الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فشل الستراتيجية الاميركية ونذر الحرب التجارية الدولية

جورج حداد

2018 / 6 / 20
العولمة وتطورات العالم المعاصر


إعداد: جورج حداد*

في نهاية الحرب العالمية الثانية برزت الولايات المتحدة الاميركية بوصفها اقوى واغنى دولة في العالم، واحتلت مركز زعامة الكتلة الغربية والموالية للغرب، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، بفضل ثلاثة عناصر اساسية هي:
ـ1ـ بعدها الجغرافي عن العالم القديم ومن ثم كونها في مأمن تجاه اي هجوم معاد في حال نشوب صراع بينها وبين اي عدو كان.
ـ2ـ امتلاكها السلاح النووي وتوفير "المظلة النووية" للعالم الغربي بأسره بمواجهة الاتحاد السوفياتي السابق.
ـ3ـ امتلاكها اقوى اقتصاد في العالم من حيث الحجم والتنوع والنوعية الانتاجية.
ـ4ـ اعتماد الدولار بوصفه العملة الدولية الرئيسية، وامتلاك الدولة الاميركية امتياز حق طباعة الدولار الورقي بدون تطغية ذهبية، "على كيفها" وبالكمية التي تراها مناسبة.
واعتمادا على هذه الميزات الاستثنائية نشرت الولايات المتحدة اساطيلها وقواعدها العسكرية في جميع البحار والمحيطات والقارات لترسيخ نفوذها وهيمنتها على العالم، دون ان تحسب اي حساب للتكاليف المالية الباهظة التي لم تكن في الواقع تكلفها اكثر من طباعة الدولارات الورقية بخسة الكلفة. اي عمليا ان عبء النفقات الخارجية الاميركية كان يقع على الدورة المالية الدولية اي على عاتق جميع دول العالم المتعاملة بالدولار.
كما انها اعتمدت اقتصاديا مبدأ "الاجواء المفتوحة" اي فتح اسواقها لبضائع جميع دول العالم مقابل فتح اسواق مختلف دول العالم للبضائع الاميركية، دون ان تهتم بالميزان التجاري الخارجي لها، لانه اذا كان الميزان التجاري هو لصالحها فتكون هي الرابحة، واذا كان لصالح الدولة المصدرة الى الاسواق الاميركية، فإن اميركا تكون ايضا هي الرابحة، لانها ـ في حسابات طباعة العملة الورقية بدون تغطية ذهبية ـ تحصل فعليا على السلع الملموسة مقابل كمية من الورق المطبوع برسمة الدولار.
ولكن الستراتيجية الاميركية فشلت عسكريا في الاحتفاظ بميزة البعد الجغرافي عن مخاطر الحرب وميزة التفرد بامتلاك السلاح النووي (هي والاتحاد السوفياتي فقط ووريثته روسيا) اذ ان دولا اخرى حازت السلاح النووي واستغنت عن "المظلة النووية الاميركية" (فرنسا، بريطانيا، باكستان والهند) كما ان تطوير الصواريخ الباليسيتية بعيدة المدى افقد اميركا ميزة البعد عن الخطر. واخيرا وصل الامر الى حد ان دولة صغيرة متمردة ومعادية للولايات المتحدة، ونعني بها كوريا الشمالية، وضعت اميركا "تحت السيطرة" بامتلاكها الصواريخ بعيدة المدى والقنابل النووية في وقت واحد. وقد اضطر دونالد ترامب اخيرا ان ينزل من عليائه وان يذهب لمصافحة الزعيم الكوري الشمالي في ستغافورة. وحين كانن وفدا البلدين يسلمان بروتوكوليا بعضهما على بعض ووصل ترامب الى جنرال كوري شمالي فقد ارتبك وادى التحية العسكرية للجنرال، خلافا لكل الاعراف البرتوكولية التي تقضي ان يؤدي "الجنرال" التحية العسكرية لـ"الرئيس". ومهما تلكأت اميركا الان في التفاهم مع كوريا الشمالية، فإنها ـ اي اميركا ـ فقدت هيبتها مرة والى الابد وسترضخ في نهاية الامر لشروط كوريا الشمالية (وروسيا والصين الشعبية اللتين تدعمانها من وراء ومن امام الستار).
اما من الجانب الاقتصادي، فإن السياسة الاقتصادية "العولمية" ـ القائمة على غرور وعنجهية الدولة العظمى التي تضرب عرض الحائط بأسس القوانين الاقتصادية ـ التي انتهجتها اميركا طوال اكثر من نصف قرن، بدأت اخيرا تنقلب الى ضدها، خصوصا بعد ان تلقت اميركا في العقدين الاخيرين ضربتين شديدتين هما:
اولا ـ اقدام المجموعة الاوروبية على طرح اليورو كعملة دولية جديدة تنافس الدولار.
ثانيا ـ بدأت روسيا البوتينية تطبق مع مختلف الدول الصديقة ولا سيما مع ايران ومجموعة بريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب افريقيا) ومجموعة شنغهاي (الصين، كازاخستان، قيرغيزستان، روسيا، طاجيكستان، أوزبكستان، الهند وباكستان) وغيرها، مبدأ اعتماد العملة الوطنية لهذه الدول في التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي والعقود فيما بينها. اي ان الدولار اصبح يستخدم كوحدة حسابية اسمية فقط، ولكن الحسابات والالتزامات والمدفوعات بين الدول المتعاقدة تتم بالعملة الوطنية لكل دولة.
وادى ذلك كله الى تقليص الحاجة الى الدولار، ومن ثم تقليص مساحة استخدامه في اجمالي الاقتصاد العالمي القائم، والى تقليص حاجة مختلف الدول الى تجميع "احتياطي الدولة" بالدولار واستغناء مختلف الدول عن الاحتفاظ بسندات الدولة الاميركية (طبعا ما عدا غالبية انظمة الدول العربية العميلة والذليلة التي تتابع سياسة الارتباط بالدولار ـ ومنها لبنان).
وقد ادى ذلك كله الى:
ـ1ـ احتشاء شرايين الدورة المالية في "المنطقة الدولارية ـ وقلبها اميركا ذاتها" بالعملة الورقية الدولارية التي انخفض سعر صرفها، وانخفضت قوتها الشرائية اكثر بكثير من انخفاض سعر صرفها. وهذا ما اضعف قدرة الدولة الاميركية على طباعة كميات جديدة من العملة الورقية لان نتيجة ذلك ستكون بعد الان كارثية على الدولة الاميركية ذاتها.
ـ2ـ تحولت اميركا من اكبر دولة دائنة في العالم، الى اكبر دولة مدينة الى درجة انها تقف على عتبة الافلاس وعدم القدرة على دفع اجور موظفيها وجنودها (كما حدث في اواخر عهد الرئيس السابق اوباما).
ـ3ـ ومع الفقدان التدريجي لميزة طباعة الدولار الورقي "على كيفها!" مال ميزان المدفوعات الاميركي ـ العالمي بالاتجاه المعاكس، وتحول هذا الميزان من ايجابي لصالح اميركا الى سلبي ضد صالحها.
ـ4ـ والطامة الكبرى على اميركا كانت في تحول الميزان التجاري الخارجي لاميركا من الفائض الى العجز المتفاقم. وبعد ان كانت اميركا ـ بفضل سياسة "الاجواء المفتوحة" و"العصا النووية" خصوصا والعسكرية والمخابراتية عموما ـ تغرق جميع الاسواق ببضائعها وتفرضها بالقوة على جميع دول "العالم الحر"، اصبحت السلع والبضائع من جميع الدول التي تتعامل مع اميركا تغرق السوق الاميركية، على حساب الانتاج الاميركي الذي تقلص الى ما يتراوح بين 12 ـ 20% من الدخل الوطني القائم لاميركا. والباقي يأتي من اقتصاد الخدمات وارباح البنوك والاعيب البورصات اي انه يتألف من ربح مالي اسمي لا يخلق فرص عمل فعلية للمواطنين الاميركيين كما هو الانتاج. وهذا ما يهدد بانفجار اميركا كالبالون المنفوخ اكثر مما يحتمل.
وامام شبح الكارثة الذي يحلق الان فوق رأس اميركا تستيقظ ادارة ترامب وتحاول بالقرارات التعسفية فرملة قطار الازمة المتسارع نحو السقوط في الهاوية وتوجيهه في الاتجاه المعاكس.
وفي تصريح له الى جريدة Pravda – ru الالكترونية الروسية فإن باتريك جوزف بيوكانان Patrick Joseph Buchanan (اعلامي وسياسي اميركي من اقصى يمين الحزب الجمهوري) يصف السياسة الاميركية الجديدة لترامب بأنها تقوم على "القومية" بدلا من "العولمة". ويقول ان حلفاء اميركا كانوا يستحلبونها ويتعاملون معها ككبش فداء يتناتشه الجميع ويطعنونه في ظهره ويضحكون عليه خلف ظهره.
وانطلاقا من هذه السياسة "القومية" يدعو ترامب الان دول الناتو وجميع "حلفاء" اميركا لان يدفعوا نفقات امنهم. كما قامت الادارة الاميركية بفرض ضريبة جمركية بنسبة 25% على استيراد الفولاذ و10% على استيراد الالومنيوم، وفرضت رسوما على السلع الصينية الموردة الى الولايات المتحدة بقيمة 60 مليار دولار، وذلك من طرف واحد دون التشاور مع الشركاء التجاريين كما تقتضي قوانين منظمة التجارة الدولية. وقد ردت الصين والاتحاد الاوروبي وكندا على ذلك بأنها ستعمد الى اتخاذ اجراءات مماثلة وتفرض الضرائب الجمركية والرسوم على السلع والخدمات والرساميل الاميركية. ووصفت ادارة ترامب اقدام اي دولة على اجراءات جوابية بأنه يعتبر تهديدا للامن القومي الاميركي، وانها ستتخذ اجراءات اضافية ضد الدولة المعنية. وتعليقا على ذلك قال وزير الخارجية الكندي خريستيو فريلاند: "انني اتوجه الى اصدقاء كندا الكثيرين في اميركا: هل تعتقدون فعلا ان كندا، حليفتكم في الناتو، تمثل تهديدا لامن اميركا؟ هذا كله شيء محزن، ونحن مستاؤون".
هذه هي الان الاوضاع المشحونة في الساحة التجارية العالمية، حيث يحاول كل من الفريق الاميركي وفريق الدول المواجهة لاميركا ان يلقي كل منهما كرة النار في مرمى الفريق الاخر. وهو ما يهدد باندلاع حرب تجارية دولية لا يستطيع احد التنبؤ بما ستؤول اليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن