الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلِكْترا: بقية الفصل التاسع

دلور ميقري

2018 / 6 / 21
الادب والفن


4
انتبه " زكرياء " على ما يبدو إلى شرودها وانصرافها عن متابعة حديثه، المشحون بالشجَن. هكذا مضت نحو دقيقة، دونَ أن ينبسَ أحدهما بكلمة. في الأثناء، تشاغلت " سوسن خانم " بتأمل لوحة بورتريت معلقة فوق المكتب مباشرةً، وحيدة كمديره. راحَ هوَ ينظر في وجه الضيفة، وكأنما بهدف التمعّن بملامحه على ضوء الأحاسيس الممكن للوحة أن تثيرها. فلما عادت أعينهما لتلتقيا ثانيةً، فإنهما كلاهما أجفلَ وكما لو أنه ضُبط متلبّساً بقراءة أفكار صاحبه. لعلها، من ناحيتها، شعرت أيضاً بالخجل من فكرة إيقاع هذا الرجل المستقيم في الشرك عن طريق إحدى الحيل المألوفة. ثم دهمتها، على غرّة، فكرة أخرى.
" لِمَ بقيَ أعزبَ، مع كون سيرة شبابه توحي بعلاقة جسدية مع إحداهن، على الأقل؟ "
تساءلت في سرّها بينما صورةُ " للّا نفيسة " تتلبّسُ لوحةَ البورتريت، المصوّرة امرأة متوسطة العُمر على شبهٍ لا يقلّ التباساً بالابنة؛ " الشريفة ". وتمنت السيّدة السورية ألا يكون سؤالاً طائشاً، حينَ أشارت بيدها نحو اللوحة قائلة: " أظنني رأيتُ رسماً آخر، مشابهاً، لصاحبة هذا البورتريت؟ ". تريث قبل الإجابة، ممرراً نظرةَ حنوّ على اللوحة مثلما يفعل وليد في حضن أمه: " بل هيَ والدتي، الراحلة. وإنه الرسمُ الوحيد، المنجز لها في حياتها "، قالها باقتضاب. نسمة رقيقة عذبة، تسللت إذاك عبرَ النافذة إلى مقام الضيفة لتجعلها منطلقة الأسارير، مبرأة من شعور الإحساس بالذنب. استأنفت الخانم التساؤل، بنبرة يقين هذه المرة: " كأني بها قد جلست أمام المصوّر، مُجبرة على نحوٍ ما ؟ "
" ملاحظتك صائبة، يا سيّدتي. كانت الراحلة امرأة متدينة، تكره تكريس ذكرى الأشخاص بالخطوط والألوان. إنها إحدى محظورات الديانة اليهودية.. "
" نعم، وما أكثرَ المحظورات في الإسلام، المستمدة من ديانتكم! "
" أتعلمين أن مسلمي الصويرة، والمغرب عموماً، يفضلون ذبح أضاحي العيد عند الجزارين اليهود؟ "، سألها مُبتسماً قبل أن يواصل القول: " إن ذبح الحيوان بهذه الطريقة الهمجية، ألقى بظلاله على تعامل أهل كلا الديانتين مع البشر وخصوصاً مع الخصوم. كلتا الديانتين اعتقدت بأنّ ابراهام تقبّل الكبشَ من الله، فيما السكين مشرعة نحوَ ابنه ليفتديه. وفي اعتقادي، أنّ المسيحية أكثر إنسانية حينَ جعلت الله نفسه يفتدي ابنه، المسيح، لقاءَ رزايا البشر ". من الدور الأرضيّ، واصلت الموسيقى الانبعاث من الفونوغراف مع ترانيم بلغة غامضة. وضعت أصبعها على أذنها في إشارة لتلك الموسيقى، وكأنما بغيَة تغيير وجهة الحديث: " أهذه هيَ لغة الييديش، التي يتكلم بها أيضاً يهودُ المشرق؟ ". أومأ برأسه إيجاباً، قبل أن يشرح لها أن ييدية يهود المغرب ذات لهجة خاصة، متأثرة بالمحكية الدارجة وكذلك بالقشتالية. علّقت الضيفة، أنها تذكّرها بلغة " غناوة " حفلة الأمس. ولقد ندمت لطرح ملاحظتها، طالما أن المضيف آبَ إلى موضوعه المفضّل. بدأ يتكلم عن كلا العنصرين، اليهوديّ والسودانيّ، وأنه عاشَ الفصول التاريخية ذاتها من الاسترقاق والبؤس والتهميش وحتى المحو الوجوديّ والثقافيّ., الخ
صمتَ برهة، وكأنه يودّ استجماع أنفاسه. اهتبلت الخانم الفرصة، لتدخل في موضوعٍ كان يشغل بالها مذ فراغها من قراءة مخطوطة المذكرات. عاجلته إذاً بسؤالها ( كان بمثابة مقدمة موسيقية للمسرحية! )، قبل أن يستطردَ بالحديث: " ولكن يهود المغرب، وفق فهمي لكلامك، لا ينطبق عليهم ذلك التوصيف بخصوص الاضطهاد أو التهميش؟ ". هزّ رأسه بما ظنّت هيَ أنها حركة موافقة. ولا كذلك كان الأمر. قال لها: " كلامي كان عاماً، أو تاريخياً لو شئنا الدقة. بعد قيام دولة إسرائيل، لم نعُد كما من قبل شركاءَ لمواطنينا المسلمين على قدْرٍ واحد من المساواة والحقوق. في المقابل، لا يمكن القول أنّ المخزن غيّر من معاملته لرعيته اليهود. إلا أنّ الإسفين قد دقّ بين الجماعتين، بأيّ حال من الأحوال "
" رفضك الهجرة لإسرائيل، أعتبره كما لو أنه نوعٌ من التحدي لهذا الكيان، الذي سبّب لكم الأوضاع المتعبة؟ "
" نعم، إلى حدّ ما. وتذكّري أيضاً، أنّ الكثيرَ من يهود الغرب هاجروا لإسرائيل مع كونهم بأحسن حال ثمة في تلك الدول "
" بالتأكيد، أدركُ ذلك. مثلما أنّ كثيرين فعلوا العكس؛ كمدام هيلين، على سبيل المثال. ويقال، أنها تخلت عن يهوديتها في بادئ الأمر ثم اعتنقت الإسلامَ في أواخر حياتها؟ "، طرحت عليه سؤالها بنبرة بريئة. بيْدَ أنها بوغتت من ردّة فعله، المفصحة عن شيء من الغيظ: " دعكِ مما يقال، يا سيّدتي! هيلين، ديانتها الوحيدة كانت الإلحاد. اختلاط عقلها في أوان أزمتها الصحية، سلّمها لامرأة محتالة استغلت ظروفها بشكلٍ شرير للغاية.. "
" أتقصُد، نفيسة تلك؟ "، استفهمت منه بطريقة تمثيلية وقد سرّها أنّ المسرحية تمضي قُدُماً بنجاح. نظرَ إليها لحظة، وما عتمَ أن أخذ يحك فروة رأسه. وكيلا يُقطع سبيلُ المحاورة، استأنفت الخانم القول وقد كست لهجتها بعدم الاكتراث: " إنني أعرفها جيداً، لأن ابنتها كانت مرافقتي في بداية حلولي بمراكش. ثم جمعنا صديقنا الراحل، مسيو جاك، قبيل رحيله المؤسف بثلاثة أيام، وذلك من أجل موضوع وصيّته ". تعمّدت إيراد هذه التفاصيل، لتعيد وضعه ثانيةً على السكّة. صمته الحذر، وكما كان المأمول، تبدد على الأثر: " بلى، إنها نفيسة. وإنني على دهشةٍ، في واقع الحال، لكون مسيو جاك قد فكّر في هذه المرأة لدى كتابته الوصية. وكأنما لم يكفِها الاستيلاء على منزل ضاحية مراكش، بعدما أدخلت في وهم المسكينة هيلين أنها أنجبت الشريفة من علاقة غير شرعية مع مسيو جاك "
" يا للفظاعة! تطعنُ شرفَ أسرتها بنفسها. امرأة طماعة، لا حدود لجشعها "
" نعم، وإلى حدّ سفك الدم أيضاً.. "
" لقد قرأتُ عنها أشياءَ فظيعة، في مخطوطة مذكرات، وقعت في يدي مؤخراً "، قالتها متصنّعة الشرودَ وكأنها تحدث ذاتها. هنا، وكما أملت قبلاً، تحققَ المطلوبُ من المحاورة. إذ ردّ الرجلُ الخمسينيّ بانفعال: " أعرف، أعرف كلّ شيء عنها.. ". ثم سكتَ فجأة، متردداً في إكمال قوله.

5
كانت في حاجةٍ ماسة للمشي منفردة على طول الشاطئ، الذي يتحول إلى ما يشبه القوس الفضيّ في ساعة الظهيرة الأكثر اختناقاً بالحر والرطوبة. إلا أنها أدركت سلفاً باستحالة ذلك، فيما كانت تنهي محاورتها الشائقة، والمدروسة في آنٍ معاً ( ألم تدعوها مسرحية منذ البداية؟ )، مع رجلٍ يهوديّ كسبته للتوّ صديقاً جديداً. إذ انقلبَ النسيمُ العليل العذب، فجأة وعلى حين غرة، إلى هبوب شديد صارَ يهزّ جدران وسقف الدور العلويّ للصالة. من خلال النافذة، أمكنها رؤية المارة والجوالين وهم يخلون ساحة المِشْوَر، لينحشروا في الدروب الضيقة المفتوحة عليها. وكان بالوسع أيضاً تقدير قوّة الريح من خلال حركة سعف النخلات، المنتصبات صفاً منتظماً بإزاء سور القصبة الداخليّ عند ثغرة بوابة برج الساعة. قال لها صديقها، صاحبُ الصالة، ببساطة اللهجة الدارجة: " هذا ريح الشرقي.. "
" وكأنما ينقصها الشرقي، مدينةُ الرياح القوية! "، عقّبت هيَ ضاحكةَ. مَرَحُها عليه كان أن يخبو، آنّ خروجها مع الرجل إلى الساحة المُعتَكِبة بهبوب فرسٍ جامح. فاضطرت لتعديل خطّة ملاقاة مساعدَيْها عند بقعة الاستجمام، أينَ كانا يمضيان الوقت بالسباحة والتشمس. فعادت إلى المكتب لتتصل معهما على جهاز اللاسلكي، الموجود في حوزتهما، طالبةً موافاتها إلى الصالة: " سنتناول الغداء في ساحة الملّاح، في مطعمٍ يعرفه صديقنا زكرياء ". بعد نحو نصف ساعة، كانوا أربعتهم يسيرون منتقلين من دربٍ إلى آخر، فيما الريحُ تصفّر في أسماعهم كزمجرة شيطانية. مع ولوجهم السوق القديم، المحاذي لشاطئ البحر، صارَ الهواءُ قارصاً ولاسعاً. في آخر السوق كان يقع مدخل حي الملّاح، الذي لم يبقَ من يهوديته تقريباً سوى عبارات بالكتابة العبرية، منقوشة على لوحاتٍ خشبية مثبتة فوق أبواب المنازل أو أفاريزها. تساءلت السيّدة السورية، وهيَ تشدّ سترتها الخفيفة على جسدها مرتجفة من البرد: " مع هذا الغيث، اكتملت مسرّةُ اليوم! "
" ما تظنين أنه غيثٌ، ليسَ إلا ماء البحر تحمله الريح إلى الأزقة القريبة من الشاطئ "، قال لها مبتسماً الدليلُ إلى الحي اليهوديّ. تأكّدت من معلومته في الحال، بالرغم مما أثارته في نفسها من شكّ لأول وهلة؛ وذلك بملاحظتها للماء المتناثر على أرضية الدرب، والمعبّق بملوحة البحر علاوة على عطن كائناته. الساحة، وكانت " سوسن خانم " تحظى برؤيتها للمرة الأولى، كانت أقرب إلى الاستطالة وربما لا يتجاوز قطرها ثلاثة أو أربعة أمتار.. وكذلك كان عدد المطاعم، المطلة على المكان. سبيل ماء، قرضَ حتّ البحر رخامَهُ العتيق، كانت مياهه تُصدر أغنية عبرية، ضائعة وحزينة، مع دخولهم إلى الساحة.
الشرقي، ريح البوادي النائية، كان عليه أن يحمل أفكارَ الخانم إلى قارة القلق، الكائنة خلف الأفق الرماديّ، ثمة أينَ مسقط رأسها، المحصور بين الجبل والبحر.. هناك حيث اعتادت أن تقفَ الأمُ على سطح الدار بملابس خفيفة، متطايرة مع أغنيتها الريفية إلى أسماع بستانيّ أمعة سيحل بمكان رجلها، الفخور في حياته بمحتده النبيل. طفلة الأمس، لطالما تخدّر قلبها بموسيقى الحنين إلى زمنٍ خال من الخيانة والغدر واللؤم والضغينة؛ زمن بعيد، لا يعودها إلا في الحلم المنقلب غالباً إلى كابوس.
كان على " سوسن خانم " أن تستسلمَ لأفكارٍ مُحبِطة، وكأنما جزاء فرحتها الآفلة بنيل مرادها من محاورة الوكيل السابق لأعمال الرسام الراحل. فما جدوى الانتصار في ساحة الغير، بينما الروح تغوص في مستنقع الذكرى الآسن. إنّ مجردَ مقارنةٍ بسيطة، لحالة شخصية مع حالة أخرى، قد تحيل حياة المرء إلى جحيم مؤقت أو مستدام. وإنها هيَ من سعى، مذ بداية البدايات، إلى سبر أغوار أولئك المثقلين القلب بالأسرار علّ ذلك يخفف من ثقل قلبها. الآن، تجلس هنا مع أصدقاء رائعين، خجلين نوعاً بسبب كرمها الفائض، تتلهى بفتح زجاجة شراب فيما قلبها منقبضٌ وأنفاسها تتلاحق لمجرد ذكرى شخصية مُحالة لواقعة قديمة تخصّ شخصاً آخر: " ألا تباً لمن عدّ المذكرات أدباً، وهي في حقيقتها أشبه باستخراج جرذٍ ميت من مجرور منزلٍ مهجور! "، نفخت فكرتها في قنوط وسخط.

*
صباح اليوم التالي، أفاقت متأخرة لتجد نفسها في حجرة النوم بمقر إقامتها، المراكشية. تلقت أولاً تحية زهورها الحميمة، الياسمين والمجنونة، اللواتي تشبثن بجدران الحجرة الخارجية كما لو أنهن أيادٍ رقيقة تلوّح من خلف نافذة سجن. النسيم الأكثر رقة، كان يهفهفُ بدَوره ستارةَ النافذة، كاشفاً عن عورة السماء بكل ما فيها من نقاء وصفاء ونصاعة. أريجُ الياسمين، وأخواته ورود الحديقة، ما كانَ أسرعه في طرد رائحة النوم ومن ثم عراكه مع نفح الجسد الأنثويّ، المعبق بعطر الأمس. الهدوء، المتخلل بأصوات زقزقة العصافير وتغريد الطيور، كان قد أوهمها لوهلةٍ أنها ما تنفكّ في جناحها برياض الصويرة.
" دار الكردي؛ يا له من قدَرٍ..! لقد دُعيَ بيتُ أهلي بنفس التسمية، ثمة في مدينة اللاذقية، كوننا أصلاً من جبل الأكراد في ريف المحافظة "، هذا ما كان قد سمعه منها صديقُها " زكرياء " آنَ مرافقته لجماعتها اليومَ البارحَ إلى ذلك الرياض في طريق الإياب من المطعم. لعل الرجل يفكّر بكرمها بناءً على ما فاهت به في شأن منبتها الأثنيّ؛ وهيَ شيمة الكثير من المنتمين للأقليات، مثلما تسنّى لها ملاحظته من خلال تجارب الحياة في الغربة. في المقابل، سلّمها الأوراقَ بطيبة خاطر مُشترطاً عليها عدم نشرهم طالما أنّ معلّمه الراحل، " مسيو جاك "، عمدَ إلى فصلهم عن شقيقاتهم من مخطوطة المذكرات. عبثاً، قولها له في حينه: " ربما كان يقرأ ذلك الفصل، مستعيداً ذكرى ما. وإلا لكان قد عمد إلى إحراق المخطوطة بكل أوراقها؟ "
" سوسن، يا عزيزتي! إنّ صديقنا الراحل، وفق ما علمتُ منه، كان يعتبر المخطوطة أمانة لديه وليسَ من حقه إتلافها أو نشرها. في هذه الحالة، نحقق نحن أيضاً هذه الأمنية إلى أن تكتشف المخطوطة من لدُن جيلٍ آخر؛ حال غيرها من المخطوطات الأثرية "، كذلك كانت إجابته المبرمة. بل إنه لم يكن مستعداً للتنازل عن ذلك الفصل، المفقود، لولا أن " عزيزته " أربكته حينَ أبدت رغبتها في التبرع بلوحات الرسام الراحل والتي ستضَمّ إلى وقفٍ خاص بأحد دور الأيتام في مدينة الصويرة بحَسَب وصيّته. قال لها على أثر كلمات الشكر الحارّة: " لوحات " مسيو غوستاف "، ما تفتأ تحقق إيرادات عالية في غاليريات أوروبا وكذلك في المغرب نفسه. ما حصل في ذكرى الرسام السنوية، لم يكن يعكس حقيقة تقدير الجمهور الغربيّ والمحليّ لأعماله ".
" الفصل السابع! "؛ لقد أنقضّت عليها الفكرة لما كانت تتابع برنامج تلفزيونيّ، حيث ورد هذا التعبير على خلفية الحديث عن غزو الكويت بمناسبة ذكراه الرابعة. عند ذلك، تذكّرت على حين فجأة أنّ " مسيو غوستاف " أكّد مرةً أنه ودّ جعل مذكراته من سبعة فصول كإيحاء لرموز كونية وأرضية. ثم دفنت الموضوعَ شهوراً، حتى أحياه مجدداً الاحتفالُ بذكرى الرسام الراحل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا


.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية




.. -صباح العربية- يلتقي نجوم الفيلم السعودي -شباب البومب- في عر


.. فنان يرسم صورة مذيعة -صباح العربية- بالفراولة




.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان