الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رمضان: مدرسة لا تغلق أبوابها..

السيد إبراهيم أحمد

2018 / 6 / 14
الادب والفن









عندما كنا صغارًا لم نكن نعلم ما معنى أن يكون شهر رمضان مدرسة، وكان يقر في وجداننا أنها مدرسة حقيقة تشابه مدارسنا بالفعل، بالطبع لم نكن نعلم المجازي من الحقيقي في التعبير البلاغي، لكن الجملة برمتها قرت في وجداني، وصرت أبحث عنها كمعنى في أسئلة أوجهها لمن حولي، وكانت الإجابات تأتيني ـ غالبًا ـ صادمة من حيث الفهم أو استيعاب شهر رمضان في أهدافه ونتائجه.

لم أفهم مدرسة وفلسفة شهر رمضان إلا بعد أن التحقت بمدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقرأتُ سيرته، وتعرفتُ على عبادته في هذا الشهر الكريم، وكيف كان يحفز كل من حوله من الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا التحفيز كان وراءه مغزى من ترسيخ معالم شهر الصوم في نفوس الجميع في عصره والعصور التالية.

لم يكن هناك تقصير من الصحابة رضوان الله عليهم حتى يطالبهم الرسول بالتوبة والاستغفار، كما كان يهش صلى الله عليه وسلم ويبش للقاء هذا الشهر قبيل قدومه، ويزيد فيه من العبادات ما لم يكن يفعله في شهر غيره، وهو ما يعني أن لرمضان وقع خاص، ومذاق خاص في وجدان هذه الأمة، ولهذا نبه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِى مُنَادٍ: يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ ، وَيَا بَاغِىَ الشَّرِّ أَقْصِرْ . وللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ”. [رواه النسائي وصححه الألباني].

بل ينبههم صلى الله عليه وسلم إلى أن أبواب هذا الشهر تبدأ بالعمل الجاد والتتلمذ فيه والتعبد بكل جدية من الليلة الأولى منه دون توانٍ، ذلك أن أبواب شهر رمضان حين تفتح ستفتح معها بالتبعية أبواب الجنة، وأن الملائك ستكون في كل مكان، وفي كل ركن من أركان المساجد، ومجالس الذكر والقرآن، بعد أن خلت الأرض من الشياطين ومردة الجن الذين صُفِّدوا وحُبِسوا كي لا يعكروا أجواء الصفاء الإيماني لهذا الشهر.

من خصائص مدرسة رمضان أن الأمر في التعلم من مناهجها لا يدور بين الاستحباب والواجب، بل هو على سبيل الفرض بالأمر الوارد في النص الإلهي من محكم التنزيل، والتي توجب الصوم لغاية عظمى وهي بلوغ التقوى، يقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن ما علاقة الصوم بالتقوى؟

ولو لم يكن بينهما علاقة ظاهرة لما ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم، وإن خفيت على المتأمل فيها والباحث عنها، غير أن من المؤكد أن العلاقة بينهما علاقة اتصالية كعلاقة السبب بالنتيجة من حيث التلازم، ذلك لأن الصوم صِلةٌ إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات كما يقول الإمام البغوي في تفسيره، أو أن الصائم في الغالب تكثر طاعته والطاعات من خصال التقوى كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره.

غير أن أهم علاقة حقيقية بين الصوم والتقوى هي من حيث موقعهما الجغرافي من جسم الإنسان، وهو “القلب”، فالتقوى محلها القلب، والصوم محله “القلب” لتميزه بخصوصية لا تتوافر في غيره من العبادات، وهي “السرية” مما يجعل الرقابة فيها رقابة خفية ذاتية تتواصل فيها بوصلة القلب مع الله تعالى “الرقيبُ” على العباد وأحوالهم في السر والعلن، والظاهر والباطن، والصوم لا يعرف العلن ولا يهمه، فهو علاقة خاصة بين العبد وربه من حيث الأداء في حال العبد الذي يصوم ويحافظ على صومه منفردًا أو في وسط جماعة، في بلده أو مغتربًا، وعلاقة خاصة بين العبد وربه من حيث الثواب والجزاء.

ولعل من يتأمل ارتباط التقوى بالعبادة وحصول الثواب بالكامل عنهما ما جاء في الصيام والحج من حيث وجود القيد أو الشرط اللازم لنيل الثواب بتحقق البعد عمَّا يفسد تلك العبادات بالوقوع في المنهي عنه سلفًا.

ولقد ذكر الله في كتابه الكريم: رمضان شهر الصوم، وأشهر الحج وخاصة ذو الحجة بعضًا إثر بعض، وأشاد بذكرها ونوّه بشأنها، وقد جمعت بينها عدة جوامع أو جامعات، وهي: جامعة الطاعة، وجامعة المحبة، وجامعة فضل الزمان، أو فضل المكان؛ فلا صوم إذا لم تكن طاعة، ولا صوم إذا لم تكن محبة وإيثار رضا الله على رضا النفس، ولا حج إذا لم تكن طاعة وانقياد، ولم تكن محبة وإيثار، يهجر الإنسان طعامه وشرابه وشهواته ليصوم ويرضى ربه ويعصي نفسه، ويهجر الإنسان وطنه وسكنه وأهله وراحته ويرضي ربه ويعصي نفسه.

والصوم في رمضان أفضل الأزمان. والحج في مكة وحواليها في أفضل مكان، وفي أفضل أزمان. فاقترن الصوم بالحج، وشابه الحج الصوم، ففي كليهما زهد وصبر وإيثار وهجرة، والصائم يسعى بين الإمساك والفطور ويطوف حول بيت ربه، والحاج يسعى بين الصفا والمروة، وبين مِنَى وعرفات، ويطوف حول بيت ربه، ولكلٍّ عيد، ولكلٍّ فدية، ولكلٍّ تهنئة.

وقد نهى الله في الصوم عن الغيبة، وقول الزور، والخصام بصفة خاصة، وقبّح أمرها مثلما نهى في الحج عن الرفث والفسوق والجدال، ولهذا شمل الصوم والحج أنواعًا من الطاعات، وضروبًا من البرّ والعبادات ليست داخلة في صميمهما، كالإنفاق والمواساة والرحمة والخدمة والبرّ، والصدقة وقيام الليل، وإحياء الأوقات بالتسبيح والتلاوة، وكلها تُقوّي الصوم والحج وتكثِر ثوابهما وفضلهما.

إن الخصيصة الهامة في الصوم كمدرسة ربانية حين يتلقى فيها العبد الصائم الطائع هذه التربية الإيمانية العالية، إلى جانب ضمان الفوز بالثواب له من الله تعالى، إذا هو التزم التزامًا تامًا بآداب وأحكام الصيام، ونال من قلبه الاهتمام، والتوقير، والبعد عن الرياء، والسباب، والفحش، والفسوق.

ولئن عاد بي الزمان دورته، وطرحتُ السؤال على نفسي: ماذا يعني أن شهر رمضان مدرسة؟ لأجبت: أن ما تعلمته في هذه المدرسة أو هذا الشهر من التحلي بالصبر، ودفع الإساءة بالحسنة، وكظم الغيظ، والتحكم في آليات نفسي داخليًا وخارجيًا، وإشاعة السلام في ذاتي وفي من حولي، والبعد عن المكدِّرات، وعمَّا عساه يجلب الغضب، والحرص على التنافس في الخيرات وكل محمود من الأمور، لم أكن لأتعلمه في غير هذه المدرسة أو هذا الشهر بهذه الكيفية والعمق والسرعة.

تعلمتُ في مدرسة الصوم كل الفضائل التي يدعونا إليها الدين بهدوء وروية، من استثمار الأوقات في الطاعات، وفيما يفيد في الحياة بوجه عام، وأن الصدق مقياس ثابت في القول والعمل في رمضان وغيره، وأن البعد عن الغيبة والنميمة مرض اجتماعي يجب أن نتخلص منه في رمضان وفي غيره من الأيام.

ولهذا كان أهم ما يميز شهر رمضان هو العودة لنقطة النظام الأولى في الإسلام، وكأننا حين نذهب بالسيارة للتوكيل الخاص بها لصيانتها وتغيير بعض أجزائها لتعود لحالتها التي كانت عليها وقت امتلاكها، مع الفارق في التشبيه، مثلما يدخل المسلم في مدرسة رمضان من أجل رفع معدلاته في كل الوجوه الدينية والتي تترك أثرها، وتعكس صداها على كل ما يتصل بأداء المسلم في دنياه: نفسه، بيته، عائلته الصغرى وعائلته الكبرى، عمله، أصدقائه، جيرانه، بيئته التي يعيش فيها، حيث تتآلف كل أجزاء منظومته الحياتية التي أصابها: الوهن، والكسل، والتراخي، والإهمال، وبعض الصفات السلبية من التعاملات في سوق الدنيا، ووقوعه في براثن بعض حبائلها دون أن يدري أو يدري.

وأختلف مع من يقول أن مدرسة رمضان تفتح أبوابها لمدة ثلاثين يومًا ثم تمضي لحالها، ويعود المسلم على ما كان عليه من قبل أن “يترمضن”، أي يتعلم من أخلاقياته ومنهجه، أن دور رمضان الحقيقي هو في دفع المسلم بعد تخرجه منه لكي يمضي في حياته بعدها على نفس الوتيرة الخاصة بالمنهج الإسلامي كدين، فيه العقيدة، والأخلاق، والسيرة، والفقه، والعلم والعمل، والدين والدنيا، والعين على الآخرة من حيث التوازن الكلي الذي يشكل تكوينه النفسي والعقدي، وأنه كلما فترت قوته وهمته وبعدت بينه المسافات بعيدًا عن أجواء رمضان، كلما اقترب من رمضان القادم يعيد صياغته من جديد، لتجديد همته، وشحن طاقته، غير أن هناك ما يدعم قوته الإيمانية: الصلوات الخمس المكتوبات، والجمعة، والعمرة، ثم رمضان. ذلك أن الصوم يلزم أن تصوم جميع جوارح الإنسان معه، وإذا صام الإنسان فيلزمه أن لا يجعل يوم صومه كيوم فطره سواء بسواء.

ومن هنا أقول بعد كل ما تقدم: أن مدرسة رمضان لا يمكن أن تغلق أبوابها أبدًا، وأن المسلم الحق هو الذي يستفيد من رمضان كداعم أساسي له في أخلاقه، وعباداته، وطاعاته، حيث أن الأصل أنه استمدها من دينه الحق الجامع لكل الفضائل، وأن يحافظ على مكاسبه الإيمانية حتى يلقى وجه الله تعالى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم الحلقة كاملة | الفنان محمد عبده يطمئن جمهوره على صحت


.. كلمة أخيرة - ندمت على القرارات دي.. غادة عبد الرازق: لو رجع




.. تفاعلكم | 200 فنان يتضامنون لإنقاذ العالم من موسيقى الذكاء ا


.. أبرزهم شقو وعالماشي واحدهم وصل 38 مليون .. 4 أفلام تتنافس ف




.. شبيه عادل ا?مام يظهر فى عزاء الفنانة شيرين سيف النصر