الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأريخ وجغرافية _فصل من روايتي (الرجل الذي أكله النمل)

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2018 / 7 / 7
الادب والفن


تأريخ وجغرافية

أن يكلمني أبو ماهر المختص بالطبوغرافية وهي أحد فروع الجغرافية عن التأريخ فهو حديث الخبرة وليس حديث واقع العلم كل ما كتبه من تقرير مفصل صباح هذا اليوم عن رؤيته التأريخية لا تتعدى عندي افتراضات ساقتها التجربة لكنها تفتقد من كونها قرار علمي مدروس لذا فإن الوصف والتحليل لا يمكن أن يشكل لي دليل قطعي ولكن مهم أيضا ,عدا أن الرسومات كانت في غابة الدقة وتوافقا مع الوصف ويمكن الاعتماد عليها الليلة عندما نزور الموقع للمرة الأخيرة قبل سفري لبغداد لأعرض كل الحصيلة على الفريق بأجمعه, قد تأتي النتائج التأريخية مطابقة لوقائع الجغرافية.
ما زال الوقت مبكرا وأمامنا ساعات يمكن أن تكون مملة ونحن في هذه الدار المنعزلة لا نستطيع الخروج ولا التنزه خوفا من أن نلفت الأنظار لوجودنا المتكرر، قررت أن أفتح صفحات الماضي مع كاظم والسؤال عن الكثير من الثغرات التي بقيت دون توضيح مما رواه جدي لي عن أسطورة النمل الأحمر، قد يكون هو الأخر لديه رواية أخرى أو عنده سر مدفون فالرجل عبارة عن مخزن من الأسرار العميقة التي لا تنضب.
لا أشك مطلقا أن الرجل عنده أكثر مما أتوقع ولكنه ليس بالهين البسيط الذي يستدرج سريعا لتتمكن من قراءة أفكاره من أول مرة, كان الاعتقاد أن الإنسان الريفي وخاصة قليلي التعلم يمكنك أن تستخرج ما تريد منه بحذاقة بسيطة ,أتضح لي خطأ هذه النظرية فهم أيضا يملكون قدرة عالية من المناورة والتحايل على وسائل وتفكير المقابل , لا يمكنك أن تأخذ منه إلا بالقدر الذي يتفضل به ما لم يكن مضطرا أو تحت وقع شدة, كاظم رجل خبر الحياة جيدا وقد أبدو أمامه ند للند برغم فارق العلم والمعرفة ,عائلة النويدر أو الدويدي سابقا لو تهيأ لأفرادها حظا من العلم لا أشك أبدا أنها ستنتج عباقرة.
سألت كاظم عما يعرفه بالتمام عما سمعه من أبيه عن قصة جده كي أقارنها مع ما سمعت من جدي، سكت قليلا ثم طلب من ولده محمد أن يجدد لنا الشاي، هذه الميزة فيه أتنبأ معها أن هناك حديث طويل سوف يجري، الرجل يمكنني أن أقرأه مما اعتدت عليه ومع مسيرتي القصيرة معه ... صرت أعرف كيف يمكنني أن أستفز ذاكرته وكيف أستفزه كي أعرف منه ما أريد، أعتدل بجلسته مستندا على وسادتين من الصوف القديم وضعهما في حجرة بعد أن أشعل سيجارته وقال:
_كان أبي حينذاك يقوم بكل أعمال جدي في الحقل وفي الصيد بعد أن تعرض لما يسمونه الناس هنا (الشارة) , ظن البعض أن جدي ضربه الجن نتيجة انتهاكه لمحلهم المسكون ,وآخرون أرجعوا ذلك لأنه أكل مع الإنكريزي لحم خنزير, كان جدي يعرف الله تماما لم يفعل أي شيء من هذا أبدا , ولكنه كان محبا للناس كل الناس وعندما نزل الإنكريزي في المنطقة بادر إلى الذهاب إليه محملا بما تيسر له من مؤنه.
_ كان يحمل له الشاي والخبز واللبن برغم ندرته آنذاك والرز والسمنة البلدية والزبد، يفعل ذلك يوما ويحمل أيضا له الحطب كل شيء كان مجانا، فلم يكن مع الرجل شيء يستعين به للتدفئة غير الخيمة والملابس، لقد خدم جدي الرجل الغريب دون مقابل لأنه ضيف على المنطقة، بيت جدي القديم الذي تدور فيه الحكاية يبعد عن هذا المكان ببضع أمتار قليلة باتجاه الشرق.
_ وهل قبل الرجل الغريب أن يأخذ منه كل شيء بلا ثمن أم حاول أن يسدد ولكن ...
_ أخلص الخدمة له وكان أشبه بالمعاون الفني له كان يعملان ليلا ونهار سويا، مع شدة البرد كان جدي يوميا وعند صلاة الفجر ينزل الهور يصطاد السمك وينصب الفخاخ للطيور المهاجرة، كان عليه أن يعيل الرجل ويغيل عائلته معا، تعلم جدي الكثير من المفردات الإنكليزية حتى أن بعض الضيوف الذين أصطحبهم المستر كانوا يندهشون لسرعة تعلم جدي للغة برغم سنه المتقدمة.
_لا يمل جدي من الحركة والعمل قوي البنية ضخم الجسد طويلا يبدو أبو حسين أمامه كطفل صغير، عيبه الوحيد كان مصابا بمرض بول الدم (البلهارسيا)، كثيرا ما أنهكه هذا المرض حتى بدا الاصفرار واضحا على جسده، حاول المستر معالجته وكان يعطيه الأدوية التي جلبها معه لكن لا فائدة تذكر.
_ أذن كان الرجل مهيأ للجلوس والعمل لفترة طويلة.
_ مرض المستر والذي كان بعمر جدي أو أكبر قليلا في إحدى ليال الشتاء بعد أن أنهى تقريبا كل أعماله، أخبر جدي أنه سيسافر خلال أسبوع إلى البصرة ومن هناك يذهب لبلده وفي هذه الفترة كان يظن أنه سيتعافى، الرجل كتب كل شيء عن المكان ودخل مع جدي الى عمق المدينة، عرف ما فيها تماما ردد أمام جدي كثيرا من القصص والحكايات التي وردت في كتبهم عن هذه المدينة.
_ ألم يذكر أو تتذكر شيئا من تلك القصص التي سمعها جدك أو حفظتها عن المرحوم أبيك؟
_سأقص عليك كل ما عرفته كان الرجل يحلم بالمجد وقد وعد جدي بأنه عندما يعود إلى هنا في المرة القادمة ستتغير وجه وطبيعة المكان، قال له ستكون أنت سيد المنطقة وكبيرها الذي بيده مفاتيح كل شيء.
_ حالما وصاحب مشروع بعيد جدا.
_ لم يرضى جدي على قول الرجل مستغربا كيف يكون سيدا وهو لم يولد من سلالة السادة، قال المستر بل ستكون سيدا حقيقيا عندما تتحول هذه البقعة إلى منارة عالمية وموقعا تشد له الرحال، قال له جدي ليس لنا منارة هنا في جامع القرية، كانت المدينة في ذلك الوقت مجرد قرية صغيرة تتخللها المستنقعات لم يكن فيها بناء من الطابوق إلا السراي الحكومي.
_ لقد فهم جدك الموضوع بحدود ما يغرف.
_ قبل أن يصاب المستر بالإسهال الذي أستمر معه فترة طويلة تقارب العشرة أيام، كان هو وجدي قد نقلا أشياء كثيرة من داخل الأرض، لم يكن هناك مخزن محمي ولا أمكانية لنقلها خارج المكان، لما أحس المستر أن هذا الأمر شبه مستحيل أمر جدي بإرجاع كلما كان قد أخرجوه من المكان وأعادته إلى مكان محدد لحين التمكن من نقلها بعد أن يسافر ويعود.
_ إنها الخشية من التلف أو سرقتها أو لربما تأمينها لحين الوصول لأي مناسبة لحفظها ودراستها.
_ نقل جدي كل ما كان هناك حتى بعض الأشياء التي منحها المستر لجدي كهدية أعادها بعد أن رحل الرجل، قال جدي المكان في الداخل أشبه ما يكون بسراي الحكومة لكنه مظلم جدا ورطب جدا لكنه برغم الظلام يمكنك السير بدون أن تصطدم بشي يا له من منظر، دخلت في مرة من المرات من مكان غير الذي دخلنا منه رأيت ما يجعل العقل يخور فهربت وطمرنا المكان.
كانت هذه الجملة الأخيرة القنبلة التي فجرها كاظم في وجهي في هذه اللحظة، كم تملك من أسرار أيها الرجل العجوز الغامض لا يمكنني أن أفعلها أنا:
_ما زالت قنابلك تنفجر في وجهنا يا حاج كاظم.
_أقسم أني لم أكذب كانت ضمن شطحة من شطحات أبي وقد ضاقت بنا الحياة حاول أن يستخرج شيء يمكن بيعه.
_لا حاشاك من الكذب ولكن معلوماتك هذه وأسرارك كأنها قنابل تمطرنا بها بين الحين والحين.
_كل شيء في وقته جميل.
_ما ضرك لو أخبرتنا به قبل اليوم وأقلها ليلة الأمس ونحن في المكان.
_نعم أخبرت أبو ماهر وكنا متجهين إلى المحل الذي أتذكره وأنت الذي قطعت علينا المحاولة عندما جئتنا تركض.
_يا لك من رجل لا يمكنني أن أتنبأ بشيء مما ستفعله بعد دقيقة من الآن فعلا أنت رجل مدهش وذكي ما كذب من سماكم أل النويدر. أنتم سلالة من النوادر.
_أتمنى أن تكون هذه الليلة هي خاتمة ما تفرغنا به من مفاجآت لعلنا نطمئن أننا لسنا في أول الطريق وأننا في نهاية النفق الذي يوصلنا للحقيقة النهائية.
كان أبو ماهر مندهشا لهذا الحوار الذي حاولت أن أنفس به عن شيء من غضبي الكامن في داخلي وأنا أصارع عقل هذا الرجل من أجل إخراج معلومة واحدة أو الكشف عن سر ما.
بدأت الحقيقة الآن كاملة كأنني قد أكون المغفل الذي يتلاعب به كاظم وأمام بصر وسمع أصدقائي ذوي العلم والمعرفة وكأننا تلاميذ في الصف الأول الابتدائي أمامه أو أنه يظن في أمرنا هكذا، طلبت منه الاستمرار بسرد قصة المستر مع الجد لعلنا نكتشف سر اللعنة التي حلت بهما الاثنين.
_ حاول جدي نقل المستر إلى المدينة للعلاج ولكن أصر على الامتناع وكتب في ورقة بعض الأدوية، ذهب جدي رغم مرضه هو الأخر إلى المدينة لم يجد الدواء عند الطبيب الوحيد الذي يزور المدينة بين يوم ويوم، مما أضطر معه أن يذهب للقضاء كان عليه أن يمكث ليلة أخرى في المدينة، ما من سيارة تقل الناس للقضاء إلا باص خشبي واحد يخرج صباحا ليعود محملا بالمساء، كان الجو ممطرا والطريق موحلة ولا يمكن السير دون أن تتعرض للأذى، ومضت ثلاثة أيام عاد بعدها الجد ليجد المستر جثة هامدة مات وحيدا من غير رفيق.
_ موقف محزن وأليم خاصة عندما يحاصرك الموت وأنت وحيد تنظر فقط إلى اللا شيء يحيط بك، أنها واقعة مؤلمة جدا وتبدو الحياة في لحظتها مجرد سخافة أن تضيع هكذا بلا وداع واحد.
_ بكى كثيرا على صديقه الذي لم يكن يعرف من أسمه إلا مستر شاكو .... بكاء كان بطعم الموت ذاته، لم يكن جدي من اللذين تسهل عليهم الدمعة في مجتمع يعدها عارا على الرجل أن يبكي حتى والدي كان يبكي وهو يروي حكاية المستر الغريب.
_ بكاء النبلاء.
_ حضر أبي مع جدي الدفن والتغسيل لم يكن جدي يعرف كيف تتم هذه الأمور بعثه على أحد الرجال العارفين كان يسمى ملا عبد السادة ليصلي على الميت سأل أبي عنه قال له الإنكريزي فطرده من داره شر طرده، صلى أبي عليه بعد أن غسله بما يعرف وكفنه ببعض الشراشف التي كانت في الصندوق ودفنه.
_ تتوقف الكلمات خاشعة منحنية له في محراب الإنسانية، جدك برغم بساطته كان أكثر عظمة من الكثير من القديسين، إنها أخلاق الإنسان حين يخلو قلبه إلا من نور الله وفي روحه تجلي سامي.
_ كان جدي ينازع هو الأخر من مرضه وأصيب أيضا بمرض كان يعرف عندنا بــ (أبو زويعة) , عرف جدي أنه لا أمل له بالشفاء فأمر أهله بالذهاب بعيدا عند أهل جدتي أم أبي وأن لا يعودوا قبل عشرة أيام, ذهب الجميع إلى دار جدي الأخر إلا جدتي كانت تراقب الجد من دار أخوال أبي التي كانت تبعد مسافة يمكنها أن تتبع حركة زوجها.
_هذا الوفاء الإنساني لا يمكنها أن تعص زوجها ولا تستطيع الطاعة.
_ انقطعت حركة جدي في الداخل تراقبه جيدا لم يعد يخرج ليومين تأكدت جدتي أن القدر حل، ذهبت للكوخ وجدت جدي جثة هامدة باردة حملت بندقيته وأطلقت ثلاث طلقات في الجو ليعلم الجميع أن جدي قد مات.
_ كان موقفا في غاية التعاسة نبيل حتى في موتته لا يريد لأحد أن يشقى .... بعض الرجال يعدون بأجيال كاملة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد