الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين زعيمين

سليم صفي الدين

2018 / 6 / 1
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


أجلس هنا أسيرا بين الماضى والحاضر، فى صراع دامٍ بينهما وبين المستقبل المأمول، أعمل بجريدة عريقة مرت على نشأتها عشرات السنين، أرشيفها شاهد على وقائع غيرت المسار. صالة التحرير بيضاء اللون، واسعة للغاية، تحتوى عشرات الأجهزة، ومئات الصحفيين، بخلاف من هم فى الشوارع والميادين. هنا مكتبى المتواضع، يقع فى وسط الصالة تماما، الجدار المقابل لى معلقة عليه صورة كبيرة لزعيم الجريدة الأول، الرجل الذى انقلب على نظام الإدارة حينها فى عام 1952. وخلفى تماما صورة الزعيم الحالى، الذى يحاول أن يحذو حذو الزعيم الأول، والذى يرأس الإدارة والتحرير حاليا.


أسمع الكثير من الروايات عن الرئيس الذى سبق الزعيم الأول، منها أنه أضاع ثروات المؤسسة بالكامل على النساء والخمور، ولكن بنظرة موضوعية أجد أن الرجل له وعليه، وما له -فى رأيى- أكثر. هناك حالة من التعمد لتشوية تلك الفترة، حتى ليُقال إن الزعيم المؤسس هو العظيم الذى جاء بحرّية واستقلال المؤسسة، إلا أن هذا لم يحدث، فقد أسس للدكتاتورية والتفرد بالرأى، وفصل مئات الصحفيين من المؤسسة عبر سنوات إدارته، ويقال إنه مات مقتولا.


بعد موته توالت الأحداث بشكل متسارع، على مدار سنوات، مع محاولات مستميتة لكسر الجريدة، ووضعت الكثير من القوانين والمعاهدات الداخلية والخارجية المتعلقة بحرية التعبير والرأى، وحجم ومساحة المؤسسة، منها ما يتوافق مع سياسات الحرية، ومنها ما يقصف القلم. خاضت المؤسسة معارك ضارية بهدف استقلال كيانها واستقرارها، حتى جاء الرئيس الرابع لها، الذى كان رئيسا للتحرير فقط، وكان مجلس الإدارة أعلى فى السلطة التنفيذية. ظل يعدل ويشرع ويغير لصالحه، ولصالح حزبه، فالجريدة أصبحت أحزابا مشتتة لا فائدة منها ولا نفع، حتى أصبح رسميا رئيس مجلسى الإدارة والتحرير، بل أصبح رئيسا لكل الهيئات القائمة داخل المؤسسة، وكان يجهز نجله ليحل محله، وكانت هنا المشكلة الكبرى للعاملين وكذلك للمجلس الإدارة.


جهز الكثير من الخطط وخاض الكثير من المعارك، فقط من أجل تعيين ابنه من بعده، حتى انتفض العاملون فجأة فى غفلة من الزمن، وجابوا كل القطاعات يهتفون ويصرخون ضد الفساد والظلم والتوريث، واتخذوا ساحة المؤسسة مكانا للاعتصام.. تعطل العمل بكل القطاعات، حالة من العصيان تؤشر على الرحيل الذى بات محتوما.. حاول الرئيس وقتها الحصول على رضا وثقة العاملين بكل الطرق والوسائل، ولكن سبق السيف العزل، لا بديل عن الرحيل. كان الجميع فرحا بما يحدث، وكنت أنا فى الصفوف الأولى، أهتف وأثور، إلا أن رئيس قسم الإسلام السياسى، الأستاذ فرج فودة، جاء إلىَّ وهو غير مهندم على غير عادته، والعرق يتصبب منه، يداه ترتعدان بشكل مبالغ فيه، هذا ليس عامل السن، أنا أعرف جيدا، لطالما كان داعما لى، ووقف كثيرا ضد الظلم والفساد، كان يتكلم بعناء شديد كأنه قطع مسافة الكون كله جريا، جلبت له ماءً، أغرق بدلته الأنيقة غير المهندمة، وقال بصوت متقطع وجسد مهترئ:

إنتم فاهمين حجم اللى بيحصل؟ الموضوع أكبر من خيالكم القاصر، تقدر تقول لى مين ممكن يتولى إدارة المؤسسة لو تحقق مطلبكم والرئيس مشى؟
أجبته بعنف وحدة: يا خسارة، أيام الثورية ومحاربة الفساد راحت فين؟ الموضوع انتهى، لازم يمشى!
ابتسم ساخرا وقال: كنت متأكد إن ده الرد، للأسف إنتم متحمسين مش أكتر، والحماسة وحدها لا تكفى، مين فيكم اشتغل وطوّر نفسه؟ مين اشتغل سياسة صح؟ مين فيكم جاهز يتولى إدارة الأقسام؟ إنتم أصلا مجموعة مهلهلة، ما يغُرّكش العدد، إنتم مش واحد! وعموما التيار الإصلاحى الممثل فى الدين هو اللى جاهز... سلام.
قام وهو أقوى، لم يعد يرتعد، كأنه أرضى ضميره برسالته، لم أفهمه، واتهمته بأنه جاء ليشتت الشمل.

بعدها حدث ما قاله لى بالضبط؛ تولى التيار الدينى بعد فترة قصيرة مقاليد إدارة المؤسسة، بعدما أدار لمرحلة مؤقتة المجلس الأعلى الممثل فى الجمعية العمومية عقب اجتماعها بشكل طارئ.


لم نتحمل تدخل التيار الدينى فى كافة الأمور، ومحاولته لأسلمة كل شىء، نظمنا وقفات احتجاجية كثيرة من دون جدوى، حتى جاء اليوم الموعود، بعد أن وقع عدد كبير على استمارة سحب ثقة من الإدارة، وتولى رئيس مؤقت لحين إجراء انتخابات حقيقية. قامت المؤسسة عن بكرة أبيها ضد سياسته فى الإدارة، وأصبحنا قاب قوسين أو أدنى من الإطاحة به.


وبينما نحن معتصمون، مثلما فعلنا فى الاعتصام الأول ضد الرئيس الذى سبقه، جاء الأستاذ فرج فودة واختارنى للمرة الثانية ليتكلم معى، وعندما سألته عن سر اختياره لى قال: أنت تمثل الشباب والحماس والثورية، اللى بيحصل ده لازم ينتهى فورا، ماينفعش يمشى!
صرخت فى وجهه: مش دول اللى حضرتك ليل نهار بتتكلم عن أفكارهم الرجعية؟ جاى دلوقتى تدافع عنهم؟
أجاب بصوت عال جدا وبحدة لم أعتدها: أنت ساذج جدا، اسمعونى كلكم...
نهض من جلسته بعناء، فقد كان ثقيل الوزن، وقال: إنتم مش قادرين تفهموا الدائرة المفرغة حتى الآن، مين فيكم كوّن فريق يقدر ينافس على السلطة؟ مين يقدر يفك اجتماع الجمعية العمومية وتحكمها فى الإدارة والسلطة بصفتها ستكون المجلس الأعلى للإدارة؟ مين يضمن نزاهة الانتخابات؟ ما دام جاء بالصندوق يمشى بالصندوق!

وقتها صرخ الجميع فى وجهه، وهتفوا ضده، وانا معهم وبداخلى شىء يخبرنى بأن هناك خللا.. كل هذه الأسئلة والأحداث تدور فى رأسى كل يوم، عندما أجلس بين صورة الزعيمين، الماضى والحاضر..

عُزل الرئيس من موقعه، وتولى رجل طيب ذو وجة طفولى الإدارة لحين إجراء انتخابات.. أكره هذه الفترة ولا أحب أن أتذكرها، لقد سقط فيها الكثير من الضحايا، فأغلب المنتمين للتيار الدينى داخل المؤسسة والمعارضين لهم، حدث بينهم كثير من الاشتباكات والمشاحنات، ورجال الأمن ألقوا القبض على الكثير منهم، وسال الدم من هنا وهناك، وتم فض اعتصامهم داخل المؤسسة بالقوة، وسقط الكثير القتلى. وقتها باركْت الفض، واليوم ضميرٌ يَجلِد وأحاسيس تعذِّب، واعتذار غير مقبول!


درات الدنيا سريعا، حتى جاء الزعيم الحالى، أتذكر وقت إلقاء القبض على الأستاذ فرج فودة قبل وفاته فى محبسه، صرخ فى وجهى: جالك كلامى؟ إلحق لِمّ الناس، لازم تكونوا كتلة تقدر تقف قدام كتلتين كبار زى المجلس الأعلى والتيار الدينى، احصلوا على ثقتهم عشان يختاروكم بديل، اتعلموا فنّ المُمكن، طول ما الاتنين دول أقوى، مفيش صحافة حقيقة ولا حرية ولا غيره...

جذبه أحد أفراد الأمن الملثمين، من ذراعه اليمنى بقوة من صالة التحرير، فسقط على وجهه، ثم قام وأنفه ينزف، وتابع كلامه: الدور عليكم، أنا بس الأول!

من وقتها وصالة التحرير خاوية على عروشها، لا أعرف هل لم يُقبض علىَّ أنا ومن مثلى لأننا أصبحنا جزءًا من نظام الإدارة الحالى، أم أننا تركنا القضية كما قال البعض؟

كل ما يشغلنى بعد وفاة الأستاذ فرج فودة، أن أنشر فكرته بين العاملين.. يجب أن نكون كتلة، ونخوض الانتخابات. كفى انسحابات بمبررات واهية، كفى خوفا.

المؤسف أن وصية الأستاذ دخلت طورها الأخير، وهو تصالح المجلس الأعلى الممثل فى الجمعية العمومية، والتيار الدينى.

آه، ليتك حىّ بيننا يا أستاذ، أعتذر كثيرا عما قلته فى حقك، لقد كنتَ سابقا لخيالنا "القاصر" كما وصفته لى إبان اعتصامنا الأول، للإطاحة بالرئيس الرابع؛ فاليوم توضع العمامة فوق البدلة.

متى نتكتل ونعمل فى كل قطاعات فن المُمكن، حتى نصبح للمرة الأولى أقلية مؤثرة، ثم بديلا حقيقيا جاهزا صاحب مشروع حديث؟
هل تعلمنا الدرس؟ أم أننا بحاجة إلى دروس أخرى؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التجسس.. هل يقوض العلاقات الألمانية الصينية؟ | المسائية


.. دارمانان يؤكد من الرباط تعزيز تعاون فرنسا والمغرب في مكافحة




.. الجيش الأمريكي يُجري أول قتال جوي مباشر بين ذكاء اصطناعي وطي


.. تايلاند -تغرق- بالنفايات البلاستيكية الأجنبية.. هل ستبقى -سل




.. -أزمة الجوع- مستمرة في غزة.. مساعدات شحيحة ولا أمل في الأفق