الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوح واعترافات شخصية

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)

2018 / 6 / 21
سيرة ذاتية


(التأزم)

لطالما اعتبرتُ شقيقي "محمد" (يكبرني بعامين وشهرين)، ملهمي الأول: كان ذكيا وطموحا، وكنت أقلده دوما؛ ينشغل بجمع الطوابع، فأوهم نفسي أن هوايتي أيضا هي جمع الطوابع، ينشغل بالقراءة، فأقرأ ما يقرأ، يشترك في مسابقات المطالعة التي تنظمها وزارة التربية، فأسير على خطاه.. وكان هذا مدخلي لعالم القراءة والكتب منذ وقت مبكر..

في سنوات السبعينات وقعت أربعة أحداث هامة، ستغير من شخصيتي: انتفاضة فلسطينية صغيرة 1976، زيارة السادات للقدس 1977، الحرب الأهلية اللبنانية 1975~1990، واجتياح الليطاني 1978.. صور الانتفاضة ستهزني هزا، وستلقي في قلبي الرعب، لدرجة أني سأصاب بمغص واضطراب في خفقان القلب كلما اقتربت الساعة من الثامنة مساء؛ موعد نشرة الأخبار، التي ستبث صورا مروعة للجيش الإسرائيلي وهو ينكل بالفلسطينيين.. تلك المشاهد كانت تتسلل إلى عقلي ليلا على شكل كوابيس.. أما صور معارك الفدائئين في الجنوب اللبناني فستثير فيَّ الحميّة، فأقوم مع شقيقي "محمود" وأصدقاء آخرين بتشكيل مجموعة فدائية مصغرة (لا يحضرني الآن الاسم الذي أطلقناه عليها)، وسنبدأ بالتدريب على ألعاب الحرب، وسأشترك مع فتية آخرين بمحاولات التسلل إلى لبنان للإنضمام للفدائية (نجح إثنان منهم في الوصول فعلا، بينما أنا أخفقت).. في حين أيقظتْ فيَّ مشاهد الدمار وصور الضحايا في الحرب الأهلية مشاعر الإشمئزاز والسخط على الحروب.. أما زيارة السادات فستجعلني أنشدُّ لعالم السياسة، ومحاولة فهم ما يحدث..

في تلك الأثناء سأنشغل مع شقيقي التوأم "محمود" باهتمامات جديدة: قص أي صورة منشورة في الجرائد عن المواجهات الفلسطينية، وصور الفدائيين، ولم نكن نميز حينها بين "أبو عمار" و"جورج حبش".. والاستماع لإذاعة الثورة الفلسطينية، وتسجيل أغاني العاصفة على كاسيتات، كنا ندخر أثمانها من مصروفنا اليومي الذي لم يكن يتعدى بضعة قروش..

بداية الثمانينات، كانت بداية ما سيُعرف بالصحوة الإسلامية، التي تأثرت بالثورة الإيرانية والحرب الأفغانية، سأنضم لجماعة الإخوان المسلمين، وسأشارك بفعالية ونشاط كافة أنشطتها على مدى ثلاث سنوات.. ستتنازعني حينها مشاعر مضطربة، بين نزعة التدين الفطري، وتوجهات الإخوان الأيديولوجية.. بين حاجاتي كفتى في اللعب والانطلاق، وبين القيود التي كانت تفرضها عليّ الجماعة.. وبين نزوعي "الوطني"/"الفلسطيني"، وبين توجهات الإخوان التي تتجاوز الوطنية، ولا تقر بها.. بين صورة "الفدائي البطل" التي كانت بمخيلتي، وصورة "الفدائي العلماني الكافر والخائن" التي كان الإخوان يرسمونها لنا بدقة..

سأقرأ كتبا دينية كثيرة في تلك المرحلة، وسأعمل على تلخيصها، وإعادة صياغتها بطريقتي.. مدفوعا بهاجس محاولة الفهم والاقتناع، وإقناع الآخرين الذين كان مطلوبا مني تنظيمهم للجماعة.. كنت أخشى أن يطلع أحدٌ على ما كتبت، رغم قناعتي "المطلقة" بها آنذاك، لكني كنت أخجل من سذاجة الأسلوب وركاكة الكلمات، مقارنة بالكتب التي كنت أطالعها بنهم وإعجاب..

ومع انتقالي لمرحلة المراهقة والفتوة، سيتأجج الصراع النفسي والفكري في دواخلي.. كتابات "سيد قطب" تصف المجتمع بالكافر والجاهلي، بينما كنت أراه أهلي وجيراني وأصدقائي الطيبين.. أمير المنطقة يلزمنا زيارة القبور والتفكر بالموت والشهادة.. بينما كنت شغوفا بكرة القدم، وركوب الدراجات.. تعليمات الجماعة تقتضي التمرد على الأهل (وهم بنظرها فسقة، أو جهلة على أقل تقدير)، بينما كنت أحبهم، وهم أساسا متدينين.. في الدروس الدينية أقنعونا بأن الأغاني حرام.. وفي تلك المرحلة كنت بدأت أتعلق بأم كلثوم، حتى إني حفظت كل أغانيها: الكلمات، ومؤلفها وملحنها.. الشيخ يأمرنا بغض البصر، ويقنعنا بأن المرأة فتنة وغواية.. أما أنا، فكنت مع أصدقائي نحرص على الوقوف يوميا قبالة مدرسة البنات الثانوية، وننتظر خروجهن، وقد خضت بالفعل عدة تجارب حب أولية، بكل ما صاحب تلك الفترة من أدوات: خفقان القلب غير المفهوم، الرسائل الورقية المعطرة، كاسيتات "عبد الحليم حافظ"، الغزل البريئ والجميل..

سيستمر هذا التأزم النفسي ثلاث سنوات أخرى، ستنتهي بدخولي الجامعة.. ليبدأ تأزم من نوع جديد.. في سنوات الثمانينات كانت الأحداث الفلسطينية هي الأبرز على الساحة، وكانت مادة الحديث المفضلة لطلبة الجامعات.. هناك في جامعة بغداد، سألتقي للمرة الأولى بشبان عرب من كل الجنسيات، ومن مختلف التيارات، وفي السكن الداخلي، سنمضي سهرات طويلة في نقاشات حامية الوطيس، بين البعثيين وأنصار جبهة التحرير العربية من جهة، والفتحويين من جهة أخرى، وبين الإسلامويين والعلمانيين.. كنت حينها ذلك الشاب الصغير القادم من الأردن، ومثل أغلب من تخرج من مدارسها، أحمل بقايا أفكار إخوانية، ومتعايش مع عقدة الخوف من المخابرات.. ورغم عشرات الكتب التي كنت قد قرأتها، وحسبت نفسي مثقفا، اكتشفت أني جاهل في كثير من المواضيع المطروحة للنقاش، ومع ذلك، وبدافع حماس الشباب، كنت أقحم نفسي في النقاشات، وكثيرا ما كنت أبدأ بفكرةٍ ما وأخرج بأخرى مغايرة، دون أن أعترف لخصمي بذلك، وأحيانا كنتُ أرقب صامتا نقاشا بين تيارين، منتظرا من يقدم حججا دامغة، لأنحاز إليه، وأتبنى مقولته في المرة المقبلة.. كان هذا يراكم في عقلي خبرات ثقافية معينة، لكنه يزيد من حيرتي.. إذ لم أجد حينها من يشبع فضولي في المعرفة.. بيد أن ذلك كله سيساهم في إنضاجي، وتخلصي التدريحي من عقدتي الإخوان والمخابرات..

وهكذا وجدتُ نفسي مضطرا لقراءة المزيد من الكتب.. ربما لأجد مادة أجاري الآخرين بها في جدالاتهم، وربما بحثا عن الحقيقة.. بيد أني بقيت عاجزا عن التحول إلى ذلك المحاور المقنع، الذي يسكت الآخرين بمجرد أن يبدأ الكلام، بل إني كنت أخرج مشوشا ومهزوما من الجولات الحوارية التي سرعان ما تتحول إلى جدال بيزنطي، وصراخ، ومزاودات.. وكان هذا يدفعني للكتابة، والتعبير عن وجهة نظري على صفحة بيضاء، لا يعكر صفوها أحد، ولا يقطاعني فيها أحد.. لكن قلة المعلومات كانت تقتضي مزيدا من القراءات.. حينها كنتُ أكتب لنفسي فقط، ولا أحاول نشر شيء، مُـركّزا على الموضوع والأفكار دون أي اهتمام بالأسلوب واللغة.. وحتى الرسائل التي كنت أرسلها لأهلي وأصدقائي، كانت عادية جدا، تبدأ بتلك الديباجة التقليدية، ثم بسرد الأحداث بأسلوب إنشائي مباشر، وتنتهي ببوح مشاعر الأشواق والحنين بنفس الكلمات المعهودة..

(الإنفجار)

كانت كتب "خالد الحسن"، مصدرنا الأول، ومعيننا الذي لا ينضب.. في سنوات الجامعة (الثمانينات) كانت مطالعاتي تتمحور حول السياسة وقضايا الصراع.. في العصارى جدالات لا تنتهي في حديقة اتحاد الطلبة في الوزيرية، وفي السهرة ما تيسر من كتب، وقبل النوم مقالات "حسن البطل" في "فلسطين الثورة".. وقد بدأت أتخلى عن عادة تلخيص الكتب، تحت ضغط الوقت الذي صار بالكاد يكفي لقراءة الوفير منها، ولحاجتي للمزيد.. سيما وأن عوالم جديدة من القراءات ستتفتّح أمامي.. قصائد محمود درويش، روايات عبد الرحمن منيف، الفلسفات اليسارية والقومية والإسلامية..

في السجن، ثمة مكتبة ضخمة، ووقت طويل.. في الصباح أطالع الجرائد، بما حوته من مقالات وتقارير، وفي بقية النهار أنشغل بالكتب، كنتُ أقرأ أزيد من ست ساعات يوميا.. ثم مع تطور الأحداث صار ضروريا أن أكتب.. تقارير إخبارية، المشاركة في النشرة السياسية، وأيضا رسائل للأصدقاء وللمجموعات التي كنت مسؤولا عنها.. تعلمتُ طريقة صنع "الكبسولة"، وطرق تهريبها خارج السجن.. لكن أسلوب كتابتي في البداية ظل كما هو "ركيكا".. إلى أن اطلع الصديق "يونس الرجوب" ذات يوم على رسالة كنت أهم بكتابتها.. لم تعجبه، وبدأ يصحح، ويضع ملاحظاته، إلى أن خرجنا برسالة مختلفة كليا، في الأسلوب والتعابير واللغة.. رسالة فيها رقة أكثر، وإنشاء أقل، فيها تشبيهات وصور متخيلة، وتنبض بالحركة.. ولأول مرة أستخدم تعبيرات فيها الغزل، والتغني بالجمال، والعصافير والكواكب والفراشات... مسك "يونس" الرسالة بإعجاب، وقال: هكذا يكون الثائر العاشق..

كان للعمل التنظيمي دورا هاما في إنضاج تجربتي الكتابية؛ في السجن كتبتُ في النشرة الثورية التي أسميناها "صمود"، والمجلة التي أسميناها "سنابل".. بعدها صرت أشارك في صياغة البيانات السياسية والتقارير التنظيمية، إضافة للمنشورات الإرشادية التي كنا نعدها في دورات إعداد الكادر..

عاملٌ آخر سيسهم في صقل التجربة؛ عملي الوظيفي؛ فقد كنتُ من مؤسسي وزارة التموين (التي ستصبح وزارة الاقتصاد)، في تلك المرحلة، كانت السلطة تبني لبنات المؤسسات تقريبا من الصفر، بدأت أشارك في صياغة مسودات القوانين، والأنظمة، واللوائح التنظيمية، وخطط العمل، والنشرات الإرشادية للمواطنين، والمذكرات التفسيرية في المواضيع المختلفة.. إلى تنبه أحد الوزراء بعد سنوات، إلى أسلوبي في صياغة الكتب والمذكرات، فصار يعتمد علي في أغلب المواضيع التي تحتاج شروحات وكتابة.. بما فيها خطاباته في المناسبات الرسمية..

الكتابة بدافع خارجي تظل مقيدة، وتقليدية، حتى لو كانت سليمة من حيث المبنى واللغة، أما الكتابة الإبداعية فتحتاج دافعا داخليا، تحتاج أرق وقلق وخوف، تحتاج إلى ذلك الشغف الذي يبقيك مشغولا بفكرة ما، أو مشهد معين، لدرجة الإلحاح، قد لا تجد التعبيرات المناسبة في تلك اللحظة، أو تعجز عن الإمساك ببداية مميزة، ما عليك سوى الانتظار، ستأتيك وأنت في مقعدك في "الباص"، تنظر من الشباك إلى الأشجار وهي تركض مسرعة للوراء، أو تنسل إلى منامك، وتيقظك من عز نومك.. وتقول لك ها أنذا حاضرة... لكنها تشترط أن يكون بداخلك جمالا يمكنك من خلاله تحويل ما تراه إلى منتج أدبي. الكتابة الإبداعية ليست مجرد موهبة، أو إلهام؛ إنها المحطة الأخيرة لرحلة طويلة ومضنية من التأمل والتفكر، والتفاعل الحي مع المحيط.. هي محاولات الإجابة على الأسئلة المحيرة، هي إشباع الفضول، والقدرة على الإندهاش أمام أبسط الأشياء.. تبدأ بالكلمات المرتجفة والمرتبكة، وتنمو مع الصراعات الداخلية، وتنضج بالتجارب، ولا يمكنك أن تصبح كاتبا قبل أن تكون قارئا..

في سنوات الطفولة، عملت في بيع الجرائد، كنت أجول الشوارع صباحا، حتى أبيع ما بين 30~50 نسخة، أثناء ذلك أقرأ أبرز العناوين، وتدريجيا صرت أقرأ بعض المقالات.. كنت أظن أن كتّاب المقالات رجالا خارقون، وأن مهتهم صعبة، لكنها قابلة للتنفيذ، وصار حلمي من وقتها أن يكون لي عامودا صحافيا خاصا بي، ينتظره القراء بشغف.. أما كتّاب الروايات ومؤلفو الكتب فكنت أحسبهم عباقرة، وأنه ليس بوسعي دخول هذا العالم..

أول مادة نشرتها، كانت في مجلة سورية للأطفال، اسمها "أسامة" كنت في الثاني الابتدائي، وشجعني على ذلك شقيقي "زياد"، يكبرني بسبع سنوات، وطالما صحّح لي، ودقق كتبي، وأعطاني إرشادات مهمة.. قبل أن أمتلك حاسوبا، وقبل وصول اختراع الإنترنت، بدأت أكتب بعض المقالات، بخط اليد، وبالكاد أُطلع بعض أصدقائي عليها، كنت أقلد كتّاب الرأي في الصحافتين الأردنية واللبنانية، مع محاولات خجولة لشق أسلوب خاص بي.. بعد عودتي للوطن، تدافعت الأحداث، وتشابكت المشاهد على نحو معقد، صارت تستفزني أكثر، وصار لزاما أن أسكتها بالكتابة، بدأت أكتب مقالات في مواضيع الساعة، وقد صار عندي حاسوبا، فصرت أطبعها، وأوزعها على أصدقائي، وعلى بعض المسؤولين والمهتمين.. أو أرسلها عبر الإيميل.. وطالما حلمت بنشرها في أية جريدة أو موقع إلكتروني.. راسلت كل الصحف المحلية دون طائل، طلبت مساعدة أصدقاء ومتنفذين للتوسط لي عند رؤساء التحرير.. كانت أول جريدة مطبوعة أنشر فيها بصورة منتظمة هي "صوت النساء"، وهي جريدة شهرية كتبتُ فيها لأكثر من عشر سنوات دون توقف.. خلالها، نشرتُ بصورة متقطعة في صحيفة القدس، ثم في الصفحة الثقافية للحياة الجديدة، ثم بصورة منتظمة في جريدة الحدث لمدة عام.. إلى أن اتصل بي الصديق "أكرم مسلم"، وطلب مني إرسال خمس مقالات لعرضها على "أكرم هنية"، رئيس تحرير الأيام، ليرى إذا كان بوسعه ضمي لأسرة كتّاب الأيام.. وما حصل بعد ذلك أنه نشرها كلها، مباشرة في صفحة "الآراء"، ثم خصّص يومين في الأسبوع لعامودي، الذي صرت أكتب فيه ما يحلو لي.. وقد قيل لي أن هذه سابقة، لم يفعلها رئيس التحرير من قبل..

كنت قد بدأت أنشر في المنتديات مع أول ظهورها على مواقع الإنترنت، ثم صار لي مدونتي الخاصة التي أستخدمها كأرشيف إحتياطي.. ومثلما كانت أمنيتي أن أكتب في "الأيام"، كان طموحي أن أنشر في "الحوار المتمدن"، قبل أن يصبح متاحا لمن أراد، وكانت فرحتي غامرة بأول مقال أنشره هناك، واختياري في زاوية المقالات المختارة.. وزيادة أعداد زوار صفحتي، الذين تجاوزوا المليونين..

(التروي)

في نهاية التسعينات، عكفتُ على مدى أشهر متواصلة على تأليف كتاب، في موضوع طالما شغل فكري، وأرهقني بالأسئلة؛ أسميته بداية "نقد العقل العربي"، ثم تواضعتُ قليلا حين أدركت صعوبة ذلك، فصار عنوانه: "محاولة في نقد المجتمع العربي"، كتبتُ مئات الصفحات، مستعينا بعشرات المراجع.. أكوام من الورق بخط اليد، صار همّي طباعتها، وعلى مدى أسابيع من الطباعة، كنت أكتشف بعض الأخطاء، فأعدلها، ولما أنتهيت، راسلت بعض دور النشر دون استجابة، حزنت، فقد كنت أحسب أن هذا الكتاب سيغير من المشهد العربي، سينتقل بوعي المجتمع إلى مرحلة متقدمة، وأن واجبي الوطني يقتضي مني العمل على نشره وتوزيعه.. ومع الوقت أدركت أنه مجرد كتاب من بين مئات الكتب التي بالتأكيد أفضل وأقوى منه.. ركنته جانبا، وصرت بين الحين والآخر أعيد قراءته، أعدل بعض التعبيرات، أزيد جملة هنا، وأحذف جملة من هناك.. ألغي فصلا كاملا، وأضيف فصلا جديدا، أعيد تبويب الفصول كلها.. وفي كل مرة أكتشف أن شيئاً ما ينقصه.. مضى حوالي عشرين عاما على إعداد هذا الكتاب، وما زلت للآن أعيد قراءته، وأعدل فيه، وأنتظر اكتمال الفكرة، ونضوجها، باختصار: ما زلت خائفا من عرضه على الملأ.. ما زلت غير واثق من صحة ودقة ما فيه..

ومثل هذا الكتاب، بحوزتي خمسة كتب أخرى، تبحث في مواضيع نشأة الكون والوجود والحياة والطبيعة، وفي مجالات أخرى تؤرقني.. هي أيضا تقنيا جاهزة للنشر، لكني متردد، وخائف، وأنتظر الوقت المناسب، فما زلت أراجعها باستمرار، وفي كل مرة أكتشف أنها بحاجة لمزيد من الإنضاج والتروي.. أول كتاب نجا من قائمة الانتظار الطويل "فلسطين في الأسر".. إذ أني كتبت مقدمته ومادته الأساسية قبل ثلاثة وعشرين عاما من نشره، حينها طبعته لي "خلود" على الآلة الكاتبة، ونحن في فترة الخطوبة، وبعدها عدلت عليه مرات ومرات، إلى أن رضيت عنه نسبيا.. لكني تجرأت على إصدار عشرة كتب أخرى، ستة منها تأليفي منفردا، وأربعة بالاشتراك مع باحثين آخرين.. بيد أني بعد كتابي الأول، الذي كان مليئا بالأخطاء اللغوية والنحوية، صرت أعرض مخطوطة الكتاب قبل نشرها على عدد من النقاد والمدققين والأدباء، فآخذ بنصائحم، وتوجياهتهم وانتقاداتهم..

تأليف الكتاب تجربة مدهشة، تشبه ولادة طفل.. قد يستغرق سنين طويلة من البحث والكتابة والحذف والإضافة، ستظن بعد ذلك كله أنه مكتمل، ثم تكتشف بعض الأخطاء، وأنه من الممكن صياغته على نحو أفضل.. لذلك تظل مخطوطاتي على قائمة الانتظار، مع حلم شبه دائم بطباعتها، أتخيل الكتاب بخوفٍ بين يدي قارئ معارض يشتمني، أو بفرحٍ وحبور مع قارئ معجب به.. في كل مرة أصدرت فيها كتابا، شعرت بنفس الفرح، وبنفس القلق..

أحتفظ بأرشيف ورقي لكل ما نشرته في الصحافة المطبوعة، وأرشيف إلكتروني لكل ما كتبت.. أراجعه من حين لآخر، فأجد ما كتبته قبل سنوات بعيدة ساذجا، سطحيا؛ عبارات مطروقة، أحكام نهائية، جمل إنشائية، شعارات، وتكرار لاستخدام المضاف والمضاف إليه.. أشعر بسعادة خفية أمام هذه الاكتشافات، خاصة مع رصد التطور والتغيير في الأسلوب، مع تناقص تدريجي لتلك الأخطاء مقارنة بالكتابات الأحدث.. ما ساعدني في هذا انتقادات "خلود" الدائمة لي، ونصائح أصدقاء أعزاء.. "نجاة عبد الصمد"، التي تقرأ مخطوطاتي سطرا سطرا بعين الناقد، "زياد خداش" الذي علمني كيف أقتل أحبائي، أي كيف أتخلص من الجمل الجميلة، التي لا تأتي في موضعها.. "فارس سباعنة" الذي ساعدني على التخلص من العبارات الدرويشية، "عماد الأصفر" الذي علمني كيف أبث الحياة والحركة في مقالاتي..

حين نشرت أول دراسة بحثية، وكانت في مجلة "فلسطينيات"، شعرت بسعادة ودهشة البدايات.. أخبرني "سميح شبيب" أن العدد صدر، ولي مكافأة مالية (350-$-).. وللمرة الأولى أتقاضى أجرا على كتابتي، سيشجعني ذلك على النشر في مجلات أخرى.. كان "أحمد عزم" رئيس تحرير مجلة آفاق المستقبل الإماراتية، طلب مني إجراء مقابلة مع رئيس الوزراء سلام فياض، بعدها، صرت أكتب بصورة منتظمة، وفي كل مرة يعيد لي صديقي "أحمد" موضوعي مع تعليقات وتصويبات تشرح لي الفرق بين المقال والدراسة، بين الجريدة والمجلة، كيف أكون موضوعيا، بعاطفة أقل وعقلانية أكثر، كيف أتحكم بمشاعري فأكتب دون تصنيفات ولا أحكام، ولا اتهامات دون دليل.. بعدها نشرت في مجلات عربية وفلسطينية أخرى، حتى تجازوت الستون دراسة بحثية في مجالات مختلفة..

الحب، هو المحرض الأول للكتابة.. هذا رأيي، وهذا ما حدث معي.. الحب، ينبوع من المشاعر المجنونة تغمر القلب، ثم تفيض خارجا، وبالتالي، لا بد من سكبها على الورق.. كانت "خلود"، ومنذ بدايات قصتنا، ملهمتي ومحرضتي على الكتابة.. في كل مناسبة، أكتب لها، أنقل مشاعري حرفيا، أبث أشواقي، أصور نيران الحنين المضطرمة في صدري حين تغيب، وجنان العشق حين تجيء.. أكتب لها ما يليق بحبنا الكبير.. وجدت ضالتي بالنثر.. فأعددت كتابا خاصا سيحمل عنوان "حين يخضرّ الكلام".. وسأنتظر الوقت المناسب لنشره..

اخترت القصة القصيرة، لأني رغبت أن أقول على لسان شخوصها ما أرغب بقوله للناس أجمعين، لأنها مكّنتني من الغوص في عالمي الجواني، لأُخرج ما فيه، لأن المقالة، والدراسة البحثية لا تحتملان في كثير من الأحيان كل ما يعتمل في دواخلي.. رغبت من خلال القصة أن أدون شهادتي عن الظلم، وعن ليالينا الحزينة، عن قلقنا المشروع، عن سنواتنا العجاف، عن الخوف الساكن فينا، والصرخات التي تدوي في أعماقنا وندفنها في تجاويف الصدر قبل أن يسمعها أحد، عن الناس المهمشين، والمنسيين، الذين يزورهم إلا الريح الزمهرير.. الذين لا يحفل بهم أحد، لأنهم فقراء.. للأسرى القابعين في زنازين العتمة، للأطفال الذين شربوا الخوف وأكلوا القهر في صراعاتنا الغبية، للنساء اللواتي قُتلن ظلما، وعشن ظلما.. للمسنّين الذين يمضون الليالي الطويلة وهم ينتظرون أحدا يطرق عليهم باب الوحدة، أو حتى رنة هاتف.. لكل هؤلاء كتبت ثلاث مجموعات قصص قصيرة، فقط لكي أقول لهم: ما أجملكم..

(هواجس الكتابة)

يحتاج النجاح صبرا ومثابرة، وعددا غير محدد من الإخفاقات.. بيد أنّ التحفة الفنية تفرض نفسها في النهاية، ولو كانت يتيمة.. أعظم الروائيين العالميين اشتهروا بعد إنجازهم عدة روايات.. لكن الأمريكية "مارغريت ميتشل" ألفت رواية واحدة فقط "ذهب مع الريح"، وصارت الرواية الأشهر على الإطلاق.. وكذلك "سالنجر"، كتب العديد من القصص القصيرة، لكن روايته الوحيدة "الحارس في حقل الشوفان" صارت من بين أعظم مائة رواية كتبت في القرن العشرين.. لكنه "مثل "ميتشل" احتاج سنوات طويلة من العمل المضني حتى أنجز روايته.

الموهبة ضرورية، لكنها ليست شرطا قهريا.. أهم الفنانين والمبدعين تفجرت مواهبهم بعد سن الستين.. الإرادة والتدريب يعوضان عن الموهبة.. "كولن ولسون"، أنجز معظم أعماله وهو في العشرينات، "إينشتاين" نال جائزة نوبل وهو في الخامسة والعشرين.. وغيره نالها في سن الثمانين.. النجاح لا يعتمد على العمر.. لكن السنين مهمة لإنضاج التجارب..

البعض يكتب من أجل النجاح والشهرة، وهذا حق مشروع، لأن الطموح أقوى دافع، والبعض يكتب لأن الكتابة مصدر رزقه.. وهذا أيضا مشروع.. الكاتب يبذل جهدا ووقتا ويحتاج أن يعيش.. وآخرون يكتبون لأن لديهم رسالة مؤمنون بها، ويهمهم إيصالها للناس.. وقد يكون الكاتب مزيجا مما سبق.. بالنسبة لي؛ ما زلت غير واثق أني صرت كاتبا.. في اللقاءات الإعلامية يسألني المذيع، بم نعرّف عليك؟ فأخجل، رافضاً أي تصنيف.. وأمام الإلحاح أوافق على تسمية كاتب.. في حفلات توقيع الكتب التي أصدرتها، كنت أتوقع خروج شخص غاضب من بين الجمهور، ليقول لي: إنزل عن المنصة أيها المدعي..

الثقة بالنفس ضرورية، لكنها قد تودي بالكاتب حين تتحول إلى غرور، أو حتى شعور بالرضا، أو إذا استراح في اليقينيات.. "نيوتن" لم يكن ودودا، وكان يكيد لزملائه العلماء، لكنه في العلم كان شديد التواضع، حين بلغ الثمانين، قال: الآن يمكنني القول إني بالكاد وضعت قدمي على شاطئ بحر العلم.. مطلوب من الكاتب تقديم إجابات واقتراح حلول وبدائل.. لكن الأهم أن يطرح الأسئلة المحيرة.. وأن يحفز على التفكير.. أن يمتلك الشجاعة لكسر التابوهات، ليس لمجرد التمرد على المألوف، بل لأن الكاتب الحقيقي لا يجوز أن يكون من القطيع.. فهو لا يبحث عن إرضاء الشارع.. ولا يهمه مساوقة التيار.. عبقرية المبدع تتناسب مع مدى جنونه الداخلي، مع قلقه وخوفه، وشكوكه الدائمة، وأحيانا غرابة أطواره.. لذلك تجد بعض الفنانين بأشكال ومظاهر غريبة، وتخلو من الأناقة.. وأحيانا يصبح هذا نوع من الاستعراض المزيف.. وتعويض عن نقص داخلي.. المبدع الحقيقي بمقدار ما هو حر وطليق، هو أيضا جميل (في روحه ومظهره).. أنظروا أناقة ووسامة محمود درويش..

يقع الكاتب في خطأ قاتل، إذا ظن أنه أذكى من القراء، أو إذا توهم أنه أكثر منهم علما وثقافة.. سيكتب حينها بمنهج الأستاذ.. وسيتحول إلى واعظ ممل.. ويخطئ أكثر إذا حاول فرض رؤيته على الآخرين، معتقدا أنه يقودهم نحو التنوير والتقدم.. القراء أكثر ذكاء مما نظن.. هم معلمين بالأساس أكثر من كونهم متلقين.. وهم لا يتساهلون مع الكاتب المتثاقف والمدعي والشعبوي..

سؤال الكتابة المزمن: أيهما أهم: الفكرة أم الأسلوب؟ يُقال أن الأفكار موجودة في الشارع، ولدى كل شخص فكرة.. ولكن ليس بوسع أي شخص صياغة فكرته.. وفي المقابل، فإن الكتابة لن تعني شيئا، مهما كان أسلوبها شيقا وجميلا؛ ما لم تحتوي على فكرة جديدة.. وهذا هو تحدي الكاتب الأصعب.. للأستاذ عارف حجاوي أفلام قصيرة، يشرح فيها عن "الكتابة الحسنة"، وكيفية التخلص من الحشو والإنشاء والتأكيدات غير الضرورية، وأهمية التأكد من المعلومات، وتقديمها دون مبالغة، بأسلوب رشيق ينبض بالحركة..

اليوم، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، صار بوسع أي شخص أن يصبح كاتبا، أو شاعرا، أو روائياً.. وبرأيي هذا أمر حسن، ينشط الحياة الثقافية، ويحفز الجميع على القراءة والكتابة.. وليس من ذلك أي خطر حقيقي على الذائقة العامة للمجتمع.. والمجتمع في النهاية يستطيع أن يميز الغث من السمين.. وبعد السيل، لا يبقَ في الوادي إلا حجارته..

في مرحلة ما، تصبح الكتابة متعبة.. تصبح الشغل الوحيد للكاتب، وهاجسه المؤرق.. فيبدأ بالإنصراف عن عالمه الحقيقي.. ليغوص في عوالمه الخاصة.. سيحتاج إلى عزلة، واعتكاف في كوخ وسط الغابة.. فيصبح كائنا افتراضيا.. قد يبدع أكثر.. لكنه سيخسر أهله ومحبيه، وحتى نفسه.. وإيجاد توازن بين الحالتين ليس بالأمر الهيّن..

الكتابة تجلي الهموم، بعد أن يفرغها الكاتب على أوراقه، بالكتابة نطهر أرواحنا، ونبث أشواقنا وأوجاعنا للناس، فتعطينا إحساسا بالراحة.. لكنها تصبح مشكلة أخلاقية إذا صار الهدف منها إراحة الضمير، بديلا عن الفعل.. وتغدو أزمة أخلاقية إذا كان الهدف منها فك الإشتباك الداخلي بين شخصيتين مزدوجتين، إذ يتحول الكاتب إلى شخص مثالي على الورق، وشخص آخر في الواقع، قد يكون نقيضا للأول.. بعض الكتّاب أفنوا حياتهم وهم يدافعون عن حقوق المرأة، وفي بيوتهم يمتتعون عن جلي الصحن الذي أكلوا منه!

الكتابة قد تؤدي إلى الكآبة، خاصة الصحافيين الذين يكتبون عن الحروب والنكبات، وعن مآسي الناس.. وأيضا الكتاب المرهفين، يُقال أن أكثر من 150 شاعرا انتحر في القرن العشرين، نتذكر منهم تيسير سبول، وخليل حاوي وعشرات غيرهم..

كثير من الأصدقاء نصحني بأن أتخصص في مجال محدد.. فأجيبهم بأني إنسان حـر، أكتب ما أشاء، أحيانا أنجز المقال في ساعة، وأحيانا أحتاج أسابيع.. إذا كان الأمر يتطلب بحثا وتقصيا.. أكتب، لأن شيئا ما يحرضني من داخلي على الكتابة.. لأني مؤمن بقدرة الكلمة على التغيير، وبأن الكلمة مسؤولية وأمانة.. وأدرك بأن تجربتي في عالم الكتابة ما زالت غضة، ولا أظن أنها ستكتمل.. ما يريحني أنني لم أكتب يوما شيئا يخالف قناعاتي.. وما يقلقني أنَّ في جوفي الكثير لم أكتبه بعد..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي