الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة جديدة في القضية الفلسطينيية (13 ) الثورة الفلسطينية بين الواقع والأوهام

فتحي علي رشيد

2018 / 6 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


من أبرزالأفكار التي توصل إليها المفكر السوري الطيب تزيني بعد انحسار مد ثورات الربيع العربي , فكرة مفادها "أن المفكر ينبغي أن يكون قاسيا مع نفسه ومع ما كتبه . وأن يقف موقفا نقديا منهما ." ولقد ارتأى بعد مارآه في الوطن العربي وسوريا من مآسي ونكبات من "أن أسئلة الفلسفة عادت إلى التاريخ وربما إلى ماقبله وربما إلى ماقبل اللغة " لهذا وجب "علينا أن نبدأ من هناك مرة أخرى , من نقطة الصفر.من خلال وضع بنية جديدة من المفاهيم والمصطلحات والمعاني ".
لهذا أعتقد أن التردي والانهيار الفكري والأخلاقي والسياسي والاجتماعي والروحي الذي يمر به الوطن العربي اليوم بعد تحطيم ظهر الرافضين للإستبداد في الوطن المستباح ,قد تجلت نتائجه مباشرة في الوضع الفلسطيني وانعكست عليه أكثر مما حصل في أي مكان آخر.كما أعتقد أن خطورة أخرى (غير منظورة اليوم ) تنشأ من كون القضية الفلسطينيةهي قضية الأمة الأولى التي إذا ما انتهت ,وأضيفت إلى حالة اليأس والقنوط العامة فإن ذلك سوف ينعكس سلبا على الشعوب العربية والوضع العربي عامة لمصلحة المشروع الصهيوني , وقد يقود في المرحلة المقبلة إلى تسليم واستسلام وانهيار شعبي عربي عام .ورفع الراية البيضاء.
ولذلك كان لابد من شهقة لمن يكاد يغرق ,وقفة ، وقفة نقدية . وإعادة النظر في كل المفاهيم التي اقتنعنا بها خلال السنوات السابقة ـ وبخاصة فيما يتعلق بما سميت الثورة الفلسطينيية .حتى لوكانت مقدسة . فالتقديس لايكون للوسائل والأدوات والاشخاص والشعارات التي تتبدل , بل يجب أن يكون للقضية التي يمثلونها وللحقوق التي جاءوا ليدافعوا عنها والتي إذا مانحرفوا عنها أو خانوها أو فرطوا بها يجب فضحهم .
الفلسطينيون ما بين متطلبات الثورة و تحديات الواقع :
بعد انتصار كلا من الثورتين الشعبيتين في الجزائروكوبا عام 1961 كان لابد للشعب الفلسطيني من أن يكون له ثورة أو من أن يصنع ثورة , طالما أن كل الشعوب العربية صنعت ثوراتها الخاصة بها . فلم لا يكون له هو أيضا ثورته الخاصة به أيضا ؟ فهو ليس أقل ثورية أو شأنا أو مظلومية من غيره من الشعوب . وهكذا كان لابد من صنع ثورة ولو بالإسم . وهكذا برز للوجود مصطلح ماسميت الثورة الفلسطينية .وفورا صدقها كثير من الفلسطينين لحاجتهم إليها حتى لو لم تكن حقيقية , وآمنوا بها وراحوا يتغنون بها ويقدمون التضحيات الجسام من أجلها .
لكن نسي كثيرين أن يسألوا : ثورة على من ؟ على الصهيونية المحتلة للأرض , وكيف وهم خارجها ؟ أم على حكامهم ؟وليس لديهم لا حكام ولا إقطاع ولا رأسمالية ليثوروا عليهم ؟ أم ثورة على الواقع بكليته وبخاصة العربي ؟ أم ثورة على هذا الواقع القاسي والثقيل والأثقل من الجبال ؟
وما حصل في الواقع أنه دخلت الديماغوجيا ( الشعارات الجوفاء والمزايدات الكلامية والأغاني الثورجية )على الخط لتحطم كل هذه الحواجز والمفاهيم وتقفز فوقها .وقالت " ثورة على الصهيونية " " ثورة ثورة شعبية " ولم يكن هناك الوعي الكافي بتلك الفترة الزمنية ادراك خطورة ما هم ينجرون اليه كما نسوا أنه لابد للثورة لتنجح من نظرية ثورية ومن تنظيم أو حزب أو جبهة أحزاب وقوى . يومها لم يكن لديهم لانظرية ولاتنظيم بل تنظيمات وأنظمة متنافسة ومتناحرة برؤى وجدانية متباعدة .ومع ذلك قاموا بالثورة . لقد كانوا يومها على عجلة من أمرهم , فلم يتح لهم الوقت للكثيرين للتفكير بوعي وإدراك وبعد نظر لتقديم إجابات على هذه التساؤلات . لذلك حمل الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني البندقية وانجرفوا مع الشعارات وراحوا يرددون ثورة ثورة شعبية ثورة على الصهيونية ويقدموا التضحيات دون تفكير للحظة ولم يتخيلوا أساسا بأن نضالهم سيصل بهم الى ما وصلنا اليه لدرجة ضاعت تضحيات آلاف ممن قدموا ارواحهم فداء للقضية وكأنهم ضحوا بأنفسهم ليتسلم القضية بعدهم" في الواقع والختام "قادة المنظمة الذين فرطوا بكل ما ضحى بهم هؤلاء ليقدموا التنازلات واحدا تلو الاخر وبمعنى مؤلم آخر" لقد صنع هؤلاء القادة المتخاذلين من دماء الشهداء الذين سقطوا منبرا لهم ليتسولوا المال من هنا ليصنعوا كراسي لهم في السلطة و ليصعدوا هم على أكتافهم ليضيعوا القضية وحق العودة "
وفي اطار الحديث عن أنه لابد للثورة لتنجح من نظرية ثورية ومن تنظيم أو حزب أو جبهة أحزاب وقوى فلقد ناقش هذه المسألة عدد من الكتاب والمفكرين من أبرزهم " الياس مرقص " الذي سعى إلى إزالة اللبس حول كثير من المفاهيم المستخدمة بشكل اعتباطي وبخاصة على ماسميت الثورة الفلسطينية لكنه جُوبِه باستنكار شديد . ومن ثم جاء بعده مفكر آخر اسمه مهدي عامل سعى إلى تصحيح بعض المفاهيم الثورية بما يجعلها تستوطن في الواقع العربي فعلا لا قولا ومن ضمنها الثوة الفلسطينيية واليسار الفلسطيني . لكنه أيضا لم يوفق . و أعيد من يريد أن يتوسع في مفهوم الثورة إلى ماكتبه المفكر الكبير الياس مرقص حول فكر الثورة الفلسطينية من الناحية النظرية في عدد من كتبه وأهمها " نقد الفكر المقاوم "والتي استطيع أن الخصها بجملة واحدة "الفارس المقدام "دون كيشوت العرب " (الفلسطيني ) يصارع بسيفه الخشبي طواحين الهواء " .كما تناول بعده المفكر الكبير مهدي عامل الفكر اليساري العربي وبخاصة الفلسطيني المقاوم كما تجسد في ما نشرته مجلة "الحرية " الناطقة باسم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ومنظري اليسار الجديد أمثال العفيف الأخضر . في عدد من كتبه التي كان أهمها "مقدمات نظرية " حيث بين أن هذا الفكر من الناحية النظرية هو فكر تحريفي ومشوه للماركسية أما من الناحية السياسية فهو مشبوه ومن حيث توقيت المواقف العملية المتخذة من قبله فهو خطير ومدمر .
ومع هذا فإن سياسيين ومفكرين كبارمثل جلال صادق العظم انساقوا مع التيار وآمنوا بالثورة . وها نحن اليوم ربما سنُخفِق ـ أيضا ـ على الرغم من مرور أكثر من خمسين عاما على ظهور مصطلح الثورة الفلسطينية وعلى انقشاع كثير من الأوهام حول صحة استخدام أو إطلاق المصطلح عليها ؟ فكثيرين مازالوا يتشبثون به ويسلمون بها كحقيقة غير قابلة للمراجعة أو للنقاش ـ ربما كرد فعل على الإنكار, وكموقف دفاعي لإثبات الذات المهمشة , دون أن يخلو ذلك من أمور ربما تعود لطبع العناد المتأصل فينا . فبات من الصعب تغيير نظرتهم إليها . بعد تلك السنوات التي شعروا بسببها بالعزة والكرامة بما قد يجعل من عملية التدقيق بالمفاهيم والمصطلحات اليوم غير ذات جدوى .
والمشكلة في جانب منها , استنادا لما أشار إليه المفكر "محمد عابد الجابري " في كتابه عن "تاريخ تشكل العقل السياسي العربي " تطبيقا لفلسفة هيجل على الواقع العربي حول تاريخ تجليات ظهور العقل من مرحلة الوعي الذاتي إلى مرحلة الوعي الموضوعي إلى المطلق ...." هي أعقد من ذلك بكثير كونها تتعلق بتكوين العقل ودرجة تطوره .حيث يؤكد الجابري أن أغلبنا مايزال يعيش في مرحلة الوعي الذاتي ولم ينتقل لمرحلة الوعي الموضوعي . ولأن كثيرا من المفاهيم الحديثة مثل الثورة والديمقراطية والحرية والعلمانية والسيادة ومحاربة الدكتاتورية والاستبداد ..إلخ هي مفاهيم غربية وحديثة لم تستوطن بعد في العقل العربي .
ومع ذلك فإننا سوف نخوض غمار هذه المحاولة فقد نحرز بعض التقدم, كونه توفرت لدينا كنخب ولدى قرائنا , بعد تلك السنوات من الفشل والإحباط المتكررة .ووبعد انكشاف عقم وزيف كثير من الأوهام والشعارات وهشاشة قيادات مشبوهة سلمنا رقابنا لها . وبعد أن توفرت لدينا كمية هائلة من الحقائق والمعطيات التاريخية والمواقف التي غيبت أو تم التغاضي عنها حتى من قبل مفكرين كبار كما جرى مؤخرا في لقاء مالمو عام 2018. فربما تتيح لنا هذه المعارف بناء موقف أكثر صحة , فنجنب شعبنا تكرار بعض أخطاء الماضي .
ويأتي في مقدمة تلك المواقف والمفاهيم التي تحتاج إلى تدقيق ومراجعة :
أولا : زيف مازعمه قادة ومنظري فصائل المقاومة وعلى رأسها فتح من أنهم بثورتهم المزعومة (1) أعادوا للقضية الفلسطينية ألقها وبأنهم هم من أحيوها بعد أن كادت تموت أو بعد أن كانت تسير للموات . كما سعى ويسعى كثير من الباحثين أو المؤرخين وبعض المرتزقة والدخلاء والمتسولين والمتعيشين على الأموال التي قدمت للثورة المزعومة (في الستينات والسبعينات ) كلا من حكومات قطر والكويت والسعودية وتقدمها اليوم الولايات المتحدة وأوروبا للسلطة (لتخريبها واحتوائها من الداخل ) . بهدف إبقائنا على قناعاتنا السابقة غارقين في الأوهام .
فعدى عن مخالفة ماذكر لكثير من الوقائع التاريخية المثبتة , فإن فيه تشويها وظلما وتجنيا على هذا الشعب الذي لم يتوقف يوما عن التمسك بحقوقه الوطنية في فلسطين كلها ويدافع عنها ويقدم التضحيات من أجلها . منذ ظهور أولى المستوطنات اليهودية في ريشون لتسيون قرب يافا عام 1882وحتى اليوم فنذكرهم بهبة فلاحي الحولة (الغوارنة ) عام 1887 بعد أن طردوا من أراضيهم في قرية الخضيرة وقدموا عشرات الضحايا .بعد أن شكلت مستوطنة " بتاح تكفا " على أراضيهم التي باعها آل سرسق للمليادير اليهودي البريطاني أدموند روتشيلد وأسكن فيها المهاجرين الروس من "أحباء صهيون " . ونذكر بعشرات الهبات والثورات الشعبية التي لم تتوقف طيلة فترة الانتداب البريطاني على فلسطين ,وأبرزها ثورة القسام ثم إضراب عام 1936 الذي استشهد به كأطول إضراب شهده التاريخ وبما قدمه آلاف الفلسطينيين الذين باعوا ذهب نسائهم لشراء بنادق يدافعوا بها عن أرضهم وعرضهم . ولكن تبين أن المسألة ليست في التمسك بالحقوق وتقديم التضحيات فقط فهناك عوامل كثيرة جرى تجاهلها كما جرى مع ماتسمى بالثورة الحديثة ( مثل قوة الهجمة وضعف البنية الذاتية للعرب وتشتتهم وتخلفهم وجهلهم وانعدام التنظيم لديهم .. )
أما إذا تناولنا الكفاح المسلح والعمل الفدائي الذي زعم قادة الفصائل أنهم ابتدعوه. فنذكر ـ بأن حوالي اربعمائة من فدائيي غزة قاموا عام 1955 بأوسع عملية فدائية في التاريخ , حيث تسللوا إلى الوطن المحتل واختبئوا في المغاور والبساتين التي تحيط بتل الربيع (تل أبيب ) وراحوا يمطرونها بالقنابل والرصاص لمدة يومين متتاليين ولم تفلح قوات الاحتلال في صدهم , مما اضطر وأجبر الرئيس الأمريكي أيزنهاور على التدخل وليطلب من الرئيس المصري جمال عبد الناصر سحبهم مقابل القبول بالشروط التي وضعها الفلسطينييون لمنع أي اعتداء جديد على غزة . ومن المعيب حقا تجاهل ونسيان مئات العمليات الفدائية التي قام بها الفدائيون الفسطينييون التابعين للكتيبة 68 من الأراضي السورية في الأرض المحتلة منذ عام 1952أو شاركوا فيها مثل معركة التوافيق التي جرت عام 1960وقتل فيها 250 جندي إسرائيلي .و قبل أن يظهرماسمي العمل الفدائي الحديث , ونذكر أيضا بانه كان لكتيبة الفدائيين الدور الحاسم في انقلاب 14 تموز عام 1963ضد نظام البعث.بهدف إعادة الوحدة مع مصرباعتبار أن وحدة القطرين ستكون الطريق لتحرير فلسطين وعلى الرغم من كل ذلك لم يسمي أحدا كل ماحدث ثورة.
ومن الظلم الفادح تجاهل صمود الشعب الفلسطيني في غزة تحت قيادة الجبهة الوطنية المتحدة ومقارعته للإحتلال الصهيوني بقوة السلاح عندما احتل الصهاينة غزة اثناء العدوان الثلاثي عام 1956 عندما كان قادة العمل الفدائي يرضعون الحليب أو يركضون وراء المال في الكويت وقطر ولن نذكر بالمظاهرات التي عمت كافة مناطق تواجد اللاجئين لمقاومة ولإفشال مشاريع التوطين الكثيرة والمغرية التي قدمتها أمريكا طيلة السنوات التي تلت النكبة .
ثانيا : هل تخاذل الشعب الفلسطيني ونخبه ونام ـ كما زعم قادة فتح الأشاوس بعد النكبة ؟ هل كان غبيا لأنه صدق ,ونخبه وقياداته أن الحكومات العربية جادة في العمل على بناء قدراتها العسكرية لتقوم بدورها في عملية التحرير. وطالما أن إسرائيل باتت بعد النكبة تهددها وتشكل خطرا عليها وعلى شعوبها . هل كانت غالبية الشباب الفلسطينيين ونخبهم حمقاء لأنها توجهت للعمل في التنظيمات والأحزاب القومية والثورية مثل حركة القوميين العرب , وحزب البعث والحركة الناصرية , والأحزاب الشيوعية وحركات الأخوان المسلمين وحزب التحرير الاسلامي . هل كان من الخطأ أن يساهموا فيها ,بل وليتبوأوا فيها مراكز قيادية ,وليؤسسوا بعضها ( حزب التحرير , وحركة القوميين العرب ) كون القضية أساسا قضية قومية وإسلامية بدءاًبالعراق وسوريا والأردن مرورا بمصر وانتهاءً باليمن , ونذكر منهم تقي الدين النبهاني وجورج حبش وفائق وراد وحنا بطاطو وجبرا ابراهيم جبرا وعبد الناصر النشاشيبي ومحمد عزة دروزة وأحمد الشقيري ويوسف الخطيب ويسار عسكري ونسيم البرقاوي . حيث عملوا في صفوفها , بل وكانوا على الأغلب في طليعتها وظل هذا الأمر طيلة الخمسة عشرة سنة التالية للنكبة .وعندما تبين لهم عجزوكذب تلك الأنظمة (خاصة عندما قال الرئيس جمال عبد الناصر" رائد وزعيم القومية والوحدة العربية في خطاب له في غزة عام 1961 "من يقول لكم أن لديه ( بمن فيهم أنا ) خطة لتحريرفلسطين . إنما يكذب عليكم " . بدأو ا يتحركون ليأخذوا زمام المبادرة ويشكلوا تجمعات سرية وتنظيمات أفرزت في لحظة معينة ستة تنظيمات فدائية شكلت مايسمى المكتب السياسي للعمل الفلسطيني الموحد . الذي انبثقت عنه لاحقا جميع التنظيمات الفلسطينية الحالية بما فيها فتح . مايدل ويؤكد أولا على أن التنظيمات الحالية لم تنشأ من فراغ بل على نشاطات وفعاليات بذل غيرهم الكثير حتى وصلوا إليها ووجدوها جاهزة . وثانيا يؤكد على أنها شكلت استمرارا وركوبا على و استغلالاً لنشاطات وتضحيات وفعاليات لأناس مجهولين .والأسف (كما سنبين ) قاموا بعد ذلك بحرفها عن اتجاهها الصحيح .باتجاه محدد :"العمل الفدائي " فقط. واعتبروا الكفاح المسلح بالطريقة التي ارتأوها هم هي وحدها فقط طريقا وحيدا وأسلوباً وحيدا لتحرير فلسطين . مدمرين بذلك الفعاليات الأخرى الشعبية والسياسية والفكرية .
ومن المؤلم أن نقول أنه بعد أن شطبت تلك الفعاليات من خلال ترويجها للعمل الفدائي الحديث فقط , على سمع لعلعة الرصاص وتقديس البندقية والعفوية وعلى وقع أغاني الثورة الحماسية التي كانت تبثها إذاعتي صوت فلسطين من دمشق والقاهرة طيلة اليوم , وظهور أغاني مثل "صار عندي الآن بندقية , اصبحت من الثوار." ما جعل غالبية الناس تصدق أنها بمجرد ما امتلكت البنذقية صارعندها ثورة . وهو ما جعلها تقدس البندقية وتسخف الدبابة والطائرة .وتتغاضى وتهمل العمل الشعبي والسياسي والتثقيفي وتسخف الجيوش وبناء القوة العسكرية الحديثة لمواجهة القوة العسكرية لإسرائيل حتى ـ على الأقل ـ للدفاع عن أراضيها وشعوبها .
والمدهش هو أن قادة الثورة بعد أقل من عشرين عاما من تقديسهم للبندقية كفروا بها وانقلبوا عليها وعلى الكفاح المسلح وعلى العمل الفدائي الذي قامت على أساسه هيمنتهم على المنظمة . وتبنوا منذ عام 1988 نهج المقاومة السلمية فقط وانخرطوا في عملية (تصفية القضية ) تحت مسمى التسوية السلمية كون التحرير بات مستحيلا .
وعلى الرغم من كل ذلك مازالت بعض الأصوات ـحتى اليوم تعتبر ماجرى ثورة .مما يدفعنا للتساؤل : هل هذا ماكانت ترمي إليه منذ البداية قيادة العمل الفدائي ومن وقفوا وراءها ؟ أم ثمة من دخل على خط الثورة وحرفها عن اتجاهها الصحيح حتى أوصلها إلى ماهي عليه اليوم ؟.
ثالثا : لنتوصل لحكم صحيح لابد من أن نأخذ علما أونحيط بالظروف السياسية العامة التي كانت تمر بها المنطقة في فترة صعود الثورة(وكذلك اليوم ) .ومن التعرف على التحركات والصراعات المحلية والإقليمية والدولية .فنذكر بأن الدول العربية كانت تمر منذ الحرب العالمية الثانية في مرحلة تحول من أنظمة تقليدية أو خاضعة للنفوذ الاستعماري الأوروبي إلى أنظمة وطنية أو ثورية مدعومة من السوفييت ,يقابلها دول تدعمها الولايات المتحدة الأمركية . مع الإشارة إلى أن الأخيرة نجحت في احتواء المد الثوري من خلال انقلابات عسكرية جرت في كل من مصر وسوريا والعراق ولبنان وليبيا والجزائر والسودان وراحت تسعى إلى إسقاط الأنظمة الرجعية أو التقليدية في كل من الكويت السعوية واليمن والخليج والمغرب العربي (إشغال العرب بصراعات داخلية ) .مما فتح باب المنطقة على صراعات دولية ( بين السوفييت والغرب ) وإقليمية عديدة وكل دولها على صراعات محلية (بين تقدمي ورجعي و..) وتمزقات عديدة صبت جميعها في مصلحة الصهيونية .كما نذكر بأن القضية الفلسطينية أخذت في ذلك الصراع والتنافس حيزا كبيرا حيث أن الكل كان يدعي العمل لتحرير فلسطين وكان التنافس عل أشده بين الأنظة الثورية والتقليدية , ثم بين حركة القوميين العرب والناصريين والبعثيين واليساريين من جهة والأخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي من جهة أخرى على أشده . وبخاصة على ريادة العمل لتحرير فلسطين .ثم برز عام 1961 (بعد الانفصال ) صراع دموي بين الناصريين والقوميين العرب وبين البعثيين على قيادة النضال القومي .وفي هذا الوقت كانت إسرائيل تسعى وتعمل مستغلة تلك الصراعات على تحويل مجاري نهر الأردن وتجفيف بحيرة الحولة وبناء مزارع لتربية الأسماك وزراعة الخضروات .وراحت تتوسع في المنطقة المحايدة الواقعة بين سوريا وفلسطين المحتلة . لهذا شهدت الجبهة السورية في هذه الفترة معارك حامية كان الفدائيين الفلسطينيين (القدامى ) وقودا لها حيث تصاعدت الحملات بين كل من نظام البعث السوري والجمهورية العربية المتحدة التي كانت تدعم القوى الثورية . وهنا كان لابد للدول التقليدية والنفطية ( الرجعية ) من أن تدخل على خط الصراع لتحمي نفسها كما فعل غيرها . ولما لم يكن من السهل إدخال من تربوا في أحضانهم من الفلسطينيين إلى سوريا البعثية المعادية للرجعية فلقد تم ارسالهم إلى الجزائر ومن هناك جاؤوا بتوصية من قادة الثورة الجزائرية إلى قادة سوريا (أمين الحافظ ) (2) وهنا برز كل من ياسر عرفات (3) وخليل الوزير وصلاح خلف ومحمود عباس وهاني الحسن .محملين بأموال قيل أنها من تبرعات الفلسطينيين في الكويت وقطر والسعودية , وتعاون معهم كلا من كمال ناصر وكمال عدوان وابو عماد الخالدي وخالد الجراح وأبو ابراهيم الصغير ومنيب المصري ونمر أبو النعاج ...وكثير من الشباب البعثيين مثل يوسف عرابي وومجمد حشمة وعبد المجيد زغموت وعاطف موعد . وكثير من اليساريين الجدد المتحمسين للثورة .فاستغلوا حاجة التنظيمات الفلسطينية ( في العمل الفلسطيني الموحد ) للمال والسلاح (4) . فعملوا على بناء تشكيل جديد خاص بهم أطلقوا عليه مصطلح حركة التحرير الوطني الفلسطينية ليضم ويحتوي التنظيمات الثورية العاملة في الساحتين السورية واللبنانية والاردنية , فاستطاعوا بسهولة استقطاب عدد لابأس به من أعضاء تلك التنظيمات خاصة في تنظيم (جـ ت ـ ف) أبوحلمي صبارين وابو صبري وأبو ابراهيم الصغير كثير من الشباب المتحمس للعمل وكان لابد بعد فتح النظام لهم معسكرات التدريب السابقة التي كانت للفدائئين القدامى من أن تدخل على الخط كثير فتبث بينهم كثير عملاء المخابرات السورية المرتبطين بأبو رياض العركة مدير فرع فلسطين للمخابرات .
وهكذا بدأت العمليات الفدائية , ومع أنها كانت محدودة الأثر وتقع فقط في المنطقة المحايدة لكنه جرى تضخيمها من خلال بيانات جرى ( 5 ) توزيعها على نطاق واسع . وهكذا عكس هؤلاء المصطلح قولا وربما فعلا من (حركة تحرير فلسطين ) من ح . تـ ـ فـ إلى فتح وهكذا ظهرت فتح للوجود , وجوه جديدة استطاعت بما تملكه من أموال جاءت من رجال أعمال فلسطينيين عاملين في السعودية والكويت وقطر والإمارات لبناء محطة للإذاعة ومطابع وإعلاميين استطاعوا من خلالها تضخيم تلك العمليات وردود الفعل الاسرائيلية عليها بصورة مبرمجة .وماذا كانت النتيجة ؟!: 1- تحرر نظام البعث من الوحدة مع مصر ومن هجمات الإعلامي المصري "أحمد سعيد " عليه 2- احراج النظام المصري كونه منع انطلاق العمل الفدائي من أراضيه وهكذاراحت الأمور تتعقد إلى أن جاءت الهجمة الكبيرة من إسرائيل, في الخامس من حزيران عام 1973 وقد نجح خليل الوزير (اخوان مسلمين ) في خطته الرامية إلى استخدام العمل الفدائي ( الذي كان يعرف جيدا كما كتب في مذكراته أنه لن يحررفلسطين ) في توريط الأنظمة العربية خاصة مصر في حرب خاسرة قبل الأوان . حيث تمت أبشع هزيمة للجيش المصري ولعبد الناصر الذي استقال على أثرها ) فتخلص النظام السوري من نق وتهجمات أحمد سعيد وإذاعة صوت العرب , والأهم 3-أن أمريكا والأطلسي نجحوا في هزيمة ماتسمى الأنظمة الوطنية المدعومة من السوفييت وتسخيف السلاح السوفييتي .فتخلصت بذلك الأنظمة التقليدية والرجعية من هجمات إعلام الأنظمة الثورية .ومن خطر الحركات القومية والثورية في بلادها .
4- باتت تلك الانظمة الرجعية من خلال دعمها المادي فقط ( المال ) لفتح وفصائل المقاومة ـ بعد معركة الكرامة في موقع الداعم الحقيقي للثورة الفلسطينية والمقاومة الفعلية ضد إسرائيل بدلا من أن تكون في موضع الاتهام.
5- سيطرة اسرائيل على هضبة الجولان التي تشكل أكبر خطرعسكري استراتيجي على إسرائيل بعد أن حولها المهندس الفلسطيني العقيد محمد الشاعر إلى قلعات ماجينو لايمكن اختراقها .وباحتلالها لمنابع الأنهارالمغذية لبحيرة طبريا والعفولة التي تمد إسرائيل بالمياه تكون قد أمنت مستقبلها ومستقبل ملايين المستوطنين الذين كانت تزمع استقبالهم
6- احتلال الضفة الغربية وغزة وبهذا يكون الصهاينة قد سحبوا من تحت أيدي العرب والفلسطينيين المدعومين من أمريكا ومن منظمة التحرير الأراضي التي كان من الممكن أن يتنازل عنها النظام الاردني لإقامة دولة فلسطينية ؟فأعادت القضية إلى مادون الصفر بكثير .
وهنا للتغطية على ماحصل كثرت العمليات الفدائية وكثرت التنظيمات الفدائية ,في الاردن وراحت الأمول تتدفق على فصائل المقاومة من السعودية والكويت , وبخاصة على فتح وعرفات الذي تحول إلى قائد للنضال العربي ضد الصهونية , وأصبحت فتح قائدة للأحزاب والتنظيمات القومية والوطنية , وتحولت الجبهة الديمقراطية إلى زعيمة لليسار العربي كله والثورة العربية . فاخرست الحركات الوطنية والقومية واليسارية والشيوعية . لكن الأمر لم يطل كثيرا ففي حرب تشرين استطاعت الدول التقدمية ! استعادة زمام المبادرة .وعادت فتح والتنظيمات الفدائية إلى حجمهما الحقيقي ,مجرد تابع يلعب في الوقت الضائع .
رابعا : أما على المستوى السياسي والفكري العروبي .فمن المهم رؤية ومعرفة أن فصائل ماتسمى بـ "المقاومة الفلسطينية المسلحة " وبشكل خاص فتح نجحت ايضا بذلك في تحويل القضية من قضية عربية قومية إلى قضية وطنية قطرية , بالضبط كما أرادت لها الأنظمة العربية (لتتنصل من مسؤولياتها الوطنية والقومية تجاه فلسطين ) كما أعفت الدول القومية من مهمة تسليح وتقوية جيوشها . بمعنى أنها باتباعها خيارالعمل الفلسطيني بمعزل عن الوضع العربي بل أحيانا ضده من خلال جر وسحب فئات كثيرة من الشباب الفلسطيني الناقم على الأنظمة العربية ,ودفعه لخوض معارك زائفة مع جميع الأنظمة والدول والشعوب المحيطة بفلسطين المحتلة وزجه في معركة خاسرة بأسلحة وطرق محدودة الفعالية مع عدو قوي يمتلك أحدث وأفتك الأسلحة في العالم .فانهكت شعبها وجعلته يقدم تضحيات هائلة بلامبرر(حوالي مئة ألف شهيد وجريح بينما لم يقدموا في مواجهة قوات الاحتلال ربع هذا العدد ) ليواجه أخيرا جدارا مسدودا ( التهرب والصد العربي وقوة إسرائيل ) فوضعت بذلك أسس عزل نفسها وشعبها وإنهاء وجودها ذاته في الدول العربية وراحت تندب وتصرخ ياوحدنا . مع أنها بعداوتها لجميع الأنظمة والأحزاب العربية الثورية .ثبتت من الناحية السياسية أسس وقف دعم نضالات شعبنا وأرست في الوقت ذاته انفراد إسرائيل بالفلسطينيين وبالتالي أسس انهاء القضية التي زعم قادة الفصائل والمنظمة أنها أنشأت من أجل إحيائها .بعد أن بات واضحا اليوم كما كان واضحا للكثيرين عام 1965 أنه ليس بمقدور الفلسطينيين وحدهم , وليس بمقدور عمليات فدائية محدودة أن تسقط كيانا قويا ومدعوما من قوى كبرى ،أو حتى على مجابهته عسكريا باعتباره رأس حربة لمشروع كبير تقف وراءه قوى كبيرة ممثلة بالحركة الصهيونية العالمية وكثير من القوى الأمبريالية والفاشية وحتى الشيوعية والعربية .وبداية من دون دعم وتقوية القوى الوطنية والقومية والثورية في الدول العربية والصديقة لن يكتب لأي ثورة النجاح .
فتحي رشيد
10 حزيران 2018
...........................
على الهامش
(1) زعم قادة المنظمات الفدائية أنهم فجروا أهم ثورة ضد الصهيونية وإسرائيل . وبما أننا بينا سابقا ( استنادا لوقائع مثبتة تاريخيا وسياسيا ) .أن كل الثورات العربية المزعومة ماهي إلا انقلابات عسكرية قام بها ضباط مرتبطون أو مدعومين أوبتوجيه من عملاء أمريكا في المنطقة . والأمر ذاته ينطبق أكثر على ماتسمى الثورة الفلسطينيية . كونها تشكلت بأوامر من حكومات وقيادات عربية ثبت أنها عميلة وتابعة ومأجورة ومن صنع السي آي إيه .
(2) لن أتطرق في هذا البحث لحقائق وأحداث مؤلمة حول فتح وعرفات والثورة المزعومة وحول دور المال والجريمة والمخابرات في صعودهم . .ولن اتناول معلومات خطيرة ومهمة تتعلق بعرفات وورفاقه ومقتل يوسف عرابي وسجنهم ثم الافراج عنهم من قبل حافظ الأسد . ولاالمتعلقة بأموال المنظمة من أين جاءت وكيف كانت تدار ,واين اختفت فهذه تحتاج إلى كتاب خاص . بل سأكتفي بتناول القضية من الناحية النظرية والسياسية فقط كما يعرفها الجميع .
(3) اول مرة التقيت بعرفات كانت في مكتب منظمة التحرير عام 1964 حيث كنت جالسا في غرفة يونس يونس مدير مكتب المنظامات الشعبيةفي المنظمة حيث دخل عرفات وكان شخصا مدنيا انيقا وباسما يرتدي بذلة زرقاء وربطة عنق
(4)في لقاء عرفات مع قادة المنظمة الشعبية لتحرير فلسطين قال لهم : انتم لديكم الرجال وأنا لدي المال والسلاح فلنعمل معا . الكلام ذاته قاله لقادة الفصائل الأخرى حيث رفضت الغالبية العرض .
(5) قام بالعملية الرابعة صديقي محمد حسن صالح (ابو معالج ) برفقة أحمد حميدة وغيرهم . حيث أكدا لي أن كل ماقاموا به كان حمل كمية من المتفجرات تم زرعها في غرفة محرك زراعي ثم تم مد سلك وتفجيرها عن بعد . ولما اطلعا على البيان المعد مسبقا وفيه أنهم قتلوا عشرات الجنود وتدمير آليلت وو . لعنوا عرفات وتركوا فتح .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست