الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كنت بائعا للزهور

هاله ابوليل

2018 / 6 / 24
الادب والفن


فتحت متجرا لبيع الورد , وكانت تلك أجمل أيام حياتي.
كنت أبيع الورود للمحبين ولأصحاب الذوق الرفيع بدون الغوص في خلاصات النساء ودماءهن والأطفال الذي يصيحون رافضين هذا العالم المتعب.
كانت تلك المهنة الطبية السامية لغيري من الأطباء , هي أكبر أخطائي التي اقترفتها في حياتي
كان من الممكن أن أنجح كطبيب أطفال لا كطبيب نساء , ولكن نظام القبول الجامعي الركيك الذي تلجأ له الدول العربية يقتل الطالب حيث يرسله إلى تخصصات لا تناسب روحه و هواياته و ضميره وقلبه , وهذه أشياء لا تهم صاحب القرار بقدر أن ينتهي من عمله الصعب بتوزيع الطلاب حسب معدلاتهم لا بحسب رغباتهم
كان ينبغي لمثلي أن يدرس الموسيقا أو الفنون أو رجل آثار أو حتى مرشد نفسي ولكن ليس طبيبا للنساء .
وإتخذت من بيع الزهور وظيفة لي ,كنت أعشق الرائحة الجميلة وملمس البتلات الرقيقة , وجمال تلافيف خصر الوردة وهي تنحدر من بين يدي لتنضم للمجموعة العازفة حول ديكور من الأغصان البيضاء والأوراق الحاضنة .
كانت تلك كما قلت أجمل ايام حياتي , ولم أعرف طعما للسعادة يمكن أن يضاهي ما كنت إستشعره في تلك الأيام .
كنت إستيقظ مبكرا لكي ألحق بعملي الذي أحبه, فأعالج البتلات المريضة المتهدلة أغصانها بالموسيقى والغناء .
لطالما غنت لهم فيروز في الصباح وأعادت لهم الروح وأعادت لروحي الضامئة معنى السلام . وقد بادلتني زينب في تلك الأيام قبل عودتنا المشؤومة لبغداد ذلك الشعور الجميل فتركتني أعيش تلك الأيام الجميلة بدون منغصات رغم قلة المال الذي كنت أجلبه للبيت ولكن بعد ذهابي لبغداد وعودتي وحيدا بدونهم كانت الزهور كفيلة بأن تكون ملجأ عاطفيا لقلبي لكي أدفن به أحزاني

****

البارحة , لقد تساقطت أمطار الدنيا كلها البارحة من السماء حتى كدت اشعر إنها ستكف عن المطر لعدة سنوات بعدها .
كنا نجلس متلاصقين حول مدفأة الغاز التي إرتفع سعرها مؤخرا رغم إنها لا تعطيك ذللك الشعور الذي تبثه مدفأة الحطب
وفي الحقيقة , لقد بت أحسب حساب كل درهم انفقه في هذه البلاد التي تعاملنا كأننا بنك متحرك , لأن مدخراتي بدأت تنفذ و أنا لا أجد عملا مثمرا يناسبني و يجاري الغلاء المستعر وخاصة بعد كل تلك المصائب التي وقعت على رأسي .
فبعد أن لاحقتني المخاسر المالية وتدهور مشروع محل الزهور التي كانت تذبل ولا تجد من يشتريها سواي .
جلست أبحث عن عمل لا يخسر , لقد اصبحت عاطلا عن العمل بعد أن ماتت زينب وفاطمة . وعشت لوحدي ملاحقا بالشفقة ونظرات الأسى من الآخرين لأني أرمل مسكين بنظرهم , فقد أسباب حياته مبكرا

في الحقيقة كنت أعرف منذ اليوم الأول إني سأخسر فالجميع تنبأ بذلك , فأنت تبيع الورود لشعب فقير يعتبر وضع النظارة الشمسية التي قد تحرق الشمس عيناك بدونها نوع من الكماليات , فما بالك ببيع الزهور
فالعرب عامة و أغلبيتهم هم شعب من القرويين والفلاحين والبسطاء و اللاجئين الفقراء لا يجدون فعليا تتمة ما ينفقون لبقية الشهر فكيف لك أن تحتج وتطالبهم بشراء ورودك !
ولكن يوسف صديقي تفهم الأمر في النهاية فبعد أن وبخني قائلا
هل أنت عاقل !
كيف تريد لشعب أن يشتري الورود و هو لا يعرف معنى الإبتسام
يالك من رومانسي ضائع .
كنت اعرف ذلك , أعرف إني أخسر يوميا رأس مالي الذي كان ينفذ ومع ذلك فقد كنت معنيا ألا أفكر بتلك الخسارات اليومية
لقد كنت مستمتعا بخسائري , ما دمت سعيدا و مليئا بالسلام الداخلي .
ولكن ثمة شيء كان ينغص علي يومي ,كانت الورود تذبل وكنت اشعر بها و هي تموت ببطء وكأني أموت معها .
كان موتها يؤلمني وأنا أراها تذبل و تنحني , و عندما تبدأ البتلات بالتساقط يسقط قلبي هلعا , إلآ أن وجدت حلا لتلك الخاتمة الحزينة لورودي الذابلة
كنت إجهز باقة لوالدتي في نهاية الإسبوع
وأما الباقي فقد منحتها لسكان المنطقة بالمجان
كنت إجهزها بطريقة جميلة وأضعها أمام المحل بعبارة لائقة تشجع المارون لأخذها بدون خجل
" إن كنت تحب الورود لا تنس هذه باقة مجانية , خذها و ضعها في مزهرية عند سريرك
و كنت يوميا ابتدع افكارا وعبارات أكتبها على ورقة وإلصقها على الزجاج الخارجي
إن كنت تحب أن ترضى عنك أمك ,خذ هذه الباقة بنصف الثمن .
وإن كانت أمي نفسها غير راضية عني لبعدي عنهم في ذلك الزمن لكي لا اسمع إقتراحاتهم المتكررة بالزواج من جديد .
أحيانا كنت أترك باقة والدتي أمام المتجر عندما أجد صعوبة في الذهاب اليهم تاركا على الزجاج هذه العبارة
"أم علي تهدي والدتك هذه الباقة , مقابل دعاء جميل في سرك "وتكرر الأمر حتى بات لدي عبارات جاهزة تناسب كل الحالات .
وكما قلت سابقا ,فقد بقيت في بيتي - مع ذكرى زينب وفاطمة ولم أعد للعيش معهم في بيتهم القريب مني
والذي إستأجروه عندما قدموا إلى هنا , تحديدا بعدما دمر بوش بغداد كما دمرها هولاكو من قبله .
كانت زهوري تحتضر في النهاية و دائما قبل الرمق الأخير كنت إنقذها
كنت كما قلت قادرا على إبقاءها ليومين أو أكثر بطريقتي العلاجية التي لا يعرفها سواي , وكانت تبدو ممتنة لذلك
لم أكن مستمتعا بإحتضارها بقدر ما كان ذلك جيدا لي ولها لمواصلة الحياة لكي لا تشمت بضعفنا الحياة نفسها التي هي بداخلنا .

في نهاية الأسبوع أو بعد عشر أيام تحديدا, ستكون ورودي قد باتت على قاب قوسين أو أدنى من الموت المحتم
ولكي لا أخدع الزبون , كنت أكتب هذه العبارة الكاشفة لتقديمي لها بالمجان :"
الحياة قصيرة إيها الإنسان , خذ استمتع بأريج هذه الورود قبل أن تموت .
كانوا يدخلون ليتأكدوا إن كان بإمكانهم أن يأخذوها بدون مقابل فكنت أهز رأسي فقط, فيفهمون , فالحياة بلا زهور لا تستحق أن تعاش .



في الحقيقة يا صديقي يوسف كنت مريضا من ألم لا ينزاح و كنت أتشافى بتعاطى الورود .
كان في جزء مني ينزف وكنت أضمد جرحي ببتلات الزهور الملونة
فهل كنت مغامرا غبيا وتاجرا فاشلا برأيك!

بعد خسارتي في تجارة الورود اعتكفت في بيتي ,لم أكن نادما البتة
فقد كنت اربح دوما شيئا بداخلي لا تملأه كل دراهم الكون كنت بحاجة لتلك الشفافية التي تمتلكها البتلات , لتلك الرقة الشفافة الناعسة التي تحيط بالزهور
كنت بحاجة لذلك الانبعاج المتدلل لأغصان تلك الورود
حتى الأشواك التي كنت اقتلعها من المستنبت كانت تعني لي شيئا مهما
كانت الحياة القصيرة لعمر الورود تقول لي بأن لا شيء يا علي في هذه الحياة يبقى على حاله .


كانت تلك خطة ربانية لتقليل مخاسري النفسية ,هكذا كانت والدتي المؤمنة تعلل ارادة الله في فشل مشروعي .
لم ينجح أيضا مشروع استنبات البذور . فالمشتل أصيب بالخراب أيضا كما اصيب قلبي قبله
فسكتت أمي بعدها وتكلم والدي شططا
كان ينبغي أن أضع سمادا آخر و كان علي أن اسقي تلك الشتلات بماء نظيف غير ذلك الماء الذي يمنحون العائلات منه كل اسبوع
ماء ملوث يجعلك تمرض بالسرير
ماء قذر فيه كل انواع الجراثيم
وبينما كان والدي يسهب في شرح مصيبة ماء الحنفية بدأت العائلة تحك لقد شعرت العائلة بالجرب إنها تشبه عدوى الضحك إذ سرعان ما تلاحقهم تلك العدوى
ورويدا رويدا خف صوت ابي
انه مريض
سهرت والدتي ليلة كاملة وهي تبدل كمادات الماء الساخن
كان مصاب بالحمى ولكنه في الصباح نهض ووقف في مكانه في الصورة ناشرا ذراعيه القويتين على أكتاف عائلته ومظللا لها مثل نسر في أعالي الجبال .
نعم ,كنت أتعافى في ذلك الزمن من كل ما ألم بي وآلمني .
كانت تلك الفترة من عمري كبائع للورود ضرورية لأنسى منظر الدم والحروب وذكرى طفلتي و زوجتى المحروقتين و مجازر البوسنة والهرسك في ذلك الزمان ,
كان ذلك ضروريا لإعادة السلام الى داخلي ومحاولة قوية مني للنسيان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الورد
ماجدة منصور ( 2018 / 6 / 25 - 00:56 )
الورد تجسيدا للجمال في عالم شديد القبح و الهمجية0
للورد لغة غامضة لا يفهمها إلا من إمتلك روحا شفافة0
لقد حزنت على ورودك التي كانت تذبل..فأنا أحزن حين أرى ورودي وهي تذبل0
أجمل لحظات حياتي حين أرى الورد قد تفتح في حديقتي..تلك اللحظات لا يضاهيها أي جمال آخر0
مقال معبر نحتاج اليه كي نرتاح قليلا من عهر رجال الدين و السياسة0
احترامي

اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا