الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آفاق الصراع الديني في المشرق العربي المعاصر

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2018 / 5 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


إن السؤال المتعلق بأسباب وماهية الحرب الدينية يكمن في تضافر الحرب والدين. والأولية للحرب. فالحروب نشأت قبل الأديان وفي مجراها وبعدها. كما أن الحروب الأهلية يمكنها أن تكون دينية وغير دينية. لكن الحقيقة العامة تقول، بان كل حرب دينية هي حرب أهلية بالضرورة حالما تجري ضمن الدولة الواحدة أو القومية الواحدة، لكن ليس كل حرب أهلية هي حرب دينية. ذلك يعني أن للحرب الدينية أسبابها ومقدماتها ونمطها الخاص، أي بواعثها وعقائدها الخاصة. إذ يمكنها أن تحدث بين أديان مختلفة، وبين تيارات الدين الواحد. ففي الأولى هي نتاج احتكاك بين منظومات منغلقة على ذاتها، بينما في الثانية هي نتاج احتكاك وصراع بين تيارات متفاعلة ضمن منظومة واحدة (دينية).
وفيما يخص المشرق العربي، فان الصراع الديني فيه يجري في الأغلب (باستثناء نسبي وجزئي وعابر في مجرى الحرب الأهلية في لبنان) ضمن الدين (الاسلامي) الواحد. وهو صراع له تقاليده العريقة، لكنه كان في اغلبه متنوع المستويات، بوصفه جزء ملازما للإمبراطوريات والثقافات الكونية الكبرى. فتاريخ الأديان العالمية هو تاريخ صراع لا ينتهي، وذلك بسبب هيمنة العقيدة ونمط الذهنية اللاهوتية التي تجعل من كل اختلاف أو تباين "خروجا على الدين" و"هرطقة" و"زندقة" مع ما يلازمها من ردود متنوعة ومختلفة مرتبطة بمستوى التطور الثقافي ونوعية العقيدة المهيمنة.
فقد كان الإسلام الأول يقر بقدر من التنوع في الأديان في الجزيرة، ومع استتاب الدولة وعقيدتها الإسلامية الجديدة زمن الخليفة عمر بن الخطاب جرى رفع التوحيد إلى وحدة في الدين لا تقبل التنوع والتجزئة. وهكذا الأمر بالنسبة للأموية التي جعلت من الجبرية عقيدة الإسلام، ومن ثم أدخلتها في فكرة "السنة". وقد كانت تلك "سنة" سياسية صرف لان الجوهري فيها كان للجبرية السياسية، أو الاستبداد التام بالسلطة القبلية. لهذا كان بإمكانها قبول المجون والفواحش ومختلف الأديان، لكنها كانت تجعل من الخوارج والتشيع والقدرية (بذور المعتزلة) قوة "خارجة عن الإسلام". في حين طورت المرحلة العباسية فكرة الثقافة الإمبراطورية، مع ما لازمها بالضرورة من حرية المعتقد والتفكير، التي وجدت ذروتها الأولية في المعتزلة والصعود الفلسفي. بحيث تحول إرغام المعارضة على القول بجوهرية وأولية العقل إلى عقيدة "الإسلام الحق". بينما نراها تنتكس في مراحل متأخرة (زمن القادر بالله العباسي) لتصبح الحنبلية المتزمتة حقيقة الإسلام ومذهب السنة الوحيد المقبول، وكل ما عداها "زندقة" و"كفر" و"الحاد" يستحق الإذلال والقتل.
لقد كان هذا الصراع والتحول والاختلاف يتمثل في اغلبه تاريخ وتقاليد المشرق الثقافية العريقة، على عكس الجزيرة موطن الإسلام الأول، التي تميزت بخشونتها وطابعها العقائدي البسيط والمباشر والمحكوم ببنية تقليدية قبلية.
فمن الناحية التاريخية كان الانتقال الأول للإسلام من الجزيرة إلى ارض السواد والشام (العراق وسوريا) يعني انتقال العقائد الدينية المباشرة إلى مستوى العقائد اللاهوتية والفلسفية والروحية والثقافية. وقد ارتبط ذلك بحدثين كبيرين يمتلكان طابعا تأسيسيا بالنسبة للوجود والفكر على السواء، الأول وهو نقل مركز الخلافة إلى العراق الذي قام به الخليفة علي بن أبي طالب. والثاني نقلها من العراق إلى الشام الذي قام به معاوية بن أبي سفيان. وفي كليهما جرت حروب أهلية طاحنة، كانت تجري من حيث الجوهر بين تيارين، الأول اجتماعي إسلامي عام مثله علي بن أبي طالب وأتباعه المختلفون (من شيعة وخوارج)، وتيار عائلي قبلي يتمثل تقاليد الجزيرة (عائشة وطلحة والزبير في الحرب الأولى، ومعاوية وآل سفيان ومروان في الثانية). ومنهما تبلورت المعالم الأولية للتشيع والتسنن. الأول بوصفه حركة اجتماعية سياسية وأخلاقية مناهضة لنمط "الخروج على حقيقة الإسلام" والثاني يتمثل تقاليد العائلة والقبيلة وأولويتهما في العقائد والسياسة (فكرة القرشية بالنسبة للخلافة، وفكرة الجبرية الدينية والسياسية). وكلاهما ما زالا يؤثران في الوعي التاريخي والسياسي والديني حتى الوقت الحاضر، وذلك بسبب عدم نفيهما في منظومة تذلل هذا الخلاف عبر نقله إلى مستوى آخر من المرجعيات الثقافية الجامعة.
وقد استمر ذلك وتعمق في مراحل الانحطاط وانهيار المراكز الثقافية السياسية العربية الكبرى (بغداد ودمشق)، حتى انهيار الهيمنة التركية العثمانية. فقد أصبح الخروج الجديد للعالم العربي من تحت ركام السيطرة العثمانية والغزو الكولونيالي، المقدمة التاريخية لنشوء وبلورة وعي اجتماعي سياسي جديد مبني على أولوية الفكرة السياسية (الوطنية والقومية). وكانت هذه الفكرة تتمثل تجارب العالم العربي ودوله الحديثة في ظل صراع قطري وإقليمي وعربي عام. وإذا كانت اغلب عقود القرن العشرين أقرب ما تكون إلى صعود في هذا المجال، فانه اخذ بالتعرض للتثلم والتسويس والانهيار التدريجي حتى نهاية القرن، وذلك لأسباب عديدة لعل أهمها هو:
• هيمنة الراديكالية السياسية وصعود الهامشية بمختلف أشكالها وأصنافها،
• الصراع الحزبي الضيق على السلطة والجاه والمال بأثر ضعف الرؤية السياسية الاجتماعية،
• فشل النموذج الوطني والقومي في التحديث والعصرنة
• العوامل الخارجية الضاغطة لمراكز الكولونياليات القديمة والحديثة
• البؤرة الخربة للكيان الصهيوني
• انهيار الاتحاد السوفيتي وصعود الهيمنة الأمريكية
كل ذلك أدى إلى ظهور مراكز القوى المتنافرة في العالم العربي وتحلل فكرة الوحدة أيا كان شكلها ومحتواها. بحيث أصبح الصراع الداخلي هو الهم الوحيد للأنظمة السياسية، التي تحولت بدورها إلى نظام العائلة والعصابة. الأمر الذي يشير إلى نهاية مرحلة وبداية أخرى. أنها كشفت عما ادعوه بنهاية زمن السلطة وبداية التاريخ الاجتماعي، الذي وجد تعبيره الأول في الثورات العربية الأخيرة. مع ما لازمها من إثارة وتدمير وعصيان بسبب عدم نضجها السياسي المنظم، والتدخل السريع والهائل لمراكز الكولونياليات السابقة وأنظمة الخليج والسعودية التي تحسست في الثورة التيار الجارف لقرن الانحطاط. من هنا محاولات حرفها والتأثير عليها عبر ركب موجتها وتسييرها صوب بوصلة خاطئة، من خلال التركيز والدعم المالي والإعلامي والتسليح الحربي لاحقا، على صراع الاسلامي والمدني (العلماني) أولا، ثم الصراع الاسلامي الإسلامي (إخوان وسلفية ووهابية وغيرها) ثانيا، ثم الصراع الطائفي والمذهبي (السني الشيعي) ثالثا.
إن هذا المسار المنحط من حيث خطوطه البيانية يعكس مضمون الانحطاط الفعلي الذي تعرض له العالم العربي في مختلف الميادين والمجالات التي أدت في نهاية المطاف إلى انغلاق افقه المستقبلي. فمن الناحية المجردة انه يعكس مرور قرن من الزمن (العشرين) وانعدام التاريخ فيه، وبداية قرن جديد هو تفجير لما يختزن فيه من تحلل وفساد. الأمر الذي جعل من الصعود العنيف لمختلف القوى الظلامية الصيغة "الطبيعية" للمسار غير الطبيعي الذي قطعه العالم العربي في العصر الحديث. ولهذا السبب يمكن فهم الانقلاب المفاجئ والسريع والاستعداد له في حصيلة الثورات العربية التي قامت بها قوى اجتماعية مدنية، بينما جنى ثمارها من كان يقف بالضد منها (القوى الإسلامية). الأمر الذي يفسر سر الدعم المباشر والشديد من قبل المراكز الكولونيالية ودول الخليج النجدية، واحترابها فيما بينها من اجل انتزاع ما يمكن انتزاعه منها لمصالحها. وهذا بدوره يعكس النمو الفعلي في الصيرورة العربية التي جعلت دول الخليج النجدية تشترك في "صراع عربي" كانت على الدوام تخشاه وتبتعد منه وتتجنبه وتمول أعداءه الخارجيين من جهة، كما يعكس الحوافز الدفينة والجوهرية التي تميز العائلة النجدية الحاكمة وتقاليدها العريقة في السرقة والابتزاز، من جهة أخرى.
بعبارة أخرى، أنها أرادت سرقة "الربيع العربي" عبر تحويله إلى "خريف إسلامي" (خرافي)، وابتزاز القوى الوحيدة الباقية في العالم العربي والمتمثلة لتقاليد المقاومة والتحدي (سوريا والعراق ولبنان واليمن). من هنا يمكن فهم الشراسة المتنوعة المستويات والأشكال في إثارة النعرة الطائفية والاستعداء السني - الشيعي الذي تطفح به كل أجهزة الدعاية المرئية والمسموعة والمكتوبة والدبلوماسية العلنية والسرية والتمويل "السخي" لمختلف القوى اللاعقلانية والبدائية، وأخيرا مختلف "العواصف" الرملية وجراد المرتزقة والارتزاق! بحيث بلغ الأمر حده الأقصى من التخلف والانحطاط المعنوي والعقلي الذي جعل من وهابية البترودولار الممثل الوحيد "للإسلام السني" و"السنة"، ومن "إيران المجوسية الصوفية" الممثل الوحيدة "للإسلام الشيعي" و"الشيعة". وفي كلتا الحالتين تجنيا على الحق والحقيقة التاريخ والواقع، لكنها تعكس الأفق المسدود لقوى الجزيرة النجدية، والصعود المحتوم للمشرق العربي المدني لكي يقود العملية التاريخية للمستقبل العربي الأفضل.

المشرق والجزيرة – قطبا الصراع الثقافي والسياسي

لقد دارت دورة الزمن العربي الحديث، بحيث تحولت أطرافه وهوامشه (النجدية) إلى "مركز" العالم العربي. ولا يمكن لهذا الحالة أن تستقر ما لم تستقر "الحالة النجدية" في المشرق العربي ومصر. من هنا يمكن فهم سر الرشوة السعودية الإماراتية لمصر بالضد من قطر. بينما كلاهما كلّ واحد هو نفسية وذهنية البداوة النجدية، التي لا تعرف معنى القيم النبيلة وتغترب عنها ومنها بصورة مطلقة. لقد كانت تلك رشوة تخريبية لمصر من حيث آلية فعلها وأثرها المستقبلي، بمعنى أنها محاولة الاستمرار في سرقة الثورة الاجتماعية في مصر وإعادة توجيهها بالضد من المشرق العربي. وبالمقابل كانت يجري إذكاء الصراع اللاعقلاني في المشرق عبر توسيع مدى العداء الطائفي والمذهبي. وكلاهما يصبان في مصب واحد. وفيهما كليهما تشتركان "القوى المتعادية"(السعودية وقطر) في الغاية النهائية، ألا وهي تدمير مراكز الكينونة العربية التاريخية والثقافية (العراق وسوريا ومصر) من اجل احتلال البؤرة النجدية لموقع القوة المهيمنة في الصيرورة العربية الحديثة ما بعد الثورة الأخيرة.
غير أن استقرار "الحالة النجدية" في المشرق العربي أمر مستحيل. وفي مصر كذلك. وذلك لان المشرق العربي يتعالى على نجد والجزيرة في كل شيء. كما أن قواه الذاتية الجوهرية والحاملة لتقاليده ومستقبله هي مشرقية ثقافية عريقة، أي أنها مركز سياسي ومركزية ثقافية لا يمكن للتقاليد النجدية أن تقترب منها. كما إنهما عالمان مختلفان من الناحية الثقافية والاجتماعية. بعبارة أخرى، ليس في النموذج النجدي ما يمكنه إغراء المشرق العربي في شيء، من هنا بقاء السلاح الوحيد الذي لازم صيرورة التقاليد النجدية في "العلم والعمل"، ألا وهو استعمال أساليب السرقة والغيلة والقتل والسلب والنهب والرشوة والابتزاز، أي كل ما يمثل حقيقة التقاليد النجدية "للعائلة المالكة". وحالما يجري تحويل هذه التقاليد البدائية، بأثر "الثراء الخليجي والسعودي" الحالي إلى ميدان السياسة العملية، فانه يتخذ بالضرورة مختلف صيغ المؤامرة والمغامرة والخيانة. وهذا مر جلي حالما نتأمل زمن القرن العشرين. فقد كانت هذه العائلات على الدوام بؤر المؤامرة والخيانة للفكرة الوطنية والقومية. ولم يكن هذا بدوره معزولا أيضا عن ضعف أو عدم إدراكها لماهية الوطنية والقومية، بوصفها مستويات غير مفهومة بالنسبة للذهنية النجدية البدوية.
لكن البداوة تتحضر! والحد الأقصى لعمرانها في التقاليد النجدية لا تتعدى الاعتقاد بان المال هو القوة السحرية الوحيدة المتحكمة في الوجود. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الثروة والجاه في الجزيرة النجدية هي نتاج صدفة غبية وليس عقل منتج ووقاد، من هنا انطباق ما يقوله العراقيون عن هذه الحالة: "من الطهارة للمنارة"، أي من حوض الخراء (الحضيض) إلى المقام الأعلى. أو ما يقوله الروس في احد أقوالهم بهذا الصدد: "من الزبالة إلى الإمارة". وهو تعبير أدق من حيث انطباقه على ما نحن بصدده.
لقد اعتقدت النفسية النجدية وذهنيتها البدوية على أن المال قادر على ميل وحرف العقول والضمائر. بمعنى سلوك ما يستجيب لما فيهم. من هنا مساعيها المحمومة من اجل شراء كل شيء. وبما أن هناك أشياء لا تباع ولا تشترى، من هنا توظيف المال بالشكل الذي يذلل هذه العقبات. الأمر الذي يفسر طبيعة ونوعية العداء الذي واجه به آل سعود الفكرة الوطنية والقومية. فقد كانت السياسية السعودية منذ البدء على خلاف وتضاد جوهري مع الفكرة الوطنية والقومية العربية. إذ وقفوا ضد الفكرة القومية (الناصرية)، وضد الفكرة الوطنية (العراقية وعبد الكريم قاسم)، وضد الفكرة القومية البعثية (صدام)، وضد الفكرة الإسلامية الإصلاحية والعقلانية. وإذا كان الفوز النسبي لهذه السياسة مرتبط بالأسباب التي أشرت إليها أعلاه وليس بأثر قوة النموذج النجدي، فانه كان يقف بعد كل"فوز" أمام ظهور جديد لعدو جديد. فالذهنية النجدية لا تثق بأي شيء غيرها. ومن ثم فان كل ما عداها عدو بالسليقة والفطرة والضرورة.
فوراء كل هزيمة للفكرة الوطنية والقومية والاجتماعية تظهر قوى أكثر استعدادا للتحدي والمواجهة والمقاومة. وهذه في الأغلب سنة الحياة والوجود. لاسيما وان المسار الطبيعي للعالم العربي اخذ بالتحول التدريجي (البطيء لحد الآن)، صوب توسيع الأبعاد الاجتماعية للفكرة السياسية، التي تؤسس بالضرورة لفكرة الحرية وتوسيع مداها في كافة نواحي الوجود الإنساني. الأمر الذي يجعل من تقاليد ما قبل الدولة الحديثة، التي تمثلها النجدية بصورة تامة، عائقا فعليا. وبالتالي ليس الاشتراك الفعال للقوة النجدية في الصراع العربي الحالي سوى الحالة أو الخاتمة التي لابد منها من اجل إيقاف المدى الفعلي لفكرة الحرية والنظام الأمثل. ولم يبق في الواقع سوى تجريب البعد الأخير في مواجهة القوى الاجتماعية الصاعدة غير البعد الديني الطائفي. لاسيما وانه اتخذ من الناحية الواقعية والفعلية، هيئة المواجهة والتحدي التي يمثلها المشرق العصي بجداره الثقافي أمام الموجة النجدية.
كل ذلك يفسر سر نمو وتصاعد وتراكم الشحن الطائفي ضد جمهورية إيران الإسلامية أولا، ثم ضد حزب الله اللبناني ثانيا، وضد العراق "الشيعي" ثالثا، وأخيرا ضد اليمن "الحوثي الشيعي". بمعنى التأليب المستمر لنفسية الحقن الطائفي والمذهبي، من خلال استثارة كل تقاليد العداء والاستعداء والتكفير والتجريم والبراءة وما شابه ذلك من قيم الانغلاق والانحطاط الثقافي المميز لتقاليد التسنن بشكل عام والحنبلية بشكل خاص، اي كل ما بلغ ذروته في الصيغة الأكثر بدائية وتحجرا وجمودا في الوهابية الأولى والمحدثة، اي وهابية القبيلة والصعلكة، ووهابية البترودولار. بحيث جرى ويجري تحويل وشحن الصراع ضد التشيع بشكل عام، وضد الفكرة السياسية الشيعية بشكل خاص إلى قضية حياة أو موت. الأمر الذي دفع كل القضايا الجوهرية للصراع الاجتماعي السياسي والوطني والقومي إلى الموقع الأخير، مما يشير إلى مدى الانحطاط المادي والمعنوي وانغلاق الرؤية المستقبلية بصورة تامة. مع ما ترتب عليه من هيمنة الغريزة واللاعقلانية الفاحشة في الأقوال والأفعال والرؤية، التي جعلت من وحدتهما الغبية عقيدة التوحيد الإسلامية! وفي هذا ينعكس أولا وقبل كل شيء الانغلاق الفعلي "للتسنن" وموته اللاهوتي وبداية انحلاله السياسي والثقافي.
فمن الناحية العملية المباشرة لا تعني محاولات سحب الصراع الاجتماعي والسياسي العامل من اجل إحداث تغير بنيوي ومستقبلي في العالم العربي، نحو صراع مذهبي، سوى الوجه الخبيث والخنيث لتقاليد النجدية الوهابية. أما من الناحية المستقبلية فانه بلا آفاق. والقضية هنا ليست فقط في أن تقاليد قطاع الطرق والسرقة والغيلة والقتل والسلب والنهب والابتزاز والرشوة لا يمكنها العمل طويلا في ميدان الحياة السياسية الدولية، بل ولصعوبة تغلغلها في بنية الوعي الاجتماعي والأخلاقي للمشرق العربي. فالتقاليد النجدية وبنيتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تبقى، مهما جرى صقل ولمعان مظاهرها المدنية المزيفة، اطرافية وهامشية بالنسبة للمشرق العربي. أما محاولتها تقليص أو تحجيم أو إضعاف أو تدمير الكتلة الثقافية الهائلة، والغنية جدا (بثرواتها وبشرها) لكل من إيران والعراق وسوريا ولبنان، فهو مجرد رغبات سقيمة محكومة بنفسية وذهنية القبيلة النجدية التي وجدت نفسها بين ليلة وضحاها متربعة على هضبة الدرعية ومفترشة رمال الربع الخالي!
مما سبق نستطيع القول، بان الصيغة المفتعلة لتذكية نار الصراع المذهبي والطائفي (السني – الشيعي) هو صراع من حيث الجوهري بين رؤى مختلفة تجاه الماضي والحاضر. ومن ثم هو صرع سياسي وثقافي تجاه المستقبل. غير أن له تقاليده وحوافزه الفكرية العقائدية الدينية والسياسية. إذ أن دراسة وتحليل وتعميم التجربة التاريخية الحديثة للفكرة السياسية في العالم العربي تشير إلى ما ادعوه بتأزم ونهاية الصيغة اللاهوتية في الوعي الديني (الاسلامي) بشكل عام والسياسي بشكل خاص. والتسنن تمثل وامتثل على الدوام (في كل وجوده العقائدي) نماذج المحاربة العلنية والخفية للعقل والعقلانية والفلسفة والتفلسف وفكرة الحق والحقيقة الروحية (التصوف)، اي لكل الأبعاد المحتملة للنزعة الإنسانية وفكرة الحرية. ومن ثم لا يعني التلاقي والتماهي بين "الإسلام السني" (الحنبلي) والوهابية المؤتمرة بنفسية وذهنية القبلية النجدية سوى الصيغة التي تعكس انغلاق الفكرة الإسلامية السياسية التقليدية وقوتها الداعمة في العالم العربي. بمعنى دوران الزمن إلى بدايته "الطبيعية" من اجل أن يتجاوز العالم العربي المرحلة اللاهوتية والدينية السياسية في تطوره الذاتي. ومن ثم ليس الصراع الخفي والعلني بين "التسنن" و"التشيع" سوى الصيغة الظاهرية لهذه الحالة. بعبارة أخرى، لقد دفع الصراع الاجتماعي والسياسي والقومي الفكرة السياسية الإسلامية لان تبلغ حالتها الحالية بوصفها صراعا مذهبيا سياسيا بين التشيع والتسنن. وهي حالة ليست غريبة على مسار التطور التلقائي للأديان والأمم. فقد مرت أوربا وتذوقت وعرفت كل مرارة الصراع الديني والمذهبي، كما هو جلي بين البروتستانتية والكاثوليكية، لكي تذلل في وقت لاحق مقومات الصراع الديني وتبني على أنقاضه فكرة ونظام الدولة القومية والمجتمع المدني والثقافة الدنيوية.
ففي العالم العربي، كان ينبغي لهذه الحالة أن تكون في بداية القرن العشرين، إلا أن المسار التاريخي لا يعرف "لو". وها إننا نقف أمامها كما هي بوصفها مرحلة عابرة في المخاض الصعب للصيرورة العربية المعاصرة من اجل أن تتكامل في بنية وطنية وقومية ثقافية لا يمثل حقائقها الكبرى في العالم العربي الآن سوى المشرق. بحيث يمكنني دفع الفرضية القائلة، بأنه إذا كانت المناطق الجرمانية والبروتستانتية هي البديل التاريخي الثقافي لروما والكاثوليكية، فان المشرق العربي والتشيع هو البديل التاريخي الثقافي للنجدية والسنية الحنبلية. وهذه فرضية محكومة ومقيدة بنطاق الصراع الديني الحالي وآفاقه.

الصراع الديني المذهبي في المشرق

إن المقارنة مهما كانت دقتها، لا تحل مشكلة، لكنها تسلط الضوء على طبيعة الحالة وآفاقها. وفي الحالة المعنية فان المشرق العربي والتشيع هو اعرق وأعمق من الجرمانية والبروتستانتية، إلا أن الفارق الزمني هنا يضمحل أمام نجاح التجربة أو فشلها. وهذا بدوره ليس نتاجا للخصوصية اللاهوتية والدينية، بقدر ما انه نتاج المرور بمراحل التطور التلقائي، اي كيفية تذليل واجتياز ما ادعوه بالمرحلة الدينية الثقافية في تطور الأقوام والأمم. وبالتالي، فان الصراع الديني والبدائل الكامنة فيه هي جزء من المسار التاريخي الذاتي للأمم، بمعنى أنها تظهر بصورة طبيعية في "الأمم الدينية" الكبرى حالما تتراكم فيها عناصر التذليل التدريجي للبنية التقليدية السائدة، مع ما يرافقها بالضرورة من إصلاح شامل يذلل التركة الثقيلة للتقليد والماضي.
فقد ظهرت في أوربا بالارتباط مع مرحلة الانتقال من الوعي الديني اللاهوتي إلى السياسي في ظل انتقال اجتماعي اقتصادي كبير (رأسمالي). ووجد ذلك انعكاسه في البروتستانتية بوصفها حاملة الروح الإصلاحي ومن ثم مقدمة التنوير. لقد فازت هنا "أقلية" نوعية وحكمت المصير التاريخي للمستقبل الأوربي والغرب. لقد كانت البروتستانتية "الأقلية النوعية" الناشئة من أحشاء الكاثوليكية ونقدها الذاتي. وبالتالي كانت نخبة الصيرورة النصرانية وكينونتها الثقافية. ومن ثم شكلت القاطرة التي سحبت روح البدائل الكبرى في الصيرورة الأوربية الحديثة. ولاحقا أخذت بالتلاشي في مجرى حل إشكاليات الوجود الاجتماعي والثقافي والقومي والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي. وهذا هو التيار الفعلي والطبيعي للوجود والعدم. بينما بقت الأغلبية الكاثوليكية ما بين متخلفة ومتوسطة في تطورها، أو على الأقل أنها فقدت طابع الريادة في كل شيء. أما سلوكها العنيف والإرهابي تجاه المعارضة من اجل إيقاف هذا التمرد و"الهرطقة" الجديدة، فأنه لم يؤد رغم كل الخراب والدمار الهائل والحروب الدينية والأهلية التي اتبعها، إلا إلى فقدان زمام المبادرة التاريخية مرة واحدة والى الأبد. الأمر الذي ساهم لاحقا في جعلها أكثر واقعية ومدنية.
والسؤال الذي يمكنه البروز في مجال المقارنة، هو هل سيعيد العالم العربي نفس هذه الحركة وآفاقها؟ والإجابة عليه هي إجابة التطور التاريخي ذاته. بمعنى أن الشيء الأكيد والثابت والعام هو أن العالم العربي سيمر بحالة الانتقال من المرحلة الدينية – السياسية إلى المرحلة السياسية – الاقتصادية. وهو انتقال يتسم بقدر كبير من التعقيد والتشاؤم بسبب المسار التاريخي الخاطئ للصيرورة العربية الحديثة، التي ابتدأت بتقاليد وتقليد للحداثة الأوربية مع ما لازمها من تقليد فارغ وإتباع أيديولوجيات لا علاقة من حيث مقدماتها بما جرى ويجري في العالم العربي. إلى أن انتهت الحالة بالدورة الكاملة من هيمنة الزمن وتفريغ التاريخ بوصفه تراكما، بحيث نقف أمام لوحة تستعيد في مظاهرها ماض قديم بكل مكوناته، ولعل الصراع الديني والطائفي والمذهبي هو شكله الأكثر بروزا. لكنه صراع يعكس من حيث الجوهر رؤى مختلفة ومتباينة للنفس والآخرين والمستقبل والقيم. إذ ليس الصراع الديني الحالي في المشرق، وفيما بينه وبين الجزيرة النجدية، سوى الاستعادة "الحديثة" لتقاليد لم يجر تذليلها. إذ لا يمكن تذليلها ما لم يجر تذليل بنيتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية عبر الانتقال من مرحلة الدينية السياسية إلى المرحلة السياسية الاقتصادية في حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والمجتمع والدولة، أي كل ما نعثر على مظاهره في الصراع السني الشيعي. وهو صراع يعكس مسار التاريخ العربي الاسلامي. ومن ثم لا يمكن حله بصورة جذرية ما لم يجر نفيه في مسار التاريخ العربي القومي المبني على أسس ومرجعيات ثقافية تستمد مقوماتها من التجربة الذاتية وبما يستجيب لحل إشكاليات الانتقال إلى المرحلة السياسية الاقتصادية.
فقد كان التسنن من الناحية التاريخية إسلاما أمويا، كما أن الوهابية (التسنن الحنبلي) إسلام نجدي قبلي. ولم يكن ذلك معزولا، بالنسبة للإسلام الأموي (التسنن الأول) عن الخطأ الاستراتيجي الذي اقترفه النبي محمد بإرجاع الهيبة المعنوية والأخلاقية لبني سفيان، بعد تحرير مكة من السيطرة القرشية. إذ كان يمكن للإسلام أن يتطور ضمن سياق آخر. غير إننا نتعامل مع التاريخ كما هو. وقد كانت حصيلة هذه العملية الدرامية انشقاق كبير بين تشيع كان يرمي إلى أولية العدل والنزعة الإنسانية، وتسنن يرمي إلى أولوية العبودية للسلطة وانعدام الروح الحر والنزعة الإنسانية. وهو أمر جلي في كون الفكر الاسلامي الحر والإنساني والعقلي والعقلاني كله بدون استثناء كان في جانب المعارضة للأموية. وبالمقابل وضعت فكرة "السنة" عبر مطابقتها مع فكرة الجبرية (العقائدية من حيث الشكل) والسياسية من حيث المضمون. ووجد ذلك انعكاسه في ضياع فكرة الشورى والخلافة وتحولها إلى ملكية عائلية قبلية. وقد رافق ذلك توسيع نمط من النظام السياسي والحقوقي والأخلاقي بصورة مغايرة ومختلفة ومناقضة لأغلب مبادئ الإسلام الأول ونموذجه المجرد. فقد جعلت الأموية، علي سبيل المثال، من القتل الكيفي نمطا سائدا في التعامل مع كل أصناف وأنواع ومستويات المعارضة، أيا كان شكلها ومحتواها، بعد أن تستنفذ أساليب الابتزاز والرشوة فاعليتها. وتحول ذلك إلى سنة سائدة لها تبريرها العقائدي (الأيديولوجي) اللاحق. الذي يمكن رؤيته عند جميع "علماء السنة" "العقلية" و"النقلية" اي تلك التي كانت تزاوج بين أحاديث موضوعة (كاذبة) (والتسنن الأموي ينفرد من بين فرق الإسلام بالكذب الفاحش على النبي بهذا الصدد، على خلاف الخوارج والتشيع، اللذين لم يضعا ولا حديثا واحدا كاذبا). وينطبق هذا في الواقع على كل ما له علاقة بالمال العام والمصالح العامة ومفاهيم وقيم العدل والمساواة والإحسان وكثير غيرها. وتحول هذا النمط إلى "سنة" متحكمة في سلوك كل الدول الإسلامية التي استمدت من تقاليد الأموية غطائها العقائدي المشابه أو المختلف. وضمن هذا السياق جرى توسيع الخلاف المذهبي، الذي ساهم بدوره في توسيع مدى العقل والعقلانية والفكر والتفكر، لكنه كان ينحدر زمن الانحطاط إلى خلاف طائفي. وبالتالي، فان ما حصل ويحصل الآن في المشرق العربي والصراع بينه وبين الجزيرة يتمثل هذه التقاليد، ولكن في ظل حالة نوعية جديدة، بمعنى انه يمثل نمطين في الموقف من الدولة والسلطة والمجتمع والحقوق ومستوياتها العصرية تجاه قضايا الوطن والقومية والأمة، في ظل حالة انحطاط مادي ومعنوي تجاه كافة القضايا والمستويات المشار إليها أعلاه. .
إذ إننا نقف أمام حالة مزرية في انحطاط النظام السياسي والاجتماعي والوطني والقومي، التي وجدت وتجد تعبيرها في انحسار الإسلام السني بهيئة وهابية بدائية محكومة بعقائد نجدية ورشوة مالية، وانحسار الإسلام السياسي السني في تيارات إرهابية ولاعقلانية بصورة مطبقة. والسؤال الذي يمكنه الظهور هنا والقائل، لماذا انحدر التيار السني صوب حنبلية وهابية تشتعل فيها نفسية التجريم والتكفير والبراءة؟ اي أولوية القتل والإرهاب؟ والجواب عليه يقوم في انه لم يجر سقوط أو هبوط، بل مجرد رجوع التيار السني إلى أصوله الأولية، بأثر فشل مشاريع الحداثة في العالم العربي بتجاوز المرحلة الدينية السياسية. ووجد هذه المأزق طريقه الضال في ضلال بوصلة الوعي الاجتماعي والوطني والقومي صوب تأجيج الصراع الطائفي، بوصفه الصفة الملازمة للبنية التقليدية زمن الانحطاط، والوسيلة الأخيرة الفعالة للإبقاء على الواقع المأزوم كما هو. فالبنية التقليدية للجزيرة غير قابلة للإصلاح. الأمر الذي يجعل من دورة الرجوع إلى خلافات الماضي باعتبارها خلافات اليوم، أو توظيفها السياسي والدعائي، أسلوبا للبقاء في نمط الحكم الأموي (العائلي القبلي).

الصراع السني - الشيعي: الحاضر والمستقبل

ومن دون الخوض في حيثيات هذه الظاهرة وآليتها الداخلية، الواقعية والفكرية، فإننا نقف أمام خط بياني يقول، بان الفكرة الإسلامية السياسية السنية تتطرف مع كل فشل في سلوكها العملي أو انحطاط في النظام السياسي والاجتماعي، بمعنى أنها لا تتقدم صوب البدائل المستقبلية، بل على العكس أنها تحشر نفسها أكثر فأكثر صوب الأنماط الأشد بساطة وبدائية، بحيث تحول الإسلام إلى مجرد كمية من العادات والعبادات الميتة وأحكام وحكايات وروايات لا علاقة لها بالحياة والواقع والمستقبل. مع انغماس "واع" صوب الغلو والانغلاق وأولية القوة والعنف والإرهاب بوصفها صفات الإسلام الجوهرية. فوراء حياة الحركة الإصلاحية الإسلامية الحديثة (للأفغاني وعبده والكواكبي) واندثارها تظهر السلفية الضيقة لرشيد رضا، وبعده تيار الراديكالية المتشدد لحسن البنا (الإخوان) وبعده تجذر تيار الغلو السياسي والعقائدي (عند سيد قطب) ثم تبعته مختلف نماذج الغلو الجزئي والواسع الانتشار لمختلف الحركات السلفية المتشددة والتقليدية إلى أن برزت القاعدة وأصنافها في تمثيل "الإسلام السني" و"الجهادي" على المستوى العالمي، وأخيرا مختلف "جيوش الإسلام" التي تعتنق أسلوب الإبادة والتوحش بوصفه قمة "الجهاد" كما هو جلي في تنظيمات وعقائد النصرة وداعش. فوراء كل فشل فعلي تفعيل اشد لذهنية الفشل، بحيث أدى إلى انغلاق "الطريق الاسلامي" بصورة تامة. وأصبح الموت والتفجير والقتل المجاني هو الأسلوب الوحيد الباقي للبرهنة على "حيوية الإسلام" وطاقته المستقبلية. بمعنى مطابقة البدائل بما في ذلك في الوسائل مع ظاهرة الانتحار والتفجير! وهو مؤشر على ما ادعوه بموت الإسلام اللاهوتي (السني) وبداية انهيار الإسلام السياسي بشكل عام بغض النظر عن أيديولوجيته المعلنة.
إن السبب الجوهري القائم وراء هذا الخط البياني للانحطاط في الفكرة السياسية الإسلامية (السنية) يقوم في كونها لم تذلل الأبعاد الدينية اللاهوتية في الفكرة السياسية. لهذا لم تفلح حتى اشد الأشكال دعوة للتجديد والإصلاح والحداثة أن تقدم شيئا جديا بهذا كما الصدد كما هو الحال في محاولات مالك بن نبي وحسن حنفي وأمثاله. إذ أنها ظلت في نهاية المطاف اقرب إلى المعاناة الفردية الحرة والعميقة ولكن غير العملية. وذلك لان المسار الواقعي لهذه العملية يفترض استنفاذ الطاقة الذاتية للقوى الدينية اللاهوتية والقوى الدينية السياسية بالشكل الذي يذوبها في منظومة البدائل الواقعية والعقلانية المستقبلية. وضمن هذا المسار الواقعي، تبقى الفرضية المحتملة هنا للتشيع السياسي بوصفه الحامل الموضوعي لهذه المهمة بالمعنى الذي قامت به البروتستانتية في موقفها من الإصلاح الديني وتذليل الهيمنة التاريخية والثقافية للكاثوليكية. بمعنى أن التشيع المعاصر بوصفه حامل الفكرة السياسية الإسلامية البديلة، يمكنه أن يؤدي ما قامت به البروتستانتية في الغرب – دفع الحركة الاجتماعية صوب التنوير الفعلي وأولوية المصالح العليا للعمل والدولة والأمة.
ومما يؤكد هذه الفرضية إن الصراع في المشرق العربي يسير ضمن هذا السياق. ولكن مع فارق تاريخي ثقافي، وهو أن التشيع أقدم واعرق وأول التيارات الاجتماعية السياسية الإسلامية، كما انه عربي الأصول والجذور وثقافي المحتوى. وذلك لان أصوله وقواه الأولية التأسيسية هي عربية مدنية عراقية (الكوفة والبصرة). وبالتالي، فانه على خلاف من حيث جذوره وطاقته، من التسنن، الذي تشكل من حيث أصوله بوصفه عقائد أعرابية بدوية وعائلية قبلية (الأموية السفيانية والمروانية). ولهذا السبب يمكن فهم "تعظيم" دول وشخصيات "الخلافة" المستبدة لمعاوية بن أبي سفيان ومحاولة إدراجه ضمن "التابعين". وضمن هذا السياق يمكن فهم مواقف "الممالك السنية" الممجدة لمعاوية ويزيد مع وجود إجماع إسلامي على أن الخلافة ما بعد علي هي ملك، اي خروج على حقيقة العدل والإسلام بالمعنى السياسي، وشبه إجماع على سوء أخلاق معاوية، وإجماع على سوء أخلاق يزيد.
إن الخلاف الأولي بين "التشيع" و"التسنن" اتسم بطبيعة الخلاف الجوهري تجاه الفكرة الاجتماعية (المساواة والحق) والنزعة الإنسانية (العدالة والحرية). فإذا كان التشيع الأول يميل إلى تأييد ودعم وتمثل وتمثيل قيم ومفاهيم المساواة والحق والعدل والحرية، فان "التسنن الأول" اتسم بغلبة فكرة القوة والسلطان والقهر والعبودية (من حيث المظهر للنص والله) وفي الواقع لما تقوله السلطة.
أما من الناحية الثقافية، فقد كان التشيع هو نتاج المراكز الثقافية التاريخية الكبرى في المشرق بشكل عام والعربي بشكل خاص (العراق وسوريا ولبنان وإيران). أما التسنن فقد كان من نصيب الهضبة النجدية للجزيرة البدوية، وذلك لان شرقها وغربها شيعي الهوى، واليمن زيدية، وعمان اباضية، والبحرين شيعة قرامطة. ولا يوجد غيرها حواضر مدنية في شبه الجزيرة. فقد كانت نجد وما تزال مركز الأعراب. الأمر الذي جرى تطابقه، حتى بمعايير الموقف الاسلامي الأول (بمعايير القرآن)، بوصفهم مسلمين وليس مؤمنين. كل ذلك يفسر سر الخلاف التاريخي بين المشرق والجزيرة. بمعنى إننا نقف أمام تراث مختلف في الشخصية والبنية الثقافية والذهنية والنفسية.
فقد كان التراث الاسلامي الثقافي بأغلبه صنيعة أهل العراق أولا والشام ثانيا، ومصر ثالثا والمغرب والأندلس رابعا. وأغلب شخصياته العقلية والعقلانية الكبرى في الكلام والفلسفة والتصوف والأدب والشعر كانوا أما شيعة أو ذوي ميول شيعية أو مرتبطين بالمعارضة. والتشيع هو أكثر من مثل وتمثل تاريخ المعارضة. وليس مصادفة أن يجري إلصاق مصطلح "الروافض" بهم. وهو مصطلح عميق المحتوى سليم المغزى بمعايير الفكرة التاريخية المجردة والعقل النقدي، وليس بمعايير الأحكام العقادية المذهبية. إنهم من حيث الأصل "روافض"، اي من ارتبطت بهم فكرة الرفض وعدم الإقرار بقدسية الأفعال أيا كان شكلها (في بادئ الأمر). والتسليم اللاحق بالتاريخ المقدس هو الوجه المتسامي لرفض الرذيلة السائدة، تماما كما أن فكرة المهدي هي فكرة الهداية التي لا يمكن للسلطة وأعوانها وخدمها من شرطة وجيش الإمساك به. من هنا تصنيع هذا الكم الهائل من المرتزقة لمهاجمته فكريا وعقائديا. لكنها جميعا باءت بالفشل. وذلك لان للسلطة حدود، وللعقل المأجور أيضا، بينما لا حدود للعقل الحر(المستفاد والفعال) والروح المتسامي.
لقد تحول فعل الرفض الأول إلى فكرة الرفض الدائم للظلم والطغيان والعبودية والتسليم وما شابه ذلك. وتحول مع مرور الزمن إلى عقائد وجدانية وفلسفية ارتبطت بإشكاليات الوجود الاجتماعي السياسي(الإمامة) والشخصية الإنسانية(الإمام). الأمر الذي يفسر أهميتها وأولويتها في الفكر والتفكير والعمل. وقد ظلت هذه الصفات الجوهرية ملازمة للتشيع، رغم تحجره مع مرور الزمن بأثر القهر والإكراه والقتل والتشريد. ومع ذلك وجدت هذه الصفات مخارج متنوعة لها في مختلف النظريات الفلسفية والعرفان، وفي فكرة الظاهر والباطن، وفي مناهج التفسير والتأويل، وفكرة حتمية العدل والحق الذائبة في الأبعاد السياسة والأخلاقية لفكرة المهدي.
أما الحصيلة التاريخية لهذه الظاهرة في مجال الفكرة السياسية فمن الممكن رؤيتها في أربعة تيارات كبرى تتماثل من حيث الظاهر مع تقاليد الفكرة السياسية في التسنن. إذ نراها فيما يمكن دعوته بالتيار التقليدي المذهبي الضيق، كما هو جلي فيما يطلق عليه بصورة عامة عبارة التشيع الصفوي، اي التشيع الذي يجعل من المذهبية الصارمة وتقاليدها وشعائرها أصولا بالنسبة للعقيدة والسلوك، والتيار الراديكالي اللاهوتي السياسي كما هو الحال بالنسبة للخمينية وأمثالها، والتيار الإصلاحي السياسي الثقافي، كما نراه في نموذج علي شريعتي، ولحد عند محمد باقر الصدر، وتيار التجديد العملي بأبعاده الاجتماعية والسياسية والوطنية والقومية والأممية (الإسلامية العامة) كما نراه في حزب الله (اللبناني) وأمثاله. وباستثناء التيار الأول، الذي مازال يؤثر في تقاليد العوام، فان الحركة السياسية وفكرتها العملية وجدت انعكاسها الفعلي في التيارات الثلاثة الأخرى، بوصفها حركة صاعدة ومتناغمة ومتداخلة (بمعايير الفكرة النظرية والعملية، رغم التباين والاختلاف السياسي فيما بينها أحيانا). إلا انه اختلاف حيوي وفعال بالنسبة لتجذير الأبعاد الواقعية والعقلانية والإنسانية. إذ نعثر عليها في بناء الدولة الإيرانية الحديثة ومنظمتها السياسية والثقافية الأصيلة، وبالتالي إمكانية تطورها التلقائي بوصفه نتاجا لتجربتها الذاتية. كما نراه في التجربة الحية والحيوية لحزب الله اللبناني، التي يمكن اعتبارها التجربة الأعمق والأصدق والأكثر أصالة في الفكرة السياسية العربية الحديثة والمعاصرة فيما يخص الإخلاص والعمل الواقعي تجاه تحصين النفس وتقوية الارادة وعزيمة المواجهة المحكومة بالمصالح الوطنية والقومية.

المشرق العربي والبديل التاريخي للصراع الديني – الطائفي

إن التماثل بين التيارات الأربعة السنية والشيعية، المشار إليه أعلاه، يبقى في نهاية المطاف جزء من المقارنة التاريخية، اي جزء من تأمل كل الماضي وجزء من الحاضر. وذلك لان التسنن يسير أكثر فأكثر صوب الانحسار الفكري والروحي والأخلاقي، ويتجذر أكثر فأكثر في حركات لاعقلانية وبدائية في "العلم والعمل". بمعنى إننا نقف أمام ظاهرة تحلله وتفسخه وموته الروحي. الأمر الذي يجعله عصيا على الإصلاح. والطريق الوحيد لإصلاحه، كما جرت في أوربا قبل قرون بالنسبة للكاثوليكية، يقوم في صعود البديل البروتستانتي، ومن ثم تدمير البنية التقليدية للكنسية الكاثوليكية. مع ما ترتب عليه من تأسيس المقدمات الضرورية للإصلاح الديني والدنيوي ومن ثم صعود نبتات التنوير، والفكر الحر، والعقل النقدي.
لقد كان البروتستانتيون روافض النصرانية (كلمة بروتستانت تعني الرافض). الأمر الذي يجعل، بأثر المسار التاريخي للتشيع الحديث من أن يكون الشيعة روافض الإسلام التقليدي (التسنن) الآيل للسقوط الروحي التام. وهي فكرة قد حاول التأسيس لها قبل عقود علي شريعتي، الذي يمكن اعتباره أول من تكلم عن التشيع باعتباره بروتستانتية الإسلام. حيث دعا إلى إصلاح الفكرة الشيعية بتحويلها إلى طاقة اجتماعية سياسية لفكرة الحرية والنزعة الإنسانية ومن ثم تماهيها مع حقيقة الإسلام المحمدي، أو ما أطلق عليه عبارة التشيع العلوي عوضا عن التشيع الصفوي، والإسلام المحمدي عوضا عن الإسلام الأموي.
طبعا، إن الحديث هنا لا يجري عن تطابق وتشابه. فلكل منها تاريخه الذاتي الخاص وخصائص فعله ضمن سياق تطور الدين ومؤسساته وعقائده الخاصة. إلا أنهما يعكسان طبيعة الحالة التي رافقت وترافق مرحلة الانتقال من التدين اللاهوتي صوب الدين السياسي ومنه إلى الفكرة السياسية الاجتماعية. وقد أنجزت البروتستانتية في أوربا هذه المهمة بنجاح بعد صراع (ديني) عنيف ودموي هائل امتد لعقود طويلة، شمل اغلب مناطق القارة الأوربية وشعوبها. فقد كان القرن السادس عشر والسابع عشر، وبأثر حركة الإصلاح البروتستانتية، هما قرنا الحروب الدينية العنيفة. بحيث استمرت هذه الحروب لما يقارب الثلاثة عشر عقدا من الزمن، أو مائة وواحد وثلاثين سنة (1517- 1648) بحيث تحولت دول مثل سويسرا وفرنسا وألمانيا والنمسا وهولندا وانكلترا وأيرلندا والدنمرك وبوهيميا (التشيك) وغيرها إلى ميادين قتال دموي شرس ولا عقلاني. ففي فرنسا وحدها جرت ثمان حروب دينية عنيفة (1562-1563، 1567-1568، 1568-1570، 1572-1573، 1574-1576، 1576-1577، 1579-1580، 1585-1598). إلا أن النتيجة كانت تسير صوب خفوتها بأثر تدمير البنية التقليدية القديمة وصعود الدولة المدنية، بمعنى انتصار الدنيوية بوصفها النتيجة المنطقية المترتبة على نفاذ المرحلة الدينية اللاهوتية.
ونعثر على نفس الملامح المجردة فيما يجري من صراع ديني في المشرق العربي المعاصر. بمعنى انه يعكس مرحلة الانتقال من الإسلام اللاهوتي إلى الإسلام السياسي، الذي تحول فيه التشيع إلى قوة ريادية، كما كانت البروتستانتية في أولها، بسبب انغلاق الأفق التاريخي المستقبلي للتسنن بشكل عام. ومن ثم فان مضمون الصراع التاريخي بهذا الصدد، هو سياسي بنيوي أولا وقبل كل شيء. وليس مصادفة أن يتزامن مع انحلال السلطة الطائفية الجهوية للصدامية وصعود "المد الشيعي" في العراق، الذي ساهمت فيه قوى الجزيرة النجدية، لكنها واجهته لاحقا وما تزال بقوة عنيفة، بحيث جعلت من الصراع الديني المذهبي مصدر تأليبها وتخريبها في المشرق العربي ككل (العرق وسوريا ولبنان). غير أن هذه العملية اللاعقلانية هي ممر العقلانية المستقبلية. وذلك لانها أشركت بقوة سريعة ماضي الأوهام والعقائد الميتة ووضعتها على حطب المعارك الاجتماعية السياسية. فالصراع في المشرق العربي من حيث الجوهر هو صراع اجتماعي سياسي يتمثل نموذجين متباينتين ومختلفتين بل ومتناقضتين، ليس الصراع السني - الشيعي سوى مظهرها الديني لا غير، كما كان الصراع بين البروتستانتية والكاثوليكية قبل قرون مضت في أوربا، اي الصراع بين قوى تقليدية وقوى مستقبلية. فالجزيرة ونظمها السياسية والاجتماعية لم تتوصل بعد إلى حقيقة الفكرة الاجتماعية والوطنية والقومية الثقافية. كما أنها لا تعترف بفكرة الدولة المدنية الحديثة وفكرة المواطنة الدستورية. من هنا يمكن فهم السر القائم وراء تأجيج مختلف النوازع البدائية وغير العقلانية للوقوف ضد الإصلاح الفعلي لتيار الحداثة المنحرف في مجرى القرن العشرين في المشرق العربي، والذي اخذ يشق لنفسه الطريق قبيل وبعد "ثورة الربيع العربي" من حيث كونها قوة اجتماعية مدنية وقومية مستقبلية.
لقد تحولت الجزيرة النجدية إلى حاملة الحطب، شان أسلافها، لرميه تحت قدور المحرقة التاريخية للبشر والعقائد. لكنها لا تعي الحقيقة القائلة، بان هذا الحطب السريع الاحتراق لا يلتهم من حيث الجوهر سوى ما أسميته بأوهام الماضي والعقائد الميتة. وذلك لان حطب الجزيرة هو مال السحت والسرقة وكبريت الرشوة والمرتشين. وسوف يعيد المشرق العربي طبخها بمعايير المستقبل كما فعل ذلك قبل قرون عديدة. فقد كلفه فيما مضى، مع صعود الأموية، جهودا وتضحيات وحروب دموية هائلة. لكنها انتهت بصعود الفكرة الثقافية للعباسية مع رافقها من إمبراطورية ثقافية كونية كبرى كانت بغداد ودمشق مراكزها الأساسية. وهو ما يمكن رؤيته على أساس المقارنة المجردة. بمعنى إننا نقف أمام نفس القوى التي أثارت الفتنة (قميص عثمان) ولواحقها. إذ ليس إثارة الحرب ضد "الروافض" و"الهلال الشيعي" و"الصفوية الإيرانية" سوى قميص عثمان النجدي الحديث!! بعبارة أخرى، إن الغطاء الطائفي للصراع الدامي في المشرق، وبينه وبين الجزيرة النجدية، ليس صراعا بين مذاهب بل صراع بين أديان – دين إسلامي مشرقي ودين وهابي نجدي. والفوز سيكون فيه، كما جرى في الماضي، لقوى المستقبل والفكرة الثقافية (العربية). فالمشرق كان وما يزال وسيبقى هو مركز الفكرة العربية الثقافية.
إن المشرق العربي هو جغرافيا التاريخ الثقافي المتراكم في وادي الرافدين (العراق) والشام (سوريا ولبنان وفلسطين). لقد اتخذ في التاريخ الفعلي للعرب ومصادر وعيهم الذاتي صفات "ارض السواد" و"الشام"، ثم "الهلال الخصيب"، ثم "المشرق" وأخيرا "المشرق العربي". وبالتالي ليست تجزئته المتكررة بين الحين والآخر سوى لحظات زمنية عابرة في صيرورته التاريخية وكينونته الثقافية بوصه كلا واحدا. وهي كينونة متراكمة في البنية الذهنية والنفسية والتجربة الثقافية. فهو "مهد الحضارة ومقوماتها" و"مهد الدولة ونماذجها" و"مهد الإمبراطوريات وآثارها". إذ هنا تكاملت الدول والأمم والإمبراطوريات والعقائد والأديان. فالمسيحية أصبحت عالمية بفضل أهل الشام ومصر. والإسلام أصبح عالميا بفضل أهل العراق والشام. والشخصية العراقية الشامية هي شخصية واحدة. الأمر الذي يجعل من مواجهة الدين الوهابي النجدي بالفكرة العربية الحديثة بوصفها فكرة قومية ثقافية، الأسلوب الوحيد لتذليل مرحلة الانتقال من التدين اللاهوتي والسياسي صوب الفكرة المدنية والقومية الحديثة. وسوف لن يغير من هذه الحقيقة شيء كونها تجري من خلال اشد الأشكال لا عقلانية في الظرف الحالي. فهو الأسلوب الذي يذلل بسرعة مقدمات ونفسية وذهنية اللاعقلانية الدينية والمذهبية والطائفية.
فالتجارب التاريخية تبرهن على أن الحروب الدينية تضعف الدين والتدين وتصنع قوى نوعية جديدة. إننا نراها على مثال تجربة لبنان وحزب الله، وتجربة اليمن وصعود الحركة الحوثية، وتجربة العراق وصعود الحشد الشعبي. كما نراها في الاستعادة العميقة والصعبة في مصر للفكرة الوطنية العربية الاجتماعية والثقافية وليس الدينية. والشيء نفسه ينطبق على تونس. بعبارة أخرى، إن الحروب الدينية صنعت أمما مدنية قوية وحيوية وحرة وعقلانية. وهو المصير المحتوم للمشرق العربي، بمعنى قدره ومستقبل قدرته في نفس الوقت.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سقوط قتلى وجرحى في غارة إسرائيلية على سيارتين في منطقة الشها


.. نائب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية: الوضع بغزة صعب للغاية




.. وصول وفد أردني إلى غزة


.. قراءة عسكرية.. رشقات صاروخية من غزة باتجاه مستوطنات الغلاف




.. لصحتك.. أعط ظهرك وامش للخلف!