الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلِكْترا: الفصل التاسع 2

دلور ميقري

2018 / 6 / 18
الادب والفن


كان نهاراً رائعاً، مشمساً ومعتدلاً في آنٍ واحد، مثلما هيَ نهارات الصويرة طوال معظم أيام السنة. ماء البحر، الدافئ مع تناهيه إلى منحنى الشاطئ، اكتفى بمسّ قدميها الحافيتين. في وقتٍ كان فيه الموجُ يطيح بجسد مرافقتها، المتوغّلة بجرأتها المعهودة نحوَ جهة الأعماق. وكان شقيق الفتاة، " آلان "، قد فضّل مرافقة معلّمتهما في تجوالها على طول الشاطئ الفضيّ، المُحاذي لبقعة الاستجمام الخاصّة بأحد الفنادق الكبيرة، والمأهولة غالباً بالسيّاح الغربيين. هنالك عند غابة المظلات، الواقية من الشمس، ما لبثت مجموعة السيّدة السورية أن أخذت مكانها تحت أنظار بعض أولئك الأجانب، الفضوليين. لعل هؤلاء كانوا على حيرةٍ، فيما هم ينصتون للغة المجموعة، مقارنةً بأشكال أفرادها الأقرب لمثيلها عند الأوروبيين.
على أثر الغداء، وكانوا قد تناولوه في أحد الأكشاك المتخصصة بشواء الثمار البحرية، عادت جماعتهم لتتفرق أيدي سبأ. " زين " أرادت الخلود لقيلولة قصيرة في الرياض، بينما شقيقها عزمَ أن يمضي إلى برج السقالة البرانية، قائلاً وهوَ يضحك: " ربما أحظى بسائحة فرنسية، فتترك زوجها من أجلي، فتأخذني إلى باريس؛ مدينة أحلام كلّ شاب مغربيّ! ". حينَ صارت " سوسن خانم " لوحدها، طفقت تفكّر بكلام سكرتيرها فيما قدماها تقودانها باتجاه ساحة المدينة القديمة. الشبّان في الشرق، لديهم عموماً ذلك الاعتقاد المُعبّر عنه سكرتيرها سواء أكان جاداً أو هازلاً. إنهم يتصورون افتقاد رجال الغرب للفحولة، أو على الأقل، اتسامهم بالبرودة الجنسية مُقابل أجساد نسائهم المتأججة بالشهوة والشبق. قد يكون واقعياً، اعتقادُ بعض أولئك الشبّان فضلاً عن تصوّرهم المَوْصوف، ما لو كانوا على صلة شخصية بهذا الأوروبيّ أو ذاك: ألم تكن حياةُ " مسيو غوستاف " أقرب للإباحية مع امرأته، آنَ سماحه لها بمعاشرة من ترغب أو حتى بمن كان هوَ نفسه يعرضهم عليها؟ من المحتمل أن ذلك كان تكتيكاً خبيثاً، لا يخلو من حكمةٍ مع ذلك، يُفترض به المساعدة على الاحتفاظ بالمرأة الشابة مع زوجٍ بات في سنّ على حدّ العجز الجنسيّ. هذه الفرضية، بالوسع سحبها أيضاً على صديقها الراحل الآخر، الرسام العجوز، على الرغم من أن رغباته كانت تتسم بالإخبات والمراوغة ولا تظهر تقريباً سوى في لوحاته.
كأنما الكوسموبوليتية، واصلت الخانمُ تفكيرها، صفة ملازمة لكلّ شخصٍ لديه ميول مثلية. إنها ميولٌ تضعه بشكل دائم في تضاد مع المجتمع، المتبع غالبية أفراده الطريق السويّ للجنس. ناهيك عن التحريم الدينيّ، المكوّن بشكل عام عقلية الأوروبيين حتى ولو باتَ تأثيرُ الكنيسة واهياً في مجتمعاتهم. في هكذا حالة من التغرّب، يُضحي شاغلُ أصحاب الميول المثلية هوَ الهروب إلى بلاد أخرى، يُمكن فيها التخفي ليلاً مع حمأة الرذيلة والظهور نهاراً بأناقة الرجل الجنتلمان. أما إذا حظيَ أحدهم ببلد كالمغرب، أينَ بالوسع ممارسة جميع أنواع المحرمات دونما خشية من القانون ( كونه مسانداً للأوروبيّ المقيم )، فإنه يودّ ولا شك لو يُعمّر كأبينا آدم أو يشيخ كخليفة الله على الأرض محاطاً بحريمٍ كامل من الجواري والغلمان. " مدينة الحلم! "؛ لكم ترددَ هذا التعبيرُ في مخطوطة مذكرات صديقها الفرنسيّ الراحل، مُتجهاً بطبيعة الحال إلى المدينة الحمراء ـ كما تصوَّب سبطاناتُ تلك المدافع القزمة، الحارسة لمداخل الساحة ثمة، نحوَ البحر المتخم بذكريات الأساطيل الأوروبية الغازية.
" لو كان الأمرُ كذلك، لما أختارَ مسيو جاك إنهاءَ حياته انتحاراً. بل وتبدو أيضاً صيرورة حياة مسيو غوستاف، وكأنها بدَورها نوعٌ من الاندفاع نحو الانتحار "، استدركت الخانم في سرّها. فلما طرقَ ذهنَها اسمُ صديقها الرسام الراحل، فإنّ خطواتها أسرعت إلى ناحية الغاليري. الوقتُ كان ظهراً، عدا عن أنه يوم جمعة مثلما جرت الإشارة آنفاً؛ مما يُقلل حظ افتتاح تلك الصالة الفنية. ولكنها ثابرت على التقدّم، مخفية جانباً من وجهها تحت قبعة من القش الذهبيّ، كبيرة ومستديرة، تهيمن فوقها سماءٌ زرقاء ملتهبة بشمس نحاسية. لحُسن الحظ، كانت الصالة مفتوحة، وإن بدت خالية على عروشها، اللهم إلا من الأعمال المعروضة. صوتُ الجرس، الذي يصدر بشكلٍ تلقائيّ مع فتح الباب الرئيس، جعل أحدهم يهرع للنزول من الدور الثاني. صوتٌ آخر، أكثر عذوبة وديمومة، ما عتمَ أن طرقَ أذن الضيفة ما أن صارت داخل الصالة. ذلك كان موسيقى يهودية، مثلما ستعلمُ لاحقاً، تصدح من فونوغراف متربعٍ في صدر الصالة الأرضية، تحيطه قطع مختلفة من الأنتيكا.
كان واضحاً من طريقة استقباله لها، أنه ظنها زبونة أوروبية. في المقابل، كانت هيَ تعرف بأنّ هذا الرجل الخمسينيّ، الواقف أمامها بابتسامته المدروسة، ليسَ سوى " زكرياء "؛ وكيل أعمال الرسام الراحل سابقاً، ومَن ورثَ الغاليري مكافأة على خدمته الطويلة. وفيما بائعُ اللوحات ما ينفكّ يوزن بعينيه الزبونة، المفترضة، إذا بها تفاجئه بحقيقة شخصيتها: " اسمي سوسن، وأعتقدُ أنك تعرف سببَ وجودي هنا؟ "، قالتها بالفرنسية وعيناها تفيضان مكراً بريئاً. أحمرّ الرجلُ، فيما كان يهز رأسه علامة على تأكيد معرفة المرأة الضيفة. لحظت حيرته. فاستمرت بالكلام، لتخبره أنّ اللوحات المطلوبة سيأتي بها سكرتيرُ مكتبها في السيارة. حينَ أعلمته أنها تقيم مع جماعتها في رياضٍ قريب، فتحَ فمه لأول مرة لينصحها بالقول: " عربة الكارو تفي بالغرض، ولا يطلب صاحبها أكثر من مائتي ريال ثمناً لتوصيل اللوحات ". فكرتها عن شخصية " زكرياء "، كانت مستلة ولا شك من مخطوطة المذكرات. ولكن ذلك لم يمنع سرُّها من مخاطبة البائع، متهكّماً: " ها أنتَ ذا تحسبُ جيداً بالريال، يا صديقي اليهوديّ الخجول! ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع