسلح تشاهد ماشية تراقب الطرقات ..كان بعضهم يلقي عليه نظرة سريعة مستفسرة .
ـ السلام عليكم
ـ وعليكم
يبدو أن جاسم غير موجود ؟
ـ نعم لقد خرج وسيعود قريبا.
لم يستغربوا وجوده ولم يساله أحد عن " هويته " كانوا على العموم في العشرينات من العمر أضفى المساء الداكن على وجوههم السمراء صلابة وشيئا من الخشونه ... ربما لأنهم يدركون ما هم مقبلون عليه من المخاطر، على رؤوسهم كوفيات بيضاء بالاسود مما يستعمل عادة في جنوب العراق،
جاء جاسم متعبا لقد خاض في برك طينية موحلة فالصندل البلاستيك كان مغطى بالطين ، ارتمى على التخت واغمض عينيه اللتين كانتا تنزان ماء حاول أن يخفف عنه.
ـ كان الله في عونك ... يبدو أنك مشيت كثيرا
ـ أشكرك ... نعم .. لقد ذهبت لتفقد دار أخي ... زوجته والأولاد وحدهم !
ـ هل هو مع المقاتلين ؟
ـ كلا ... سحب نفسا عميقا ... ماذا يمكن أن أقول ... هذا أخي الكبير ... كان موظفا في الكويت ... التحق بالفلسطينيين في الاردن ثم انقطعت اخباره ... عاد الى النعمانية ليتزوج ويستقر ... افتتح دكانا للمواد الغذائيه... قبل الدخول للكويت اخذوه ولم نسمع عنه شيئا .
ـ ولكن بأية تهمه؟
ـ الاشتراك بحركات مسلحة !!
صمت لحظة ثم تابع
- ماذا يمكن أن أحكي .... أنا الان في الحادية و الاربعين ... أعرف انك تراهن أني قد تجاوزت الستين ! معك الحق .
رفع رأسه وتطلع نحو خالد ... لم يستطع أن يخمن ما اذا كان يبكي أم أن عينيه تنزان ... كان الدمع قد تجاوز المحجرين ليتدحرج ببطء نحو الغضون الممتدة كأخاديد صغيرة .
ـ ما قضى علي ليس إختفاءه ... لا ... قتل ابني الكبير حميد ... كان في الصف السادس ثانوي .. يقول عنه استاذ الرياضيات .. انه نابغة ... جاسم تذّكر هذا ... حميد سيكون له شأن كبير !!
ـ ولكن كيف قتل ... أعني عملية ثأر !!
ـ ماذا ؟ ثأر ... لا نحن هنا كلنا اولاد عم.... المشاكل لاتحل على هذا النحو .... كان حميد شابا لطيفا تصور أنه لم يزعجنا .. لاأنا ولاامه ... كان عشقه يتركز في أمرين ... القرآن الذي كان يحفظ معظمه ويتلوه بصوت بالغ العذوبة والحلاوة... والشعر ... كان يحدثني أنه يهوى ثلاثة واحد إبن قيس , لقد نسيت اسمه !
ـ امرؤ القيس
ـ فعلا ... والثاني الرضي
ـ الشريف ..
ـ نعم

ـ اما الثالث فهو من النجف .... يقول إن أسمه الجواهري .... كان يحفظ لهم كثيرا .
وجد خالد إن الرجل يسترسل بالحديث بلذة ... يجد في ذكرياته عن إبنه شيئا من العزاء عن فقده .
ـ ولكن من الذي قتله ما دام بهذه المواصفات ؟؟
ـ" هم "... وهل يجرؤ أحد على القتل غيرهم ؟
ـ لماذا ؟
ـ استدعوه الى المقر .. قالوا له أنت من حزب الدعوه ... قال أية دعوه .. أنا لم ادعو أحدا ولا أعرف ان كنت أصلا مدعو ... قالوا .. أنت تحاول أن تتذاكى علينا ... أنت تعرف مانعنيه ... إعترف أبن ألـ .....
لم يتحمل الإهانه ... ضرب المسؤل الذي شتمه ... قيدوه ... أثناء الضرب مات ... قتلوا حميدا يا أخي ...من يومها وعيني لاتنفكان تدمعان ... كان رجلا ... كيف يشتمه بأمه ؟!.
ـ ولكن هل كان فعلا يعمل مع الحزب ؟
ـ لاادري فأنا لا أعرف شيئا عن الأحزاب ... الذي أدريه انهم قتلة ... كان يذهب الى الحسينيه في النعمانية ... الجميع يذهبون الى هناك .
ـ هل لديك أولاد غيره ؟
ـ نعم أربعة ... ثلاث صبيان وبنت .
ــ ادعو الله أن يعوضوك عنه .
ـ ان شاء الله ... يبدو اني اتعبتك بمشاكلي ... آسف جدا .. ٍأذهب الى البيت ... يمكنك النوم في المقهى حتى الصباح ولكن أسمح لي ... سأغلق الباب من الخارج
ـ لابأس وأشكرك
ـ في الحقيقة أنا أخاف عليك ، لايوجد في المقهى ما يستحق السرقة .
صمت كل شيء إلا أصوات الجنادب التي راحت تطلق أزيزا مستمرا زاد من معاناته ، كما بدأت مئات الضفادع على شاطئ الترعة الغربية ندآت لجوجة .... رائحة بقايا الشاي في الصفيحة قرب الموقد كانت عطنة نفاذة ... لماذا لم يخرجها .
في غرفة التوقيف الضيقة كان هناك أكثر من عشرين شخصا وكانت صفيحة مماثلة تبعث رائحة عطنة ، أرضية الغرفة الكونكريتية تبعث موجات من البرد حادة تصك العظام ... كانوا ممددين متلاصقين يصعب أن ينقلب أحدعلى جنبه الآخر دون أن يزيح زميله بضع سنتمترات .
لم يسمح لهم بالاستحمام لأكثر من اسبوع ... تنزت رائحة العرق في جو الغرفة .. التعب والانتظار والقلق المضني لم تترك لاحد أن يشكو .... لكنه الان يستطيع أن ينقلب على جنبه ... التخت الخشبي لايشاركه فيه أحد.
ـ خالد عبد الدايم
كان صوت آمر حاد
ـ نعم
ـ إلبس بسرعة وتعال
لم ينبس أحد بكلمة .. يعرفون أن جلسة " الطرب " ستبدأ ... هكذا يسمون جلسات التحقيق ... جلسة الطرب..... قد تمتد لساعات ... أنت وحظك ... أنت وقدرتك على التحمل أو الإعتراف بما أنت أو بما يملوه عليك.
يعود من جلسة الطرب " بكل الاحوال" يحمل وجها آخر ... كرة مضرب كانت صفراء ... يبدأ" الطرب" عادة على الوجه ثم يتقاذفه محققان ... يطرح أرضا ... العصى المطاطية مرنة تلتصق بالجلد ثم تنط الى أعلى ... راقبها عدة مرات.
- ابن ألـ ... لماذا لاتعترف .. لدينا خارطة بالهيكل التنظيمي .. نحن لانريد اعترافك لاقرارالهيكل ، ولكن حتى لاتدعي البطولة .
لكمة قوية وقاسية على أنفه ويجري شلال من الدم على فمه .
- حسنا أنت لاتريد الكلام ! سنبدأ الخطة "ج" .. انزع.
لم تكن لديه القدرة لخلع ملابسه ... لكمة أخري وركلة بين فخذيه وتم تجريده، علق من معصميه .
- الان سنبدأ واذا انتهينا دون أن تتكلم سنتحول الى الخطة "أ" ...أنت حر في الإختيار فالقرار بيدك !!.
ولكن لماذا يعملون بالمقلوب ج... ثم.. أ.... ربما في هذا الترتيب حكمة لايفهمها هو .
- " أ " يا ابن الـ.. ستجلس على الخازوق .
ضحك المحقق الأقرع ... كان شعره قد تساقط بفعل مرض جلدي من وسط رأسه وبدت فروة الرأس حمراء منكمشة ، كان قصيرا ممتلئا يتمتع بصحة جيدة .. يداه قصيرتان ولكنهما متينتان ، وجهه أملس لايعطي انطباعا بالرجولة ، حينما يبدأ بالضرب فأن ما يغيظه هو أن تتطلع في وجهه ... كان يستشعر الإحتقار فيندفع الى الإنتقام بقساوة ،حتى حينما " يوفق " في دفع بعضهم الى " الإعتراف "و رغم مشاعر التشفي التي تشيع على قسماته " فإنه يلجأ الى الشتائم المقذعة ... أكتب .. ابن ألـ..... أخ ألـ...
