الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المفهوم القصدي وعلاقته بالمباني ح2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2018 / 7 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يلاحظ في هذه الواقعة أن مفروق وهو من كبار قومه،بمجرد أن سمع آية واحدة من سورة الأنعام،ميّز بينها وبين سائر الكلام،وليس ذلك بسبب اختلاف المفردات والألفاظ، وإنما بسبب تميّز الأسلوب القرآني في القصدية وسعة المحتوى الفكري مع ثبات عامل التوصيل وهي اللغة العربية المشتركة بين كتاب الله وبين ثقافة العرب السائدة ,فلم يكن التفريق بني أصلا على المباني اللغوية والهياكل الخارجية المعبرة عن الفكر ولكن بني التفريق أصلا على القصدية المحكمة التي تناولتها النصوص القرآنية التي يستهدفها الفكر بدليل قول القائل مفروق(دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك).
هنا تكمن المفارقة بين الدلالة والقصد فالدلالات اللغوية واحدة سواء أكانت على مستوى الفكر الرسالي أو عند الفهم المتعارف عليه ,ولكن القصدية المتأولة من الدلالات هي الفيصل بين الفكر الرسالي وبين الفهم الجمعي الإنساني فمن خلال المتابعة التفصيلية والمستمرة للطرق التي يعرض بها القرآن الكريم الأفكار والمعاني،يتضح أن له طرقاً خاصة يعتمدها غالباً في إيصال مراداته إلى المتلقي والمكلفين، وكلّما قويت أدراكات ومتحسسات المتلقي كلّما قويتْ خبرته في معرفة هذه الطرق،كما يمكن التعرّف عليها بشكل دقيق من خلال المراقبة المستمرة لتجارب أهل الخبرة وذوي الاختصاص في الشأن القرآني،أو من خلال التأمل في تفسيرات أهل البيت عليهم السلام للآيات، وبالتالي فاستنباط المعاني القرآنية بحقيقتها يتطلب معرفة دقيقة بهذه الطرق.. ويمكن لنا هنا الإشارة إلى بعضٍ منها على سبيل التمثيل فقط لا الاستغراق:
إختيار المفردات والصيغ المعبّرة عن دقائق المعاني.. فالسور القرآنية تحتمل معاني عظيمة ودقيقة جداً، وهذه المعاني تتراكم بين ثنايا الآيات وتنضغط فيها، ويمكن استخراجها وإبرازها من خلال التأمل في تراكيب الصيغ والمفردات الخاصة المستخدمة بل وحتى الحروف.. وللتطبيق سأختار هذه الآية من سورة الأنبياء: يقول تعالى{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}الأنبياء:87-88,إن هذه الآية تريد أن تؤكد لنا على معنى هام، وهو أن القوة الغيبية حاضرة وبصورة دائمة ودقيقة في حياة الإنسان،وقادرة على التأثير فيها، ولذلك ينبغي له أن يعوّل على هذه القوة فقط ويدع غيرها جانباً.. لكن لاحظ كيف تعبّر الآيات عنها، إن ذلك يتضح من خلال التأمل في طبيعة المفردات والصيغ المستخدمة بما فيها من قصدية مكنونة تفصح عن قيمة النص اللغوي وتعبر عن قيمة فكرية ذات خصيصة معينة تربط الحضور والأشهاد برابط وجودي يمثله الأيمان بالله ولا يعني قصة وحكمة تحكي معنى دنيويا كما في السرد القصصي البشري الروائي المحض وهدفيته المحدودة.
إن كل السرد السابق يشير إلى محورية القصد والهدف الغائي من خلال لتكوين البياني للغة وليس البناء اللغوي البياني هو المحور الذي تقوم عليه اللغة في قدرتها على الأداء الوظيفي والقصدي وخاصة لو علمنا أن الهدف الأصلي والغاية الأصلية من أختراع اللغة هو نقل الفكر من الحيز الذهني الضيق للمبدع إلى حولية واسعة مستهدفة له ومتقصدة بذلك بمقاصد محددة ومعلومة مسبقا, وليس هناك ما يدور في ذهن المجتمع في حالية الأختراع ومراحله أن تكون اللغة بحد ذاتها هدفا فعليا بالشكل المتطور والراقي الذي وصلت إليه من خلال التزويق الفظي والمحاسن البنائية مما يسمى أصطلاحا بالبلاغة.
فالبلاغة ومن خلال نفس التسمية تعني القدر الأمثل من القدرة على الأبلاغ عن مكنون الضمير الأنساني ومنه الفكر كأحد المكونات للضمير الذاتي جمعي أو فردي,فالقدرة البلاغية قدرة للفعل وليس المطلوب منها أن تكون قدرة جمالية شكلية وإن كان الجمال البلاغي وسيلة من وسائل توسيع القدرة على التبليغ ولكن ليست هدفا بذاته وإلا حرمنا الفكر من أن يكون ذا صله بالبلاغة وأرجعنا القيم الفكرية الجوهرية إلى درجة متأخرة وأستعضنا عنها بقيم شكلية جمالية بدون مقصدية فكرية فيتحول المنهج البلاغي والصورة البلاغية إلى عبث وسخرية وهذا ما لا يتوافق مع قيمية الفكر الرسالي والقصدية التي يستهدفها ويسعى لصنعها وجوديا.
إن هذا التأسيس المفهومي للغة المكتوبة يقودنا حتما لأن نعطي للمقصدية الفكرية الدور الأساسي لتبيان حقيقة الفكر وبالذات الفكر الرسالي المقدس ومتوافق مع خصيصاته وصفاته ولا ينسى ما للهيكلية اللغوية الخارجية من دور وظائفي فاعل في نقل القصدية من حيز التصور الذهني المحض إلى العالم الخارجي الملموس بالقدر الذي تستطيع هذه الهيكيلية من القيام به على النحو المراد أصلا فاللغة تتبع الفكر في منهجه ولا يتبع الفكر منهج اللغة,يقول السيد الخوئي كما ورد في مصدر سابق حقيقة هذه البديهية بقوله((أن القرآن نزل في زمان لم يكن فيه للقواعد العربية عين ولا أثر، وإنما اخذت هذه القواعد ـ بعد ذلك ـ من استقراء كلمات العرب البلغاء، وتتبع تراكيبها. والقرآن لو لم يكن وحيا إلهيا ـ كما يزعم الخصم ـ فلا ريب في أنه كلام عربي بليغ، فيكون أحد المصادر للقواعد العربية، ولا يكون القرآن أقل مرتبة من كلام البلغاء الاخرين المعاصرين لنبي الاسلام. ومعنى هذا: أن القاعدة العربية المستحدثة إذا خالفت القرآن كان هذا نقضا على تلك القاعدة، لا نقدا على ما استعمله القرآن.))(مصدر سابق ص84),هذا القول يقودنا إلى التأكيد على أسبقية الفكر في صناعة الحياة والكشف عن مساراتها المطلوبة وليس اللغة هي التي تكشف ذلك وإنما تحمله في أطارها الهيكلي الخارجي لتوصله إلى العقول المتدبرة لما تحصلت عليه من مكاسب فكرية تفتح أمامها الطريق الموصل للقصدية التي تصنع الحياة.
أذا العلاقة بين القصد الفكري الذي هو جوهر الوجود الفكري وبين المباني اللغوية علاقة تبدو لي علاقة وسائطية لا علاقة غائية فكل معنى وقصد يحتمله الفكر هو في الحقيقة أتصال بين عقل وعقل أخر بين باعث ومستجيب يحتاج في وجوده إلى الواسطة التي تربط الأول في الثاني,هذه الواسطة يجب عليها أن تكون متمكنة وقادرة وفاعلة في النقل بأمانة ودون تخريب أو تعظيم وإنما عليها أن تكون حيادية في النقل السليم من خلال قدرتها على الأستيعاب لما هو كائن وكاشفة للأخر بنفس القدرة والتمكين والحيادية الأولى.
فليس المقاس الأعجازي منصبا على البناء الهيكلي الخارجي للغة ولكن القوالب الفكرية بقصديتها وبحيثيتها المنصبة بالقالب اللغوي هو الأعجاز الذي تتكلم عنه الآيات الواردة في مواطن التحدي والتي منها قوله تعالى{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }الإسراء88,فالمثل المتحدي هو مثل ما أشتمل عليه القرأن من فكرية كاملة وليس قالب مستوعب خارجي شكلي,فالقرآن مثلا لم يأتي بجديد على ما في اللغة العربية من مكونات أساسية مثل الفعل والأسم والحرف ولم يكن له أساليب لغوية غير ما ألفه العرب شكلا كالجمل اللغوية والمبتدأ والخبر مثلا وغيرها من المباني والهياكل اللغوية ,ولكن حقيقة الأعجاز أنصب في المقاصد وأساليب تكوين المقاصد وطرق صرفها للناس وبهذا نجد مثلا ما قاله السيد الخوئي في تفسير الميزان من هذه الناحية قوله((لا شك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يخترع لنفسه طريقة خاصة لافهام مقاصده، وأنه كلم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم والتكلم وأنه أتى بالقرآن ليفهموا معانيه، وليتدبروا آياته فيأتمروا بأوامره، ويزدجروا بزواجره، وقد تكرر في الايات الكريمة ما يدل على ذلك، كقوله تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها 47: 24 ". وقوله تعالى: " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون 39: 27 ". وقوله تعالى: " وإنه لتنزيل رب العالمين 26: 192. نزل به الروح الامين: 193. على قلبك لتكون من المنذرين: 194. بلسان عربي مبين: 195 ". وقوله تعالى" هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين 3: 138 ". وقوله تعالى: " فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون 44: 58 ". وقوله تعالى: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكره 54: 17 ". وقوله تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا 4: 82 ". إلى غير ذلك من الايات الدالة على وجوب العمل بما في القرآن ولزوم الاخذ بما يفهم من ظواهره. ومما يدل على حجية ظواهر الكتاب وفهم العرب لمعانيه))(مصدر سابق ص264),ولو أن الفهم من دلائل الآيات لم تشر بالضرورة إلى الحكم بظواهر القرآن ولا توجد قرينة أو دليل تشير إلى ذلك بل أن الآيات المستشهد بهن يدعون إلى التدبر والتفكر دون الأخذ بالأحكام تسليما وهو ما يعرف بالحكم بحجية الظواهر وإلا ما قيمة التدبر التذكر أو التفكر إن لم تعني الفحص والأمتحان والتوصل إلى المعلوم له يقينا وهذه العملية الجهدية هي عين مفهوم العلم,فليس العلم مطابق للحكم بحجية ظواهر القرآن,والأخيرة عملية تسليم لما هو موجود دون الحاجة للأجتهاد العلمي والفكري للوصول للفهم التام الكامل للمقصدية الفكرية من خلال البناء الهيكلي اللغوي للنصوص الكتابية والقولية التي هي مظهر القرآن الخارجي كونه كلام الله الذي ليس كمثله شيئ{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً }الجن1,فالعجب ليس في اللغة ولكن العجب بما نقلته اللغة من مفردات وكليات فكرية تحير عقول المتلقين كون الكلام المسموع ليس من كلام البشر بدلالاته وقصدياته والديل هو الآية اللاحقة لآية التعجب التي تبين فحوى التعجب{ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدا}الجن 2,فقد صرح النص بمصدر التعجب كونه القصد فقط هو المحور بقوله يهدي إلى الرشد,ولم يشير النص مثلا إلى الفصاحة ولم يثني على البلاغة اللغوية ولكنه أشاد بالهدي الراشد وهو قصد الفكر ومقاصد الآيات.
إن الاخذ بظاهر اللفظ من التفسير بالرأي،وقد نهى عنه في روايات متواترة يدل على إن التفسير هو كشف القناع كما هو معروف، فلا يكون منه حمل اللفظ على ظاهره،لانه ليس بمستور حتى يكشف،ولو فرضنا أنه تفسير فليس تفسيرا بالرأي،لتشمله الروايات الناهية المتواترة،وإنما هو تفسير بما تفهمه العرف من اللفظ، فإن الذي يترجم خطبة من خطب نهج البلاغة ـ مثلا ـ بحسب ما يفهمه العرف من ألفاظها، وبحسب ما تدل القرائن المتصلة والمنفصلة، لا يعد عمله هذا من التفسير بالرأي،وقد أشار إلى ذلك الامام الصادق (عليه السلام) بقوله إنما هلك الناس في المتشابه لانهم لم يقفوا على معناه،ولم يعرفوا حقيقته،فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الاوصياء فيعرفونهم, فالمشار إليه هو الأعتماد في كشف علاقة القصد بالمبنى اللغوي هو وجوبية الحكم بما يفهم المتلقي أو بما يريد أن يفهم دون أن يلتف إلى حقيقة أختلاف المنهج بين الفكر الرسالي الذي لا يشاكله شئ ولا يشابه متعارف بشري وبين المنهج المعرفي الإنساني المحدود والمتحدد له سلفا وهذا هو سر النهي عن الكشف عن المعاني من خلال ظواهر المباني اللفظية.
بقيت مسألة مهمة يدور عليه الحكم بنوعية العلاقة بين القصدية الفكرية وبين البنائية اللغوية ألا وهي مسألة دلالة الكلمة والدلالة بالكلمة أي أسناد القصد لللغة أو بدلالة اللغة وهذا مبحث طويل ومحل جدال قديم يمتد إلى مراحل متقدمة من فترة الوعي بمفهوم الفكر الرسالي وخاصة بعد تطور أساليب البحث وشعب نواحية بالتأثيرات القادمة على من تصدى للمعرفة القرآنية بجميع أنواعها وأطاراتها البحثية ولعل محمد بن إدريس الشافعي يُعتبر واضع حجر الزاوية في علم الدلالة فقد عرّف البيان بأنه "اسم جامع لمعاني مجتمعة الأصول متشعبة الفروع"(الشافعي محمد بن إدريس: "الرسالة" تحقيق أحمد شاكر- ط عيسى الحلبي القاهرة 1358هـ ص:20.‏).‏
لقد كان الشافعي لغوياً وفقيهاً ورأى أنه لا يمكن استخلاص المضامين الشرعية من القرآن إلا بالرجوع إلى اللغة واستثمار النتائج التي وصلت إليها نظرية البيان العربي. "لذلك كان المنطلق عند علماء الأصول منطلقاً بيانياً يهتم بدراسة الألفاظ والتراكيب والسياقات من حيث دلالتها على معاني النص الديني التي تُمكنهم من استنباط الأحكام. وهكذا تأسست لديهم نظرية دلالية تعتمد علوم اللغة أساساً للبحث فلا يعتد باللفظ المفرد،وإنما يدرس ضمن منظومة اللغة التي تحدد شكل اللفظ ووظيفته داخل شبكة العلاقات التي تربطه مع النص"(عياد محمد الهادي: الخطاب العلمي في التراث: خصائصه الأسلوبية- أطروحة دكتوراه/ مخطوط/ ص:24).‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيول دبي.. هل يقف الاحتباس الحراري وراءها؟| المسائية


.. ماذا لو استهدفت إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية؟




.. إسرائيل- حماس: الدوحة تعيد تقييم وساطتها وتندد بإساءة واستغل


.. الاتحاد الأوروبي يعتزم توسيع العقوبات على إيران بما يشمل الم




.. حماس تعتزم إغلاق جناحها العسكري في حال أُقيمت دولة فلسطينية