الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحركة الصدرية- غنيمة الزمن العابر وتضحية الانتقام التاريخي

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2018 / 7 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


للتاريخ مآسيه وعبره. ومهما حاولنا الإشادة بها وتقديمها حسب قواعد ما "ينبغي القيام به"، فإنها لن تجدي نفعا ما لم يجر تجريبها بوصفها عنصرا أو طبقة من عناصر أو طبقات التراكم الضروري في منظومة القيم السياسية والاجتماعية للدولة والأمة. وهي الحالة التي يمكن اعتبار الصدر والحركة الصدرية احد نماذجها الحية.
فقد نشأت هذه الحركة الكبرى من صلب الواقع العراقي وزمن الانحطاط الشامل فيه. من هنا احتواءها على كل متناقضات الوجود التاريخي للعراق المعاصر. لكنها تناقضات تحتوي في أعماقها بالضرورة أيضا على صعود الحالة المتصادمة لنفسية وذهنية "الداخل" و"الخارج"، بوصفها الحالة الوجودية والمعنوية والأيديولوجية لتيارات مصطنعة لكنها فعلية بسبب سيادة الزمن التوتاليتاري والدكتاتوري. فقد صنع هذا الزمن مقدمات التجزئة والانحطاط، بحيث جعل من سيادة الأطراف والهامشية والأقلية في تاريخ العراق الحديث والمعاصر أمرا ممكنا. مع ما ترتب عليه من إضعاف وإنهاك لفكرة المركز الثقافي والمركزية الدولتية، وبالتالي صعود الغرائز وأولوية الجسد والعائلة والقبيلة والجهة، أي كل أشكال البنية التقليدية، ومختلف أشكال الصراع الهمجي.
ولعل "أعلى" النماذج "المتسامية" لهذه الظاهرة يقوم في بروز صراع وتناقض "الداخل" و"الخارج" في الفكرة الوطنية. لكنه صراع واقعي وفعلي، وذلك بسب طبيعة الانقطاع في الفكرة الوطنية وتهشم الفكرة العامة في ظل الإحكام المطبق للدكتاتورية وقمعها الشامل. فقد كان اللاضم الفعلي للكلّ هي قوى القهر والإجبار. لكنها قوى لا تصنع في الواقع غير آلية التجزئة. وحالما تستحكم في بنية السلطة، فإنها تتحول إلى "سياسة" تشمل كل شيء. أما النتيجة فهي الغربة والاغتراب في الوجود والموجود، التي واجهها العراق بعد سقوط السلطة الصدامية، عارية كما هي.
فقد كان إسقاط السلطة الصدامية بالنسبة للولايات المتحدة جزء من إستراتيجيتها الخاصة ومصالحها الكونية. من هنا استحالة تناسق العملية الاجتماعية والسياسية لإعادة بناء الدولة والأمة مع الخطة الأمريكية المتقلبة من البحث عن "أسلحة الدمار الشامل" إلى "الإطاحة بالدكتاتورية" إلى "بناء الديمقراطية" و"نموذج الدولة العصرية في الشرق الأوسط". وهو سبب ظهور وتوسع وتراكم مختلف نماذج الصراع غير العقلاني.
فقوى الداخل هي كمية من الاغتراب الاجتماعي الهائل، بينما قوى الخارج هي نوعية الاغتراب الشامل. من هنا استحالة الاتفاق والوفاق والائتلاف والتآخي والاتحاد وما شابه ذلك من صيغ هي الوجه الدعائي للتعويض عن فقدان الاتفاق والوفاق والائتلاف والتآخي الاتحاد. ولم يكن بإمكان هذه الحالة أن تنتج بعد سقوط الدكتاتورية المفاجئ غير مختلف نماذج الهياج اللاعقلاني. وبدأ ذلك بنهب وسرقة وحرق كل ما كان يواجه أو يعترض الجسد الفردي والجماعي، ومطاردة كل ما كان يثير في الغريزة شهوة الاندفاع حتى النهاية.
من هنا تحول اندفاع قوى "الخارج" صوب مراكز القوة والسلطة والمال ومن ثم تصنيع نفسية الغنيمة، بينما كان اندفاع قوى "الداخل" يعادل صيرورة التكون والنشوء والنمو العاصف. وهي عملية كانت تعي نفسها وتتحسسها على أنها مواجهة وتحد واستمرار لقيم التضحية، مع ما يرافقها بالضرورة من شعور "متسام" للانتقام والثأر. وشأن كل تناقض واختلاف من هذا القبيل له مقدماته المشوهة في تاريخ العراق الحديث والمعاصر، الذي أعطى له الاحتلال الأمريكي طابع الهجوم الكاسح.
لقد تحول رجوع قوى الخارج المعارضة إلى رجوع قوة مغتربة وكاسحة من اجل السلطة، بينما كان صعود قوى الداخل أشبه ما يكون ببركان هائج. من هنا سرعة الاتهام الواضحة والجلية لمعارضة "الخارج" تجاه قوى "الداخل". لقد وجدت قوى "الخارج" نفسها بمكان العائلة الصدامية وقصورها وثرواتها وسطوتها. من هنا احتقارها للقوى التي نشأت من رحم الحياة العراقية. وهي الصيغة الجلية في نمط ونوعية الازدراء السياسي والتفسير المتسرع والاحتقار المبتذل للصدر والحركة الصدرية وغيرها من حركات العراق الفعلي.
لقد كان تناقض قوى "الداخل" و"الخارج" هو تناقض بين نفسية الغنيمة وذهنية التضحية. فالغنيمة هي الصفة الملازمة لهجوم الأقلية المحكومة بنفسية وذهنية السرقة، بينما التضحية هي التزام الأغلبية تجاه نفسها بمعايير المستقبل. ومن الممكن تأمل ورؤية هذه العملية الطبيعية التاريخية في كل التحولات العاصفة للدول. إضافة لذلك أنها العملية الوحيدة القادرة، في حال نشوء النخبة المواكبة لها، على إرساء أسس الرجوع إلى مكونات الدولة والأمة، وفي الحالة المعنية إلى مكونات العراق الجوهرية، وبالتالي تحديث منظومة التراكم الثقافي ومرجعياتها المتسامية والعملية المتعلقة ببناء الهوية. وشأن كل عملية معقدة ومتناقضة لا يمكن حلها إلا بصعود فكرة الأغلبية. وفي ظروف العراق الحالية والمستقبلية القريبة لم يكن بإمكانها أن تظهر بصورة غير صورة الأغلبية الشيعية. من هنا يمكن فهم سرّ الصعود السريع والمفاجئ والعنيف للحركة الصدرية.
لقد كانت الحركة الصدرية، حركة الأغلبية المهمشة، وقوى الداخل العراقي. فقد بدت هذه الحالة غريبة ومفاجئة ومشوهة بالنسبة لأعين القوى السياسية التي تعودت على التعامل مع العراق وواقعه في "جلساتها" و"مؤتمراتها" في القصور والفنادق المدفوعة الأجر من جانب الدول الأجنبية وأجهزتها الأمنية واستخباراتها العسكرية. إذ لم يكن بإمكانها توقع "منافسة" اجتماعية سياسية، لأن السياسة بالنسبة لها هو تحزب لا علاقة له بالمجتمع، وأنها عين المؤامرة والمغامرة. وليس مصادفة أن تتحول شخصية الصدر والحركة الصدرية إلى ميدان كل التجارب الممكنة والمحتملة للصراع العقلاني واللاعقلاني. وتكمن أسباب هذه الظاهرة في كون الحركة الصدرية هي تيار الداخل، وتيار المواجهة للمحتل، وتيار التضحية الوجدانية والاجتماعية، وتيار الانتقام التاريخي، ولغز المستقبل. كما أنها مكونات متراكمة ونامية ضمن سياق الصراع السياسي العنيف الذي ميز مرحلة سقوط الدكتاتورية وظهور مختلف الاحتمالات والإمكانيات القائمة في صلب الاحتراب العراقي الدفين.
فقد أثارت الأبعاد الذاتية للحركة الصدرية بوصفها تيار الداخل العراقي، ردود الفعل الظاهرة والمستترة التي حاولت كل بمقدار ما فيها من "نقص عراقي" تبرير بقاياه المقلقة للعقل والضمير والوجود. فالأغلبية تتفق وتتوافق وتتآلف وتتحد وتتآخى على عدائها المبطن والعلني للحركة الصدرية. والجميع تحس بحكم الغريزة والجسد والتجربة والمصدر الداعم لديمومتها بالجذور العراقية الأصيلة للحركة الصدرية. من هنا استغرابهم من ظهور شخصية مقتدى الصدر والحركة الصدرية المفاجئ، وتحولهما إلى قوة عارمة ورمز من رموز التيار العراقي العام، بحيث أصابت بالحيرة اغلبهم. من هنا عدم رؤيتهم فيها شيئا غير كونها "حركة تخريبية" وقوة معرقلة "للديمقراطية"، أي أنهم لا يريدون "منافسا" و"معارضا"!! لكن إذا كانت الأدوار والقدرة لا تناط بالرغبة، فان الصدر والحركة الصدرية أخذت تمد جذورها وتمتد في أصقاع العراق، وتمتص رحيق وجودها من وجوده المهمش والخرب. وهي حالة متناقضة ومشوهة لحد ما، لكنها جلية جلاء الحركة وأتباعها.
فقد استغربت قوى "الخارج" إمكانية نشوء حركة "بين ليلة وضحاها"، وبروز مقتدى الصدر ذو الثلاثين عاما بإمكانياته "العلمية المحدودة"، على خلفية "كوكبة من السياسيين العراقيين المعروفين بتاريخهم النضالي". وهي عبارة تحتوي فيما يبدو على استمرار مبطن يطابق بين "التاريخ النضالي" والمعرفة! ولكي لا تكون هذه العبارة محل استهزاء وسخرية من هنا عادة ما يجري إلصاق الجهل بالصدر من اجل إبراز "العلم" المبطن لشخصيات لا تتعدى حقيقتها في أفضل الأحوال وصف "أنصاف المتعلمين".
وبما أن السياسي في العراق لا يتفاخر بالعلم والمعرفة بسبب قدرتهما على إثارة الشكوك، من هنا يقين "تيار الخارج" بان سرّ الصعود الفعلي للصدر والحركة الصدرية ينبغي البحث عنه في "الخارج". والمثير في هذا "الدليل" هو اشتراك القوى المناوئة جميعا على اعتبار إيران هي المصدر! بعبارة أخرى لقد وجدت قوى الخارج في إيران مصدر العصا السحرية التي جعلت حركة من كان لا شيء كل شيء! وتعكس هذه النتيجة تاريخ "تيار الخارج" الذي تعود على استمداد قوته من الخارج!
فقد ارتبطت هذه القوى من الناحية التاريخية والسياسية بقوى خارجية عديدة، اغلب الأحزاب الشيعية بإيران، والشيوعيون بالاتحاد السوفيتي أولا و"بالامبريالية" الأمريكية لاحقا! أما الحركات الكردية فقد كان حبلها السري وما يزال مرتبطا بجذور ضعفها الذاتي والاستعداد السافر للارتماء بأحضان القوى الخارجية. من هنا تنوع سجلها الكبير، من الاتحاد السوفيتي إلى إيران، ومنهما إلى تركيا وسوريا، ومن وراءهما جميعا إلى إسرائيل والموساد، وأخيرا إلى ارتماء عبودي مطلق تحت أقدام الولايات المتحدة. ليس هذا فحسب، بل أن جميع هذه القوى جاءت إلى سدة الحكم بفعل الغزو الأمريكي وعلى حرابه ودباباته وتحت غطاء نيرانه "الصديقة"! من هنا غرابة الاتهام "الديمقراطي" و"الليبرالي" للحركة الصدرية بارتباطه بإيران! ولنفترض أن الأمر له نصيب من الصحة، فلماذا يصبح الارتباط بالخارج معقولا ومقبولا لهم وغير معقول ومرذول لغيرهم!! لكنها مفارقة تضمحل بسهولة بسبب ما يمكن دعوته بمنطق الخروج على التاريخ والحقيقة والحق، أي منطق "أهل الخارج".
فقد كانت وما تزال "قوى الخارج" مدعومة وممولة بقوة السلاح والمال الأمريكي، الذي تبدو "المساعدات الإيرانية" أمامه شيئا زهيدا وتافها. لكن الاتجاه العام لضعف قوة "الخارج" وازدياد قوة "الداخل" هو النتاج الطبيعي لتناقض ما أسميته بنفسية الغنيمة المحكومة بالزمن العابر، وذهنية التضحية والانتقام التاريخي. ويستمد هذا الاختلاف والتباين والتناقض مقوماته من تاريخ العراق الحديث وطبيعة الخلل الفعلي في بنية الدولة والنظام السياسي ووعيه الاجتماعي والثقافي. وقد جعل هذا الخلل من الممكن تجاهل أو انعدام القدرة على رؤية مصادر الإبداع الفعلي للواقع العراقي، وليكن في بعض مظاهره مناف للعقل والعقلانية.
إن "قوى الخارج"، أي قوى الغنيمة العابرة تعجز عن رؤية إمكانية العراق الذاتية. من هنا شكوكها بما فيه، ويقينها بعقمه الذاتي! كما لو أن الوليد "الشرعي" الممكن و"الوحيد" هو أما دكتاتورية الأطراف الهامشية أو "نيازك" "المناضلين" المتساقطة في ظلماء الزمن الخرب للعراق! وما عداها "نغل" الدعم الإيراني!! أنها رؤية القلوب الخربة والعقول المرعوبة والأنفس السيئة! لقد تعودت على "مساعدة" الخارج، من هنا عجزها عن رؤية البدائل الممكنة من داخل العراق، كما لو أن تاريخه الحقيقي هو تاريخ "الخارج".
لقد نشأت الحركة الصدرية وظهرت من تحت ركام مدن العراق المهمشة والخربة والأرياف التالفة، وعقود الزمن الدكتاتوري، والعنف الاجتماعي، والعوز الاقتصادي، والحروب الداخلية والخارجية، والحصار، والظلم والضيم والشقاء والبؤس المادي المعنوي. فهي المصادر الفعلية، أو العصا السحرية لصعود التيار الصدري. وفيها أيضا يكمن سرّ كونه تيار المواجهة للمحتل. وهي المواجهة التي تحسستها قوى الاحتلال فيما يسمى بمقتل عبد المجيد الخوئي، التي بلغت ذروتها المكشوفة بعد عام من الاحتلال، في مجرى معركة النجف الكبرى في أواسط شهر مايس عام 2004. وفيها ومن خلالها تكشفت طبيعة وحجم الخلاف "المستقبلي" بين الحركة الصدرية والاحتلال الأمريكي.
وليس مصادفة أن تتراكم الصورة "البشعة" للصدر في المخيال السياسي الأمريكي، الذي وجد انعكاسه النموذجي في مانشيت أسبوعية نيوزويك الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ 5 ديسمبر 2006 التي رسمت على غلافها صورة لمقتدى الصدر تجعله اقرب إلى الخيال الشعبي المشبع بنماذج الكليشات الأمريكية المسطحة عن القتلة والمجرمين. ولم يكن عنوانها "أخطر رجل في العراق"، سوى المظهر النموذجي لرؤية "الخطر" الكامن والقادم بالنسبة للمشاريع الأمريكية في العراق. وقد حددت هذه الرؤية في اغلب جوانبها الدعاية الأمريكية والمواقف العملية من الحركة الصدرية من حيث كونها إحدى القوى العراقية الكبرى المعادية والمواجهة للاحتلال. وليس مصادفة أن تجري المطابقة بين "فرق الموت" و"جيش المهدي". رغم الخلاف الجوهري بين الاثنين. ففرق الموت هي لعبة أمريكية، بينما "جيش المهدي" فكرة عراقية. من هنا سخافة الفكرة الأمريكية التي ترسم ملامح "جيش المهدي" بمعايير العصابات والمافيا من خلال مطابقة مهمته مع نماذج الابتزاز المميز لعمل المافيات الصغيرة، مثل جباية الأموال مقابل توفير الحماية الشخصية للمواطنين (مثل أن يدفع أحد الأشخاص 13 دولارا في الشهر مقابل حمايته!! إضافة إلى استيلائه على محطات الوقود واسطوانات الغاز والخمس التي تجمع في المساجد!) وتتسم هذه الصورة بقدر كبير من السذاجة المدبجة للقارئ الأمريكي. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن "شركات الحماية" الأمريكية (شركات المرتزقة ومحترفي القتل) تدفع وتستلم المليارات مقابل الابتزاز الدائم للدولة والسلطة والمجتمع والمستقبل العراقي!
غير أن الدعاية الأمريكية المحكومة بالسياسة العملية الهادفة إلى إضعاف الجميع عادة ما تبرز بعض الجوانب اللاعقلانية المتأججة في مجرى الصراع الدموي واستعماله عند الحاجة تجاه هذا الطرف أو ذاك. وقد كانت الحصة الأكبر من هذا النمط الدعائي السياسي موجه ضد الصدر والحركة الصدرية. بحيث جرى تحويل الصدر من ممثل التيار الوطني العربي العراقي العام إلى ممثل "التطرف الشيعي الطائفي" في مواجهته "للسّنة". رغم أن ردود فعل التيار الصدري كانت في اغلبها محاولة لتحجيم التيار التكفيري والأصولي المتطرف والإرهابي المسلط على رقاب العزل والمواطنين العاديين. وقد خاض هذه الحرب على جوانب المجرى العام للفكرة الصدرية التي تضع أولوية العداء للاحتلال، وجوهرية القرار الوطني العراقي المستقل. وليس مصادفة فيما يبدو أن يشترك التيار الأصولي التكفيري الإرهابي ومختلف نماذج الطائفية السياسية "السنّية" في التقييم العام والخاص للحركة الصدرية مع المواقف الأمريكية وتقييمها. والسرّ يكمن في أن الحركة الصدرية كانت من حيث شروط ظهورها التاريخي والسياسي تمثيلا نموذجيا لما أسميته بتيار الانتقام التاريخي، أي تيار الانتقام والثأر التاريخي من الطائفية السياسية للدكتاتورية الصدامية وزمن الإجحاف التاريخي لفكرة الدولة والأمة والمواطنة، أي كل ما وجد انعكاسه في ظهور وتبلور نفسية وذهنية الأقلية الحاكمة والمتسلطة والأغلبية المحكومة والمقهورة. ومن ثم لم يكن تقييم وممارسات الطائفية السياسية السنية بمختلف نماذجها العلنية والمستترة سوى الصيغة الأيديولوجية لفقدان السلطة والسطوة. من هنا أولوية وجوهرية عدائها للحركة الصدرية. فالعداء للاحتلال الأمريكي هو مجرد شكل من أشكال المراوغة والمزايدة العلنية. لكنها مزايدة بدون رصيد وطني واجتماعي فعلي. من هنا طابعها الدموي التخريبي والمعادي للفكرة الوطنية والعربية الجامعة.
فالتقييم والصور التي تتفنن بها الطائفية السياسية "السنيّة" في موقفها من الصدر والحركة الصدرية عادة ما تعدو حذو النعل بالنعل لما ترسمه الدعاية الأمريكية مع تلوين فاقع! ولكن من خلال إبراز ما تدعوه بالدور الإيراني. وهو "دور" عادة ما يتخذ صيغة الهوس الأيديولوجي، بحيث جرى تركيب مختلف السيناريوهات الهادفة إلى شيء واحد - الاتهام والشتيمة! بل جرى رفع إيران والدور الإيراني إلى مصاف القوة العملاقة الوحيدة القادرة على إدارة شئون الحرب والسلم في العراق!
بعبارة أخرى لقد حولوا إيران إلى شيطان العبث الشامل في العراق، بحيث تبدو الولايات المتحدة مقارنة بها ملاكا صغيرا. أما الدول العربية، فإنها مجرد أقزام عليلة أو هباء منثور! وهي صورة شنيعة لا مخرج لكمالها بغير البحث عن الأصول الإيرانية لمقتدى الصدر! وقد كانت تلك صيغة اقرب ما تكون إلى المواقف العنصرية المعجونة بطائفية سياسية تتعارض من حيث الجوهر مع فكرة العراقية والقومية العربية الثقافية. ومن ثم لا تعني هذه المواقف والتقييمات سوى الصيغة الظاهرية لطبيعة وحجم الانحطاط الشامل في الفكرة "السنيّة" الطائفية، بوصفها استعادة متخلفة للأموية القديمة.
أما من الناحية السياسية، فان تضخيم الدور الإيراني ما هو في الواقع سوى الوجه الآخر لفقدان السلطة الطائفية. فالعدو الجوهري من وراء هذه الاتهامات والمواقف الأيديولوجية هو شيعة العراق، أي القوى التي "صادرت" سلطة الطائفية السياسية "السنّية". وبالتالي لا تعني فكرة القضاء على "الصفوية" في العراق سوى استعادة السلطة المفقودة. بمعنى أن محركها لا علاقة له بالوطنية والقومية والدين. على العكس أنها تقف في تعارض شامل مع هذه المكونات. الأمر الذي جعل من مواقفها تجاه الحركة الصدرية اقرب ما يكون إلى خليط غريب للنزعة العنصرية والطائفية. من هنا لم يكن بإمكانه صناعة شيئا غير مسخ الكراهية العمياء والانجرار وراءها، كما نراه في نوعية وكمية الأساليب الإرهابية التي جرى "ابتداعها" وتنفيذها ضد الأحياء والأموات أيضا!
إن تحول الحركة الصدرية إلى هدف التجريح والتشويه، والنقد والاتهام، والشتيمة والحقد، والابتزاز والمؤامرة، والمواجهة والصراع، والقتل والإبادة، يعكس ما أسميته بتمثلها لتيار التضحية الوجدانية والاجتماعية. ويستمد هذا التمثل مقوماته من واقع العراق وتاريخه العريق. بمعنى انه يتمثل بقدر واحد مأساة الحاضر وذكراها المنقوشة في أعمق أعماق الضمير والوجدان، أي كل ما كان يتراكم ويتهذب ويتشذب في الروح والجسد والتضحية والانتقام. وهي المكونات التي تمثلت تاريخ العراق وأقوامه، أي أجياله المتناسخة في كافة الميادين والمستويات.
وليس مصادفة أن تتصدر "بؤرة" التشيع التقليدي في "حوزتها العلمية" ومؤسساتها التابعة موجة المعارضة الخفية ضد الحركة الصدرية، عندما انطلقت من ألف باء "العلم" باتهامها الصدر بمختلف الأوصاف المبتذلة، وانتهاء بحبك مختلف المؤامرات الصغيرة والكبيرة ضده. وبدأت هذه المؤامرات بإصدار منشور يسعى لتحصين الإرث التقليدي للعائلات الدينية المتسيدة، باسم "أبناء النجف الشرفاء"!! يتناول تحديد حدّ وحقيقة "جيش المهدي" بوصفه تطاولا على إرثها المقدس! وقد ورد فيه العبارات التالية "يتألف (جيش المهدي) من عناصر مشبوهة لفوا رؤوسهم بخرق بيضاء وسوداء لإيهام الناس على أنهم رجال دين بينما هم في الواقع مجرد شياطين... الإمام المهدي لا يحتاج إلى أي جيش من اللصوص، النهابين، والمنحرفين تحت قيادة أعور الدجال".
لقد تحول "جيش المهدي"، أي شباب الأرياف والمدن المسحوقة إلى لصوص ونهابين ومنحرفين! أما قياداته الوسطى فمجرد "عناصر مشبوهة" لفت على رؤوسها خرق بيضاء وسوداء! بينما تحول قائدها إلى "دجال اعور"! وهي توصيفات وتشبيهات لها دلالتها السياسية والثقافية والاجتماعية. فقد كان يشق على المؤسسة التقليدية رؤية هؤلاء المهلهلين يتطفلون على "علومها" وموقعها وتأثيرها الروحي والسياسي والاجتماعي. فقد وجدت البنية التقليدية للمؤسسة الدينية الشيعية وعائلاتها في الجموع لصوصا، وفي قيادتها شياطين، وفي قائدها دجالا اعور! وهو عين التقوقع السياسي والاجتماعي والثقافي عمن تتهالك المؤسسات التقليدية لتقديم نفسها بوصفها ممثلهم الشرعي الحقيقي الوحيد! وتعكس هذه الظاهرة ما يمكن دعوته بالصيغة "الروحية" الملطفة والعادية لنفسية وذهنية الدكتاتورية المتغلغلة في كل مسام الوجود العراقي. من هنا تخوفها وهلعها من صعود "الغوغاء" وظهور "الدجال"، أي من القوة القادرة ليس فقط على مشاركتها زكاة الروح والجسد، وخمس الأعمال والنيات، بل واحتمال استبدالها بطور وجيل آخر. لاسيما وأن ملامح هذه الفكرة كانت تلوح في العبارة المقتضبة للحركة الصدرية التي وجدت في نفسها ممثلة "الحوزة الناطقة"، أي النفي العملي "للحوزة الصامتة".
لقد بدت الحركة الصدرية كما لو أنها عنقاء الثورة التي أخذت تنافس من خلال تمثلها وتمثيلها "للحوزة الناطقة" و"المهدي المنتظر" مختلف مؤسسات وأشخاص "المرجعية الدينية". إذ وجدت هذه المؤسسات والأشخاص في الحركة الصدرية منافسا شاملا لها هو عين "الدجال الأعور"! وليس مصادفة أن يبدأ الصراع بين الحركة الصدرية وتيار "المرجعيات" التقليدية بعد يوم من سقوط السلطة الصدامية وبروز شخصية عبد المجيد الخوئي وعلي السيستاني. فقد كان الأول "ليبرالي" الخارج الموالي للسيطرة الأمريكية، بينما كان الثاني سليل البنية التقليدية الهادئة وتقاليد التقية. من هنا ابتداء الصراع بمقتل عبد المجيد الخوئي، الذي جرى توجيه أصابع الاتهام فيه للحركة الصدرية. وسوف يقتل لاحقا الكثير بما في ذلك "شهيد المحراب". بعبارة أخرى، أنها ظاهرة لا علاقة للحركة الصدرية بها بقدر ما أنها كانت تشكل بعض مظاهر التضحية الحتمية "للانتقام التاريخي"، أي احد مظاهر البركان الاجتماعي الهائج. فعندما جرى قتل الخوئي في 10 نيسان 2003 ، فان الأعين "الفاحصة" للاتهام المبتذل توجهت صوب البحث عن "أسراره" في "الصراع حول قبر الإمام علي وسرقة محتوياته"! وقد لا يخلو هذا الواقع من صواب نسبي، لكنه لا علاقة له بحقيقة المجرى العام للاندفاع العارم للأغلبية من اجل تجسيد نفسها بأسرع وقت في ظل الفراغ الهائل الذي استتبع سقوط الدكتاتورية الصدامية. وهو فراغ ملأته قوى "الخارج" المندفعة شأن السيول وقت الأمطار العاصفة، بينما كانت حصاة السلطة السابقة تتدحرج حيث يأخذ بها المجرى، بين مسحوق ومكسور ومندثر ومرصوص في البناء الهش للجرف الأجوف! أما البسيطة العراقية، أي المعمورة بذكرى الحياة ومآسيها والخراب الشامل، فإنها ظلت تتعالى وهي تنظر إلى أخدود السلطة الجديد على جسدها المنهك. لكنها قادرة في نهاية المطاف على تحويله إلى جزء من تضاريسها. وهو الوصف البياني للحركة التاريخية الشائكة والمتعاركة من حيث آفاقها واحتمالاتها في ظروف الانتقال المعقدة للعراق من زمن التوتاليتارية والدكتاتورية إلى تاريخ الدولة الشرعية والمجتمع المدني.
وشأن كل انتقال من الخراب إلى العمران، لا يمكن لعمارته أن تكون نموذجية. على العكس! أن أنموذجه الضروري يكمن في إشراك الجميع بالحركة والبناء. فهي الحالة الوحيدة القادرة على تنشيط عضلاته الجسدية وخلاياه العقلية. وقد تجسّدت هذه الحالة بصورة نموذجية في صعود الحركة الصدرية وأمثالها في ظروف العراق الجديدة. وذلك لأنها كانت تتمثل بصورة تلقائية عملية التحول العاصف. وهو السبب الجوهري الذي أثار لغط الحديث وسفاهة الاتهام وابتذال التقييم حول "سرّ" و"لغز" الحركة الصدرية. لكنه لغز يمكن فهم أسراره في ظاهرة التقاء بقايا السلطة الصدامية ومعارضة الأمس المتربعة على سدة الحكم في العداء للحركة الصدرية، أو الاستهجان المشوه من جانب مختلف الحركات المناهضة للاحتلال والنظام السياسي الصنيع في ظروف العراق الحالية التي لا ترى في الحركة الصدرية شيئا غير أداة من أدوات السياسة الإيرانية في العراق، أو يدها الضاربة في معاركها الجانبية مع الولايات المتحدة.
ومن الممكن العثور على إحدى الصيغ النموذجية لهذا النوع من التحليل في المقالات والأبحاث التي حاولت وتحاول تحديد مواقفها وتقييمها للحركة الصدرية بمعايير الرؤية "الجيوسياسية" الإستراتيجية، أي تلك التي تحاول تحديد مضمون الحركة الصدرية بوصفها لعبة أو أداة بيد "المحافظين الإيرانيين" في صراعهم مع الولايات المتحدة. بينما تشطب هذه المقدمة مسبقا كل خصوصية الواقع العراقي وتاريخه السياسي والاجتماعي الحديث والمعاصر وخصوصية التوتاليتارية البعثية وتخريبها الشامل للعراق. وارتباط كل ذلك بطبيعة ومستوى وحجم الصراع الإقليمي والعالمي الذي خاضه العراق على امتداد تاريخه الحديث. إضافة إلى عدم أخذها بنظر الاعتبار خصوصية الحركات الإسلامية في العراق وكيفية تشكلها وطبيعة تراثها الروحي والعقائدي والاجتماعي. باختصار، أن الرؤية التي تجعل من صعود الحركة الصدرية وآفاقها جزء من احتراب "المحافظين الإيرانيين" مع الولايات المتحدة هي مجرد تبسيط فج وتسطيح مفتعل للأحداث بمصطلحات "الجيوسياسة". إن كل التناقضات المميزة للحركة الصدرية هي جزء من تناقض العراق وانحلال مرجعياته الوطنية والاجتماعية والثقافية والسياسية في مجرى سيطرة واستحكام التقاليد الراديكالية بشكل عام والدكتاتورية الصدامية بشكل خاص.
أما في الواقع، فأن "لغز" الحركة الصدرية هو جزء من "لغز" العراق الحالي، أي من كمية ونوعية التناقضات الهائلة والمتحركة فيه، التي تجعل من الصعب حدّ وتحديد ما يجري فيه بطريقة "منطقية" خالصة، بما في ذلك رصف أحكام التقييم الجازمة والدائمة والثابتة. وسوف تبقى هذه الظاهرة والحالة لفترة زمنية طويلة نسبيا. لكن مسارها العام يتوقف على طبيعة التحولات اللاحقة في بنية الدولة والسلطة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، وكذلك على طبيعة التحول المحتمل في الحركة الصدرية نفسها. فهي المعادلة المعلقة على آفاق المستقبل. بمعنى أن إمكانية تعليقها على كعبة البدائل يتوقف على كيفية كتابة وغناء أبياتها. وحالما تكتمل قصيدة الحركة الصدرية، حينذاك يمكن معرفة ما إذا كانت معلقة حقيقية أو مجرد كلام منظوم من قاموس اللغة، بلا وجدان ولا عرفان! أي بلا إبداع ذاتي!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة


.. قوات الاحتلال تعتقل شابا خلال اقتحامها مخيم شعفاط في القدس ا




.. تصاعد الاحتجاجات الطلابية بالجامعات الأمريكية ضد حرب إسرائيل


.. واشنطن تقر حزمة مساعدات عسكرية جديدة لإسرائيل وتحذر من عملية




.. قوات الاحتلال تقتحم بلدة شرقي نابلس وتحاصر أحياء في مدينة را