توقف كل شيء فجأة وسمعت أصوات انفجارات وهدير دبابات , هرع المحققان خارجا , سقطت قذيفة على الباب الرئيس ، جاء مفوض بالملابس الرسمية , البس بسرعة , تم اخلاء المديرية ... لقد بدأ هجوم الجيش على قوات الحرس القومي!!.. كان ضحى أحد أيام تشرين ... لقد أعطاه تشرين الحرية صدفة ... لم يعمل من أجلها ... جاء ته هبة من السماء فماذا سيعطيه آذار !
سمع صوت باب المقهى يفتح ... دخل صبي يحمل فانوسا قال:
ـ عمي ، أبي ارسل لك هذا المذياع وشوية حلاوه جزر وخبز
ـ شكرا .... ما أسمك ؟
ـ خلف
- في المدرسة ؟
ـ نعم بالصف الخامس الإبتدائي ... تعرف عمّي ، الانكليزي صعب ..... تعرف أنت انكليزي ؟
ـ قليلا
تنهد الصبي ووضع صحن الحلاوة ورغيف الخبز على الموقد المنطفء وأعطاه الجهاز .
تنام القرى مبكرا حينما يصمت آخر ديك عن الصياح وعادة ما يكون ذلك مع اختفاء الشمس كلية دون مراعاة فروق التوقيت ... كما أنها تصحوا على صياح أول ديك ...كان غبش الفجر رماديا ...والأرض الطينية برك متصلة بعد أمطار الليلة الفائتة ،إذ أنها ليست قابلة لتسريب المياه ،غيوم ثقيلة منخفضة ذات لون داكن تبعث في النفس كآبة وميلا للكسل ، لاتزال تتحرك ببطئ نحو الشمال .
فتح الباب ودخل جاسم بدشداشته الواسعة التي فقدت الإنتساب لأي من الألوان المعروفة وكوفيته المنقطة بالأسود، ولكنه اليوم يرتدي أيضا سترة طويلة زرقاء بأزرار نحاسية لامعة .
ـ السلام عيكم
ـ وعليكم السلام
ـ هل استطعت النوم ؟
ـ يعني !
انشغل الرجل بإشعال الموقد .... وضع ألإبريق النحاسي الذي سرعان ماغلفه الدخان الكثيف المنبعث من الموقد بطبقة سوداء سميكة ..كان يتحرك بخفة ويدندن بصوت غير مسموع أغنية ريفية .. التفت إليه .
ـ سيغلي الماء بعد أقل من خمس دقائق ... لقد جئتك بجبن وخبز وتمر ،هل تفضل تناول الطعام الان أ م تنتظر الشاي؟
ـ أفضل انتظار الشاي ... جزاك الله خيرا لقد أتعبتك معي .. هل أستطيع الصلاة .. أعني هل المكان طاهر ؟
ـ السجادة أفضل
ناوله سجادة صغيرة بحالة جيده ... ربما لانها لاتستخدم كثيرا !
ـ تقبل الله
ـ منا ومنكم
قال جاسم :ـ ربما لم تنتبه عند الفجر لأصوات الدبابات وسيارا ت الجنود وهي تتوجه لتطويق الكوت ؟
ـ كلا .. في الحقيقة كنت متعبا لأقصى حد ... لم أسمع شيئا
ـ الامريكان فجروا مخازن العتاد في المعسكر ، هل تعتقد أنهم يخشون من وقوعه بيد المقاتلين ؟
ـ ربما
ـ هل ستذهب اليوم
ـ نعم .... وأنت ماذا ستفعل؟
ـ سأظل في المقهى .. الوضع خطير جدا ، يعني ماذا سيفرق ، واحد زائد .. واحد ناقص !
لم يعلق فالأمورتسير دائما على هذا النحو ... دس في يد جاسم بعض النقود وغادر ، هل يعود الى الكوت ؟ القتال سيبدأ وقد تنقطع به السبل ولن يستطيع أن يجد سيارة الى الكوفة أو النجف ، هل يعود الى بغداد ؟.
على الشارع العام وقف بإنتظار سيارة عابرة , كان المطر قد بدأ رذاذا تدفعه ريح جنوبية رطبه رفعت من درجة الحرارة ... بدت سيقان الحنطة الخضراء منحنية وكأنها تنتظر خبرا مفجعا قد يأتي بأية لحظة .
توقفت سيارة " بيك أب " قال السائق .. الى بغداد ثلاثون دينارا ، لابأس ، دفع المبلغ وصعد الى جنب السائق ، كان المذياع يقدم أغنية ... يانبعة الريحان !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/