الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أصنام الفكر وأنانية الروح

أنس نادر
(Anas Nader)

2018 / 7 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



نتطرق هنا إلى كلمة روح, بالمعنى الفطري لطبيعة الوجود وليس بالمعنى المستقل عنه, فلا نقصد على الإطلاق أن هناك روح منفصلة عن طبيعة الوجود تسيَر أطواره, بل أنها من طبيعة الوجود أي حالة معنوية غير أنانية الإحساس والسلوك. وسنأتي على دراسة وتحليل ذلك بالتفصيل.
إن كلمة الروح ومفهومها من أكثر المفاهيم تعقيدا وتركيبا وجدلية, وحتى الآن لا يوجد علم معرفي يقر ويجزم بطبيعة هذه الروح بشكل علمي ومقنع, وحتى المعارف والمذاهب الدينية بشكل عام لا تتدخل بطبيعتها بل تنسبها إلى الذات الإلهية التي خلقتها والتي ستعود إليها في نهاية المطاف, والفلسفات جميعها والعلوم النفسية والكثير من العلوم الإجتماعية والطبية كان لها آراء مختلفة, لكن أحدا لم يعطي تحليلا واضحا يقر فيه بماهية هذا الطيف المقدس الذي ينفخ فينا الحياة وكيفية خلقه وزواله, أو تحليلا يبرر العلاقة الإنسانية بالوجود من خلال الروح. ومصطلح الروح بالنهاية هو الشكل الصوفي أو الديني للتعبير عن الطاقة التي تحرك الأجسام المادية العضوية, الإنسان والنبات والحيوان, ولكن ماهي الحقيقة التي يمكن تخيلها عن هذه الطاقة أو إمكانية تحويلها من نظرية خيالية لفرضية علمية أو فلسفية يمكن أن تعكس العلاقة الوطيدة بين الإنسان وهذا المحيط الوجودي الذي ينطق بالجمال وبالطاقة العقلية الخلاقة والمبدعة لكل أشكال الفنون التي عبرت الحضارة الإنسانية وأوجدت الوحي والواقع العاطفي المضطرب للتاريخ البشري.

وبالحديث عن الفرضيات الدينية والفلسفية لطبيعة الروح قام أفلاطون (427 - 347 قبل الميلاد) باعتبار الروح كأساس لكينونة الإنسان والمحرك الأساسي له وإعتقد بأن الروح تتكون من 3 أجزاء متناغمة وهي العقل والنفس والرغبة وكان أفلاطون يقصد بالنفس المتطلبات العاطفية أو الشعورية وكان يعني بالرغبة المتطلبات الجسدية, وأعطى أفلاطون مثالا لتوضيح وجهة نظره باستخدام عربة يقودها حصان, فللحصان حسب أفلاطون قوتان محركتان وهما النفس والرغبة ويأتي العقل ليحفظ التوازن. وبعد أفلاطون قام أرسطو (384 - 322 قبل الميلاد) بتعريف الروح كمحور رئيسي للوجود ولكنه لم يعتبر الروح وجودا مستقلا عن الجسد أو شيئا غير ملموس يسكن الجسد فاعتبر أرسطو الروح مرادفا للكينونة ولم يعتبر الروح كينونة خاصة تسكن الجسد, وإستخدم أرسطو السكين لتوضح فكرته فقال إنه إذا إفترضنا إن للسكين روحا فإن عملية القطع هي الروح وعليه وحسب أرسطو فإن الغرض الرئيسي للكائن هو الروح وبذلك يمكن الاستنتاج إن أرسطو لم يعتبر الروح شيئا خالدا فمع تدمير السكين تنعدم عملية القطع. وبالفلسفات الأكثر حداثة حاول رينيه ديكارت (1596 - 1650) وفي خطوة مهمة إثبات إن الروح وتنظيم الاعتقاد بالروح تقع في منطقة محددة في الدماغ, اما إيمانويل كانط (1724 - 1804) وفي خطوة جريئة وعملية قال إن مصدر اندفاع الإنسان لفهم ماهية الروح هو في الأساس محاولة من العقل للوصول إلى نظرة شاملة لطريقة تفكير الإنسان أي بمعنى ان العقل الذي يحاول تفسير كل شيء على أساس عملي سوف يضطر إلى التساؤل عن الأشياء المجهولة الغير ملموسة وبذلك فتح كانط الباب على مصراعيه لرعيل من علماء النفس ليفسروا الروح على أساس نفسي, وكما نرى هناك تطور تصاعدي بالمعنى التحليلي لمفهوم الروح من كونها كيان منفصل ومستقل عن الكينونة الإنسانية إلى إنعكاس معنوي عنه يعود إلى أساس الحالة الإنسانية الكليّة. أما الرؤية الدينية الغير قابلة للتطور فالأمر يكون أكثر حتمية ورسوخا من حيث المعتقد والإيمان, فعند قدماء المصريين إن روح الإنسان كيان مستقل الصيرورة, شأنهم في تصورهم شأن سائر المفاهيم الدينية من حيث استقلال الطبيعة المعنوية للإنسان عن جسده, رغم اختلاف الرموز وتعدد الصفات المفعمة بالأبعاد الفنية والشاعرية والنفسية كتجسيد آب بقطرة في قلب الأم وذلك له الكثير من العمق والحقيقة النفسية للدور التي تقوم به الأم في التأثير بالواقع النفسي للإنسان قبل وبعد الولادة وكذلك الرمز المعنوي للرحم ذلك العالم الآمن والمستقل عن آلام الواقع ورمز الجنان البعيدة والسعيدة المنعتقة من مشاق وهموم الواقع.
وفي البوذية فإن كل شيء في حالة حركة مستمرة تتغير باستمرار وإن الاعتقاد بان هناك كينونة ثابتة أو خالدة على هيئة الروح هو عبارة عن وهم يودي بالإنسان إلى صراع داخلي اجتماعي وسياسي. واستنادا إلى البوذية فإن الكائنات تنقسم إلى خمس مفاهيم: الهيئة (الجسمانية)، والحواس، والإدراك، والضمير, والكارما (التي تعني الأفعال التي يقوم بها الكائن الحي والعواقب الأخلاقية الناتجة عنها) وهذه الأجزاء الخمسة يمكن اعتبارها مرادفة لمفهوم الروح وعليه فإن الإنسان هو مجرد اتحاد زمني طارئ لهذه المفاهيم، وهو معرض بالتالي للـ"لا-استمرارية" وعدم التواصل، ويبقى الإنسان يتحول مع كل لحظة جديدة رغم اعتقاده أنه لا يزال كما هو, وإنه من الخطأ التصور بوجود "أنا ذاتية"، وجعلها أساس جميع الموجودات التي تؤلف الكون, فالهدف الأسمى حسب البوذية هو التحرر التام عبر كَسر دورة الحياة والانبعاث، والتخلص من الآلام والمعاناة التي تحملها. وبما أن الكارما هي عواقب الأفعال التي يقوم بها الأشخاص فلا خلاص للكائن ما دامت الكارما موجودة, وعند وفاة الإنسان فإن الجسد ينفصل عن الحواس والإدراك والكارما والضمير, وإذا كانت هناك بقايا من عواقب أو صفات سيئة في هذه الأجزاء المنفصلة عن الجسد فإنها تبدأ رحلة للبحث عن جسد لتتمكن من الوصول إلى التحرر التام عبر كَسر دورة الحياة والانبعاث وحالة التيقظ التي تخمُد معها نيران العوامل التي تسبب الآلام (الشهوة والحقد والجهل) ويسمي البوذيون هذا الهدف النيرفانا.
وفي الهندوسية يمكن إعتبار ما يدعى بالجيفا تعبير مرادفا لمفهوم الروح وهي حسب المعتقد الهندوسي الكينونة الخالدة للكائنات الحية وهناك مصطلح هندوسي آخر ويدعى مايا ويمكن تعريفها كقيمة جسدية ومعنوية مؤقتة وليست خالدة ولها ارتباط وثيق بالحياة اليومية . ويبدو إن المايا شبيهة بمفهوم النفس في بعض الديانات الأخرى واستنادا على هذا فإن الجيفا ليست مرتبطة بالجسد أو أي قيمة ارضية ولكنها في نفس الوقت أساس الكينونة. وينشأ الجيفا من عدة تناسخات من المعادن إلى النباتات إلى مملكة الحيوانات ويكون الكارما (الأفعال التي يقوم بها الكائن الحي، والعواقب الأخلاقية الناتجة عنها) عاملا رئيسيا في تحديد الكائن اللاحق الذي ينتقل اليه الجيفا بعد فناء الكائن السابق وتكمن الطريقة الوحيدة للتخلص من دورة التناسخات هذه بالوصول لمرحلة موشكا والتي هي شبيهة نوعا ما بمرحلة النيرفانا (الانبعاث وحالة التيقظ التي تخمُد معها نيران العوامل التي تسبب الآلام مثل الشهوة، الحقد والجهل) في البوذية. وهناك مصطلح آخر في الهندوسية قريب من مفهوم الروح وهي أتمان ويمكن تعريفها بالجانب الخفي أو الميتافيزيقي في الإنسان, وتعتبره بعض المدارس الفكرية الهندوسية أساس الكينونة ويمكن اعتبار أتمان كجزء من البراهما (الخالق الأعظم) داخل كل إنسان. وأيضا هناك اختلاف وجدل عميق بين الهندوسيين انفسهم حول منشأ وغرض ومصير الروح, فعلى سبيل المثال يعتقد الموحدون (أدفايدا) من الهندوس إن الروح سيتحد في النهاية مع الخالق الأعظم بينما يعتبر الغير موحدون (دفايتا) من الهندوس بأن الروح لا صلة له على الإطلاق بالخالق الأعظم وإن الخالق لم يخلق الروح ولكن الروح تعتمد على وجود الخالق.
ومن الطبيعي جدا أن تتشابه البوذية مع الهندوسية فقد كانت في الأصل حركة رهبانية نشأت داخل التقاليد البراهمانية تحولت عن مسارها عندما قام بودا بإنكار المبادئ الأساسية في الفلسفة الهندوسية بالإضافة إلى رفضه وصاية السلطة الكهنوتية ومظاهر وطقوس عبادة الآلهات وكذلك نظام الطبقات الإجتماعية الهندوسية, وما يميزها أنها من الديانات النادرة إن لم تكن الوحيدة التي لا تعترف بوجود أنا ذاتية للروح بل أنها تؤمن بأن هذا الإعتقاد يودي بالإنسان إلى صراع مع ذاته والآخرين, وهذا يرمي بمعنى ما إلى وجود حالة واعية وغير أنانية تسيّر أقدار البشر, وهو ما أراه أكثر شفافية وعمق في التعبير عن الكيان الإنساني والجمالي لحالة الوجود كما أنها بعيدة كل البعد عن الترميز النفسي والفكري لحالة روحية مستقلة الكيان تمتلك صفات بشرية مطلقة, ما يؤدي إلى تملّك روحي وفكري يقيد المخيلة البشرية وإلى أنانية نفسية عميقة تنتمي إلى فئات معينة دونا عن الإنسانية جمعاء.
والديانات السماوية كانت بالطبع أكثر تشددا وحزما ووضوح كونها خرجت عن طورها كعلاقة تربط الإنسان بالسماء وارتبطت بالنظام السياسي والإجتماعي للشعوب ما أدى إلى تناحر بين الشعوب التي تدين بهذه الديانات, وأخذت طابع الثورات الإجتماعية أكثر منها كمعتقدات دينية وحسب إذا نظرنا إلى الموضوع من الناحية التاريخية والسياسية, وهذا على الرغم من تشابه الفكرة والنص من حيث المفهوم وأيضا إعتراف الواحدة بالأخرى وترابط المعنى والرموز.
فعند اليهود لايوجد في التوراة تعريف دقيق لكلمة الروح ويذكر سفر التكوين إن الخالق الأعظم خلق الإنسان من غبار الأرض ونفخ الخالق في أنف الإنسان ليصبح مخلوقا حيا. وبحسب بعض المفسرين اليهود فإن الروح تشكل ذلك الجزء من الإنسان المسؤول عن التفكير والرغبة والعاطفة واستنادا إلى كتاب كبالاه الذي يعتبر الكتاب المركزي في تفسير التوراة.
أما المسيحية فتعتبر الروح بمثابة الكينونة الخالدة للإنسان وإن الخالق الأعظم بعد وفاة الإنسان إما يكافئ أو يعاقب الروح, ويوجد في العهد الجديد من الكتاب المقدس وعلى لسان المسيح ذكر الروح وتشبيهه برداء رائع أروع من كل ما كان يملكه سليمان, وهناك إجماع في المسيحية إن الوصول للمعرفة الحقيقية عن ماهية الروح هو أمر مستحيل, واستنادا إلى المفكر المسيحي أورليس أوغسطينس (354 - 430) فإن الروح عبارة عن مادة خاصة وفريدة غرضها التحكم في الجسد, كما أن الجدل قائم في المسيحية حول منشأ الروح فالبعض يعتقد إنها موجودة قبل ولادة الإنسان وعند الولادة يقوم الخالق بإعطاء الروح إلى الجسد بينما يعتقد البعض الآخر إن روح الإنسان تنتقل كمزيج من روحي الوالدين, وإن آدم هو الشخص الوحيد الذي خلقت روحه مباشرة من الخالق, بينما ترى طائفة شهود يهوه إن الروح مطابقة لكلمة نفيش العبرية والتي حسب تصور الجماعة إنها مشتقة من التنفس وعليه فإن نفخ الخالق للروح في جسم اي كائن يجعل هذا الكائن كائنا متنفسا, وهناك البعض ممن يعتقد إن الروح تذهب إلى حالة من السبات لحين يوم الحساب.
والروح في الإسلام هي خلق من أعظم مخلوقات الله التي شرفها وكرمها غاية التشريف والتكريم فنسبها لذاته العلية, فكما ورد بالقرآن : ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) سورة الحجر
ومن جلالة وعظمة هذا التشريف لهذا المخلوق أن الله إختص بالعلم الكامل بالروح فلا يمكن لأي مخلوق كائن من كان أن يعلم كل العلم عن هذا المخلوق إلا ما أخبر به الله.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾ (سورة الإسراء) وعن حياة الروح في الجسد بنظرة شرعية في الإسلام. يعيش الإنسان في حياته هذه نوعان من الحياة 1- الحياة المحسوسة بنواميسها المعروفة فالحواس الخمسة هي التي تعطي الإنسان الاحساس بهذا العالم ونستطيع تسمية هذا العالم بعالم الملك, ويكون الإنسان في هذه الحياة محدد القدرات التي تكون وفقا لتركيبه المخلوق منه, وتكون الروح في هذه الحياة مأسورة الجسد يقول الله في القرآن: [نحن خلقناهم وشددنا أسرهم]. 2- حياة الملكوت وتعتمد هذه الحياة على اسس قواعد الاحساس الابتدائية المعروفة والمرتبطة بالحواس ولكنها لا تعتمد وسائل الطرق الموصلة إلى تلك القواعد الابتدائية المعروفة ولكنها تسلك مسلك الاعتماد على العادة المتبعة في سلوكيات الحواس المبرمجة داخل الدماغ البشري، ونستطيع القول بأن هذه الحياة هي أقرب ما يكون لعالم الملائكة بالمفهوم الإسلامي.
هذا بالنسبة إلى المنظور الديني بمختلف تصوراته ومراحله, ومهما اختلف في التفاصيل فإنه يتشابه بالمجمل والمضمون, وحتى في البوذية ذات التوجه المميز بالطرح والرمز فإنها أيضا تنطوي على آفاق ماورائية كونها إرتبطت برمز بوذا مؤسس هذه الديانة. وقد سعى العلم والطب بالواقع لإيجاد تفسيرات واقعية وفقاً لما هو ملاحظ في العالم الطبيعي, ويعرف هذا الموقف العقلي باسم الواقعية المنهجية. وإن الكثير من الدراسات العلمية المتعلقة بالروح قد شملت التحقيق في أمرها ككائن ذو معتقد إنساني، أو كمفهوم يشكل استعراف وفهم حقيقة العالم، بدلاً من كونها كائناً بحد ذاته. وعندما يستعرض علماء العصر الحديث عن الروح خارج هذا السياق الثقافي والنفسي، فإنهم يتعاملون مع "الروح" على أنها مرادف شعري لكلمة "العقل". وفي كتاب " الفرضية المذهلة" لفرنسيس كريك هناك عنوان فرعي هو "البحث العلمي عن الروح" أخذ المؤلف فيه على عاتقه أن المرء يمكنه تعلم كل شيء معروف عن الروح البشرية والعقل، ومن ثم قد يكون للعلوم العصبية صلة بفهم الإنسان لماهية الروح. وهذا يبدو أقرب للتفسير النفسي لمفهوم الذات ومراحل تشكل الأنانية الخاصة بها لأن هذا له علاقة كبيرة بآلية عمل النظام العصبي عند الإنسان.
كما أشرنا في كل ما سبق أنه في نهاية المطاف يبقى التعبير لكلمة روح هو استخدام ديني لوصف ماهية الطاقة في الأجسام الحية, ونرى أن الإنسان قد أسقط رموز الوعي والإدراك الذي يشعر به على الجماد والنبات والحيوان منذ البدء, وكساهُم بقوى الحياة التي يشعر بها, وكان يرمي بذلك بأن ينال الخلود باسقاط قوة الوعي التي تغمر كيانه على الأشياء من حوله على الرغم من يقينه بأنها لا تعي ما يعيه هو, فقد كان يدرك أن جسده فاني من خلال مشاهدته لموت الإنسان والنبات والحيوان من حوله ولا سبيل للبقاء سوى بخلود طاقته الإنسانية التي لا يراها تفنى كما الجسد, فكان يلقي بها كظلال واعية لفناء محتوم ألمّ بقدره. ومع تطور الظهور الديني من الرسومات الجدارية والأصنام والأوثان إلى مرحلة الآلهة المتعددة و مفهوم الإله الواحد كما رأينا تطور أيضا مفهوم الروح من طاقة مرتبطة بالكيان المادي والجسدي إلى قوة متحررة ومنفصلة عن الجسد بطبيعتها وكيانها وبالتالي انتقلت من مرحلة الاصنام المادية إلى مرحلة الأصنام الفكرية بوصفها كيان مستقل ومنفصل عن الجسد, وأصبح الإله ماهية روحية مطلقة ينفخ الروح في أجساد الكائنات الحية ويستعيدها بعد فنائهم, وبهذا ساهم التدين بتعزيز رؤية أن الروح كيان مستقل عن الجسد وخاصة أن صفة الإله أمست صفة روحية مفعمة بالرموز المطلقة لجميع القيم الإنسانية التي يقدسها البشر وتحمل نفس طبائعه النفسية من حب وكره ورحمة وغضب ومسامحة وانتقام وإلى كل ما هنالك من تناقضات وأهواء تختلج نفس أي شخص عادي مما جعل الصفات النفسية تنغمس مع صفات الطبيعة الروحية التي ظهرت في الأساس نتيجة للوعي والشعور بالإنتماء والإرتباط العميق بكليّة غامضة مجهولة الدوافع والإنجذاب. وبالواقع أن هذا ما يجعلنا نرى الفرق بين عالم النفس وعالم الروح بالمعنى المجازي والتحليلي لما هو سائد حول طبيعة هذين المفهومين دينيا وعلميا, فإن كليهما ينطوي تحت فهم حقيقة الآخر ومكملا للقيمة الكلية التي تنفي وجودهما ككيانات مستقلة وتثبت نوازعهما كوعي جمالي وانساني تجاه العالم, فعلم النفس يرى فكرة الروح عبارة عن طرح أوقيانوسي أو ماورائي لا يمت بالواقع للنظام النفسي والعصبي, ورأي مؤسس التحليل النفسي سيجموند فرويد بما يخص شعور الإنسان بالإنتماء للعالم, فقد أحاله للفترة المبكرة جدا من الطفولة قبل أن تتشكل وتكتمل أنانية الطفل, ويضيف أيضا أن معظم الطبائع والميول النفسية تكتمل في السنوات الأولى للطفل من خلال المراحل النفسية التي يمر بها, المرحلة الفموية والشرجية والقضيبية, وهذا بالواقع ما يجعل لواعج نفس الإنسان العميقة مرتبطة إرتباط كامل بجسده, بل بغريزته الجنسية التي تتفوق متعتها على كافة المتع النفسية الأخرى, وهذا يبدو غاية بالواقعية فجميعنا يعلم بأننا نسعى خلف أسهل سبل المتعة ونبتعد عن أدنى مسببات الألم وهذا ما فطرت عليه نفوسنا وغرائزنا, أما القيم الجمالية والمعنوية التي ندركها فلا نسقطها على الواقع بشكل مباشر وإنما تأتي من خلال التجربة بعد أن تتكون مبادئ أخلاقية مكتسبة من تجربة الحضارة والموروث الثقافي للشعوب, ويكون الإنجذاب البدئي للأشياء التي تحقق لنا الغاية المتعية المباشرة التي تتمثل بطبائع النفس وغرائز الجسد, وهذا يجعلنا نرى بوضوح أن النفس البشرية وليدة غرائز الجسد, وتتباين من شخص لآخر جراء الإحتمالات اللامنتهية من البيئة الإجتماعية والثقافية والجغرافية والأسرية والتربوية وإلى آخر المطاف من هذه التشعبات اللامنتهية. إذا إن مختلف الميول النفسية وليدة غرائز الجسد, وعند الحيوانات الأقرب إلينا في الطبيعة العضوية والغرائزية يبدو الأمر ذاته مع فارق وحيد وهام جدا وهو الذي يصنع كل الفروقات والتباينات ويحدو بالنفس البشرية أن تزخم بكل هذه المشاعر والأهواء المتضطربة والتناقضات جراء تفاعلها مع الجسد, إنه الوعي أو بصيغة أخرى هي الروح, أي الطبيعة المعنوية المندمجة مع النفس البشرية وتجعلها تعقل غرائز الجسد ولواعج النفس, ويمكنني أن ألخص هذه السطور بطريقة أخرى وبقولي إن النفس هي نتاج الجسد المادي وأحد أشكال طبائعه, أما الروح فهي سمة هذه النفس بالوعي وهي نتاج الطبيعة المعنوية للعالم والإنسان.
إذا الروح هي مجرد إصطلاح أوجده الإنسان ليعبّر عن وعيه وهي جزء لا يتجزأ من التكوين الإنساني في جسده ونفسه وبدون أي منهم لا وجود حقيقي للآخر, فالحيوان على سبيل المثال يمتلك الجسد والطبائع النفسية الغريزية المتعلقة به ولا يمتلك الروح بالمعنى الذي نطرحه وهذا يعني أن ليس للحيوان وجود مستقل يعي به ذاته, وبنفس المعنى لا وجود لروح تعي ذاتها بدون طبائع غريزية جسدية ونفسية..
وإذا طرح السؤال نفسه, لماذا خص هذا الوعي الإنسان وحده دونا عن باقي المخلوقات ومن أين أتى هذا الوعي؟ فقد ناقشنا فكرة الجمال المطلق الناتج عن الطبيعة المعنوية للوجود وإن الوعي هو الوجه المعنوي للوجود الذي يقابل هيئته المادية, وهذا لا يعني على الإطلاق أن باقي أشكال الخلق دونا عن الإنسان هي عبارة عن وجود عبثي, فطبيعة الوجود المعنوية تعني الإتساق والإنسجام والتكامل بطبيعة المادة نفسها كون الطبيعة المعنوية غير منفصلة عن المادية منها لكن هذه الكائنات المادية والعضوية لا تدرك وعيها, أي أن سلوكها غير واعي وهذا يسقط صفة الروح عنها بصفتها الفردية, والإنسان هو حالة واعية تكامل فيها وانسجم الموضوع المادي والمعنوي في آلية الوجود وهذا ما يميزه على هذا الكوكب ولا ندري حتى الآن عن وجود أشكال أخرى للحياة في أماكن أخرى تكاملت فيها أيضا سبل الحياة والوجود.
إن ما يهمنا قوله بهذا الطرح هو التنويه إلى خطورة الرمز النفسي لسطوة الروح التي تمثل في مخيلة الإنسان ككيان مستقل يحظى برموز مطلقة جراء الموروث الثقافي للحضارة, وهذا ما أعتقد أنه يؤثر بشكل سلبي على المخيلة الإنسانية, فعندما تأخذ الآلهة أو أي رمز آخر هذه السمة الروحية يتوجب على الإنسان أن يقدس هذا التجسيد الذي يتطلب منه الطاعة والعبادة والتقديس والترميز مقابل الخلاص الروحي عندما يفنى الجسد حسب الإعتبارات والفهم التاريخي للروح بكونها كيان مستقل, وهذا ما يجعل علاقة الإنسان بهذا الرمز الروحي تنضوي على أنانية عميقة وبالتالي تُنتج تعصبا روحيا شديدا, وكلما كثرت وتعددت هذه التجسيدات كلما انقسمت الفئات الروحية وتمزقت العقائد مما يفقد هذه التجسيدات الروحية حقيقة وغاية وجودها الأخلاقي والإتساني والجمالي في نفس الإنسان, وهذا ما شهده التاريخ البشري بعد أن تحولت فكرة الروح لسلعة ذات طابع مصلحي يتم تبادل الثواب والعقاب فيها, مما يترك رواسب أنانية عميقة للمُقدِس والمقدَس بالمعنى الديني وذات طابع تنظيمي وفئوي تتناحر وتتخاصم به الشعوب بالمعنى الثقافي والمادي, وبكلا الحالتين تخرج الروح من صفتها الجمالية والمعنوية الواعية حتى ولو لم نفلسف ماهيتها وتأخذ شكل كيان منفصل ومستقل عن الطبيعة الإنسانية له رمزه القدسي بالمعنى التسلطي للعبارة يعكس طبيعته على حياة الإنسان.
ولطالما كانت هذه السيرة التاريخية لكينونة الروح في ثوبها الديني وتشخيصها الإلهي حالة ونتيجة طبيعية لصيرورة التاريخ البشري وجدلية صراعه على مختلف المستويات, فلا يمكن على الإطلاق رفضها أو التشكيك بجدواها الروحية, فما يكون واقعا في التاريخ لا بد أن يكون إنعكاس لظروف وحاجة حقيقية لوجوده, ولكن في نفس الوقت لا نستطيع تجاهل تطور الفكرة ذاتها عبر مراحل التاريخ وتجدد العلوم والنظريات القادرة على منح تصورات جديدة, كما أن تجربة الحضارة أنتجت سلوكيات متفاوتة وحتى أنظمة أيضا غيرت من شخصية الرمز الروحي في ذهن ونفس الإنسان وغيرت أيضا هذه السلوكيات من نظرته لطاقته الروحية ومفهوم حياته, فأخذ طابع التقييم الشخصي والمعنوي لتجربته بشكل مستقل عن الطبيعة الدينية لوجوده وإنتمائه. وكثيرة هي الدول الغير متدينة التي لا تقيم إعتبارا للانتماء الروحي في هيكلة الدولة. فالذي نصفه بأنه سلبي التأثير كرمز مطلق يقلل من إنسانية الإنسان ويقيد مخيلته ويعكس حالة عميقة من الأنانية في طبيعة تبادل العلاقة الروحية لا يمكن إلغاؤه على الإطلاق أو حتى إنتقاده والتقليل من شأنه نظرا لواقعه التاريخي وتجذره في طبائع الإنسان, والطريقة الوحيدة لتخفيض أثره هي الحرية الدينية وحرية المعتقدات في نظام الدول نفسها والتحرر من أي قيود تخضع في أساسها للفئوية الدينية, وستكون هذه الطريقة مشابهة لما قامت به الحضارة في تجربتها لتخفيض سطوة الرمز الجنسي, وكان ذلك بإرساء قوانين في نظام الدولة تحمي الحرية الجنسية وتعاقب أشكال وسلوكيات قمعها بما يتماشى مع القيم الأخلاقية الطبيعية والصحية وفق المنظور العلمي لنظام الإنسان النفسي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشدد مع الصين وتهاون مع إيران.. تساؤلات بشأن جدوى العقوبات ا


.. جرحى في قصف إسرائيلي استهدف مبنى من عدة طوابق في شارع الجلاء




.. شاهد| اشتعال النيران في عربات قطار أونتاريو بكندا


.. استشهاد طفل فلسطيني جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي مسجد الصديق




.. بقيمة 95 مليار دولار.. الكونغرس يقر تشريعا بتقديم مساعدات عس