الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلِكْترا: الفصل التاسع 3

دلور ميقري

2018 / 6 / 19
الادب والفن


مساءً، وعلى شرف المعرض الشامل لأعمال " مسيو جاك " في ذكراه الأولى، تمّ إحياء حفلة موسيقية صاخبة. ولكنها لم تكن موسيقى يهودية، بل مهجّنة؛ أو " غناوة "، كما تُعرف محلياً. يُقال، أن التسمية مشتقة من اسم " غانا "، البلد الأفريقيّ الموزع على جمهوريتين، إحداهما في البر والأخرى داخل البحر. يبدو أنّ ساكني البر هم من اهتدوا إلى الإسلام، ومَن كان لشبابهم الحق في المغامرة باجتياز آلاف الكيلومترات مشياً للوصول إلى المغرب لكي يُنظر إليهم باحتقار من لدُن إخوانهم في الدين بوصفهم عبيداً. أغلبهم امتهنوا بيعَ أشياءٍ من صنع قارتهم السمراء، يعرضونها تحت أعين السيّاح سواءً في السوق أو المرسى. فيما أمتلك آخرون موهبة العزف والغناء؛ وكان منهم هؤلاء المدعوون إلى إحياء حفل الغناوة هذا، الذي أقيمَ في الدور الثاني للصالة الفنية.
المغني، كان شاباً ثلاثينياً فارع الطول، جعل شَعْرَه جدائل دقيقة واكتسى سترةَ سبور ناصعة مع نظارة خضراء. أدى أغنياته بلغته القومية، وكانت من الروعة أنّ الحاضرين ( معظمهم فرنسيين وأمريكان ) اندفعوا مهتاجين للرقص على وقع أنغامها وكلماتها الغريبة. لقد سرقَ المطربُ الشاب اهتمامَ الحضور، حتى إذا لبوا دعوة النزول إلى قاعة المعرض، الكائنة في الدور الأرضيّ، فعلوا ذلك كالمُسرنمين. ولكن العديد منهم كانوا مُلتخّين سُكراً بفعل الشمبانيا الفاخرة، الموزعة بسخاء مع التورتة والحلوى والبسكويت المالح. بينما البعض الآخر قنعَ بتدخين السيجار الكوبي، أو الكيف الريفي، على الشرفة الإغريقية الطراز، المزيّنة بأزهار الرسام الراحل، الحزينة.
وهيَ ذي لوحاته، المفتقدة بدَورها أنامله الرقيقة المرهفة، تطل من أمكنتها على جدران الصالة بكلّ ما أختزنه الرجلُ في حياته من خبرةٍ ودِرْبة ومعرفة. كان عالماً دافقاً من الألوان المغربية، الحارّة والغرائبية، يرنو إلى المرء بألف عينٍ سرّانية تحدّق في أعماق النفس البشرية بحثاً عن كلّ تفصيل من الآلام والتعاسة والخواء والإحباط واليأس؛ أو توقاً لكلّ ما يُحتمل وجوده من آمال وسعادة وحبور وهدوء ورخاء. أما ما كان من عالم الفنان اليوميّ، الواقعيّ، فلا أحد بحاجةٍ لفضول معرفة تفاصيله بكل ما فيه من أثرة وأنانية وعبادة الذات والميل للشهوات الحسية، بما فيها المحرّمة. فمن يهتم بكذا تفاصيل تافهة، في حضور الفن الطاغي ـ كإله وثنيّ؟.. اللهم إلا مدوّنو السيَر الخرقاء، أشباه النقاد، كتبة أعمدة الصحف.. وأضرابهم!
" زكرياء "، من ناحيته، حازَ أيضاً على إعجاب السيّدة السورية بعدما كانت تنظر إليه في بدء التعارف بعين الريبة والحذر. كذلك هيَ شيمة مواطني المشرق عموماً، آنَ التقائهم لأول مرة مع أحد أتباع نبينا " موسى ". الرجل، وإن لم يكن رساماً كمعلّمه الراحل، بيْدَ أنه سرعان ما بيّنَ مقدار ثقافته الفنية وغنى فكره وتنوّعه. كلمته القصيرة، التي ارتجلها بالفرنسية أمام ضيوف المعرض، ما تفتأ بعضُ جملها منحوتة في ذهن الخانم: " تأثّر فناننا الراحل خطى ديلاكروا العظيم، مكتشف أهمية المغرب إن كان لناحية الحضارة أو الموقع الجيوسياسي. غير أنّ مسيو جاك لم يكن في مهمّة، كسلفه ذاك. ولم يأتِ إلى بلدٍ غريب، يتسمُ نوعاً بالبدائية والفطرة، سعياً لمدّ لوحاته بحرارة الشمس كحال فنانين آخرين. بالنسبة له كانت أفريقيا، والمغرب تحديداً، خياراً لطريقة عيش أخرى، مختلفة عما عهده في موطنه الأوروبيّ المتمدن. لقد قبل أن يكون رساماً مغموراً هنا، على أن يكون مشهوراً ثمة في الغرب. بل كان يتمنى لو أنه أحد أولئك الفنانين المحليين، المَهَرَة المكدودين، الذين يتحفوننا بإبداعاتهم المغفلة من التوقيع؛ يعيشون حياتهم بتواضع ثم يرحلون في صمت كأغلب أبناء وطنهم، المجهولين. بلى، تكيّف فناننا مع البيئة المغربية، لدرجة أنه تحوّل إلى الإسلام كي يندمج أكثر في ثقافة أهلها. وإنني أتذكّر قولاً مهماً لمعلّمي الراحل؛ وهوَ أنّ التكعيبية والسريالية وغيرها من اتجاهات الفنّ الحديث، دلالة على إفلاس الثقافة الغربية وعلى الرغم من الهالة المحيطة بأسماء رموزها ".
في ظهيرة اليوم التالي، وقبل نحوِ ساعتين من موعد الغداء المقرر، أبعدت الخانم مساعدَيْها إلى شاطئ البحر ثم ولت وجهها نحوَ الغاليري. هنالك وجدت " زكرياء " جالساً وراء مكتبه في الدور الثاني، يتلهى بتصفّح جريدة فرنسية. جعلت تقيسه بنظراتها ( مثلما فعل هوَ معها البارحة )، وذلك لمجرد حدس سبب كآبته. بلى، كان يبدو شبيهاً بيهوديّ قد أُمِرَ تواً بالتهيؤ للسَوْق إلى أسرٍ بابليّ أو معسكرٍ نازيّ. على أثر تبادل تحيات المجاملة، عاد الصمتُ ليشمل المكانَ مع تواطؤٍ مماثل من جهة الخارج.
" الصويرة، من أكثر المدن المغربية هدوءاً ودِعَة؛ يندُر أن تسمع فيها ضوضاء السيارات والدراجات النارية وصخب الخلق؛ كما هوَ حالُ مراكش، مثلاً "، أبدت الخانم هذه الملاحظة بغيَة افتتاح محاورة مع صاحب الغاليري. عندئذٍ، لاحَ الرجلُ منشرحاً وقد استأنسَ بقولها. فما لبثَ أن آبَ إلى عرض أفكاره وكأنما يواصل حديث الأمس، الموجّه إلى ضيوف المعرض: " منذ زمن بعيد، تفتقدُ أجواءُ المدينة حتى لأصوات أبواق السفن التجارية، المعلنة مواعيد الوصول أو الإقلاع. خلال قرنٍ كامل، عُرفت المدينة في الغرب باسم ‘ موغادور ‘، وكان مرساها يُنافس موانئ بيروت والإسكندرية وجنوة. ذلك كان زمن سيطرة يهود الصويرة على التجارة الخارجية، مدعومين من سلطان مراكش. ويكفي لمعرفة وضعهم الاجتماعيّ، المرموق، ذكرُ هذه الحقيقة؛ وهيَ أنّ يومَ السبت، لا الجمعة، كان يُعدّ العطلة الرسمية في المدينة "
" نعم، العالم يتغيّر. حواضر تاريخية تتهاوى، ليحل بمكانها مدنُ الاسمنت المسلّح والألعاب الإلكترونية والروبوتات "، علّقت بجملة مبتسرة على مقدمته التاريخية. سارع الرجلُ للقول، مُغيّراً بوصلة الحديث ولو من باب المقاربة: " يُمكن تمثيل ذلك، بما حصل في الأمس. إذ أنقلبَ المعرضُ إلى حفلة ترفيهية، طالما أنّ أغلبَ ضيوفه عاجزون عن التمييز بين الأعمال الجيدة والرديئة. بل إنّ كلمتي عن بساطة مسيو جاك، وكرهه للشهرة والأضواء، تحولت في أذهانهم إلى منقلبٍ آخر. وإذا بهم يفتحون عيونهم فجأة على رؤية أسعار لوحاته، الباهظة الثمن، ليقارنوها في أنفسهم بما يعلمونه عن مثيلها من لوحات السوق الرخيصة، المستنسخة بشكل تجاريّ من قبل رسامين محليين لا علاقة لمعظمهم بالفن والإبداع ". تركته يتدفق في الحديث، راسمةً ابتسامة ساخرة على ملامحها: لقد أدركت مبعثَ كآبته، وما عليها الآنَ إلا أن تستدرجه رويداً إلى الصراط المفضي للماضي بكلّ أسراره المُحبطة والمُخزية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه