الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تابع / ماركس والمجتمع المدني (6-18)

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2018 / 6 / 28
المجتمع المدني



28/6/2018

لقد عبَّر ماركس عن جوهر الدولة الليبرالية البرجوازية بوضوح، في كتابه »العائلة المقدسة(1845)، حينما قال: إذا كانت الركيزة الأساسية للدولة القديمة هي العبودية، فإن ركيزة الدولة الحديثة هي المجتمع المدني« وهي ركيزة تقوم أساساً على المنافسة والملكية الخاصة وحرية الفرد، وفي هذا السياق فإن »عبارة »حقوق الإنسان« ليست سوى حقوق عضو المجتمع البرجوازي ذاته، فالإنسان لا يُنظر إليه في ظل هذه الحقوق الثابتة ككائن بشري اجتماعي، بل على العكس تماما، يُنظَر إليه باعتباره فرداً منعزلاً، منشغلاً بمصلحته الخاصة، وبهذا تبدو الحياة السياسية وكأنها مجرد وسيلة غايتها المجتمع المدني«.
إن ما يميز ماركس، أنه استخدم مصطلح المجتمع المدني بطريقتين -كما يقول د.نايف سلوم-: الأولى وردت في »المسألة اليهودية« على الشكل التالي: إن الدولة السياسية هي حسب جوهرها، حياة الإنسان النوعية-العامة بمعارضة حياته المادية (الخاصة). كل افتراضات هذه الحياة الأنانية تواصل بقاءها في المجتمع المدني خارج دائرة الدولة، ولكن كخصائص للمجتمع البرجوازي. وحيثما وصلت الدولة السياسية الى تفتحها الحقيقي، يعِشْ الإنسان، ليس فقط في الفكر، والوعي، بل في الواقع، وفي الحياة، وجوداً مزدوجاً، سماوياً وأرضياً، الوجود في الجماعة السياسية أو الاشتراك السياسي، حيث يعتبر نفسه كائناً عاماً، والوجود في المجتمع المدني، حيث يشتغل كإنسان خاص (في إطار علاقات وقوى الإنتاج الرأسمالية)، يرى في البشر الآخرين محض وسائل، يخفض ذاته الى مرتبة وسيلة محضة، ويصير لعبة بيد قوى غريبة. الدولة السياسية هي إزاء المجتمع المدني روحانية بقدر ما السماء روحانية إزاء الأرض«.
»أما في »الأيديولوجيا الألمانية – كما يضيف نايف سلوم -« فإن ماركس يماثل بين المجتمع المدني وعلاقات الإنتاج التي تشمل العلاقات الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية، فالمجتمع المدني -حسب ماركس- هو جماع العلاقات التجارية والصناعية لمرحلة تاريخية محددة، لكن لم يتم وعيه كصياغة نظرية، إلا في القرن الثامن عشر، عندما تخلصت الدولة من الامتياز الديني والعائلي«، فالشرط الماركسي لنشوء الرأسمالية -كما يقول د.عزمي بشارة- هو استباقها بقيام المجتمع المدني، بمفهوم مجتمع المدنية التجاري الذي يمتد بالتدريج ليحوِّل ملكية الأرض والزراعة الى ملكيات تجارية أيضاً.
وفي كتابه »رأس المال« يستغني ماركس عن مصطلح المجتمع المدني كبنية تحتية ويتبقى على مفهوم علاقات الإنتاج الاقتصادية الاجتماعية، كمسرح تاريخي، على اعتبار أن التاريخ أساسا، هو الانتقال من شكل سائد للملكية الخاصة الى شكل آخر جديد، الى أن نصل الى التشكيلة الرأسمالية، والصناعية، وصعود البرجوازية الحديثة، حيث بات الصراع بين الملكية الخاصة، وبين الملكية الجماعية (مع بداية الإرهاصات الثورية منتصف القرن التاسع عشر، ثورات 1848 الديمقراطية) أمراً راهناً، على أساس التحضير النظري لمجابهة السلطة البرجوازية، وتحطيم سلطتها ومعها مجتمعها المغترب -مجتمعها المدني، هكذا ينظر ماركس الى المجتمع المدني كوجود قائم غير واع لذاته، ولهذا السبب، يرى أن الطبقة البرجوازية السائدة، تنظم سيطرتها في دولة، أي تقيم دكتاتوريتها عبر الإكراه (أجهزة القمع، القضاء، الشرطة، وأجهزة الأمن.. الخ) من جهة، وعبر الهيمنة بواسطة أجهزتها الأيديولوجية والتربوية والاقتصادية والنقابية من جهة أخرى، واستنادا لهذا التحليل، فإن ماركس نظر الى الحقل الأيديولوجي على أنه واسطة تزييف لحقيقة البنية الاقتصادية ولواقع ملكية ثروة المجتمع، حيث تحاول الطبقة السائدة إقناع الطبقات الهامشية أو الفرعية، بمعقولية الوضع القائم، من هنا تبدأ حركة النقد عند ماركس بنقد الأيديولوجية السائدة، نقد البنية الاجتماعية الاقتصادية على شكل نقد الاقتصاد السياسي، ونقد الدولة والسياسة كدكتاتورية برجوازية من كونها سيطرة وهيمنة«.
ولكن رغم كل ما تقدم، فإن ماركس لم يغفل أبدا أهمية الانعتاق السياسي الذي حققته الثورة البرجوازية في عصر النهضة، بل إنه نظر الى عملية الانعتاق السياسي، باعتبارها نقطةَ انعطاف مذهلة في التطور التاريخي، وتقدماً عظيماً في إطار النظام الاجتماعي القائم، وبوصول البرجوازية الى هذه النقطة -بعد تحطيم النظام الإقطاعي وإلغائه- بدأت بتطوير نمط إنتاجها الرأسمالي، ورفعت شعارها الخاص، شعار »المساواة« في الحقوق الخاصة للملكية الفردية في إطار المنافسة بين قوى البرجوازية في السوق الرأسمالي.
»إن هذه »المساواة« تمخض عنها اليوم، المزيد والمزيد من الفرز الطبقي، وتحويل العالم الى مجتمع الخمس الثري وأربعة الأخماسِ من الفقراء، لقد تجلت أسمى أخلاقيات المجتمع المدني المعاصر في »بورصة الأوراق المالية« وفي »الاندماجات العملاقة للشركات المتعددة الجنسية« وفي »منظمة التجارة الدولية«، وبالتالي فإن التحرر الإنساني المنشود لا يمكن الوصول إليه إلا باستتباع الثورة السياسية بثورة أخرى اجتماعية تأتي لتغلب نمط الملكية الخاص وتُحوِّل علاقات الإنتاج الى علاقات تقوم على أساس الملكية الجماعية أو العامة، وإن شرط القيام بالثورة الاجتماعية كما يرى ماركس، يتطلب منا إعادة دمج هذين المتحدين من جديد المتحد المدني/المتحد السياسي، ليصبحا المتحد الاشتراكي/المتحد السياسي.
ويتابع ماركس محذراً؛ إنه إذا لم تقم الثورة الاجتماعية فسينتهي الأمر بمأساة سياسية، إنه يضع بين أيدينا طريقين، قد تنتهجهما البشرية، فإما ثورة اجتماعية تلي الثورة السياسية، وإما الاكتفاء بمرحلة الانعتاق السياسي وترسيخ المجتمع المدني البرجوازي« لصالح قوى الرأسمالية نحو مزيد من الهيمنة والتوسع والتحكم بمقدرات البشرية وتعميق المأساة السياسية لجميع الشعوب الفقيرة والمضطهدة في هذا الكوكب، وفي مواجهة هذه الهيمنة، يحدد ماركس بوضوح، كيفية تحقيق هذا الهدف بقوله: »فقط عندما يدرك الإنسان وينظم قواه الخاصة كقوة اجتماعية فسوف تنفصل القوة الاجتماعية في شكل قوة سياسية، وهنا فقط يكتمل الانعتاق الإنساني«، ولهذا السبب »وقف ماركس بجانب كومونة باريس لأنها تعيد السلطة السياسية للمجتمع. فقد أظهرت الكومونة من خلال تحطيم سلطة الدولة البرجوازية، كيف استطاعت الطبقة العاملة تطوير أشكال وجودها السياسي، الأمر الذي يعادل شكلا جديدا للوجود الاجتماعي يضطلع فيه أعضاء المجتمع أنفسهم بوظائف الدولة المعتادة«.
وبتحقق المجتمع الاشتراكي، تنتفي العلاقات الرأسمالية وينتفي معها مجتمع الصراع الطبقي أو المجتمع المدني البرجوازي، وقد عبر لينين (1870-1922) في »فكرته الرئيسة حول الديمقراطية، التي تمثلت في ربطه العضوي بين الاقتصاد والسياسة ونشر الديمقراطية العامة في المجتمع والدولة والحزب، وإجراء المتغيرات السياسية الواسعة التي تضمن إقامة الديمقراطية الاشتراكية، ففي مؤلفه »الدولة والثورة« يرى لينين أن ديكتاتورية البروليتاريا يجب أن تكون دولة ديمقراطية بطريقة جديدة، (لأجل العمال والجماهير الشعبية الفقيرة وغير المالكين بصورة عامة)، وديكتاتورية بطريقة جديدة ضد البرجوازية وديمقراطيتها السياسية النخبوية الشكلية، ذلك لأن الحديث عن المساواة التامة الشاملة، وعن الديمقراطية »الخالصة« في المجتمع الرأسمالي، (أو في المجتمع المدني البرجوازي)، تحت مظلة الليبرالية، ليس سوى تمويه برجوازي لهذا الواقع الذي لا يمكن نكرانه، وهو أن المساواة بين المُسَتَغَلِّين والمُستَغِلِّين أو بين من يملك ومن لا يملك مستحيلة، ليس في المستوى الاجتماعي -الاقتصادي فحسب، بل في المستوى السياسي بالدرجة الأولى، ذلك أن الأيديولوجيا الليبرالية تعتمد على وظيفتها العملية الاجتماعية أكثر من اعتمادها على وظيفتها النظرية، إنها إطار ضروري للحياة الاجتماعية من زاوية أصحاب الثروات، مالكي الثروة ووسائل الإنتاج، حيث قدمت الليبرالية – كما يقول ابراهيم فتحي – "صورة عامة للمجتمع بوصفه كلا يتألف من ذوات فردية حرة، صورة لإطار شامل، يضم قطعا وأجزاء ودوائر مختلفة ومترابطة في آن واحد، وهذا الإطار الأيديولوجي هو الناظم الرئيس للنظام الرأسمالي، الذي أُحِلَّ لأول مرة، على أرض الواقع الفعلي، العقد القانوني بين أفراده، محل المكانة الاجتماعية الموروثة (تحت عنوان المجتمع المدني والديمقراطية السياسية)، وفي هذا النظام، أصبح جمع الثروة لذاتها هو المحرك الأساسي للنشاط الإنساني باسم الحرية الفردية وحرية السوق والمنافسة«.
ونتيجة لكل ذلك نجحت القوى الليبرالية -بوسائل متعددة- في خديعة الوعي الجماهيري الذي انطلت عليه حالة التطابق الشائعة -والتي يروج لها بعض المثقفين في بلادنا- بين الليبرالية والديمقراطية، مع أن ذلك التطابق المزعوم يرفضه التتبع التاريخي لنشأةِ مفهوم الليبرالية وتطورِها، ففي سياق تطورها التاريخي »ظلت الليبرالية ترتكز على أسس معادية للديمقراطية طوال نشأتها، ولم تكن هناك رابطة جوهرية تجمعها، ولن نجد ليبراليا واحدا دافع أيام النشأة المفترضة عن حق أغلبية الشعب في التصويت أو الترشيح للمجالس التنفيذية المنتخبة، ويرجع ذلك الى أن الأيديولوجيا الليبرالية، وضعت التزامها الأصيل، رهنا بحق الفرد في ملكية حرة لا تعيقها العوائق، فالليبرالية في جوهرها ظاهرة رأسمالية تنتمي الى حرية الملكية والبيع والشراء ومنطقها الحتمي يؤدي إلى التفاوت الصارخ في الملكية والدخل لا إلى المساواة، فلو تحققت درجة من المساواة لما كان للمنافسة وتراكم رأس المال أي حافز يستحثهما. ذلك أن »الليبرالية« منذ البداية كانت تحارب في جبهتين: لقد مثلت مصالح البرجوازية التجارية والصناعية في صراعها ضد الحكم المطلق ومؤسساته التقليدية، كما حاولت الحد من أي مطالب ديمقراطية واسعة النطاق بعيدة المدى من جانب راديكالية البورجوازية الصغيرة والجماهير الشعبية«. »لكن الناس -كما يقول لينين بحق- كانوا دائماً وسيبقون دائماً ضحايا للتضليل والتضليل الذاتي في السياسة، الى أن يتعلموا أن يجدوا وراء كل جملة أو تصريح أو وعد إن كان أخلاقياً أو دينياً أو سياسياً، مصالح هذه أو تلك من الطبقات«.
على أي حال، فإن انعدامَ المساواةِ، ظاهرةٌ موضوعيةٌ، وسمةٌ أساسيةٌ من سماتِ المجتمع المدني الليبرالي البرجوازي، فهو -في جوهره- مجتمع الصراع الطبقي والصراع السياسي في آن معا، ولكن دور الصراع السياسي يكمن في توجيه المصالحِ الاقتصادية وتطويرها وتكريسها من ناحية، وإحكام السيطرة على الأجهزة عموما، وعلى توجيهِ بنيةِ السلطةِ الأيديولوجيةِ خاصةً، لضمان إدامة سيطرة الطبقة السائدة بغض النظر عن الديمقراطية السياسية الشكلية السائدة فيه.... يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزيرة تحصل على شهادات لأسيرات تعرضن لتعذيب الاحتلال.. ما ا


.. كيف يُفهم الفيتو الأمريكي على مشروع قرار يطالب بعضوية كاملة




.. كلمة مندوب فلسطين في الأمم المتحدة عقب الفيتو الأميركي


.. -فيتو- أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة




.. عاجل.. مجلس الأمن الدولي يفشل في منح العضوية الكاملة لفلسطين