الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاشتراكية ذات الخصائص الصينية وتحديات العصر

كمال هاني

2018 / 6 / 1
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



(مقاربة اقتصادية في الذكرى المئوية الثانية لولادة كارل ماركس)


توجّه بأصدق تحياتنا وشكرنا – باسم الحزب الشيوعي اللبناني - الى قيادة الحزب الشيوعي الصيني لتنظيمها هذا المؤتمر الفكري بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لولادة كارل ماركس،

الذي يعتبر أوّل وأهمّ فيلسوف سعى ليس فقط الى تحليل أوضاع المجتمع والعالم بل عمل كذلك على تغييرهما. وكم نشعر بالحاجة، كشيوعيين ويساريين لبنانيين، الى التوصّل الى قراءة جامعة - وإن متنوّعة - للنظرية والممارسة الماركسيتين في عالم متغيّر، في زمن تعاني فيه بلداننا العربية من التبعية الاقتصادية والاجتماعية والتجزئة والاستبداد والافقار ومحاولات تجديد السيطرة الامبريالية والصهيونية عبر ترسيخ الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين ونشر الغزوات والقواعد العسكرية وإفتعال الحروب الأهلية والتوظيف في الأنظمة العربية الرجعية والقوى الأصولية. كما نعلّق أهمية كبرى على ما سينتج عن هذا المؤتمر من خلاصات نسعى الى الاهتداء بها لدى تحضيرنا للورشة الفكرية التي ينوي الحزب الشيوعي اللبناني عقدها في النصف الثاني من هذا العام حول موضوع: "الحركة الشيوعية واليسارية العربية وماركسية القرن الواحد والعشرين".
ويحضرنا منذ البداية السؤال لماذا نعلّق هذا القدر من الآمال على تجربة بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، بقيادة الحزب الشيوعي الصيني والرئيس شي جيبينغ؟ ونسارع الى القول أن هذه الآمال لا ترتبط فقط باستمرار تمسّكنا بمعتقداتنا الماركسية وبمنهج التحليل المادي للتاريخ، ولا هي ترتبط فقط بمشاعر الحنين العميق الذي لا يزال يشدّنا الى عصر الثورات الاشتراكية والتقدمية التي تعاقبت على امتداد القرن العشرين. بل إن تلك الآمال تنبع - إضافة الى ذلك، وربّما قبل ذلك – من القناعة العميقة بأن النظام الرأسمالي الليبرالي الذي لا ينفكّ يصطدم بأزمات ترتدي الطابع الوجودي (وأخرها أزمة عام 2008 التي تذكّرنا بأزمة عام 1929 الكيرى)، بات يثير حالة من الشكّ المطلق وعدم اليقين بالنسبة الى مستقبل تطوّر الدول والشعوب والبشرية جمعاء. وهذه القناعة تتعزّز بقوّة أكبر كلّما قارنّا ما تمخّض عنه المساران المتباينان اللذان حكما تطوّر العالم، خصوصا في العقود الثلاثة المنصرمة - أي المسار الرأسمالي الليبرالي المعولم من جهة، والمسار الاشتراكي الصيني من جهة ثانية - مع التوقّف بشكل خاص عند ثلاثة محاور رئيسية نرى أنها تحتل واجهة القضايا الفكرية والسياسية في العالم راهنا.
1- في العلاقة بين الدولة والسوق: إحتلت هذه العلاقة على الدوام موقع الصدارة في صيرورة النظام الرأسمالي العالمي، منذ الحقبة الفيزيوقراطية ثم المدرسة الكلاسيكية (آدم سميث) فالمدرسة الكاينزية (بعد الحرب الكونية الثانية)، وصولا الى إنبعاث المدارس والتيّارات النظرية الليبرالية التي إنكبّت منذ أواسط السبعينيات على إعادة النظر في المعادلة القائمة بين الدولة والسوق، ومن ضمن هذه التيّارات التي تزامنت مع ظاهرة العولمة: التاتشيرية والريغانية والمدرسة النقدية و"إتفاق واشنطن" ومدرسة "اقتصاد جانب العرض" Supply Side Economy)) وغيرها. ويقينا أن كافة هذه التيّارات والمدارس النظرية لم تنجح في كبح جماح الأزمات الاقتصادية التي ظلت تفتك بالنظام الرأسمالي العالمي، خصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة التي إعتبرت ذات يوم بأنها تمثّل "نهاية التاريخ" وتؤبّد سيطرة الخيار الليبرالي على المستوى الكوني. وفي أفضل الحالات، إكتفت الأقسام المسيطرة في النظام الرأسمالي العالمي بإدارة المعادلة بين الدولة والسوق في صالح رأس المال الكبير والمجمّع الصناعي-العسكري الذي يشكّل القوّة الضاربة للقوى الطبقية المهيمنة في تلك الدول. في المقابل فان الصين بدأت منذ أواخر السبعينيات (1978) في إصلاح المعادلة بين الدولة والسوق، بقيادة الحزب الشيوعي وعلى غرار محاولة لينين في ظروف مختلفة استخدام "السياسية الاقتصادية الجديدة" (النيب). وهي نجحت في إستخدام وتطويع آليات السوق الرأسمالية في صالح تطوّر القوى المنتجة وتحسين الأحوال المعيشية للطبقة العاملة والفئات المتوسطة والفقيرة، بحسب ما تؤكّده كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية المتاحة. وتنكبّ قيادة الحزب الشيوعي راهنا – عبر توجهات المؤتمر الأخير الذي عقد عام 2017 والخطة الخمسية الأخيرة (2016-2020) - على معالجة بعض الارتدادات السلبية الجانبية التي رافقت استخدام آليات السوق والاقتصاد الرأسمالي، ومن ضمن هذه الارتدادات مسألة ازدياد الفوارق الاجتماعية، وتهميش أجزاء من الريف، وتفشّي بعض أشكال الفساد، مما يستدعي المضيّ في تحسين أوضاع الطبقة العاملة وتوسيع انتشار الطبقة المتوسطة، هذا بالاضافة الى مضاعفة فعالية استخدامات الطاقة ومعالجة القضايا المتفرّعة عن ظاهرة التمدين السريع وإيلاء البعد البيئي ما يستحقّه من اهتمام.
2- في العلاقة مع الرافعة التكنولوجية:. إتجهت دول المركز الرأسمالية بصورة عامة نحو إخضاع وتطويع التطور التكنولوجي لهاجس تعظيم الربح الرأسمالي الاحتكاري كهدف أساسي، الى جانب تعزيز استخدامه كذلك في التدخلات الخارجية العدوانية والتوسعية ونشر القواعد العسكرية في غير منطقة في العالم، بغية إعاقة أو إبطاء تحوّل العالم من نظام الآحادية القطبية الى نظام متعدد الأقطاب. ووصل الأمر بهذه الدول الى حدّ الدفع في اتجاه خلق تناقض عضوي ما بين الآلة وقوة العمل، فمالت الأولى بشكل تدريجي وغير منظّم الى الحلول مكان الثانية حيث انتشرت نظريات مفادها "إمكان تحقيق النمو الاقتصادي من دون الحاجة الى عمل" ، وذلك وسط تعاظم جيش العاطلين عن العمل. أما في حالة الصين، فقد نجحت هذه الدولة في تسجيل تقدّم مذهل في كل مجالات التطور التكنولوجي، والأهم من ذلك أن ثمرات هذا النجاح جرى توظيفها أساسا في خدمة الأهداف الكلّية والشاملة لعملية التنمية وفي تطوير فرص العمل وتوسيع القاعدة الاجتماعية للدولة الاشتراكية، بحسب ما يؤكّده تراجع معدلات البطالة والتحسّن المطّرد في انتاجية العمل والازدياد المثير في نسبة العمالة الماهرة من مجموع القوى العاملة، وغير ذلك من مؤشرات. أي بكلام آخر نجحت الصين – حيث فشل الغرب - في عدم إصطناع تناقض عضوي بين قوة العمل والتطور التقني. وقد تمكّنت الصين على إمتداد ثلاثة عقود - وبقيادة الحزب الشيوعي وأمينه العام شي جيبينغ - من تحقيق معدلات نمو قياسية جعلتها تحتل الموقع الأول في المقارنات الدولية. كما تمكّنت من تنويع بنيتها الاقتصادية الى أبعد الحدود: ما بين قطاعات النشاط الاقتصادي، وما بين المناطق المنتشرة في المدن والأرياف، وما بين الانتاج الصغير والانتاج الأكبر حجما، وما بين الآليات الناظمة لتدخلات الدولة المركزية والآليات الناظمة لعمل السوق. وعبر خططها الخمسية المتعاقبة، سجّلت الصين تطورا قياسيا في شبكة المرافق والخدمات العامة الأساسية، وربطت المناطق بعضها ببعض عبر مراكز استقطاب مدينية إنمائية وتكنولوجية متطوّرة (مثال تشانزان).
3- حول مسألة "الرفاه الاجتماعي": كل النظريات الرأسمالية وعدت تاريخيا بتحقيق "الرفاه الاجتماعي" بمجرّد إنتظام آليات عمل قوى السوق الحرّة. غير أن ما يشهده العالم الرأسمالي من أزمات بنيوية وجودية - وسط تزايد مؤشرات البطالة وتصاعد مديونية الأسر والقطاع العام والتفاقم الاستثنائي في تركّز الثروة والدخل وغياب العدالة الاجتماعية - يؤكّد أكثر فأكثر أن حالات الرفاه الموعود باتت بعيدة المنال وهي تتجه بثبات نحو التلاشي والانحسار. ربما يتمثّل الاستثناء الأهم في الحقبة الكينزية الممتدة ما بين الحرب الكونية الثانية وأوائل السبعينيات، والتي تزامنت مع توسيع القاعدة الاجتماعية لتوزّع الدخل والثروة عير التقديمات والمنافع الاجتماعية والتعليم الرسمي ونظم التقاعد وضمان البطالة وغيرها. ولكن يجب الإقرار أن ذلك التحسن في الرفاه كان عائدا لسببين رئيسيين: أوّلا، كتدبير وقائي من قبل الرأسمالية العالمية في مواجهة تنامي دور الحركات الشيوعية واليسارية والنقابية وتفاعلات ثورة أوكتوبر الاشتراكية العظمى؛ وثانيا، كتدبير وقائي أيضا لتبديد شبح تفاقم الأزمات الدورية التي كانت تعصف بالنظام الرأسمالي العالمي منذ أواسط القرن التاسع عشر، والتي كانت تتطلب ضمان مستوى من "الطلب الفعلي"(Effective Demand) يحفّز استمرار التراكم الرأسمالي ويحمي معدلات الأرباح. أما بؤر انتشار بعض حالات الرفاه في فترات متفاوتة بعد أواسط السبعينيات، فانها لم تكن وليدة اقتطاع الأجراء والطبقة الوسطى حصة أكبر من الناتج المحلى الحقيقي (على غرار ما حصل خلال الحقبة الكينيزية)، بل تمّ بشكل ملتبس ومشوّه كنتيجة لتعاظم لجوء مئات الملايين من الأسر في الدول الرأسمالية الغربية الى رهن مستقبلها عبر الاقتراض من البنوك بهدف تدبير أحوالها المعيشية والسكنية الحاضرة، في زمن كان إنتفاخ الفقاعة المالية يحتّم على هذه البنوك التوسّع في الاقراض كأداة لإخفاء أزمات الاقتصاد الحقيقي. أما في حالة الصين، فانها قد نجحت في تحويل جزء كبير من ثمرات النمو لتحسين الأحوال المعيشية للعمال وللفئات ما دون المتوسطة، كما نجحت في خفض معدلات الفقر الى ربع مستوياتها في أقلّ من عقدين، حيث باتت لا تتجاوز عتبة 5%. وفي انتظار أن يتمّ إنجاز أهداف أكثر طموحا على هذا الصعيد في غضون عام 2035، فان الصين سوف تتجه بخطوات ثابتة بعد عام 2035 نحو استكمال إنجاز مقوّمات البناء الاشتراكي، بحسب ما أكّد عليه المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الصيني.
ويجب الإقرار بأن تحجيم دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي في الدول الرأسمالية واطلاق العنان لحرية رأس المال لم يحولا دون تفجّر ما يزيد عن مئة أزمة اقتصادية موضعية أو عامة منذ أواسط السبعينيات (بحسب الاقتصادي المرموق Stiglitz Joseph). وخلقت هذه الأزمات المتكرّرة البيئة المناسبة للهجوم على مكاسب العمال والطبقة الوسطى والفقيرة، بفعل تغليب "الاقتصاد المالي" على مقوّمات الاقتصاد الحقيقي، مع العلم أن هذه الغلبة إستخدمت كوسيلة للتعويض عمّا كان قد توقّعه كارل ماركس قبل أكثر من قرن ونصف القرن بشأن الميل التراجعي لمعدلات الربح الوسطي الحقيقي في الاقتصاد الرأسمالي. ان تورّم الاقتصاد المالي والانتفاخ المصطنع للأرباح ذات الطابع المالي والريعى في الاقتصادات الليبرالية، قد أحدثا خللا رجعيا (regressive)فظيعا في عملية توزيع وإعادة توزيع الدخل والثروة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة: تراجع الوزن النسبي للأجور كنسبة من الناتج المحلي في البلدان الرأسمالية، ارتفاع الفجوة بين تطور مستوى الأجر الوسطى الفعلى وتطور انتاجية العمل في البلدان المذكورة، وتنامي العلاقة الطردية بين إزدياد معدلات البطالة عموما وإزدياد الوزن النسبي للاقتصاد المالي في تلك البلدان التي تخلق، بطبيعتها، أنساقا مدمّرة لفرص العمل.
وسط هذه الأزمات المستعصية، يجب أن يشكّل البحث عن خيارات أخرى مناهضة للرأسمالية على المستوى الكوني، نقطة ثابتة على جدول أعمال كل الأحزاب والحركات الشيوعية واليسارية والديمقراطية في العالم، دفاعا عن قوى اجتماعية تتزايد باستمرار في صفوف العمال والطبقة الوسطى والفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمّشة. ويشكّل مضيّ الصين قدما في استكمال تجربتها الاشتراكية بخصائص صينية الردّ الناجع على هذا النمط من المخاطر والتحديات التي تواجه عمال العالم وشعوبه، في وقت يستمر فيه ازدياد التركيب العضوي لرأس المال والتطور المثير في التكنولوجيا وفي تقسيم العمل وانعكاسهما على حجم وبنية وتوزّع الفائض الفعلي لقيمة العمل.
إن الحركة الشيوعية واليسارية العربية مطالبة – بالتعاون مع سائر القوى الديمقراطية والجمعيات المدنية العربية المعنية بالدفاع عن حقوق الانسان في الميادين كافة – باستلهام الدروس والعبر المستخلصة من تجربة البناء الاشتراكي في الصين، وبتجميع وتكتيل طاقاتها وقدراتها وتطوير أحزابها وبرامجها وأساليب عملها، كي تتمكّن بدورها من ملاقاة هذه التجربة الرائدة والتفاعل البنّاء مع مندرجاتها، والمساهمة الفعّالة في أممية اشتراكية من نوع جديد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري