الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الريح والبوصلة - رواية - الفصل السابع الاخير

ذياب فهد الطائي

2018 / 7 / 9
الادب والفن


الفصل السابع -الأخير

كنت كقطار ينزلق بسرعة على خطه الحديدي، يخترق السهول الخضراء والجافة وعشرات المحطات الصغيرة ولكنه لا يتوقف عندها ، في الليل تختفي الأضواء على الطريق بسرعة وأشم روائح المشويات تخترق النوافذ ولكن يتعذر رؤية الباعة إلا كأشباح داكنة تتحرك على نحو ميكانيكي ، في النهارات المشمسة تظل صور أسراب الطيور البعيدة ثابتة في السماء وهي تغذ السير نحو الجنوب، لكني لم أكن استطيع التفكير بتركيز يسمح لي بالعودة الى التفاصيل الدقيقة لمسار حياتي ،ربما يعود ذلك الى ( رتم) حركة القطار الثابت، التي تبعث فيّ خدرا يشمل جسدي كله ونعاسا يمرجحني بين اليقظة والمنام ، أشعر أحيانا اني طائر يسبح فوق الغيوم القليلة الموزعة في رقعة واسعة من سماء شفافة الزرقة ، كان حلما يأخذني برفق الى عوالم مغلفة بالسحر .

توقفت فجأة وانا اصحو على رنين الكلمات المجلجل ، وحيدا كنت في محطة نائية انمحى فيها الزمن وأصبحت الأحداث ايقاعا يصم الآذان ، عجلات القطار العملاقة لم تعد تطرق السكة بضرباتها الرتيبة ،توقفت ولكني لم أهبط الى ألأرض بعد ، كنت أتطلع بشيء من المعرفة على اني ربما لا يمكنني ان أكون في المحطة التي يطلب الشيخ عبد الله ان أتوجه اليها ، منذ سنوات التزمت بالصلاة ولو بشكل متقطع وحتى حين كان والدي ينشغل بالمزرعة كنت أحيانا أصلي وحدي وحينما بدأت اقرأ على نحو أكثر عمقا كان الدين بالنسبة لي حاجة روحية تدفعني أحاسيسي اليها دون ان أستمع الى خطبة الشيخ عبد الله ، ماذا يعني ان أكون معهم ؟ الله الذي أعرفه مع الجميع والقبلة واحدة كانت وستبقى بعد الشيخ عبد الله ! وماذا يعني ب (معنا ) كنت دائما اراه وحيدا مهموما، كان يكرر ، لن انسى معروفك ، وأرد علية دائما بذات العبارة ، يسرني ان اقدم لك خدمة عمي الشيخ !

رنّ جهاز الهاتف ثلاث مرات ولكني لم أرد كما اني لم أغلقه ، كنت أشعر بإحباط شديد ، توقفت بدراجتي النارية عند مطعم أبو اشرف ولكن العمال كانوا يقومون بالتنظيف فالمطعم عادة لا يظل فاتحا ساعات الظهر ، جلست على (تخت ) جانبي في مقهى الوردة البيضاء وحين قال النادل , ماذا تشرب ، كان صوته يأتيني من بعيد ، من فضاء مسكون بالصمت لا يرد صدى ، مرت ثلاث عربات أمريكية بسرعة فقال رجل كان يقرأ جريدة ويضع على عينيه نظارة طبية بإطار أسود سميك ، اللعنة , ثم تدارى وراء الجريدة التي تحمل الصفحة المقابلة لي ، الجثث مجهولة الهوية في نهر دجلة ... تتزايد ! الشارع الداخلي الضيق مزدحم بالمارة وبضجيج الباعة والأغاني المنبعثة من المقاهي والمحال التجارية ومطاعم متنوعة يشكل الذباب على أبوابها تجمعات تدور على نحو مستمر فوق النفايات المكدسة ، عدت الى دراجتي ، عند الكتف كانت الشمس حادة تقف في السماء بعناد وتشمل الفضاء الفسيح والنهر والحقول والمزارع في الضفة الشرقية بكمية هائلة من الضوء وكأن حريقا يمتد بكل مكان ، كيف سأتصرف ؟ وماذا سأقول لوداد ولأبي ولرفاقي في الحركة ؟ بدأ الأزيز الذي خلفّه صرير الحروف في فم الشيخ عبد الله في أذني يهدأ ، ركنت دراجتي الى حائط منزلنا الجديد ولكني لم أدخل كنت أجد في نفسي حاجة الى السير بخطوات بطيئة عند حافة النهر فذلك قد يتيح لي فرصة اكبر للتفكير ويمكنني من السيطرة على بواعث التشوش التي تتدافع في مخيلتي بحيث لا أستطيع ترتيب افكاري ، فوزي في بغداد ، قال والده ان الدورة البرلمانية قد بدأت وقد يبقى في المنطقة الخضراء حتى الأسبوع القادم ، لم اسأله كيف أمّن السفر والطريق مغامرة في معظم الأحيان تقود الى الموت ! ، وداد مشغولة بالتفكير بحفلة الخطوبة ، أمس كنت وابي في زيارتهم ، قالت ان أباها يفضل ان نزورهم الأربعاء بعد الساعة السابعة لأنه سيذهب الخميس الى مدينة الشرقاط لزيارة أمه ، قلت لأبي ما أرجوه ان لا تدخن لأن رائحة السكائر التي تدخنها تضايقني وبالتأكيد ستضايق الآخرين، لم يحتج ، قال , يصير خيرا ، ابي يدخن سكائر سومر ، كان ذلك قبل سقوط النظام ، وهو ألآن لا يستقر على نوع محدد ، يقول انه أسير السوق الجديدة .

قال أبو وداد ، من جانبي لا مانع ولكن من المهم ان توافق هي ، أمها كانت تتفحصني كأني خروف العيد ، قال ألاب ، لقد سألت عنكم وتأكد لدي ان سمعتكم نظيفة كما ان المعلومات تؤكد انك شاب عصامي وأمامك مستقبل ولكن هل فكرت بما ستفعلة ؟ توسعت حدقتا عين ألأم وكأنها تريد ان تحتوي كامل المعرفة عن مسار المستقبل ! قلت لدي وابي أفكار عديدة فقد نبيع جزءا من المزرعة ونبدأ بمشاريع لتربية الدواجن والخراف ، قال الأب وهو يتوجه الى وداد ، ما ذا تقول العروسة؟! أطلقت ألأم زغرودة قصيرة وقالت وداد ، ما تقوله أنت ! قال ألاب على بركة الله ، قرأنا الفاتحة واتفقنا على أن تكون حفلة الخطوبة في بيتهم الخميس التالي وان تقتصر على معارفهم وصديقاتها وزملائنا في الحركة .

الشمس ما تزال حادة وتنبعث من النهر رطوبة تحملها ريح خفيفة تعبر مياه النهر البيضاء ، وعلى الضفة ألأخرى تقدمت ثلاثة غربان الى الماء ، كانت تمشي بهدوء وبشيء من الخيلاء ولم تتلفت محاذرة وهي تغمس مناقيرها في الماء ،في الجو تحت سماء باهتة الزرقة كان صقر صغير الحجم من النوع المعروف في جزيرة الموصل وسهل نينوى يحلق دائرا في مساحة كبيرة فاردا جناحيه فيما عيناه ترقبان البساتين الظليلة في الضفة الأخرى دون ان يعير الغربان أي اهتمام ، الحياة أضيق من دائرة الصقر في السماء الخالية من أي سحر ، نزعت حذائي وخضت في الماء ، طارت الغربان واختفى الصقر ، في الماء الذي كنت اسبح فيه تذكرت حينما كنا نتراهن،من يعبر النهر مكورا ملابسه فوق رأسه متجنبا ان ينالها البلل ..... كنت دائما أفوز في تلك الرهانات وأعود بعلبة حلويات من شارع النجفي ، اليوم اسبح بكامل ملابسي وأنا أرفع رأسي الى السماء الباهتة تحت أشعة الظهيرة و أشعر بصفاء وبنشوة غامرة تسسلل الى قلبي وتمتد الى كياني كله و اني أكثر قدرة على معاودة التفكير .

ارتميت على الشاطئ ألآخر، بضعة اطلاقات متفرقة أفزعت الطيور المختبئة في المزارع ففرت دونما اتجاه محدد ، كانت تطير بفوضى وهي مرعوبة ، بدأ اطلاق النار يتزايد ، زخات متتاية تشير الى مواجهة حادة عند الجسر الأوسط.

كان أبي على حافة الكتف يلوح لي ثم بدأ ينادي بصوت فيه رنة جزع، القتال ازداد شراسة فقد بدأت أسلحة ثقيلة تدخل المعركة وبين آونة وأخري يدوي صوت مدفع دبابة وهو يرد على قذيفة هاون تنفلق في الشوارع الفارغة فيما حلقت طائرتا هيلوكوبتر .

قال ابي : ماذا حصل ؟

: كالعادة الأشباح تتقدم نحو المدينة !

: ليس عن هذا سؤالي ، أنت تسبح بملابسك ؟

حكيت له مقابلتي مع الشيخ عبد الله ، صمت بقلق ، كنت أرى كمية القهر التي تأسر وجهه .

: عليك ان تغادر الموصل ، يمكن ان تذهب الى قرية ( يارمجة ) لدي صديق عرض ان اشاركه في مزرعته ولكني لم أشجعه ، يمكن ان نعرض عليه المشاركة شريطة ان تتولى دراسة المشروع وبهذا تبتعد عن أنظارهم !

: ولكن قبل ذلك علي ان أجري بضعة اتصالات بزملائي في الحركة وبخطيبتي

: بالمناسبة ، لقد اتصلت وداد على هاتفي وكانت قلقة

: حاولت الأتصال بي ولكني لم أرد فقد كنت في حالة سيئة

كانت الإذاعة المحلية تقدم عرضا متواصلا للقتال عند الجسر الثالث ولا تنفك التأكيد على ان المعركة على وشك ان تنتهي بتطهير المنطقة من الإرهاببين، تواصل اطلاق النار الكثيف كان يأخذ ألأخبار نحو اتجاه آخر ، قلت لأبي مازال الوقت يسمح بالخروج وانا أشعر برغبة في الصلاة بمسجد النبي شيت ، قال ابي لا أعتقد ان هذا ملائم في ظل الوضع الذي تحدثت عنه فالمسجد يخضع (لهم ) .

حين اتصلت وداد كان صوتها مرتجفا قالت ، أين انت ؟ إخبرتها بايجاز عما حدث ، قالت غدا يجب ان نلتقي في مقر الحركة ،حين اقترحت مبنى الجريدة رفضت بشدة ، مقر الحركة تتوفر له حماية افضل ، قال ابي سأكون برفقتك لن أدعك تذهب وحيدا وسيكون لدينا سلاح ، قلت ولكن الشيخ عبد الله أمهلني يومين ، قال لا أمان لهم كل شيء مباح ولديهم فتاوى جاهزة ، تذكرت أيام شعار كل شيء من أجل المعركة .

بدأت ظلال المساء تنتشر بصمت لا تقطعه إلا أصوات متباعدة لرصاصات مجنونة تخترق حاجز الصمت ثم تموت في العتمة ، لم أجد لدي رغبة يتناول الطعام , كنت في غرفتي ممدا على سريري الحديدي تجوب عيناي في الجدران العارية ورفوف الكتب التي بدأت تنتظم بتزايد مضطرد منذ دخول الجامعة , كانت في ألأدب والسياسة والتاريخ ، كنت في السوق حين استوقفني رجل في الستين ،قال لدي مكتبة تضم المؤلفات الكاملة لبعض الكتّاب والشعراء فهل لديك الرغبة بشرائها ؟! لقد استنتجت من وقوفك عند باعة الكتب انك من هواة القراءة ، حسنا انا محتاج الى ثمنها ، ابني اصبح بلا عمل وزوجتي لاتستطيع الذهاب الى مدرستها وانا عاطل !
كانت المكتبة تضم المؤلفات الكاملة لدستوفسكي ومسرحيات شكسبير وتاريخ بغداد ومجموعة من كتب النقد ألأدبي وديوان الجواهري وأحمد شوقي وكل مؤلفات نجيب محفوظ ، لم أساومه كثيرا وفهمت لماذا لم يكن يرغب بعرضها في السوق .

فكرت انه من الأفضل التخلص من بعضها فقد تكون ( أدلة جنائية ) عندما يقرر صبيان الشيخ اقتيادي للتحقيق ، ربما أحضى بمحاكمة احتاج معها الى ترتيب أموري على نحو يخفف من الشبهات رغم كل ألأخبار التي تصل الجريدة عن الرؤوس المقطوعة والجثث المجهولة وعمليات الخطف المستمرة،

الليل يمر بطيئا تكمن في ثناياه ظنون تتمدد بكل الاتجاهات ولكنها جميعا لا تشير الى أي مجال للفرح فالنور يظل مستحيلا في انتشار عنفوان الدم الذي لا يسمح للضوء بالتسرب ،كانت وداد على الهاتف ، قالت انها لا تستطيع النوم وهي تأخذ التهديد على محمل الجدية الخطرة وان علي ان أتأكد من غلق الأبواب وأن أكون مستعدا للطوارئ، لم تتحدث عن الحب ولم تهمس برومانسية كما كنت أسمعها ونحن نخطط للخطوبة ، ندخل مرحلة جادة ، عصر وجدنا فيه فجأة وهو يدخل خيمة الموت والضياع ، أحيانا يكون الجنون إيجابيا ولكنه اليوم سلبيا حد الدخول الى جهنم .

كانت وداد مشرقة باستمرار حتى كأنها قطعة كرستال تموج بألوان قوس قزح في صباح ناد رغم انها تمتلك نظرات مموهة تبدو محايدة ولا تكشف عما يجول في نفسها ، لكنها لا تخفي ومضات الذكاء في ثنايا تلك النظرات ، لقد قادتني بهدوء وبشكل غير مباشر الى نمط معين من القراءات ، قالت انها تميل الى الدراسات العقلية الجادة وتصر على ان ما لا يقبله العقل يرفضه الشرع ، لم افهم مدلول الجملة فأعطتني كتابا عن المعتزلة ، بدأت بعد ذلك تعطي شرح المفاهيم والمصطلحات جزءا كبيرا من لقاءاتنا وكانت كثيرا ما تصحح مقالاتي ولكن على نحو لم اكن أشعر معه بالحرج ، عبر هذا النمط من العلاقة كنا نشعر بالسعادة، أحيانا تبعث كلماتها القليلة الهامسة دفئا غريبا ربما أشد من الدفيء الذي تبعثه مدفأتنا النفطية في ليالي الشتاء الباردة .

قلت لأبي باني سأذهب لشراء البنزين للدراجة بما يكفي سفرتنا للقرية ،ومن السوق اشتريت بعض الحاجيات كهدايا ، عدت في العاشرة صباحا الى البيت بعد ان عرجت على مبنى الحركة ، كانت وداد بادية التأثر ،ربما لم تحظى بليلة هادئة فقد لاحظت ان نظراتها كانت غير مستقرة وبدا شيء من العصبية في لهجتها التي كانت هادئة ورصينة تعبر عن ثقة متناهية، كما لاحظت ان أصابع كفيها الدقيقة والتي كنت أقول لها انها تليق بعازفة بيانو فهي طويلة ورشيقة ، كانت اصابعها مرتعشة.

حتى كلامها بدا لي غريبا بعض الشيء اذ كان يدور في متاهات ولايركزعلى معنى محدد ، طلبت لها فنجانا من القهوة ورجوتها ان تهدأ الى أن أدرس الموقف مع اشرف ورياض لم تستطع تماضر الحضور فقد كانت تتعرض لمضايقات وتحرشات محرجة ، أما حمدي فقد كان في إربيل لأمور تتعلق باشكال التعاون مع الحزب الديمقراطي الكردستاني ، كان اشرف يعرض حماية شخصية لي ومن رأيه ان علينا ألا نتراجع ، قال .... من الواضح اننا أمام مفترق طرق كلا اتجاهيه بالغ الخطورة ، ان ندخل اسلامهم الجديد أو نذهب بتذكرة مرور الى جهنم الآخرة عبر جحيم الدنيا ! ، قال رياض شر البلية ما يضحك ، قال اشرف نعم لأنك ان لم ترضخ لترقص في حفل جنونهم الدموي فستقتل ولكن بحفلة مجون وحشية !

خرجت وداد معي،حتى السوق لم تتكلم ، كان صمتها يعذبني ولكني كنت لآ أجد ان الكلمات مناسبة للتعبير ، أخيرا قالت ، لابد أن نفترق أرجو من الله ان يكتب لك السلامة وثق اننا سنلتقي ولن تكون رغباتنا باردة وسنحظى قطعا بليلة عذبة ، بوقت فرح ، وبألق الصباح .. نحن متافألون على الرغم من كفافيس وقصيدته ( الرغبات ) ، كانت تحاول التخفيف عني رغم عمق الجرح الذي تعاني منه !

عرض حمدي ان يرافقنا الى قرية يارمجة ولكني شكرته ،وداد قالت ستكون أياما حزينة وسأظل أستعيد ذكريات عزيزة على قلبي ولكن هذه اللحظة، لحظة فراقنا ، فانها ستكون ثقيلة ومترعة بالأم الى الحد الذي أشعر فيه منذ الآن أني مطوقة بالهم الذي يمس شغاف قلبي وانا غير متأكدة ما اذا كنت سأتحمل هذا الفراق !

كان أبي قلقا وأمامه بقايا بضع سكائر لم يدخن إلا جزءا يسيرا منها ، قال بأن علينا ان نسرع لأن عليه ان يعود بعد ترتيب ألأمور مع شريكه المفترض .

على الباب كان طرق شديد ومستعجل ، كان صبيا في الخامسة عشر من عمره في عينيه نظرات غاضبة وعلى جبينه تقطيبة صارمة .

: هذه رسالة من الشيخ عبد الله !

لم ينتظر ، غادر مسرعا ولكن بحركات متشنجة ولم يلتفت نحوي ، كانت الرسالة من سطر واحد ,
(لقد انقضى يوم من المهلة .. لاتفكر بالهرب فعيوننا ورائك ولنتفلت من عقوبتك )

تقلص وجه أبي وانا أقرأ له الرسالة وشعرت انا بألاحباط .

قلت لأبي: انه قدري الذي علي ان أواجهه .

قال : أي زمن هذا ، يصبح القتل فيه منهجا والعقاب انتقاما .

صمت لحظة وفي عينيه نظرة أسف عميقة .

: لابد من وجود وسيلة ، انهم يجندون الصغار كشبكة تجسس كما إنهم يسيطرون على الطرق الخارجية ولديهم فوق كل هذا بعض العيون في جهاز الشرطة المحلية .

في مقر الحركة عدنا ثانية للتداول ، لقد تضاعفت المشكلة، فأبي أيضا مستهدف ولا يمكن ان أتركه لجنون ألأشباح وروح الشر التي تتملك الشيخ عبد الله والتي تصوّر له انه سيف الله الذي يجتث الكفر ويزرع ألأيمان .

قال حمدي الذي عاد قبل قليل من إربيل : ان ألإيمان سلاح، أما التعصب فهو أخطر ألأسلحة ، والجماعة يحملون إيمانا منحرفا وتعصبا مدمرا والتراجع أمامهم لن يترك لنا حتى قبورا تذّكر أحفادنا بنا لأنا سنكون اما جثة يأكلها السمك أو جثة بدون رأس لا يعرفها احد !

قال رياض : لقد كلمت فوزي ونصح بأن نوفر حماية لك ولوالدك ، سيكون معك اثنين وفي المزرعة اثنين أيضا .

قالت وداد : والسلاح ؟

قال رياض : يمكن الحصول على ترخيصه من المحافظة .

قال الشيخ هادي : انهم يقصدون الحركة وهدفهم تحطيمها من الداخل أو تحريكها بما يخدم مصالحهم ، و واحدة من أساليبهم اختراق الأجهزة والمنظمات لتشكيل طوق نجاة متين !

ابتسم أبي بمرارة وانا اخبره بما جرى ألاتفاق عليه ، قال ...لماذا لايبحثون اذا توفير الكهرباء فالظلام أحد أسلحة الأشباح لأنه يعطيها الحرية بالتحرك ؟!!

كانت الرسالة الثانية اكثر اقتضابا ( لقد أعذر من أنذر )

في المدينة الأوضاع تزداد سوء فقد انخفضت ساعات التيار الكهربائي وأصبح التزود بالوقود الخاص بالسيارات شبه متعذر مما أدى الى توقف معظم سيارات الأجرة والشاحنات عن العمل وانعكس ذلك سلبا على الوضع العام فقد ارتفعت نسبة البطالة وتوقف إمداد السوق بمحاصيل الحقول من الأرياف البعيدة نسبيا وأصبح التنقل مكلفا كما ان النفايات كانت تشكل مخاطر صحية حقيقية بعد ان اضحت الشوارع وألأزقة مكبا لها دون معالجة جدية من قبل الجهات المسؤولة ، قمنا بمناقشة هذه الأوضاع في مقر الحركة وقدمت جملة مقترحات لتنشيط تعاون السكان مع ألأجهزة الحكومية، قال الشيخ هادي ان أهالي المدينة كانوا دائما يرغبون بمساعدة بعضهم البعض وأمام الطوارئ الخارجية كانوا يتناسون خلافاتهم ولا اعتقد انهم يتخلفون ألآن، لكن ذلك يستلزم جهدا ورغبة صادقة من الداعين لهذا ، ومن تجربتي أعتقد أيضا انهم سيواجهون الإرهاب وسيقفون معنا ، انهم يحملون نخوة خاصة لا يمكن ان تخطئها العين المدربة على العمل الجماهيري فهي كخيط شفاف لايرى ، المسألة بالكامل تتعلق بكيف نعمل؟

بعد مناقشات طويلة وجادة كلفت بإعداد دراسة حول الموضوع .

كانت تهديدات الشيخ عبد الله تعيش معي ولكني قررت ان أتعامل معها بتحد لا سيّما ان المحافظ فرض حضرا على التجول لمدة ثلاثة أيام ، قررت ان أعيش حياتي ، صباحا أتصل بوداد وفي المساء تتصل هي ، أية سعادة تحملها هذه الأجهزة الصغيرة ،ربما من حسنات سقوط النظام ان نحصل على بعض منتجات التكنولوجيا الحديثة وان نعبر عما في نفوسنا بحرية أكبر قد لاتسمح بها اللقاءات المباشرة !

قال أبي : لماذا لاتفكر بترك الحركة والجريدة ؟!

: ليس من السهل عليّ فعل ذلك فهما حياتي الجديدة وقد لا أستطيع العيش بدونهما

: ولكنهما لم يجلبا لك إلا المشاكل والخطر !

: من لايواجه المخاطر اليوم ، السيارات المفخخة وألأحزمة الناسفة لا تستثني احدا !

: لقد عودت نفسي ألا اتدخل في حياتك وأعتقد ان لديك القدره على اتخاذ القرارات الصائبة

أن اعتزل ! ولكن ماذا سأفعل؟ لقد انطلقت في كياني روح جديدة منذ ان بدأت أغيّر مجريات حياتي فأعاود الدراسة التي كنت وإياها على طرفي نقيض، وألآن انا لا أستطيع ان أكون محايدا وأطفئ هذه الشمعة الصغيرة التي تضيئ دواخل روحي، بعد المعرفة شعرت بحرية تملئني ثقة وبشعور كألق الصباح نقيا يشع في نفسي سرورا .
00000000000000

اليوم هو الجمعة ، صرفت الحراس الشخصيين الذين وفرتهم الحركة وقررت ان اذهب للصلاة في النبي يونس ، كان البناء بأشكاله الهندسية المثيرة يبعث في نفسي شعورا بالراحة ، بدأ غبار يملأ الجو ، لم تكن هناك ريح تحمله ولكنه كان ينتشر كما لو ان دعوات ساحر تدفعه بكل الاتجاهات، يملأ الأنف ويجعل من الرؤية عملية صعبة ،انقبض قلبي وفكرت ان مثل هذا اليوم يصلح لكل المفاجئات ، قال أبي ، الله الساتر ، كان يحاول ان يتطلع الى السماء، التي بدا لونها ورديا قاتما ، كان يداري عينيه من حبات التراب المخلوطة برمل ناعم حاد الملمس فيما تطبق عتمة متوعدة على امتداد الشوارع والطرقات وتغطي دجلة الذي يصر على الانسياب وكأنه يحمل جراحاته وهمومه بصمت حزين ،
المدينة التي يطبق عليها الظلام مبكرا بسبب انقطاع الكهرباء وتسيطر على مداخلها ليلا فرق الأشباح وعصابات اللصوص والمهربين بدت وكأنها تخضع للعنة حمقاء بعد ان تخلى عنها ألأنبياء ألأربعون كلهم الذين كانوا يحرسون بواباتها ، كان احمرارا فاجعا يلوّن مدينتنا الخضراء وكلما ازداد زحف الغبار الصامت كأنه ظلال الموت أو رائحة الخراب التي تسبق ألاعصار ، خيّمت وحشة شرسة تتغلغل في البيوت وألأزقة ، وحشة مقبضة كنذر السماء إذا زلزلت ألأرض زلزالها .

: قال ابي أللهم أجرنا

نقعت منديلي بالماء ووضعته على انفي وخرجت ، كان الطريق خاليا ولكني بدأت اسمع زخات من الرصاص ، كانت في دائرة ضيقة ثم أخذت تتوسع وفجأة انفجر قتال شرس وسط المدينة وشاهدت الدبابات ألأمريكية تتقدم باتجاه الجسور الخمسة التي تربط الضفتين فيما كانت سيارات الشرطة تتجه وسط المدينة برتل يطلق أصواتا لانذار متلاحق ، توقفت عند مدخل شارع الدواسة ، كان محل لبيع ألأثاث مغلقا ولكني رأيت ضوء يتحرك في الداخل ، مالك المحل أحد المتعاونين معنا ولهذا نقرت على الزجاج بقوة .

قال رجل في الداخل : من أنت؟

كان في صوته نبرة استغراب ان يؤمهم زبون بمثل هذه الساعة وربما فكر ان لصا يحاول ان يستغل الموقف ،

هل ألأخ أبو رعد موجود ؟
:
: ولكن من أنت؟

: سمير من جريدة نينوى

: سمير ، ما الذي جاء بك في مثل هذه الساعة !

فتح الباب بتؤدة ووجه الرجل ضوء مصباحه اليدوي الى وجهي

: آسف ، تفضل بسرعة فالغبار يغزونا !

قلت له ،لا أدري لم خرجت ، أحسست اني أختنق فأنا معزول عن العالم وجهاز الهاتف لايعمل وهذا القتال اللعين يبعث على الجنون ، قال ، لقد استغلوا هذه العاصفة الصامتة وسيطروا على الجسور وانتقلت مجموعة منهم الى وسط المدينة لاحتلال مبنى المحافظة والدوائر الرسمية تمهيدا لإعلان دولة ألإسلام الجديدة ،انهم يتوالدون من جحور أفاع سامة ،ربما بالانشطار !
: ولكن ما الذي أتى بك أنت الى المحل ؟

: في الخزينة بعض النقود تركتها منذ أمس وفكرت ان أسحبها فقد يحطمون المحال والمكاتب وينهبوها ، أولادي أولى بها !

توقفت سيارة للشرطة عند الباب وبدأت بارسال إشارات ضوئية الى الداخل

قال أبو رعد : انهم يخاطبونا
خرج اليهم وبعد ان عاد قال بان ألأمريكيين إستعادوا الجسور وانه تم قتل معظم المهاجمين في وسط المدينة ، تصوّر ان الشرطة لم تتعرف على أي منهم ، فعلا انها ألأشباح التي تهاجمنا !

عرض علي ان يرافقني للبيت ولكني شكرته وخرجت تملأ شفتي ذرات التراب والرمل في المنعطف المؤدي الى الجسر، عند الساحة الدائرية كانت نقطة سيطرة ، مجموعة من الملثمين يقطعون الطريق ، حسنا ألان التقي بألأشباح وجها لوجه، لن يتخفوا وراء هيئاتهم المزورة وقطعا سيعلنون عن اسماء آبائهم الحقيقين ، كانت بطاقة التعريف الوحيدة في جيبي هي هوية نقابة الصحفيين ، صرخ الملثم الذي غطاه الغبار والرمل

: صيد ربما ثمين !

على الرغم من اني أيقنت إنهم سيأسروني إلا اني لم أشعر بالخوف فقد كان الفضول يتملكني والغبار يخنقني ولامبالاة غبية تشل ارادتي ،

: اصعد !

كانت سيارة بيضاء (لاند كروز ) وحين جلست عصبوا عيني ، لم يكن ذلك ضروريا فهم ملثمون والغبار يغطيهم ، ربما من باب الحذر أو لأنهم حريصون على إخفاء صورهم الشيطانية !

قال الرجل الذي ينزف : أشعر ان دمي سينفذ، أريد قليلا من الماء!

لم يجبه أحد ولكن رجلا من المجموعة صرخ بصوت آمر
: كفى ، لنرسل هؤلاء

كانت لكنته عربية أعني لم يكن عراقيا، شعرت بخوف مبهم ، لن أكابر ، كان الخوف يسري ببطء في شراييني ويصعد الى رأسي سيلا من الدفق العنيف ، في أذني بدأ أزيز يملأ مسمعي ثم تحول الى طنين حاد ، قرأت مرة ان اخطر مرحلة في عمليات التحقيق هي مرحلة الانتظار ولهذا فان محققي ألأجهزة ألأمنية يلجأون الى ترك المتهم دون سؤال فترة طويلة كي يبدأ بألانهيار ، كانت السيارة تسير بسرعة والشباك المفتوح من جهتي يسمح لكميات من الغبار الرملي بضرب وجوهنا بقسوة وآسرينا ملثمون يشد الصمت على وجوههم ،انه مجدهم الذي يلوحون به للعالم من خارج الزمن ، ربما من العالم السفلي الذي أبكى كلكامش ، هل نحن مقبلون على مرحلة انهيار التاريخ ؟!

توقفت السيارة وأمرنا بالنزول ، عاوننا شخص ما وهو يشتمنا ببذاءة ، اجتزنا ثلاث درجات لندخل باحة واسعة ، كان الصوت الذي يأمرنا ان نخفض رؤوسنا يتردد في الزوايا ويرجع صدى مكتوما ، نزلنا بعد ذلك درجا خمّنت انه يقودنا الى سرداب أسفل البناء .

: ليجلس كل في مكانه ولاتتبادلوا أية أحاديث !

كان الصوت هذه المرة لرجل من الموصل، تحسست الحائط لأركن اليه وأجلس ، شعرت اني أسقط في فراغ مظلم ، في فمي مرارة وبدأت اشم رائحة مقرفة .

قال شخص ما الى يميني : اريد أن اذهب الى المرحاض ، بطني يؤلمني ولن أستطيع السيطرة على نفسي ، منذ الفجر وانا مرمي كالكلب ، أنا عامل مخبز ولم أتدخل يوما بالسياسة ، لآ أحد من أهلي في الشرطة أو في الحرس الوطني وفي بيتنا لآاحد يعرف أللغة ( ألأمريكية ) ياناس لماذا هذا العذاب .

لم يجبه أحد
قلت له : تماسك فلا أحد يسمعك
: من أنت؟
: أسير !

عاد الصمت ثانية ، قطعه صوت خطوات نازلة
: انت ، عبد المنعم شيت.
: نعم
كان صوت الرجل الذي ينزف ، تذكرت ان ألأسم ليس غريبا , في ذهني انبثقت حزمة نور , انه المسؤول القانوني في المحافظة ، لن يعود ، لم يكن هذا استنتاجا وانما نتيجة منطقية لسلوكهم، لأيمانهم المطلق ان القتل هو الطريق لإعادة صياغة التاريخ !

لم نأكل ولم يعد عبد المنعم ولم يسمح للرجل الذي تشد عليه بطنه ان يذهب الى المرحاض ،بدأت أفقد ألاحساس بالزمن ، حين تتكاثف العتمة أعرف ان الليل قد بدأ وحين يبدأ الضوء يخترق العصابة حول العينين أعرف انه النهار، كيف هي وداد ألآن ؟ وكيف هو أبي؟ وبماذا يفكر زملائي في الحركة .
عاد الصوت ثانية يرج السرداب
: سمير قاسم !
: نعم
: تعال
حين حاولت النهوض شعرت كم انا ضعيف ، اتكأت الى الحائط ولكني عجزت عن الوقوف ، أسندني ألرجل وقادني صعودا الى ألأعلى .
توقفنا ، أحسست اننا ألآن لسنا وحدنا
: لقد حذرناك بالحسنى ومنحت فرصة لم يحظى بها سواك !
كان صوت الشيخ عبد الله ولكنه كان جافا ينضح صرامة وعدائية
: لا أنكر انكم حاولتم مساعدتي!
: لماذا إذا اختفيت ؟
: لم اختف ولكني كنت ماأزال أدرس العرض
: وهل تعتقد اننا سنكون بانتظارك الى ما لانهاية ، انت تعرف كم هو مهم الوقت لنا ، نحن في معركة شرسة والعدو يملك كل شيء ونحن لا نملك الا إيماننا !

تذكرت مقالة زميلنا في الجريدة ،توظيف الإيمان أشد ألأسلحة فتكا ، صمت الشيخ عبد الله ،قلت هل أستطيع ان أتناول قليلا من الماء؟ أمر لي بذلك وطلب ان تفتح العصابة ، كانوا أربعة أشخاص ، الشيخ عبد الله والرجل الذي سبق لي رؤيته ، ذي اللحية المثلثة واثنين بملابس عسكرية أحدهما مايزال تحت العشرين والآخر ربما تجاوز الثلاثين قليلا ، كانت سحناتهم صارمة ، في نظراتهم هستريا مجنونه ربما سببها ادمانهم القتل والدم المستباح الذي تسكبه الضحايا .

: اننا نجاهد من أجل اعلاء كلمة الله

: ومن هو ضد هذا ؟!

: انت ورفاقك أبناء الشيطان ، كيف يمكنك ان تكون مع الله وانت و رفاقك أوليائكم اليهود والنصارى؟!

: قال الله تعالى ( وجادلهم باّلتي هي أحسن )

بدأ ذو اللحية المثلثة، بحديث ايضاحي يحمل إيحاء بلاغيا مشوشا ليس من السهل متابعته ، ثم تحول الى لهجة خشنة يطغي عليها الغضب وتوحي بكمية من الحقد والكراهية تثير الرعب ، كان خشنا ومتعاليا حد التفكير بأنه على استعداد لقطع رقبتي بسكين المطبخ وهو يتحدث عن المعنى ألأعجازي بقوله تعالى ( والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه )
كنت اشعر بأعياء كامل ، رجوتهم ان يسمحوا لي بالجلوس على ألأرض لأني قد أقع باية لحظة

قال الشيخ عبد الله : لم يبق الكثير ولكن يمكنك الجلوس لحين اتخاذ القرار النهائي بشأنك !

جلست وفي عيني سحابة بدأت تنتشر لتسد أفق الرؤيا ولتشوش فكري ، إذا لن تكون هناك مواسم للفرح وهذه هي نقطة القطيعة مع الحياة ، تجمدت أحاسيسي بدرجة عالية من البرودة وتحولت الرؤى أمامي الى كتلة صخرية صماء، ماذا يجري لماذا نموت على هذا النحو البائس ، لم أكن أسعى لأكون بطلا ، كنت أجهد نفسي لأكون انسانا ولهذا درست بجد وقرأت بجد عرفت ماذا يعني ان يكون الأنسان حرا، وماذا يعني ان يفهم كيف يتذوق الجمال والنقاء والحب ، ولكنهم يعبرون الى مدينتنا على الجثث والدم ويعطبون فينا روح ألإنسان .

قال الشيخ عبد الله : بالنظر لإمعانك في الغي وإصرارك على الضلال فقد تقرر إعدامك قصاصا وفاقا بالسيف !

الطريق مسدود وعقلي يتفكك وليس فيه إلا خواء ، صحراء تجتاحها ريح صرصر ويقتلها الضمأ ، وتختفي حتى أفاعيها السامة في أعماق جحورها ، جفت شفتي ويبس حلقي وانبعثت برودة صقيع قطبي في أطرافي .

جاهدت لأقول : الحمد لله من قبل ومن بعد ،هل أستطيع الصلاة ؟

نظربعضهم الى بعض وقال الشيخ عبد الله : ركعتين !

حين وقفت تراخت ساقاي فقررت ان أصلي وانا جالس ، قرأت الفاتحة ودوى في ماتبقى من وعيي صوت انفجار هائل ، رفعني الانفجار وألقى بجسدي المتعب في زاوية الغرفة بعنف وشعرت ان شيئا حارا قد انغرس في ظهري وان سائلا ساخنا بدأ يبلل فخذي ، غبت عن الوعي .

يصبح الزمن أحيانا خارج الحسابات الرقمية فهو ليس الساعات أو ألأيام انه فترة ما ، داخل هذيان مرضي ليس من السهل قياسه ، قد يكون حالة تجديد أوحالة اكتشاف لإبتهالات غيبية تأخذك بعيدا ، هل يمكن سؤال المأخوذ بحالة عشق ، كم الساعة ألآن؟ يا إلهي ماذا يجري تحت سمائك الأبدية ، أي جنون تسمح به يستشري فوق الأرض وكيف تقبل الملائكة الكرام ان يقتل المستقبل ويدنس. الحاضر وتتمادى الشياطين في زرع ألأشباح في كل ألأمكنة ، حتى في دورات المياه النسوية.

رائحة نفاذة كانت تزحف الى أنفي لتتسلل الى رئتي وأصوات خبيثة تصر على ان تجتاحني ، كان ذلك يضايقني وشعرت اني أختنق ،حركت رأسي ولكن عيناي رفضتا ان تنفتحا .
قال صوت نسائي انه يصحو، رجاء استدعي الدكتور هيثم !

ببطء كنت أستوعب المكان ، كنت ممدا على ألأرض ، تحتي شرشرف ملطخ بالدم وعند رأسي وسادة رائحتها عطنة ، كفي مغروز فيها إبرة المغذي ، يداي عاجزتان عن الحركة وقد سمح ذلك لسرب من الذباب الصلف ان يستقر على وجهي ،لم يكن يطن لأنه لايحتاج الى الطيران ، كما لم يكن يتخاصم فالغنيمة كافية .
قال الدكتور هيثم : هل تعتقد ان حالتك تسمح للشرطة بأخذ أقوالك ؟
: حالتي لاتمانع !
كان الشرطي الشاب الذي يكتب ألإفادة لطيفا ولكن الملازم الذي كان يقوده برما فالرائحة ازدادت وبدأت اسراب الذباب تشكل عدوا حقيقيا للجميع وليس للمرضى فقط ، فيما كانت بضع قطط تثير ضوضاء وهي تنشب أظفارها بعضها ببعض في الممر المظلم، المصباح الوحيد كان في الردهة التي تضم أربعة أسرة عليها مرضى صامتين فيما تمدد على الأرض ستة بما فيهم انا .

: اسمك ؟
:سمير قاسم

: عمرك؟

: لا أدري !!

: لنقل ثلاثا وعشرين ،عملك ؟

: أسير عند الشيخ عبد الله

: أعني اين كنت تعمل ؟

أشرت الى جيبي ، مد الشرطي يده ليخرج هوية نقابة الصحفيين

: سيدي ، ألأخ صحفي !

انتبه الضابط وعدل من جلسته اللامبالية والمستفزة .

: استاذ سمير , هل يمكن ان تخبرنا باختصار شديد عما حصل ، نحن نقدر حالتك كما اني شخصيا أحترم صحيفتكم

شعرت وانا اخبره بتتابع الأحداث بإعياء شديد

قال : لابأس نأتي بوقت آخر ولكن هل تريد ان نتصل بالصحيفة او بأية جهة أخرى؟

لم أجبه فقد عدت ثانية الى الغيبوبة

كانت السما صافية الزرقة ودجلة تظللها اشجار زاهية الخضرة ومئات العصافير الملونة تتقافز تملؤ الجو بوشوشة حلوة وهي تقبل بعضها البعض بمناقيرها الوردية ، دجلة فرحة وماؤها يلصف ابيضا يشرب الضوء الفضي المنسكب من عدة اقمار تتبادل اماكنها بشيء من الخفة ،
ولكن البشر الجالسين على الضفة ألأخرى كانوا غارقين بحزن محى ملامحهم فبدوا وكأنهم نسخ مكررة من المرمر الرصاصي الباهت .

قال صوت انثوي : كيف هو ألآن يادكتور ؟
رد صوت رجالي هادئ : لابأس، انه يتحسن فقد تجاوز مرحلة الخطر

قال ابي : شكرا لله.
وسقطت دمعتان وحيدتان ،انحدرتا ببطء على خديه وتاهتا في الغضون المبكرة ، لم أشاهد ابي يبكي ، قال ان ليالي الحسرة والوحدة جففت مآقيه،

قالت وداد : أعتقد أن من الضروري نقله الى المستشفى العسكري!

قال الدكتور : براحتكم ان أمكنكم ذلك !

كف وداد كان يمسك بيدي التي ترفض الحركة ، كنت لاأزال أحس بحرارة كفها ، كانت تأكيدا على اني مازلت أعيش.

ببطء بدأت حالتي تتحسن ، استطعت ان احرك يدي وأن أقرأ ولكني لم أستطع الوقوف فألأرجل لاتستجيب للعلاج ، قال الدكتور ليس باستطاعتي الجزم بالنتيجة ولكن ألإيمان قد يكون علاجا وكذلك الثقة بالنفس ، قلت له كان الإيمان بريئا وبسيطا ولكن الأشباح حولته الى وحش بأظافر قاسية وانياب قاتلة اما الثقة فقد قتلها الشيخ عبد الله .

ينظر إلي والدي بحسرة ،كان يريد أحفادا يفخر بهم وانا ألآن أبعد ما يكون لأحقق امنياته ، قالت وداد انها ستقف الى جانبي، قلت لها لاتشغلي نفسك ، قد أنفع ان أستمر في الدراسة وان أكتب للصحيفة ولكني لا أنفع ان أكون زوجا،

بكت بحرقة ولكن أباها سحبها ببطء وبرقة وهو يتمتم ، قضاء الله الذي لامرد له ، ما أفكر به الآن وبجدية هو ان اقنع والدي بالزواج ،سأجد له الزوجة ، الحياة يجب ان تستمر ولكن باشكال مختلفة .
قلت لفوزي سيكون مقالي جاهزا كل سبت ، فقط ابعث أحدا لأستلامه ، قال بمواساة وتعاطف ،سيكون دائما على الصفحة ألأولى ، عليك ان تكون أكثر تفاؤلا يابطل ، قلت له قد لاأكون بطلا ولكني سأظل رجلا أفي بالتزاماتي على ألأقل.

قطاري يتوقف اليوم بمحطة رئيسة ، وتطلعات روحي كحلم يهّوم فوق دجلة ويرسم لي أملا آخرا كعصفور الكناري ألأصفر ، صغير ولكنه يغرد للآخرين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما