الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الريح والبوصلة - رواية - الفصل الرابع

ذياب فهد الطائي

2018 / 6 / 17
الادب والفن


الريح والبوصلة

رواية

الفصل الرابع

ثلاثة انفجارات متتالية مزقت السكون الثقيل ، توقف المطر الذي كان يأتي رذاذا ولم يعد البرد المتسلل من الثقوب التي في اطار الشباك يجرؤ على المشاكسة , وفي اذني بدأت حرارة تشع مع زيادة الطنين الذي سد مساحات السمع, كنا نتراكض بفوضى , فنتعثر بعضنا ببعض , باتجاه الخنادق الترابية التي حولتها الأمطار الى برك تغوص فيها احذيتنا الجلدية .

رفع الساعة الفوسفورية الى عينيه , كانت العقارب تشير الى الساعة الثانية وخمسا وثلاثين دقيقة , حين وجد الساعة في علبة معدنية مهملة بقعر صندوق خشبي , لم تكن تعمل , قال والده لقد اشتراها في مدينة جمجمال , كانت تدور بها امرأة كردية قد تحجر وجهها بملامح تقطر حزنا , قالت ما تدفعه , أعطاها ثلاث دنانير فلم تتكلم , كان في الجيش الشعبي وهو الاخر حزين فقد ترك زوجته وابنه الرضيع من غير ان يودعهما , وحين توقفت رماها في العلبة المعدنية فهو لا يحتاج الى معرفة الوقت والشمس هي دليله اما اذا اختفت وراء موجات الغيوم المتسارعة فان تعوده على نمط متكرر يجعله قادرا على تحديد الوقت على نحو دقيق

كانت الإذاعة البريطانية تعلن ان مراسلها في الخليج قد افاد ان الهجوم الأمريكي قد بدأ وان دفعات متتالية من الصواريخ قد ضربت أهدافها المقررة في مناطق مختلفة من العراق وان تلك الأهداف كانت تشمل مواقع الدفاعات الجوية ومنصات اطلاق الصواريخ ومراكز القيادة والعمليات وانه يعتقد ان اسرابا من طائرات الشبح تتجه الآن الى الأراضي العراقية

كنا جزءا من تشكيلات الفيلق الخامس وكانت المهمة التي شرحها لنا معاون قائد اللواء هي ان نبيد القطعات المعادية المتقدمة ولكن الانفجارات التي ضربت في مواضع بعيدة لم يتبعها تقدم قوات برية , كان الرد انطلاق كافة المضادات الأرضية باتجاه السماء المكفهرة وتواصل الآف من الأسلحة برد فعل خائف صانعة رسوما ضوئية غريبة
تابعت الأذاعة البريطانية نقلا عن مراسلها في بغداد ان وسط المدينة يتعرض لهجوم صاروخي مركز وان قوات المارينز الأمريكية والقوات البرية البريطانية تندفع الآن عبر الحدود الكويتية وربما احتلت ام قصر وشبه جزيرة الفاو .

كان الماء المتجمد قد بدأ يتسبب في خدر مؤلم في اقدامنا , قال اشرف اين سنصل,كنت منشغلا بتثبيت موجة الراديو التي بدأت هي ألأخرى قلقة, قال العريف سلمان الذي سقط مرتين في برك الماء وهو يهرول الى الخندق , ملعون ابو الحرب ! كان العريف سلمان جندي محترف كما كان يردد وهو يقود التدريبات الصباحية, الحرب حرفة وهي كأي حرفة تحتاج الى المختصين بها فالخطأ هنا قاتل ! فكروا جيدا , اذا لم تحسن قيادة السيارة قد تتعرض للهلاك وفي الحرب ليس هناك (قد ), ستتعرض للهلاك قطعا , ولايمكن ان تقودها لتصعد جبلا صخريا , ولا ان تقودها ودرجة الرؤية صفر لأن هذا باختصار غباء , وهذه ليست حربا , قال هذه الجملة وهو يخوض في الوحل , لم اتبين وجهه ولكن يأسا غاضبا كان يعطي كلامه صلابة تحفر في شرايينه ويرشح في ثنايا كلماته.
أزت رصاصة فوق الخندق لتختبئ في اكوام الطين على الحافة الشرقية , اطل فجر باهت يتدافع وسحب ضبابية منخفضة لا تريد ان تتحرك , على الجانب الآخر تبدو اشباح ضئيلة تترقب زمانا هلاميا لتتمسك به لتعبر الى المكان الجديد الذي ستدخله القوات القادمة من صحارى العرب .

إذاعة بغداد بدأت تنقل خطابا( للرئيس ألقائد) ولكنه توقف ربما بسبب قصف المرسلات , عدت ثانية الى الإذاعة البريطانية , سيارات عسكرية وعدد من المدرعات والدبابات بدأت بالظهور في حركات استعراضية , عدنا ثانية الى المعسكر , كانت الساعة تشير الى العاشرة من صباح يوم الخميس العشرين من آذار الفين وثلاثة

قال اشرف : القوات ألأمريكية تتقدم متجنبة المدن , امرا ما يتوخوه ! والتحليلات العسكرية التي استمعت اليها غامضة ولا احد يفهم هذه التحركات !

توقفت التدريبات الصباحية وكذلك ساعات ثرثرة التوجيه السياسي ولكن الفراغ الطويل والانتظار, في توتر مستمر لساعات الموت الذي قد يجتاح المعسكر المكشوف قادما من متاهات الدمار , افقدانا القدرة على النوم , كنا نتطلع الى السماء لنستقبل الإعصار ولكن الأيام الست ألأولى مرت دون أن يعبر الموت سماء الفيلق الخامس أو ان يهدر في ازقة الموصل , لابد من القول ان الطعام الذي يقدم لنا لم يطرأ عليه تغيير فقد بقيت كميات الخبز ألأسمر على حالها وان يك قد خالط العجينة مواد صلبة غريبة ولكن أحدا لم يتذمر فقد كان التركيز على الحرب وسماع اخبار تقدم القوات المعادية من الجنوب باتجاه بغداد يبعث على تشتت تفكيرنا , فكرت بدجلة المار تحت الكتف جوار مزرعتنا وهو يتقدم أيضا نحو الجنوب غير عابئ بالقوات التي تتقدم بامتداد الفرات نحو( الناصرية ) يقول وزير الأعلام ان كل هذا الحديث مجرد امنيات لعقل مجنون غير قادر ان يفهم نبض المكان فالعدو لازال في ام قصر ونحن ننتظره على اسوار بغداد !!.

بدأت اولى مجموعات الهاربين من جحيم القذائف الصاروخية تصل من المناطق المحيطة بكركوك كان من بينهم (جرجيس ) , قال أن وحدتهم كانت على امتداد مدينة جمجمال وعند الفجر في 28 آذار من عام 2003 تحولت الجبهة الى جهنم بكل ما فيها من لهيب وصراخ تحت جناح الفجر الأرجواني الذي كان يتطلع الى الكون ببلاهة النسيان , دقائق ويعبرهو والموت هذه الوديان ليطل على عالم آخر ربما لازال يحتفظ ببقايا بهجة في عيون السهارى , كان رفاقي قد اصروا ان اغني لهم ولم اجد غير لحن حزين في ذاكرتي ولكنهم رفضوا , قال صديق كان معي في الابتدائية وقد سكر قليلا , هناك اغنية عن جحش البلدية , وصاح الجميع : يعيش جحش البلدية, سعاد لاقت جحش ... جحش البلدية ... مو صوج هذا الجحش ... صوج هل ابنية !!

قال عريف سلمان ان القوات ألأمريكية قامت بأنزال جوي للواء مظلات في مطار حرير .. كان المطار الصغير يبعد خمسة وسبعون كيلو مترا عن اربيل وفي الليل بدأت مدينة الموصل تتعرض لقصف متقطع شديد وفي المعسكر افتقدت بعض الأصدقاء , قال اشرف الخائف يحارب فقط حينما لايجد امامه مجالا للهرب , صدق الرفيق شكسبير , هل تعلم انهم قد كتبوا يوما ما ان هذا الشكسبير هو شيخ زبير ! وهكذا نحارب !
حينما اشتد القصف على منطقة (كلك ) بدأ القلق في نظرات الضباط واصبحوا يتصرفون بلا مبالاة ولم يبدوا اهتماما بعدم قيام الجنود باداء التحية صباحا , قالت اذاعة مونت كارلو ان قوات المدينة المنورة قد جرى تمزيقها بالكامل وان الدبابات الروسية قد دمرت على جوانب الشارع العام وفي حقول البساتين ... الحرب تقترب اكثر ومدينتنا التي اعتقدنا انها ستكون اقل عرضة للدمار بدت وكأنها تتنفس رائحة الموت ... يامدينتي العزيرة سيتخلى الله عنك وستواجهين مصيرك العراقي المصبوغ بلون الدم والمضمخ براحة الدمار وهو يغير في خارطة شوارعك وبيوتك القديمة .. هل سيظل النبي (يونس ) يتطلع الى مأساتك وهل ستدخل امواج الدماء المستباحة الى اعتاب الضريح

الجبهة الشمالية تتحرك الآن بسرعة , مواقعنا تتعرض للقصف , مدينة فايدة شمال الموصل دمرت العديد من مبانيها السكنية والقوات الكردية تتحرك على الطريق بين جمجمال وكركوك وانفصلت مجموعة منها مدعومة من قوات المظّليين الأمريكية للأستيلاء على مشارف المدينة الصغيرة , مساء كنا نتحرك على شكل مجموعات سيرا على الأقدام الى الموصل , ليلا كانت مساكن المدينة كأنها امكنة اشباح تحيطها وحشة يمتد صمتها الحزين الى ألأطراف القصية ويعبر دجلة الى الجزيرة التي تنفتح نحو السماء بحنين لامتناه خوف القيامة التي تحملها رياح الموت في الفجر ألأرجواني .

قال اشرف : غدا سنجتمع في بيت فوزي قبل الظهر ؟!

لم أرد , قال جرجيس : لآ اعرف العنوان !

قال أشرف : رتب الموضوع مع سمير

قال جرجيس : ولكن ما هي المناسبة؟

: نحن نعمل في تنظيم سياسي ونحاول ان نستبق الكارثة !

لم يعلق جرجيس ولكنه سار الى جنبي بهدوء , عبرت ثلاث طائرات سماء المدينه الغارقة في صمتها

قال جرجيس : هل ستحضر ؟!

: نعم
: ولكن هل تعتقد ان الموضوع آمن ؟!

: لا , ولكن اين ستجد ألأمان !

: انتظرك اذا في البيت

ودعته بفتور فقد كنت مشغولا بالتفكير بوالدي الذي يحلم بان اتزوج امرأة تساعدنا في البيت وباحفاد يعوضوه وحدته بدون اخوة وخوفه الدائم علي من الغرق فتتوقف سلالته وينقطع امتداده في الحياة

كانت دجلة تلصف في العتمة الموشاة بخيوط دقيقة من ذيول الرصاص الذي ينطلق بين آونة واخرى كأنه يطارد أرواحا شريرة عصية على الرؤية ولكنك تحسها وهي تتحرك بفحيح يلفح بشرتك برائحته الثقيلة الماكرة

كان ابي مستيقظا , رآني من الشباك المغلف بورق الجرائد المصفر من المطر واشعة الشمس , فتح الباب ورائحة التبغ القوية تتقدمه
: مع هذه المرة حقيبة ملابسك ,هل انتهت الحرب؟
كان الزمن ضبابيا تتعثر فيه الصور والأحداث فهو لا يكترث للعالم خارج المزعة، وثنائية حيانه تعيش حالة انفصال فهو يعرف كل نبتة في المزعة ويقف عند شجيرات الزيتون ودوالي العنب يفحص اوراقها ويستخدم المواد اللازمة لمكافحة الحشرات ويعرف كم أعطت الدجاجات البياضة في الأسبوع ولكنه لا يبذل اي جهد لمعرفة ماجري في المدينة وعلى الرغم من انه ليس اميا فهو قد انهى الدراسة الابتدائية ويواظب على قراءة القران مع كل فريضة صلاة الا انه لم يقرأ اية جريدة منذ سنوات ولا يرغب بالاستماع الى نشرات الأخبار وكأن العالم يدور حول نقطة ثابتة لا تشتمل على اية إمكانية للتغيير , الحياة خارج المزرعة مساحات للجنون لا يريد ان يدخلها و يتعامل معها بحذر.

: لا لم تنته , انها في البداية ولكن المعسكر أخلي بالكامل ومن المنتظر ان تدخله القوات الأمريكية قريبا

: وهل سيبقون فيه ؟

: لا ادري !

: هل تعشيت؟

: لا ولكني لا أجد في نفسي رغبة بالطعام

000000000000000000000000000000000000000000000000000000

فوجئت وانا ادخل بيت فوزي , كان العديد من الأشخاص في الصالة التي اكتظت بهم , اخليت الصالة الواسعة والتي كانت غرفة استقبال وصالة طعام , من أثاثها وصف بدلا عنها كراسي بدون مساند على شكل صفوف متتابعة والى الحائط امام الكراسي كانت منضدة صغيرة خلفها ثمانية كراسي , استقبلني فوزي بترحاب حاول ان يكون علنيا وملفتا بحيث تطلع الجميع نحوي , قال فوزي بصوت مرتفع غطى على الضوضاء للأحاديث المتقاطعة
: الرجاء من أعضاء الهيئة العليا للتجمع اتخاذ أماكنهم الى المنضدة !
كنت اجلس الى جانب وداد التي بدت محرجة وهي امام انظار الجميع وشعرت بدفئ قربها مما خفف من هواجسي وانا اواجه هذا الجمع الذي اعرف بعضهم وانا طالب في المتوسطة فقد كانوا من المدرسين واثنين من أصحاب محلات بيع المواد الغذائية في السوق وبعض الضباط الصغار وطلاب من جامعة الموصل وكان هناك أيضا بضعة شخصيات ترتدي الأزياء العربية وثلاث نسوة

قال فوزي : ايها الأخوة اسمحوا لي اولا ان اشكركم على تلبية الدعوة لحضور هذا التجمع واعتقد انكم قد اطلعتم على اهدافنا مما ورد في البيانات التي كنا نوزعها في الأيام القليلة السابقة ,
الذين يجلسون امامكم هم الهيئة المؤسسة للتجمع الديمقراطي والذي هو حركة سياسية هدفها التحضير لما بعد الحرب ولمواجهة التبعات التي ستنجم عن الاحتلال ولسد جزء من الفراغ السياسي المتوقع حصوله
رفع شاب من الطلاب يده مستأذنا بالسؤال
: ولكن هل ان الهيئة منتخبة ؟
: الهيئة مجموعة لبّت الدعوة وتطوعت للعمل ولم يكن امامنا فرصة لأجراء انتخابات ولكن العمل وزع بطريقة ديمقراطية , بالتأكيد سيتم تغيير هذه الآلية بعد ان نتوسع في القاعدة الجماهيرية

جرى نقاش واسع حول مجالات العمل وكيفية مواجهة دخول القوات الأمريكية وحلفائها الى المدينة , قلت انا كجندي اعرف ان امكاناتنا في المواجهة معدومة في الوقت الحاضر على الأقل وقال احد الضباط هذا بالضبط ما وددت شرحه اذ انه من البديهيات ان القوات البرية لاتستطيع مواجهة تفوق جوي ساحق
قال رجل يرتدي الزي العربي يجلس في آخر الصالة : ما يجب التأكيد عليه هو وحدة الرأي والعمل على تجنيب المدينة ويلات هذه الحرب
: اذا , نحن متفقون على دعم الحركة التي تحضرون اجتماعها مبدأيا , ومتفقون على مساعدة المدينة , لهذا يجب اختيار مجموعة من الحاضرين من اربعة اشخاص لتمثيل الحركة أمام الجهات المعنية
بدأت بعض الأنفجارات تهز المكان وظهر القلق على بعض الحاضرين , دخل ألأخ ألأصغر لفوزي وهو بادي ألأرتباك , قال بأن القوات الكردية قد استولت على( فايدة ) وانها تستعد لأقتحام الموصل, بدأت اصوات الأنفجارات تسمع بوضوح .

قال فوزي : ايها ألأخوة الموصل ألآن تتعرض لقصف جوي شديد ومن الواضح ان كافة النقاط العسكرية مستهدفة وكما تعلمون فان بعض هذه النقاط في مناطق سكنية وسيعرض هذا المدنيين لمخاطر كبيرة ونحن عاجزون عن تقديم اي عون

بدا فوزي لي كقائد اسطوري من زمن منسي يقف وحده لم يفقد ألأمل بعد , كانت روح قيادية تتجلى في سلوكه وردة فعله كانت سريعة الاستجابة وعملية

: علينا ان نفعّل افكارنا وان نتصرف بمسؤولية ولهذا اقترح ان نختار أربعة اشخاص كوفد يمثلنا في لقاء قائد الفيلق الخامس وامام جامع النبي يونس ورئيس جامعة الموصل للتوصل الى راي بالكيفية الواجبة لمواجهة هذا الطوفان القادم
ايد الجميع المقترح .

قال فوزي : على الشيخ هادي أن يناقش الموضوع أولا مع مشايخ العشائر في الموصل والجزيرة وخلال ثمان واربعين ساعة , الأستاذ رياض وعليه ان يناقش الأمر مع نقابة المعلمين , السيدة تماضر تستمزج رأي المنظمات النسائية التابعة للأحزاب السياسية والتي تتحرك الآن بعلانية في المدينة أما زميلنا سمير فعليه أن يقوم بالاتصال بقيادة الفيلق الخامس للحصول على موعد للقاء السيد قائد الفيلق او من في القيادة بديلا عنه
شعرت اني اتعرض لرياح تهب رخوة منعشة تتسرب الى روحي وتبعث في كياني شعورا مشرقا وكأني قد استكملت بنائي الداخلي واني على استعداد للانطلاق في مهام حياتي الجديدة التي جمعت شظاياها منذ ان توطدت علاقتي بفوزي , فور انتهاء الحرب سأعود للدراسة وسأمتحن (خارجي ) وسأحصل على الثانوية , كانت وداد تتطلع نحوي بتركيز وعيناها المحايدتين ثابتتان تتفحصاني , كانت تشجعني وكأنها توافق على ما يدور في كهفي السري , حسنا قد اذهب الى الجامعة , رأيت في نظراتها اقتناعا , ولكن ماذا سأدرس , كان ابي يحلم بأن اكون محاميا , ذهب مرة الى المحكمة ليحضر شهادة صديق له ورأى المحامي يترافع , كان يتحدث بطلاقة ويحرك يديه على نحو انيق وكأنه ساحر يبهر مشاهديه , كان الجميع ينصتون .

أمرني الجندي عند البوابة ان اترجل من السيارة وان اسجل اسمي والغرض من الزيارة , نظر نحوي باستغراب وانا اسجل رغبتي بمقابلة قائد الفيلق , قال ولكنه لا يستقبل احدا نحن في حرب , قلت من اجل الحرب اريد مقابلته ويمكنك ان تتصل بالضابط الخفر لتعلمه اني ممثل حركة التجمع الديمقراطي في الموصل , قال الضابط ليدخل , جلست على كرسي منفصل في الصالة , قال الضابط من هو مسؤول الحركة , حسنا ولماذا تطلب المقابلة ؟ , قال القائد على جهاز موضوع على المنضدة ليدخل .

لم اشعر بالخوف وانا ارى كل تلك النجوم الذهبية والنياشين على صدره , كان طويل القامة في عينية نظرة حزينة ربما بسبب القهر الذي يعانيه وهو حبيس في المقر , كان هادئا الى الحد الذي جعلني افكر انه قد يختفي بأبة لحظة بسبب الفراغ الذي ولدته أ لأحداث , انه يذوب ببطئ ,
قال بصوت عميق رنينه مكتوم : اتفهم مشاعركم وقد استلمت طلبات من جهات شعبية اخرى للأجتماع والتداول , حسنا يمكنكم الحضور غدا الساعة الثالثة , كم عددكم؟

قمت بعملية احصاء سريعة ولكني لم اتوصل الى قرار

: نحن ثمانية من مختلف شراح المجتمع في الموصل

: حسنا , يمكنك اخذ التصريح من السكرتير

قال اشرف : لقد نجحت , انت ألان وجه سياسي معروف

قال رياض : الأحداث تخلق قادتها

قال فوزي : علينا ان نتحرك بسرعة ويجب معرفة نتائج مشاورات الشيخ هادي

مساء كنّا في حالة اجتماع مفتوح , جاء الشيخ هادي ليخبرنا ان العشائر في الجزيرة توافق على تفادي الحرب ما دمنا لا نملك خيارا افضل , وقالت تماضر انها تستطيع ان
تؤكد ان ثلاث منظمات نسوية توافق على اجراء مباحثات مباشرة مع الأمريكيين حيث ترابط قطعاتهم على حدود المدينة , كانت نقابة المعلمين قد امتنعت عن إعطاء رأي بسبب ان ألأمين العام في بغداد .

كانت الأخبار القادمة من بغداد مؤلمة فقد دخلت الدبابات الأمريكية قلب العاصمة وانها رت كلية مقاومة الجيش وذابت القطعات الجرارة كحلم مجنون بالغ العنفوان واتسعت مساحات الحقد والجريمة وبدأ عصر الدماء المستباحة مجانا , ان الله لا يكلف نفساالا وسعها ولكننا كلفنا في هذا الزمن تحمل شقاء الموت وتعاسة الحب , في عيوننا ونحن نستمع الى الأخبار كانت ظلمات تسد منافذ الأمل .

قال فوزي : لنتحرك بسرعة , سنذهب الى الموعد

ثانية تشدني روح القيادة الفاعلة عند فوزي

كان اللقاء حزينا وفي غرفة القائد سبقننا مجموعة من ممثلي الجمعيات والأحزاب وبعد مداولات قصيرة ومحبطة تم الاتفاق على ان نقوم بزيارة قائد القطعات ألأمريكية لترتيب امر دخولها الموصل دون مقاومة اوقتال , تكلم القائد بصوت مليئ بالمرارة , هل رأيتم عسكريا مخذولا؟

وافق ألأمريكي, الذي كان يتكلم بهدوء موحيا انه لا يكترث للموقف بجملته فالحرب انتهت بسقوط بغداد وان استسلام قائد الفيلق واعيان المدينة هو تحصيل حاصل ويجب عدم الاختباء وراء المشاعر , والوطنية هي صيانة البلد وبنائه, بدأ يظهر ودا واضحا ليخفف عنا , كنت اول مرة في حياتي اشاهد أمريكيا , كان فوزي يقوم بالترجمة , لاحظت ان هناك فرق واضح في اللهجة , قال فوزي لاحقا , لقد تعلمت في ويلز حيث اللغة ملتوية في نطقها.

دخلت القطعات الأمريكية ترافقها بعض قوات البيشمركة الكردية ومجموعة من المترجمين لتحتل مركز المحافظة ولتعلن عن تعيين محافظ من الذين دخلوا العراق معهم وتنصب سيدة كردية ممثلة للإدارة المحتلة , قال الشيخ هادي هذه اولى الخطوات في الاتجاه الخاطئ , تقودنا امرأة ؟؟!!

قالت تماضر : شيخ هادي نحن في التجمع لانفرق بين المرأة والرجل في تولي المسؤولية ولكني معك ان الأمر محرج في الموصل حيث القناعات لازالت تعاني من سيطرة التراث وذيول الحملة الإيمانية !

في اليوم التالي شوهدت الدبابات ألأمريكية على مفترقات الطرق وفي وسط المدينة , قال ابي , تبارك الله اننا نخطوا الى مقدمات القيامة , كيف سيستطيع غرباء حماية المدينة .

في بناية شعبة لحزب البعث استقرت حركة التجمع , ازيلت كل التسميات والشعارات السابقة ورفعت بديلا عنها لافتة كبيرة باسم الحركة ووزعت الغرف على فعاليات التنظيم , كان فوزي يدور طوال النهار يبشر بافكار الحركة ويدعو اصدقائه ومعارفه لزيارة المقر ويشرف على طبع البيانات ويترأس الندوات مساء , كلفني بأن استطلع آراء الناس واجمع وجهات النظر واراقب الأحداث , في الغرفة المخصصة للحركة النسوية كانت تماضر تجيب عن الأسئلة فيما تقوم وداد بإعداد الغرفة وتنظيفها , قال جرجيس , ولكن متى يأتي دوري , هل ستعدون لحفلة ؟ , أشرف كان يقوم بمراجعة لغوية للبيانات , كنا نؤمن اننا سنستطيع توجيه الأمور في المدينة بمدة قياسية , ولكن ما حدث كان ابعد من تصوراتنا واكبر من قناعاتنا , بدت المدينة صباح السادس عشر من نيسان وكأنها على موعد مع مس من الشيطان , منذ الصباح الباكر كانت جماعات تعمل على خلق الفوضى ونشر الخراب في كل مكان , كانت ألأحداث تتسارع وكأن شيطانا مجنونا يدفع المدينة باصرار ماكر نحو مستنقع بربري متعطش لمزيد من الدماء و الخراب , كنت في المقهى , على الناصية عند تقاطع شارع الداوسة بشارع نينوى كانت دبابة امريكية يدور فوقها رشاش ثقيل وعلى مقربة منها بضعة جنود وعدد من رجال البشمركة , لم يبدو عليهم الاهتمام بما يدور , بدأت الجماعات التي تحكمها هسترية وكأنها في مشهد معزول تحطم واجهات المحال التجارية وتدمر المحتويات على نحو عبثي , صعدت فرق منهم الى مكاتب الأطباء وانتشرت في الشارع قطع ألأثاث والمعدات الطبية , كان الجنود يتطلعون ببلاهة , قال رجل كان الى جانبي , زخة رصاص في الهواء وسيتوقف الجميع , قال شاب يرتشف شايه بهدوء , لن يتدخلوا انهم يراقبون تفريغ شحنة الثأر وتجاوز عقدة الخوف ! قال رياض كنا نتمنى ان لا يسقط النظام بفعل ثورة شعبية لأن الثمن سيكون باهضا , وانا أتطلع الى مايحدث في المدينة التي تعيش زمن بدء العاصفة فكرت بالثمن الذي يتوجب دفعه , هتف بضعة شباب مسلحين بالعصي , لقد فتحوا البنك ! كان لابد ان اتابع المشهد , باب مصرف الرافدين مشرعة وفي الداخل مجموعة تعمل على كسر الأقفال الداخلية وتعالج الخزانة الحديدية المرصوفة الى الحائط , صرخ رجل اصلع هبطت كوفيته على كتفيه ورفع اكمام قميصه الى اعلى , ليتراجع الجميع , لن نضيع الوقت بهذه السفاسف , سننسف (القاصة ) , دوى انفجار صاخب وتناثرت قطع الأسمنت والآجر فيما اندفع العشرات الى الطابق الأسفل كإعصار فقد مركزه يضرب بكل اتجاه , اي زمن هذا ! وكيف سنسمي الأشياء والأماكن والبشر , قال فوزي , قد نغير معاني الكلمات , هكذا هي التحولات الكبرى في التاريخ ! لم اعلق , كنت اتابع المشهد , ظهرت اولا رزم من الدنانير من فئات مختلفة , كانت الرزم مرصوفة بعناية ومضغوطة الى بعضها لتأخذ اقل حجم ممكن , بدأوا بفك الرزم ونشر العملة الورقية في الشارع لترسم صورا سريالية على الشارع الأسفلتي ولتتطاير مختبئة في جوانب الرصيف الإسمنتي أو جدران المحال المغلقة لاعنة ألأقدار القادمة من عمق الظلمة والرحم السري للتاريخ , لقد قبلت السقوط المدوي لها لكونها بقيت تلاقي قليلا من دفئ الأيدي وحرارة الرغبة في احتوائها أما ان يدفعها زمن الانحطاط ان تكنس الشارع فهذا ما يشعرها بالهوان وتبحث عن مكان تلوذ به , تطلع الجندي ألأمريكي بشيء من الفضول ولكنه لم يتحرك , قال رجل في الستين خمنت انه لا يرغب بحلاقة شعر رأسه الرصاصي وانه معجب بحواجبه الكثة وشعرها المتنافر , انهم يبحثون عن الذهب , لقد سقطت العملة !

تقدمت بضع سيارات تتقدمها احدى سيارات الشرطة , المحافظ الجديد يستشرف ألأمر , توقف الجميع عن الحركة وتجمد المشهد , قال المحافظ , اغلقوا أبواب المصرف , وعلى الأخوة مغادرة المكان , سنرسل فرقة لجمع الحطام والمخلفات , ذاب الجمع كقطرات المطر في يوم دافئ ومشمس تركوا آثار الأعمال التي مارسوها بهوس مجنون ولكنه بالغ التفاهة تماما كمطر الصيف الذي لا يترك الا رائحة التراب

كان المحافظ الذي دخل المدينة مع القوات الأمريكية يحتفظ بوجاهة البرجوازية في بلدان العالم الثالث , كرش كبير وصوت جهوري زاعق ونظرة استهانة تحمل ملامح قوية لتربية قاسية ولكنها غير سوية , لم يكن وجهه مغضنا , كان املسا يعطي انطباعا بوقاحة سوقية , لم افهم ما قاله بالإنكليزية للجندي الأمريكي الذي لم يرد عليه
بدا على المحافظ شيئا من الأرتباك والحيرة ولكنه تمالك نفسه ملتفتا الى المجموعة المسلحة التي كانت ترافقه.

: ليعمل الجميع على رفع الحطام

دخل في بناية المصرف واغلق الباب خلفه بهدوء في حين وقف ثلاثة مسلحين ببنادق رشاشة عند الباب , شعرت ان امرا ما يحاول ان يرتبه فهل سيتفهم عمليات النهب ليضفي عليها حماية رسمية , كان فوزي يردد وهو يسمع بنبأ تعيين المحافظ , لا , هذا تجاوز لن يستمر , الرجل ليس فوق الشبهات كما انه ليس من المدينة , في الموصل تعودنا ان يكون الحاكم من المدينة ولم يحصل ان جاءها حاكم مستورد , هل ستستمر سلسلة ألأخطاء ألأمريكية

قال فوزي : انت واشرف عليكما ان تحضرا غدا الساعة الثامنة الى مقر الحركة وارجو ان تؤمن اخبار اشرف ,لدينا امور مهمة يجب التداول بها على اضيق نطاق قبل ان نطرحها على الحركة

لم استفسر عن تلك ألأمور فقد تعلمت الا اطالب بايضاحات بعد ان اصبح فوزي وباسنمرار على درجة عالية من المشغولية
عدنا ثانية الى مبنى الحركة
عند المدخل استوقفنا ثلاثة حراس مسلحين ببنادق كلاشنكوف


: الى اين ؟

: نحن من اعضاء الحركة !

: اهلا بكما ولكن هل تحملان تخويلا بالدخول ؟

كان الموضوع ملفتا على نحو اصابنا بالذهول

قال أشرف : حسنا هل ألأستاذ فوزي بالداخل ؟
قال الحارس :نعم

: اخبره اذا ان اشرف وسمير عند الباب

: حسنا يمكنكما الانتظار

جاء فوزي يعتذر وقال الحارس : انا آسف !

قال فوزي : لابأس لقد تطورت ألأمور بسرعة أرجو ان تتفهما الوضع وبالطبع لن يتكرر ألأمر

تبعناه دون تعليق , في الغرفة المخصصة لأمين الحركة جلسنا نترقب شرحا عن التطورات
قال فوزي : تعلمان ان الحركة قد حققت حضورا في الساحة السياسية في المدينة ولهذا فقد استدعيت الى المحافظة عصر امس وقد تحدثت معي السيدة ممثلة الإدارة ألأمريكية بصراحة وقدمت لنا مساعدة مالية لدعم نشاطات الحركة وطلبت ان نقوم بتعيين عناصر لحراسة المقر وبعض الموظفين للعمل الإداري وان نحاول تكثيف نشاطنا الجماهيري واعتقد اننا بحاجة الى سيارة للتنقلات والى دراجة بخارية للأخ سمير لأنه سيكون مضطرا للكثير من الحركة

شعرت بشيء من ألارباك حينما تطلع اشرف نحوي متسائلا وكأني اسبح في عوالم ملونة دونما تناغم وأن أرضية المكان عارية الا من صقيع يبعث القشعريرة , وحين مضى فوزي يشرح المبررات كنت اواصل السباحة غاطسا رأسي في مياه هلامية تنبعث منها رائحة الخراب وأني اختنق لتعذر التنفس

عند البوابة الرئيسة كانت وداد يستوقفها الحرس , عيناها ودودتان وعلى خديها تركت نسائم الصباح الباردة حمرة مشرقة كزهو الشقّيق على الروابي المحيطة بالمدينة في شهر نيسان من كل عام

قال الحارس : الأخت تقول انها معكم !

: نعم , دعها تدخل

حدقت في وجهي فيما لاح في عينيها وميض اخاذ

: شكرا لدي اولا ما ادو قوله لك !

: ولكن ليس في نيتي العودة الى المبى
: ولا انا
: هل سنسير في الشارع ؟!
: لا , سندخل مطعما على الشارع وهو يقدم إفطارا من الكباب والسلطات , كنت أحيانا ارتاده مع بعض فتيات القسم الداخلي
: لكن ....
: انت مدعو , دعك من الرسميات ألآن
في المطعم الصغير كان بضعة طلاب يتناولون افطارهم بصمت على طاولات خشبية مغطاة بشراشف رصاصية نظيفة وكان النادل يبتسم على نحو ذكرني ببعض لعب الأطفال التي رسمت على افواهها بقايا ضحكة ليس هناك ما يبررها , وفي الشارع العام كان عددا من الجنود الأمريكيين والكرد يتبادلون الحديث وايديهم على بنادقهم

: ما دفعني الى الاصرار على اصطحابك هو الحالة الرهيبة التي كنت عليها , كان وجهك ممتقعا وعيناك زائغتان وكأنك خارج للتو من كابوس مرعب , كنت كمن يهرب من ملاحقة مميتة
: شكرا , آسف لأني سببت لك ازعاجا
: هل تود ان تحكي لي ام نؤجل ذلك الى ما بعد وجبة الكباب واثناء تناول الشاي

: سأحكي ولكن على شرط ان ادفع انا الحساب !
: جميل وسأحتفظ بمبادرتك هذه كذكرى !

بدأ مطر خفيف اخذت قطراته المتتابعة تعكس اشعة الشمس التي لازالت تتقدم في ارتفاع الواجهة العريضة للمطعم وترك الجنود محلهم ليقفوا تحت مظلة شرطي المرور وسط الساحة المعشوشبة عند التقاطع
: ماذا تستنتج من ذلك ؟

قالت متسائلة وهي لازالت تحدق باهتمام بالغ في عيني

: هل رايت مرآة صقيلة مزهوة بلمعانها حينما يصيبها شرخ ؟

: ها انت شاعر , كنت اعتقد انك رجل المهمات الصعبة في الحركة ولكنك تنافس حمدي الذي يصر على نظم الشعر رغم انه طالب في الهندسة !

شعرت بموجة سرور تداخلني من المسارب التي أحدثها رد الفعل على ماسمعت

: اننا في حركة ديمقراطية وهذا يعني ان من حق اي منا ان تكون له قناعات وأن هذه القناعات تتشكل عبر رؤية موضوعية للواقع وبالتالي فانه ليس بالضرورة ان تكون رؤيتك متطابقة مع رؤية فوزي

: اتتبعك ببطء وما افهمه اننا في تنظيم واحد ومصيرنا متعلق ببعضنا البعض وهذ يستدعي ان نتحاور قبل اية خطوة عملية

: هذا صحيح , وكان عليك ان تناقشه لآ ان تغضب وتترك اللقاء , لم يطلب مني ان احضر معكم على الرغم من أن هذا من حقي ولكني لن اغضب لأني اتفهم الدوافع

كان الشاي امامنا يبرد ومعظم الطلبة غادروا المطعم والجنود تركوا موقعهم وصوتها ينساب واثقا ينشر في روحي طعم اللوز ورائحة النعناع , تطفو الكلمات ملونة كزهور البابنك بقلبها الأصفر الرقيق قبل ان تلامس مسمعي , ومع المطر الربيعي الذي بدأ يتسابق في الوصول الى الأرض شعرت اني احبها !!

: سأطلب شايا جديدا ولكن على حسابي !

ابتسمت برضى يلف كياني كله , التواصل الان موشى بظل شجرة جوز متشابكة فلا المطر يهبط ولا الشمس ترشح اشعتها وليس غير تغريد هامس يتطاول على امتداد الفضاء بيننا

ذياب فهد الطائي
الفصل الرابع









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل


.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج




.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما