الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلِكْترا: الفصل الثامن 5

دلور ميقري

2018 / 6 / 15
الادب والفن


حينَ أنهيتُ الاحتفالَ بمناسبة مرور ربع قرنٍ على استقراري في مراكش، لم أكن قد بدأت بعدُ بكتابة هذه المذكرات. مندوب دار نشر فرنسية شهيرة، وكان بين المدعوين، هوَ من أقترحَ عليّ وضعَ كتابٍ عن المدينة الحمراء، على أن تتعهّد الدارُ طباعته ونشره. ذلك حدثَ قبل ما ينوف عن العامين، ولربما أنّ الرجلَ ما ينفكّ بانتظار الكتاب. بالطبع، كنا قد تحادثنا عدّة مرات في خلال تلك الفترة، وفي كلّ مرة كنتُ أكرر نفس الكذبة على مسمعه: " إنني أعمل ببطء، وحالما أنجز المسودة النهائية فإنها ستصلك منضدّة ومنقّحة ". في واقع الحال، أنّ الكذبة انحصرت حَسْب في الجزء الثاني من الجملة. إذ كنتُ بالفعل أكتب على مهل ورويّة. بيْدَ أنني، في المقابل، لم أكن أنوي أبداً إرسال المخطوطة إليه أو إلى أيّ دار نشر في العالم. " فلينتظر حتى يورق الصوّان! "؛ كما يُعبّر أحدُ الأقوال العربية، الطريفة.
بعد انتهائي من مسودّة المخطوطة، وكانت أوراقها تناهز المائة، رميتها في درج منضدة مكتبي وما لبثتُ أن نسيتها تماماً. كانت قد شبعت نوماً هنالك، لحين أن أخرجتها قبل بضعة أشهر، فأيقظتها هلعةً بضربها في قوّة على سطح المنضدة. ولكنّ يداً حنونة، جميلة الأنامل، هيَ من تسلّمت المخطوطة كي تقوم بتنقيحها ومن ثمّ تنضيدها. إنها آنسة سورية، من أصل كرديّ، وجدت نفسها مع شقيقها في المغرب بضربة حظ خائبة من ألعاب روليت السياسة. ومع أنها تتكلم الفرنسية بشكل معقول، فإنني بيني وبين نفسي أبديتُ ريبةً في تمكّنها من تنقيح المخطوطة. كلّ ما هنالك، أنني أملتُ بجعل المذكرات أشبه برواية منها إلى سيرة حياة حقيقية. كون الآنسة " شيرين " كاتبة، بل وعاكفة على تسجيل يومياتها المراكشية ـ مثلما نمّ إليّ من مصدرٍ ثقة ـ لم يكن مني إلا توظيفها سكرتيرة في مكتبي كي تتفرغ لمهمّة تنقيح المذكرات وتنضيدها.
" أنتَ إذاً من عائلة ملاكين، نبيلة؟ أسرتي أيضاً كانت بالأصل أرستقراطية، ثم سقطت إلى القاع مع انهيار الدولة العثمانية "، قالت لي بعدما أنهت قراءة قسم من المخطوطة. تأملتها باسماً، ملاحظاً بالفعل مسحةً من النبالة في ملامحها الحَسَنة والحازمة، قبل أن أجيبَ باستهانة كعادتي: " ربما كانت أسرتنا كذلك في زمنٍ يسبق الطوفان، غير أنّ أخلافها في زمني ما كانوا أكثر من فلاحين يشقون طوال العام ضد الصقيع والجفاف والحشرات ". قابلت كلامي بابتسامة مضيئة، مما طمأنني لطيبة قلبها وتغرّبها عن أخلاق الأرستقراطيين، المتسمة بالحساسية الزائدة والعجرفة. عادت لتؤكّد قرابتنا المزعومة، وإن يكن بشكل مزاحة: " سفينة الطوفان، بحَسَب العقائد السماوية، رست على جبل آرارات بناسها ودوابها. مسقط رأس أسرتي الأصل، يقع في سفح ذلك الجبل. هل تعلم ذلك؟ "
" بلى، بطبيعة الحال.. أعني، علمي بمكان المرسى. ولا أستبعدُ أن تكوني من سلالة النبيّ نوح، فيما أنا شبه متيقن بأنني من سلالة أحد القردة راكبي السفينة! "، أجبتها متعمّداً إزالة أيّ تحفظ في العلاقة بيننا. استرسلت هيَ في الضحك، بينما تابعتُ القول بلهجة جدية: " ما أعلمه أيضاً، أننا أصابنا فقدان الذاكرة الجماعيّ على أثر الثورة الفرنسية؛ من ناحية الأصل والمنبت الاجتماعيّ، على الأقل. فيما أنتم المسلمون، سواءً في المشرق أو المغرب، ما زلتم تولون عناية خاصّة لهذه المسألة لدرجة أنها قد تغيّر حياة الإنسان على حين فجأة ". فلما قلتُ ذلك، فإنها تمسكت بالصمت لبرهةٍ. لاحَ أنها فهمت كلامي كلمز لوضعها وشقيقها، ثمة في مجتمع المدينة الراقي، الذي استقبلهما بحفاوة على أثر احتفاء الأميرة بنسبهما لأسرة أمراء عثمانيين، شبه منقرضة. وهيَ ذي ملامح الآنسة يُعاودها الإشراقُ، قبل أن تبادر لتغيير الحديث متسائلةً: " أنتَ تجيدُ الدارجة المغربية، ولكنك لم تتعلّم شيئاً من العربية الكلاسيكية. وإلا لكان في وسعك تأليف مذكراتك بلغة يقرأها ملايين الناس، ولكانت مذكراتك أكثر غنى بما أنها منذورة لسنوات حياتك المغربية.. "
" وأنتِ، يا آنستي الكردية! لِمَ تكتبين بالعربية بدلاً عن لغتك الأم؟ "
" هذه مسألة أخرى، كون وضعنا نحن الكرد مختلفاً تماماً. إننا حرمنا من تعلّم لغتنا القومية في المدارس، مما أجبرنا على الكتابة باللغة السائدة. وضعنا، يمكن أن يقارن إلى حدّ ما بوضع الكتّاب الجزائريين تحت الحكم الاستعماريّ الفرنسيّ "
" لعلك محقّة في ذلك، مع أنني تركتُ الكتابة الأدبية منذ ما يزيد عن الربع قرن واتجهتُ إلى مجال الأعمال. إننا الأوروبيون، وأهل الغرب عموماً، ما نفتأ أسرى للعقلية الاستعمارية والتي من تجلياتها احتقار لغات الشعوب الأقل تمدناً. العرب من ناحيتهم، فعلوا الأمر نفسه بعد استقلالهم، فأخذوا بالتضييق على لغات الكرد والأمازيغ والسودان وغيرهم من الشعوب المغلوبة على أمرها. ملاحظتك دقيقة وذكية، فيما يخصّ سؤالك عن عدم تعلمي العربية. والمستغرب، أنّ هذا السؤال لم يُطرح مرةً على كاتبٍ مثل الأمريكيّ، فريدريك بوول؛ هوَ من يقيم بشكل متواصل في مدينة طنجة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ". ثم توقف حديثنا عند هذا الحدّ مع دخول زميلها، الموظف في مكتب الاستقبال. فيما بعد، دأبنا كلّ مرةٍ على قطع أحاديثنا، المتعلقة بشؤون بعيدة عن العمل، بسبب حضور هذا الموظف أو ذاك المستخدم. فكم أشبهنا أفرادَ الفرق الموسيقية في ساحة جامع الفنا، الذين يخلدون للصمت مرة واحدة حينَ يرتفع صوتُ مؤذن المسجد، فيرفع كلّ منهم أصبعَ الشاهدة باتجاه صاحب الأسماء الحسنى، المائة ـ ناقص واحد.
وهيَ ذي سيرتي المراكشية، تبلغ الربع قرن ـ زائد عامين؛ سيرة، أودعتها الورقَ مع أصوات منائر المساجد وهديل حمامها، صرخات الباعة وبنات الهوى، هدير مركبات الشوارع من سيارات ودراجات نارية وعربات يد وكوتشي، أنغام منسجمة ومنفرة لموسيقى الساحات والمقاهي والنوادي؛ وأيضاً، روائح طاجين المطاعم الشعبية وبربوش أكشاك الدروب، عبق أزهار أسطح وشرفات ومداخل المنازل المحرومة من الحدائق نتيجة ضيق مساحة المدينة القديمة، أريج دخان السجائر ( المذهّبة الفلتر ) المختلط بمثيله الأكثر رخصاً، نفح الفروج الناعمة الملمس كالحرير الدمشقيّ والمعبّقة بأطياب حمّام السوق؛ وأخيراً، ملائكة سود تحمل أرواحنا إلى مستقرها في فوهة بركان مريعٍ يحرك جمراتها كائنٌ غامض مجهول، أحرفُ اسمه العربية مستمدّة من كلمة " اللهب " ـ ناقص حرف الباء!
أنهيتُ مناجاتي، تجديفي لو شئتَ، فيما أنا أطلّ من شرفة جناحي في المجمع على منظر الحدائق المطوّقة بالأسوار، المترامي خلفها بادية لا نهائية متّصلةً بالأفق الرماديّ لتقترن معه على سنّة أبي لهب.. أنهيتهما كلاهما ( مع أنني أشكّ بإقلاعي عن التجديف بنفس سهولة تركي السجائر؟ )، بينما سكرتيرتي الحسناء تنتظر سائقَ " الرانج روفر " كي يوصلها لشقتها في غيليز. أقول لها: " أفكّرُ بوضعنا، نحن المفترض أننا أدباء أغراب، وكيفَ يبلغ بنا التغرّب عن الواقع حداً غير منطقيّ. نحتفي بالمدينة القديمة، بشراً وأمكنة وتواريخَ، فيما نحنُ منعزلون عنها في مساكننا الكائنة بأرقى الأحياء وأحدثها. أتكلم عنا، أنتِ وأنا، علاوة على فرهاد ومعلّمته السورية، سوسن خانم ". وكانت تهمّ بالإجابة، لما بدأ الهاتفُ أنينه المعتاد عند انتهاء الدوام الرسميّ. وضعت السماعة، ثم أخبرتني أنّ " سيمو " بانتظارها في السيارة أمام البوابة الرئيسة. ثلاثة أشهر، على الأثر، وكنا نقضي شهر العسل في أغادير. سألتها في ليلتنا الأولى ثمة، عمّن أخذ عذريتها. فأسمت الرجلَ باقتضاب: " عُطَيْل..! ". كانت إجابة أدبية، مقارنة بمثيلتها لدى " الشريفة "، التي تُحيل إلى نشأتها في مجتمع يعزو لإرادة الله كلّ آثامه وخطاياه.
صورة أخرى، أدبية أيضاً، توسمتُ فيها مقاربة تلك الإجابة الشكسبيرية؛ صورة " إلِكْترا "، مثلما عرفتُها مُتَقَمّصةً من لدُن أختي غير الشقيقة، فضلاً عن تينك المرأتين الشابتين، اللتين تمنيتُ لو أنجب من كلتيهما لعنةً تحمل اسمي. من سخريات القدَر، ما سمعته من قول " فرهاد "، المنقول على لسان امرأته: " أيّ حمقاء تقبل زواجاً عقيماً من رجلٍ لوطيّ؟ ". قالها دونما أن يدري، بطبيعة الحال، أنّ ذلك الرجل سبقَ له أن أخصبَ رحم المرأة نفسها، الذي ربما يحتضن مستقبلاً ابنه. الهومو لا يمكنه الإنجابَ، ولكن بوسعه أن يكتب شعراً؛ هوَ من العظمة، أنّ الشعراء الأسوياء باتوا يدّعون الشذوذَ كونه أضحى موضة الأدب الحديث!
هأنذا أودعُ حماقاتي كلها طيّ كتابي الملعون، الأشبه بابنٍ معاق عقلياً. أردته أن يكون بسبعة فصول، لما للرقم 7 من قدسيّة لدى البشر من أيام السومريين والفراعنة. سبعة، هيَ عدد أيام الأسبوع؛ طبقات السماء، الموصلة للعرش؛ كواكب مجرتنا.. الخ! الآن، فيما أنهي الفصل الأخير، أدرك صوابَ قول " دستويفسكي " عن أنّ كتابة المذكرات لا توحي سوى بالإدعاء والغرور وجنون العظمة. إنها صفاتٌ لازمتني كرجل أعمال، وإن يكن ذلك بشكل متعمّد انتقاماً ممن أذلوا الفقراءَ والمساكين والمذلين.. انتقاماً من نفسي، قبل كلّ شيء، لخيانتها " رسالة الرائي " متحججةً بخيانة صاحب الرسالة نفسه.
وداعاً للكتابة، إذاً، وللمرة الأخيرة!
وداعاً لأصدقائي الشعراء، القدماء والمحدثين والمنقرضين!
وداعاً " هوميروس "، المتأرجح على حبال التاريخ كبهلوان!
وداعاً " كافافيس "، المغطي لوطيته بحِكَم التاريخ!
ومجداً للمدينة الحمراء، بمنازلها ورياضاتها وأزقتها وزنقاتها ودروبها وأسواقها وأسوارها وبواباتها وعَرَصاتها وأرباضها وضواحيها وبواديها وجبالها وسمائها وشمسها وقمرها ونجومها وآلهتها وفتياتها وغلمانها!
" لا وجودَ لسفينةٍ لكَ، لا وجود لطريق
فمثلما دمّرتَ حياتك هنا
في هذه الزاوية الصغيرة، فقد دمرتها في العالم بأسره ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى


.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا




.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني