الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاقتصاد السياسي

محمد عادل زكي

2018 / 6 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


المحرك المركزي لنشأة العلم هو الكشف عن القانون الموضوعي الحاكم للظاهرة بوصفها (شيء) (مهيمن) اجتماعياً. بوصفها (شيء) يملك نفوذاً مستقلاً عن أفراد المجتمع، وهي بتلك المثابة تجبر هؤلاء الأفراد على احترام قواعدها، وكل سلوك بالمخالفة لتلك القواعد يقابل بالصدام والمقاومة، مادياً و/أو معنوياً، على الصعيد الاجتماعي.
ولكي ينشأ العلم الاجتماعي، وليس الانشغال الفكري فحسب، ابتداءً من وجود الظاهرة الاجتماعية، يتعين أن يكون الذهن الجمعي مهيئاً للكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة للظاهرة على الصعيد الاجتماعي. والذهن الجمعي يصبح مهيئاً لذلك حينما يتجاوز، بوعي ناقد، كل ما من شأنه منعه من إدراك وتحليل الظاهرة الاجتماعية محل انشغاله باعتبارها (شيء) يتكون في رحم المجتمع، لا يهبط عليه من السماء، ويتطور ويفنى من خلال علاقات حيوية جدلية بين أفراد هذا المجتمع، وبالتالي يخضع لقوانين موضوعية تحكم نشأته وتطوره وفنائه وفقاً لعلاقات سببية.
ولم يكن لعلم الاقتصاد السياسي، كعلم اجتماعي، أن يظهر كي يفسر الظواهر محل انشغاله إلا بتزامن هيمنة تلك الظواهر وتضافرها مع اتجاه الذهن الجمعي للبحث عن القوانين الَّتي تحكم تلك الظواهر.
فعبر تاريخ البشر برزت خمس ذهنيات مركزية: الذهنية الميثولوجية، والذهنية الفلسفية كذهنيات مهيمنة في العالم القديم. والذهنية الفقهية، والذهنية اللاهوتية كذهنيات مهيمنة في العالم الوسيط. والذهنية العلمية كذهنية مهيمنة في العالم الحديث.
ومع الذهنية الأخيرة، والذهنية الأخيرة فقط، تبلور علم الاقتصاد السياسي، على الرغم من أن جُل الظواهر الَّتي استنهضته، منذ بضعة قرون فحسب، كانت موجودة منذ آلاف السنين. ففي العالم القديم والوسيط كان أمام الرأسمالي، والَّذي يملك نقوداً يهدف إلى إنمائها، سواء أكان في بابل قبل الميلاد أو في القدس في القرن الأول أو في روما في القرن الثالث أو في بغداد في القرن العاشر، ثلاثة اختيارات:
- الاختيار الأول: أن يشتري سلعة بسعر منخفض ويعيد بيعها بسعر مرتفع ويحصل على الربح من الفارق بين هذين السعرين. وقد تتم هذه العملية في داخل البلد الواحد، أو عبر بلدين أو أكثر.
- الاختيار الثاني: أن يُنتج السلعة بدلاً من شرائها مصنَّعة. وفي سبيل ذلك ربما يأتي الرأسمالي بمواد العمل إلى الحرفي، المالك لأدواته، ويحتكر إنتاجه مقابل أجر محدد.
- أما الاختيار الثالث، فهو: أن يقوم بإقراض نقوده إلى شخص آخر لأجل محدد وحين حلول الأجل يحصل على نقوده مضافاً إليها فائدة. أو يشتري ويبيع في النقود ويقوم بشتى أعمال الصرف، ويربح من وراء تفاوت واختلاف أسعار العملات.
ويمكننا أن نرى هذه الاختيارات الثلاثة بوضوح عبر تاريخ النشاط الاقتصادي كخيارات مطروحة وممكنة أمام الرأسماليين سواء أكانوا، وكما ذكرنا، في بابل أو القدس أو روما أو بغداد. أو في أي مكان في العالم القديم أو الوسيط. ومعنى تكرار هذه الاختيارات، الظواهر، وبانتظام هو أننا أمام (أشياء) تستدعي التفسير والتحليل وتحديد القوانين الموضوعية الَّتي تحكم آدائها. فنحن أمام ظواهر: الربح، والفائدة، والأجر،... إلخ. ولكننا لا نعرف على أي أساس تحدد، آنذاك، ربح الرأسمالي في أي اختيار من اختياراته الثلاثة، ولا نعرف كيف تحدد سعر الصرف أو سعر الفائدة، كما لا نعرف كذلك على أي أساس تحددت الأجور، ... إلخ. ويجب أن لا نتوقع العثور على إجابات عن تساؤلاتنا عن محددات الربح أو الفائدة، ... إلخ، لدى مفكري العالم القديم أو الوسيط؛ وذلك لانتفاء شرط انشغال الذهن الجمعي؛ فالظواهر المراد تفسيرها مهيمنة على الصعيد الاجتماعي، ولكن الذهن الجمعي ليس لديه الاهتمام للانشغال بها على نحو علمي؛ وذلك لهيمنة ذهنيات أخرى حالت دون الكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة للظواهر الَّتي فرضت نفسها آنذاك على الواقع الاجتماعي.
فالقوانين البابلية على سبيل المثال، والَّتي نظَّمت، بدقة إلى حد كبير، مظاهر النشاط الاقتصادي، وعالجت العديد من مفرداته فتحدثت عن الرأسمال، والعمال، والأجور، والأرباح،... إلخ، اتخذت جميعها من الميثولوجية إطاراً لا تتخطاه، فجميع القوانين البابلية تقريباً هي قوانين مملاة من الآلهة على الملك من أجل تنظيم المجتمع وفقاً لمشيئة الآلهة، لا البشر. والنصوص نفسها لا تخلو من ذكر الآلهة الَّذين يتحكمون في الصواعق والأمطار والرياح، أو الَّذين يتم الاعتراف أمامهم بالجرائم... إلخ.
وفي آثينا، درس أرسطو جُل مظاهر النشاط الاقتصادي في أحضان الفلسفة. وكانت جميع الظواهر على الصعيد الاجتماعي تدرس ابتداءً من تلك الذهنية الفلسفية.
وفي غرب أوروبا في القرون الوسطى، وعلى الرغم من انتشار الحرف والتجارة العالمية على سواحل البحر الأبيض المتوسط، فإن أهم ما سيصل إلينا من إنتاج فكري وتحليلات نظرية بشأن النشاط الاقتصادي سيكون في إطار التصورات اللاهوتية وهو ما تمثل في كتابات ألبرتو ماجنوس (1200-1280) وتوما الأكويني (1225-1274) وأوريزم(1320-1382)كمحاولات، مجرد محاولات أولية، للانشغال الفكري، وفي إطار التعاليم الكنسية والأفكار اللاهوتية، بتحليل التجارة والإنتاج الحرفي وما يتعلق بهما من ظواهر كالأثمان، والفائدة، والأرباح،... إلخ.
وفي دمشق أو بغداد أو قرطبة أو القيروان، على أقل تقدير في الفترة من القرن السابع حتى القرن الثاني عشر، جاء الانشغال بمظاهر النشاط الاقتصادي في إطار الفقه؛ فقد عالج الفقهاء مسائل الأرباح، والمضاربة، والأجور، والصرف، والشركات، والإيجار، والبيع، والعارية، والرهن، والتأمين، والكفالة،... إلخ. ومن ثم حال الاهتمام بعلوم الشريعة (المتضمنة أوجه النشاط الاقتصادي) دون تكون الانشغال بالكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة لهيكل وآداء النشاط الاقتصادي. ومن هنا يمكننا استنتاج السبب، ربما الوحيد، الَّذي منع نشأة (علم) اقتصادي في القرن العاشر، في بغداد أو قرطبة، على الرغم من توافر جُل الظواهر الَّتي أنضجت العلم الاقتصادي، هذا السبب هو هيمنة الفقيه، والَّذي كان آنذاك لديه الإجابة، الشرعية، عن كل ما هو اجتماعي. ولذا، حينما ظهر أصحاب العقول العلمية الجبارة كابن حيان (722-804) والخوارزمي (780-850) والكندي (805 - 873) والرهاوي (854 -931) والفارابي (874-950) والحسن بن الهيثم (965 -1040) والبيروني (973- 104) وابن سينا (980 - 1037) وابن باجة (1095- 1138) والإدريسي (1099- 1160) وابن رشد (1126- 1198) والجزري (1136- 1206) لم تكن لتشغلهم مسائل النشاط الاقتصادي الَّتي ضمتها مؤلَّفات الفقه ومصنفات فحوله ومسائلهم، والَّتي تتلمذ بالفعل عليها أكثرهم، فقد كانت تلك المسائل محسومة معالجتها آنذاك، وكان المهم هو معرفة الأحكام الشرعية للمعاملات، لا القوانين الموضوعية للظواهر.
ومن جانب آخر، ولأن خراج الأراضي كان من الظواهر المهيمنة، فقد أُلفت كتب الخراج كمؤلَّفات وضعت بالأساس من أجل إرشاد الحاكم إلى أصول مالية دولة الخلافة، وتنظيم مواردها ونفقاتها، بصفة خاصة بعدما ثارت التساؤلات حول الحكم الشرعي للأراضي المفتوحة وغلاتها ومصارفها... إلخ. والَّذي تولى وضع هذه المؤلفات هم الفقهاء مثل أبو حنيفة (699- 767) ومالك بن أنس (711- 795) والشافعي (767-820) والتنوخي (776- 854) وابن حنبل (780- 855) والبخاري (810-870) وأبو داود (817-888) ومسلم (821-875)، والترمذي (824- 892) والنسائي (829- 915) والدارقطني (918- 995) وابن حزم (994- 1064). نقول إن الذي تولى وضع هذه المؤلفات هم الفقهاء لا علماء الكيمياء أو الرياضيات؛ فكل ما هو اجتماعي، وكما ذكرنا، كان خاضعاً لأحكام الفقه بوصفه التعبير عن الشريعة الَّتي تسيطر على حياة الشخص في الدنيا والآخرة؛ دون إمكانية للفصل بين ما هو مدني وبين ما هو ديني. ولذا لم يكن أمام العقول العلمية آنذاك، بل وبعض العقول الفقهية الناقدة كالمعتزلة وفي مقدمتهم الجاحظ (775-868) والمأمون (786-833) والقاضي عبد الجبار (935-1024) والزمخشري (1070-1143)، وهي العقول الَّتي ورثت حضارياً فلسفة اليونان وعلوم الشرق القديم، سوى الاتجاه في أحد الاتجاهين: إما إعادة النظر في أساس الفقه نفسه بإعادة النظر في أصول الشريعة ذاتها. وإما البحث في القوانين الحاكمة للظواهر الطبيعية تحركاً في المساحة الَّتي لم يتمكن الفقه من إحكام سيطرته عليها، إلا في عصور الانحطاط وهيمنة الغيبيات. وذلك كله أيضاً دون أدنى انشغال بالكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة للنشاط الاقتصادي على الصعيد الاجتماعي. وذلك، لاستئثار الفقيه، على أرض الواقع، بدور حاسم في منع تكون المفكر الاجتماعي الباحث، على نحو ناقد، في القوانين الموضوعية للظواهر الاجتماعية، والسياسية بالتالي، وهو المنع الَّذي استتبع بدوره الحيلولة دون النفاذ إلى تلك المناطق النظرية الَّتي اعتبرها الفقيه واقعة في إطار نفوذه المعرفي!
وحينما يتكون الذهن العلمي، الناقد لكل ما هو قائم، في أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بعد أن ثار الضمير الجمعي على طغيان الملكية الإقطاعية ودوجما السلطة الكنسية، وانطلق العقل باحثاً عن القوانين الموضوعية الحاكمة للظواهر الطبيعية والاجتماعية بعيداً عن كل ما هو ميثولوجي أو لاهوتي، وأخذ الذهن الفلسفي نفسه في التطور مغادراً تصورات طاليس وبارمنيدس وأفلاطون وأرسطو وأوغسطين،... إلخ. نقول مع تكون الذهن العلمي على هذا النحو، دُرست جميع الظواهر الاجتماعية بذهنية هدفها المركزي التعرف إلى القوانين الموضوعية الحاكمة لها بمعزل عن تصورات القدماء الَّتي رفضها العقل الناقد، ومن ثم أصبح ظهور الاقتصاد السياسي، كعلم اجتماعي، أمراً محتملاً، بل ولازماً كي يفسر الظواهر الطارئة على المجتمع الأوروبي.
فعندما تفجرت الثورة الصناعية في أوروبا الغربية، وتبلورت معها العشرات من الظواهر الجديدة (بالنسبة لغرب أوروبا). وفي الوقت نفسه كان الذهن الجمعي مهيئاً تماماً، بعد التحرر من سلطان الوصاية الفكرية الَّتي ضربت على القارة طيلة قرون من الظلام، للكشف عن القوانين الموضوعية الَّتي تحكم آداء جميع الظواهر الَّتي تبلورت على سطح الحياة الاجتماعية، ظهر الاقتصاد السياسي، كعلم اجتماعي هدفه البحث عن القوانين الموضوعية الَّتي تحكم هذه الظواهر وما تثيره من إشكاليات معقدة بشأن الإنتاج والتوزيع، واحتلت ظاهرة الإثمان مكاناً مهماً في حقل التحليل الفكري؛ فجميع قرارات الإنتاج، وجميع تناقضات التوزيع، وجميع ما يتعلق بهما من أثمان قوى الإنتاج ونصيب كل منها من الناتج الاجتماعي، إنما تهيمن عليها، بشكل أو آخر، ظاهرة الأثمان. وهي ظاهرة تتمتع بنفوذ مستقل عن أفراد المجتمع، وفي نفس الوقت تخضع لقوانين موضوعية تحكم نشأتها وتطورها. ولكن الأثمان هي المظهر النقدي للقيمة. وبالتالي أصبحت القيمة، كظاهرة تخضع لقانون موضوعي، هي نقطة انطلاق الآباء المؤسسين للاقتصاد السياسي في دراستهم لقوانين الإنتاج والتوزيع. الأمر الذي جعل الاقتصاد السياسي علماً، أوروبياً، غرضه تفسير ظواهر نمط الإنتاج الرأسمالي. الظواهر المتمفصلة حول قانون عام، هو قانون القيمة.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الإقتصاد السياسي
فؤاد النمري ( 2018 / 6 / 19 - 07:04 )
الإقتصاد السياسي ينحصر في الإتجار بقوى العمل
الإتجار بالسلع أو بالمال ليسا من الإقتصاد السياسي
ففي مرحلة الاشتراكية ينعدم الإتحار بالسلع والإتجار بالمال ومع ذلك يلعب علم الاقتصاد السياسي دوراً رئيساً في تنظيم وتطوير المجتمع الإشتراكي

اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت