الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلِكْترا: الفصل السابع 5

دلور ميقري

2018 / 6 / 5
الادب والفن


في الليلة الثانية، لم تستطع " نفيسة " التسلل إلى مخدعه بسبب أزمة صحية ألمّت بسيّدة الدار. كان قد أحسّ بالسأم فورَ إعلامه بالأمر، وذلك عقبَ تقديم العشاء في نحو الساعة الواحدة ليلاً. على سبيل المجاملة ( وماذا كان بوسعه أن يفعل حقاً؟ )، أطلّ على المريضة في جناحها بالطابق العلويّ واطمأن على وضعها. هنالك أجتمع الكلّ بما فيهم الأميرة، التي كان يظنّ أنها لا مبالية بآلام الآخرين. " هيلين " المسكينة، كانت محاطة أيضاً بأشياء تمتّ لعالمها الروحيّ والمستمَد بعضه من تقاليد وعقائد البيئة المحلية: لوحاتٌ زيتية، سبقَ أن أهديت إليها من رسامين فرنسيين في مراحل زمنية متباينة، يُمكن الاستدلال على كلّ منها بوساطة التاريخ المسجّل تحت التوقيع؛ تماثيل مختلفة الأحجام، مغفلٌ أسماء من نحتها أو تاريخها؛ أيقونات بيزنطية وسلافية، ينبثق منها وجوهُ قديسين شبيهين بعفاريت حكايات الأطفال، المصوَّرة؛ صناديقٌ محلاة بالصدف الدمشقيّ، تحتوي على عدّة النذور، يفوح منها رائحة العطن؛ مجسّم بديع لمحراب المسجد النبويّ، من صنع فنان عثمانيّ مجهول؛ ريشة طاووس، مثبتة في محبرة مجلوبة من " شيراز "؛ كتب وكراريس بلغات أثرية، كالسنسكريتية والسلتية والآرامية والعبرية.. الخ
" سأقضي بعضَ الوقت في المكتب، يا أصدقائي. أتمنى لكم ليلة سعيدة.. "، قالها وهوَ يتنهد. ثم سارَ باتجاه الباب، خافضاً رأسه وكأنما نطقَ حماقة ما. فقبيلَ انسحابه من الحجرة، كان قد ركّز نظرته للحظةٍ في سحنة ابنة عشيقته. إذاك كانت الفتاة جالسة إلى جوار المريضة، فاستدارت إليه برقّة مبتسمة عن أسنان برّاقة ناصعة ـ كنجوم هذه الليلة الصيفية.
بحثَ عن نسخة فرنسية من سيرة ملهمه، المسجّلة بالقلم البارع والساخر للأمريكيّ " هنري ميللر ". عثر عليها بسهولة بين أكداس الكتب، كونه ما ينفكّ يتذّكر وجودها قبلاً بين مجموعات " رامبو " الشعرية ذات الطبعات القديمة، النادرة. أخذ مكانه خلف منضدة المكتب العريضة، المشغول سطحها من خشب العرعر، العطريّ الرائحة. عبقُ أشجار مسك الليل، تسلل إلى أنفه من خلال النافذة، المحكم إغلاقها منعاً لتسلل الناموس والبعوض؛ وهما من أشد الحشرات فتكاً ببشرة وصحّة المرء في هذه الضاحية البحرية، المليئة بالأحراش والغابات. شعور السكينة، كان لا بدّ أن يشمل كيانه المهتز مذ بعض الوقت على وقع تلك البسمة، البريئة و الماكرة في آنٍ واحد. وبما أنّ الشيء بالشيء يذكر، صمم على شراء هدية للفتاة قبيل عودته إلى مراكش في الغد. مرضُ سيّدة الدار، سيكون حجّة مناسبة يضعها قدّام الأميرة العنيدة، المتسلّطة. وكانت هذه، كما علمنا، قد وعدت " الشريفة " بإهدائها كتباً فرنسية مناسبة لسنّها: " بما أنه لا رادّ لدعوة صاحبة السمو، فإنني سأتولى في وقتٍ مناسب نقلَ الفتاة مع والدتها إلى القصر. وسيكون صديقي جاك مسروراً مني على الأرجح، لأن ذلك يبقيه في قوقعة مرسمه بعيداً عن زياراتٍ ومجاملات لا طائل منها عدا عن أنها مضيعة للوقت "، كذلك راحَ يشحن عزيمته وهوَ يقلّب صفحات الكتاب دونما أن يقرأ من كلماتها شيئاً.
وإنه في سبيل التحرّك من وراء المنضدة، بعدما شعرَ بالرضا عن أفكاره، إذا بحفيف ثوب نسائيّ يأتي من ردهة الصالة، المتصلة بالمكتب. فُتحَ الباب على الأثر، ثم ظهرَ وجهُ الأميرة الأسمر. وكان قد صوبَ نحو الباب عينيه الزرقاوين، اللامعتين نتيجة النعاس، متوقعاً أنها عشيقته مَن لبّت الإشارة بخصوص مكوثه في المكتب. على أنه ما لبثَ أن عبّر عن ابتهاجه بحضور الأميرة، كون ذلك فرصة ليبثها اقتراحه بشأن العودة إلى مراكش في الغد. ولكنها لاحت معكرة المزاج، عابسة السحنة. برزت أمامه بقامتها الفارعة، المتبدية كالشبح على ضوء مصباح المكتب الخافت. سرعان ما أنهدّت على أحد الكرسيين الجلديين، المتقابلين، المخصصين للضيوف. قالت له بدون مقدمات، مثلما هيَ شيمة أصحاب المقام العالي: " ستلقى صديقتك حتفها بفضل العلاج العشوائيّ، المتعهّدة به تلك المخلوقة المخبولة "
" تقصدين نفيسة..؟ "
" بالطبع أنا لا أتكلم عن ابنتها! "، أجابته بنبرة نفاد صبر وحنق. عليه كان أن ينتظرَ قليلاً ريثما تهدأ، قبل أن يعاود سؤالها: " ماذا تعلمين عن هذا العلاج؟.. أعني، تلك الأعشاب المستعملة في العلاج. على حدّ علمي، أنّ مسيو جاك راضٍ عن الطريقة الشعبية بعدما يئسَ من حبوب المهدئات والمضادة للكآبة؟ "
" ما يدريني. ربما هوَ يائسٌ من حياته معها، ويريد مخرجاً حتى لو كان بموتها.. "
" رباه، لم أكن أظنك بهذه القسوة في الحُكم على الآخرين! "، هتفَ في غم وكرب. نظرت في عينيه متأملة لثوانٍ، قبل أن تفتح فمها عن ابتسامة ساخرة: " أنا في صف المرأة، لأنها مظلومة دوماً سواءً في الشرق أو الغرب. وأزيدك علماً، كونك تجهل نوع تلك الأعشاب بكل تأكيد، أنها تستعمل للعلاج ما لو كُررت في معامل أدوية وأوصى بها طبيبٌ مختص لمريضٍ ما. وإلا فهيَ عشبة سامة، قاتلة..! "
" نعم، لعلك محقة في مخاوفك. المعذرة.. "، أوقفها بكلماته المضطربة. استأنفت القول، كأنما لم تسمع ما فاه به: " إنّ الخادمة تزعمُ معرفتها بدواء ناجع للصداع، المصاحب نوبات سيّدتها.. وهوَ عبارة عن خلطة من مسحوق صبّار الداغموس مع قطرات من عسله، حيث يضاف إليهما عصير برتقال مع الحليب لإضفاء طعم محتمل على مرارة الدواء. قد تساعد هذه الخلطة في تسكين الألم، وحتى جلب النعاس، شأن كل مادة فيها مخدر. إلا أنها عشبة سامة، في آخر المطاف، تؤدي إلى الشلل التدريجيّ لأعضاء الجسم الحيوية ومن ثم الموت. مواطنونا الريفيون، يستعملون أمثال هذه الخلطة للتخلص من الغريم دونَ أن يُكتشفَ الأمرُ بأنه جريمة. أضف ذلك أيضاً لعلمك! ".
كأنما كلماتها، الواضحة الفاضحة، تحولت إلى خلطة مخدرة ما عتمت أن اخترقت أذنه وصولاً إلى دماغه، المضمَّخ بمختلف الأفكار المضطربة. استعادَ عندئذٍ ما باحت به عشيقته، بخصوص ابنتها وكيفَ أنها تمحضُ " هيلين " كراهيتها بوصفها امرأة أب. ثم ثابَ إلى رشده، متوجهاً للأميرة بهذا السؤال: " ولكن، كما تعلمين، فلكل جريمةٍ دافعٌ.. "
" بلى، دارَ ذلك بخلدي أيضاً ولو أنني أجهلُ الجواب "، أجابت مقاطعةً كلامه. ثم أردفت في الحال بنغمة متهكّمة: " ولعلك أدرى مني بالجواب، كون الخادمة خليلتك! ". نهضت على الأثر، لتتركه في غيبوبة دماغه، المثقل بالأفكار والوَسَن.
في ظهيرة اليوم التالي، وحالما أفاق، أتجه نحوَ حجرة عشيقته بحجة الاطمئنان على حال سيّدتها. أرتاح نوعاً، لما أخبرته " نفيسة " بنبرة يقين أن حالتها أفضل واستعادت وعيها كاملاً. هنا، فاجأها بسؤال عما إذا كانت " هيلين " قد كتبت وصيّتها. بدا من صمت المرأة الماكرة أنها تريد استيعاب الضربة المباغتة، فيما هيَ تحاول قراءة أفكاره. قالت له أخيراً: " نعم، وأظنها كتبت منزل الضاحية المراكشية، العائد ملكيته إليها، باسم صغيرتي الشريفة "
" قبل أمس، وصفتِ ابنتك بأنها حاقدة على مَن دَعَتها بامرأة الأب. ألا يمكن أن تكون فكرة شريرة قد طرأت لذهنها.. أو لنقل، أوحت لعقلها الغرير بأنّ من الأفضل أن تموت المرأة المريضة بسرعة قبل أن تدهمها نوبةٌ تجعلها تغيّر مضمونَ الوصية؟ "، قالها محاولاً قدر الإمكان أن يكسوَ لهجته بعدم الاكتراث. وكرر بعدئذٍ ما فعلته الأميرة معه ليلة أمس، حينَ تركته يجترّ فكره ومضت.
بدَورها، مضت " هيلين " من نوبة إلى نوبة، ومن نقاهة إلى نقاهة، إلى أن وافاها الأجلُ أخيراً في نهاية ذلك العام. في الأثناء، كان " غوستاف " يُبدي بعضَ الاهتمام بوضع المريضة، عن طريق الهاتف حَسْب، بعدما كثرت مشاغله مع البدء بمشروع تشييد مجمع الإقامة الفندقية في مراكش. كذلك، كان قد ضمنَ الربيبة الصغيرة تحتَ جناحيه الدافئين، مستغلاً انهماك صديقه الرسام في موضوع مرض امرأته، المؤلم والمضني.












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله