الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفارقة اسيا

مظهر محمد صالح

2018 / 5 / 29
العولمة وتطورات العالم المعاصر


مفارقة اسيا
د. مظهر محمد صالح

عدت من جولتي في العاصمة اليابانية، طوكيو، بعد ان امضيت معظم النهار في حي (نيهون باشي)، المركز التجاري والمالي والتاريخي لمدينة طوكيو، وكان اسمها (ايدو Edo) عندما اقامها القائد (شوغن ليازو) مؤسس اول حكومة لأمة الشوغن Shogun في العام 1590، لتكون ملتقى طرق ارض اليابان كلها. يقال ان حي نيهون باشي صار بعدها مركزاً لصناعة الكيمونو، اللباس الياباني الشهير، او جيكوسين كيمونوس، المتميز بنوع قماشه وطبيعة اصباغه منذ العام 1842، وكان يصنع يدويا بألوان معقدة تعبر عن نمط ثقافة (ايدو). دخلت غرفتي في الفندق بعد قضاء النهار كله في جولة ممتعة، اطلعت فيها على معالم تاريخية وعمرانية في قلب العاصمة، طوكيو. كان التلفاز في غرفتي يبث مشاهد رياضية عن مباراة بيسبول بين فريقين يابانيين رئيسين: فريق "الأسود"، ويحمل مشجعوه رايات زرق؛ وفريق "الصقور المفترسة" ويحمل مشجعوه رايات صفر. ما لفت نظري ان المشجعات اليابانيات في الملعب كن يحملن بالونات زرق تأييداً لفريق الأسود، ولكن اشكال البالونات تشبه كثيرا عضو الرجل الذكري! فعادت ذاكرتي في الحال الى العام 1977، عندما التقيت زميلي في الدراسة الجامعية، فاضل عباس البلداوي، بعد عودته من زيارة رسمية لليابان. روى البلداوي لي حينها انه شاهد تظاهرة حاشدة لنساء ورجال كانوا يحملون تمثالاً خشبياً هائلاً يشبه قضيب الرجل! فسأل صاحبي البلداوي اصدقاء يابانيين فأجابوه انه رمز الخصوبة او إله الخصوبة، الذي ولد شعب اليابان العظيم منه. حينها، رحنا انذاك، صديقي البلداوي وانا، نقارن بين خصوبة مجتمعاتنا شرق المتوسطية ومجتمع اليابان شرق الاسيوي. وضحكنا كثيرا. عدت الى الحاضر في غرفتي، مفكرا بتقديس اليابانيين للخصوبة وحب الانجاب. وقادني الفضول الى احد المعابد البوذية الجميلة المجاورة لفندقي، حيث تصعد خطوات سلّمه الواسعة لتنتهي عند فضاء رائع. في المعبد، لفت انتباهي تمثال كلبة يحيطها جراؤها، وعلى جدار خلف التمثال عُلِّقت حوالي خمسين صورة فوتوغرافية لكلاب متنوعة. وطابور طويل من نساء بلباس رسمي جميل ينتظرن دورهن للتبرك بتمثال الكلبة، بعدها يمضين لينظرن بشغف الى صور الكلاب. كلاب من انواع مختلفة، حجما وشراسة ووفاء. رحت اسأل امرأة عن هذا الطقس. فأجابتني ان هؤلاء النسوة اللواتي يتبركن هن إما حوامل او يتمنين الحمل، وانهن يطلبن من "الرب بوذا" تيسير الولادة وعدد وافر من الاطفال "مثل الجراء!"، لان الكلاب تلد في الغالب عددا من الجراء لمرتين في السنة وبكل سهولة ويسر! تذكرت ان الأمة اليابانية، بجزر ارضها الصغيرة نسبيا، كانت قد استعمرت بلاد التنين العملاق، الصين، دهورا من الزمن؛ اقصد ان نزعة "التكاثر" و"الوفاء" الكلابية لدى اليابانيين جعلتهم اشد التصاقا بحياتهم وإخلاصا لأمتهم. شعب اليابان مبدع لا يعرف الكلل او الملل، ترتسم الابتسامة على الدوام على وجوه ابناءه. فكّرت عما اذا كانت حياتنا، نحن في بلدان الشرق الادنى، تشبه ايضا حياة كلابنا، او ان كلابنا تشبهنا، لجهة اخلاصنا ووفائنا لحياتنا وعملنا. وضحكت. على اية حال الوضع في دنيا الكلاب يختلف من امة الى اخرى! توفي فاضل عباس البلداوي بعد ان قضى كل سنوات حياته في حرب الثمانينيات، ولم تعتقه العسكرة حتى قضى نحبه في مستشفى الرشيد العسكري جنديا في جيش لم تنته حروبه. كان مرضه وموته مفاجئاً. انطفأ فاضل البلداوي، وانطفأت معه خصوبة عراقية، ولن تنهض الا ببطء، فيما عاودت الخصوبة اليابانية من جديد وبقوة بعد انهيارها في هيروشيما وناغازاكي. لكن قبل وفاته، كان صديقي فاضل قد روى لي واحدة من حكايات حياته. فقد كان والده عباس البلداوي، الذي اصبح وزيراً للبلديات في حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم، يشغل وظيفة متصرف (او محافظ) ديالى في العهد الملكي في خمسينيات القرن الماضي قبل قيام ثورة 14 تموز 1958، وحدث ان زارهم وزير الداخلية، سعيد قزاز، الشخصية الكردية المعروفة بشدتها وحنكتها. كان فاضل، وهو حينها تلميذاً في المرحلة الابتدائية، يقف بين والده المتصرف والوزير الزائر. التفت الوزير سعيد قزاز الى التلميذ فاضل وقال له: "يا فاضل لا تصير شيوعيا مثل والدك! وقهقه الاثنان، المتصرف والوزير بشده. كان سعيد قزاز يقولها بطريقة مازحة، لكنه ايضا اراد ايصال رسالة سياسية قوية الى متصرف ديالى كي يكف عن اتصالاته بالفرقة الثانية، التي كان الزعيم عبد الكريم قاسم احد اركانها، وتعد العدة للاطاحة بالنظام الملكي. تذكرت البلداوي وخصوبة امم وجفاف اخرى، سلام امم وحروب اخرى، وانا في طوكيو قبل ان اغادرها عائداً الى بغداد. فبين قضبان خشبية شاهدها فاضل محمولة على الاكتاف في ثورة صناعية بازغة في السبعينيات، ونساء يحملن قضبانا بالونية، ثمة ثورة صناعية رابعة، ثورة الهندسة الجينية. كنّ يشجعن فريق أسود البيسبول الياباني، برمز القوة والاندفاع نحو الامام، رمز الخصوبة. نحن اليوم في العراق، يا فاضل، دفعنا اثمان حروب وصراعات قضت على الحرث والنسل. بين حكاية فاضل وحكاية طوكيو تقف مفارقة آسيا: شرق المتوسط وحروبه وشرق اقصى ونمائه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت