الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيديولوجيا الحركة الصدرية – اللاهوت الشيعي والناسوت العراقي

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2018 / 7 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


لقد كانت الحركة الصدرية قبل أن تتبلور معالمها الواضحة تيارا ساريا وهائجا لبركان الصيرورة الاجتماعية السياسية. بعبارة أخرى، إن التيار الصدري هو الحركة الأولى لتبلور مختلف مظاهر ومعالم الاحتجاج الاجتماعي التلقائي في رؤية سياسية. وشأن كل بركان هائل عادة ما يختلط لهيبه بدخانه، وسيله بحرائقه. لكنها العملية الطبيعية لكي ترتسم معالم أثره في إعادة صنع تضاريس الطبيعة والحياة الاجتماعية. وهي الحالة التي ميزت الانفجار الأول للتيار الصدري، الذي أثار هلع النائمين واندهاش الناظرين وتأمل الحالمين، بسبب معايشتهم المباشرة لحرائقه الكبيرة ولهيبه المرعب. وحالما اقترب واندمج بعنفه الحار في مياه الحياة العراقية الباردة، عندها أخذت تبرز مختلف ملامحه المتناقضة. لكنها تبقى في نهاية المطاف الجزء الحيوي والطبيعي من صيرورة الوجود التاريخي للعراق المعاصر، وكينونته السياسية الحالية والمستقبلة.
لقد كانت الحياة الاجتماعية والسياسية العراقية في أواخر المرحلة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية باردة حد الموت. وبالتالي، فان الصعود الراديكالي للتيار الصدري كان يعادل من حيث قيمته الاجتماعية والسياسية والفكرية والروحية فضيلة كبرى. وضمن هذا السياق يمكن اعتبار ظهور وحماسة الحركة الصدرية بحد ذاتها فضيلة روحية وسياسية كبرى للعراق. ومن الممكن العثور على رمزيتها غير الواعية في ظهور "حزب الفضيلة" من بين جوانحها. فهي العملية التي تنشأ بالضرورة من تصدع السيل العارم لبركان الحياة الاجتماعية والسياسية. لكنه تصدي طبيعي بالنسبة لصعود وقوة الحركات الاجتماعية السياسية الكبرى في مراحل نشوئها الأول. فكل انشقاق هو جزء من "إيقاف" حركتها الهائجة أو "تبريد" عنفوانها الوجداني. ولكل منها نياتها وغاياتها وقواها وشخصياتها. وسواء كان "حزب الفضيلة" جزء من الصراع حول زعامة الحائري أو مقتدى الصدر، أو شكل من أشكال "الواقعية" و"العقلانية" في مواجهة الموجة العارمة لهيجان الحركة الصدرية في أول نشوئها، فإنها تكشف عن ديناميكية الحركة وطاقتها الداخلية. وبالتالي، فأن صعود الحركة الصدرية العنيف تعويضا عن خمول الروح الاجتماعي. وبما أن التيار الصدري آنذاك لم يكن واضح المعالم من حيث بنيته الداخلية وأفكاره العملية، من هنا سيادة الحماسة المفرطة فيه.
لكن ذلك لا يعني أن التيار الصدري قد خرج إلى الوجود من لا شيء. لقد كان نتاجا طبيعيا وتلقائيا لزمن العراق الراديكالي. وهو زمن أنتج، رغم مفارقاته وتناقضاته المخزية، الظاهرة الصدرية، التي كونت الأساس المادي والروحي للتيار الصدري الأخير. وليس مصادفة أن يعتبر التيار الصدري الأخير نفسه استمرار لما يسمى بتيار الصدر الأول والثاني، أي تيار محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر. ولا تخلو هذه الإشارة من جوهرية العائلة، لكنها محكومة بفكرة ونفسية الفرد المجاهد. فالصدر الأول هو المصدر الأيديولوجي لحزب الدعوة بمختلف أصنافه. بينما لم يعد بالنسبة للتيار الصدري الأخير أكثر من فرد مجاهد في سلسلة العائلة الصدرية الروحية. وهو السبب الذي يفسر ضعف أو انعدام القيمة الفكرية والأيديولوجية لإبداعه النظري. لكنه إبداع يتراكم في حلقات العائلة الصدرية التي شكل محمد صادق الصدر حلقتها الأخيرة. فهو اقرب من حيث المزاج والشخصية والتاريخ العملي والمصير الفردي إلى الجماهير كما هي بدون واسطة "الأحزاب".
فقد تمثل محمد صادق الصدر ثالوث التشيع الإسلامي والوطنية العراقية والانتماء العربي في كل واحد. إذ نعثر عليه في صلب المكونات المتناثرة للحركة الصدرية الأخيرة، بوصفها "منظومة" أيديولوجيتها العملية. فقد كانت شخصية أبيه تسعى لتمثيل عناصر التشيع والعراقية والعربية من خلال تمثل مصالح الفقراء والمهمشين. فقد كانت هذه الوحدة تثير بقدر واحد عداء السلطة والحوزة التقليدية. لاسيما وأن نشاطه داخل العراق كان بقواه الخاصة. من هنا سر انفجار التيار الصدري الأخير بوصفه تيار الداخل العراقي.
فقد انشأ الصدر الأب تياره الخاص، بما في ذلك في عبر مختلف أشكال المناهضة غير العنيفة للسلطة الصدامية، منظومة تأثيره في العراق بمعزل تام، بل ومعارض للأحزاب والتيارات الشيعية الأخرى (المرتبطة بأقدار ونسب مختلفة بإيران). فمما لا شك فيه أن الموقف من إيران ليس معيارا للحكم على "استقلالية" أو "خضوع" هذا التيار أو ذلك لها. لكنه يتخذ في ظروف العراق الحالية "حساسية" مفرطة، مع أن مصالح العراق الجوهرية تقوم في كيفية إيجاد وتنظيم العلاقة الإستراتيجية بإيران وتركيا بالشكل الذي يحفظ مصالحهم المشتركة. لكنها عملية سياسية محتملة وممكنة فقط حالما يتكامل العراق على مستوى الدولة والأمة. بمعنى أنها مرتبطة في ظروف العراق الحالية بمستوى التكامل الذاتي للحركات والأحزاب السياسية العراقية. وهي حالة مازالت في طور التراكم. إذ أن اغلب القوى السياسية، مازالت تعاني من "خضوع" متنوع الدرجات والمستويات، بسبب ضعفها وضعف العراق والتدخل العنيف للقوى العالمية والإقليمية في شئونه الداخلية. ولا تشذ الحركة الصدرية عن هذا الضعف في هذه المرحلة من تطورها.
لكننا حالما نتأمل مسار الحركة الصدرية وشعاراتها ومواقفها وتقييم القوى المحلية والإقليمية لسلوكها، فإننا نستطيع تلمس تحررها الكبير واستقلالها الأكبر، مقارنة بالقوى الأخرى في ظروف العراق الحالية. فمنذ الانتفاضة الشعبانية أصبح خطابه السياسي والاجتماعي نموذجا لاستقطاب الكينونة العراقية المهمشة. وهو استقطاب كان يحمل في أعماقه وحدة النزوع الشعبي والعراقي والعربي. وتراكم عبر الأفراد والجماعات والمؤسسات الخيرية والمدارس، بوصفها الخلايا التي كانت تعيد إنتاج نفسها تحت ضغط الغطاء الثقيل للدكتاتورية. وحالما ارتفع عنها، فانه سرعان ما أخذ ينمو بقوة ملفتة للأنظار، أتخذ رغم كل تنوعه الداخلي وحدة "التيار الصدري" المحكوم بالأثر الروحي للصدر الأب.
وقد كانت مظاهره الأولى تقوم في التفاف مجموعة من رجال الدين الشباب المنتمين " للحوزة الناطقة" التي أسّسها محمد صادق الصدر . فقد أخذت البنية التنظيمية تتكامل بسرعة مذهلة. مما يشير إلى أن بوادرها ومقدماتها، بما في ذلك التنظيمية، كانت واضحة وجلية في خيال ورؤية القوى الجديدة. لكنها قوى كانت تحتكم في رؤيتها ومزاجها ومساعيها من واقع العراق المهمش. الأمر الذي أسبغ عليها وعلى سلوكها ومواقفها وغاياتها أبعاد اجتماعية عراقية وطنية. فقد كان صعود شخصية مقتدى الصدر تعبيرا نموذجيا عنها. بمعنى أنها المرة الأولى التي تأخذ الحركة الاجتماعية الشيعية زمام المبادرة خارج تقاليد "الحوزة العلمية" وأحزابها التقليدية ومرجعياتها الروحية. وهي الظاهرة التي نلمح مظاهرها الأولية في تحرر التيار الصدري من ثقل المرجعيات المحنطة بقدسية المدن الحائرة في يقينها الضيق.
فقد تحرر الصدر والتيار الصدري الجديد من مرجعية الشيخ كاظم الحائري، بوصفه المرجع الذي رشحه الصدر الأب لابنه. لكنها فرضية قابلة للجدل، لكنها لا تحتوي على أبعاد وقيم عملية ونظرية بسبب الطلاق السريع والواضح بين تيار الحركة العراقية وقادتها الجدد وبين بقايا المرجعية القابعة في مدينة قم. وهو تحول جوهري في ميدان الفكرة النظرية والعملية والسياسية، أي كل ما يمكنه أن يبلور الأبعاد الأيديولوجية الجديدة للتيار الصدري. وذلك لان غياب "المرجعية الروحية" يجعل من العقل الاجتماعي وتجاربه الخاصة والعامة أسلوبا للبحث والتدليل. أما في حالة التيار الصدري فانه دفع شخصية مقتدى الصدر بالشكل الذي جعل منها في آن واحد مرجع الحركة ولسانها الناطق، أي كل ما أعطى للحركة إمكانية التحرر من فكرة ونفسية وذهنية الوصاية . ومن ثم جعلها تسرح وتمرح وتفور وتثور في كل مكان.
لقد دفع البركان العنيف تيار الصدر صوب مياه العراق الباردة وليس صوب أزقة الحوزة العلمية. من هنا حدة الخلاف العلني السريع والمباشر الذي اندلع منذ الأيام الأولى لصعود التيار الصدري، بين ما سيدعى بالحوزة الصامتة والحوزة الناطقة. وهو خلاف له مقدماته ونموذجه في شخصية الصدر الأب. لكنه تحول في مجرى الانعطاف التاريخي الشديد بعد سقوط السلطة الصدامية وصعود الاحتلال إلى موشور الأيديولوجية الصدرية الجديدة. ومن ثم ساهم ويساهم لحد الآن في بلورة عناصرها وعيها النظري والعملي. وليس مصادفة أن تحمل الجريدة الأسبوعية للتيار الصدري اسم "الحوزة الناطقة"، بوصفه الاسم الذي كان يتمثل تاريخ الصدر ولسان صوته المعاصر. وليس مصادفة أيضا أن يتمثل مقتدى الصدر تراث أبيه في النطق أمام جماهير المدن المهمشة، مبتعدا عن "مراكز القرار" الخاضعة للسيطرة الأمريكية وتركيبها للأشخاص والحركات .
بعبارة أخرى، لقد أبقى الصدر والتيار الصدري على كينونته الذاتية بوصفه حركة المجتمع المهمش والمصالح العراقية التي لم ينطق باسمها أي من التيارات والحركات والأحزاب والحوزات. وتحولت الكوفة إلى جانب مدينة الصدر المصادرة من اغتصاب الصدامية، إلى ميادين الجدل السياسي وشحذ القيم الأيديولوجية وتبلور المفاهيم العامة والخاصة بالحركة الصدرية مما يجري في العراق وحوله. من هنا تقييم التيار الجديد لماهية "الحوزة العلمية" بمعايير الرؤية الاجتماعية والسياسية العملية والوطنية العراقية. لهذا نرى الصدر يتكلم عن "مرجعيات لا تحبذ التدخل بالسياسة"، وأخرى "تتصدى للسياسة ولكن بصورة متورطة مع قوى الاحتلال" ، وثالثة تتصف بمواقف "وطنية مشرفة"لكنها لا تشارك بالضرورة مواقف وأعمال ورؤية التيار الصدري في كل شيء . واعتبر الأولى مرجعية خاملة لا يمكن الرضا عنها، والثانية لا يمكن اعتبارها "مرجعية دينية"، أما الثالثة، فإنها الأقرب إليه على الأقل من الناحية الروحية والأخلاقية ولحد ما السياسية. غير أن التيار الصدري، ظل حتى في حالة الموقف المتسامح والمؤيد والداعم للصنف "الوطني المشرف" من المرجعيات، يتمتع باستقلالية تامة عنها. وليس الرجوع إلى تقاليد الصدر الأول والثاني بوصفهما سلسلة "الشهادة" سوى الصيغة الأكثر بروزا بهذا الصدد.
إن الرجوع إلى حلقات الشهادة الصدرية، يعني استقلالية التاريخ والموقف من اجل صنع حلقاتها اللاحقة، أي سلسلة الحركة القابلة للنمو خارج تقاليد وتأثير المرجعيات التقليدية للنجف وقم. وتحتوي هذه العملية في أعماقها أولا وقبل كل شيء على وحدة الأبعاد الاجتماعية والعراقية. ولا يغير من ذلك شيئا كون هذا الرجوع بلا منظومة ولا عقائد سياسية باستثناء الحد الضروري لتقاليد التشيع المجاهد والنزوع العربي العراقي، أي تقاليد التضحية والانتقام المتسامي المتراكمة في تاريخ العراق العربي.
فقد شقت هذه التقاليد لنفسها الطريق إلى "الأيديولوجية العملية" للحركة الصدرية، التي يمكن رؤية ملامحها النموذجية، على سبيل المثال في "الأجوبة" التي كتبها مقتدى الصدر ردا على أسئلة التيار نفسه بصدد الموقف من البعث. ففي معرض إجابته على مواقفه من فكرة البعث وإيديولوجيته السياسية، يشدد الصدر على كونها فكرة آنية صنعها "الغرب الكافر والثالوث المشئوم" (إسرائيل وأمريكا وبريطانيا) لجعلها يدا ضارِبة ضد الإسلام عموما وأتباع أهل البيت خصوصا، وإنها تأسيس للقومية الضيقة المعارضة لفكرة الإسلام، وإنها جذرت العلمانية وأرست أسس الدكتاتورية والظلم، وجعلت من قادتها آلهة فارتكبوا المحرمات بلا وازِع ولا رادع.
كما نراه يجد فيمن اعتقد بفكرة البعث وامن بها محلا للعقاب! بحيث نراه يقول "لو كنت مجتهِدا لأقمت عليه القصاص"! كما وجد فيمن يروج لها استمرارا لمن "يدعم معاوية ويزيد والحجاج وهولاكو وكل ظالم عبرَ مر العصور. فهو مروج للباطل ويستحق العقاب". لهذا نراه يطالب بالقضاء النهائي عليه مهما كان اسمع ولونه الجديد. إذ وجد في حزب البعث مصدر الخراب المادي والروحي للعراق. وان كل ما قام به وأدى إليه هو ظلم وجور ورذيلة. من هنا ضرورة القصاص العادل منه. بل وجد في "كل كتبهم وإصداراتهم ومنشوراتهم كتب ضلال يحرم تداولها على الإطلاق". من هنا دعوته "لاجتثاث أفكارهم وقلع أشخاصهم وعدم الانجرار خلف السياسة التي تجعل منهم حزباً حكومياً مِن جديد". وطالب بمقاطعتهم عل كافة المستويات ومطاردتهم أينما كانوا وحلوا كما كان يفعلون ضد الناس. بل نراه يرد على سؤال متعلق بموقفه من "التشهير بهم وتعريف الناس على قبائحهم وأفكارهم الخبيثة" بعبارة "نعم! جزاك الله خيراً ففيه مرضاة لله تعالى"! كما نراه يطالب بنبذ ثقافة البعث وإزالة مناهجهم من التعليم. وحول الثأر الشخصي من حزب البعث بسبب قتله الصدريين (محمد باقر ومحمد صادق) نراه يقول "كوني وليا للدم أطلب إقامة القصاص على كبير القَتلَة من العفالقة الأنجاس الهدّام (صدام) عليه اللعنة والعذاب وعلى كل القتلة الُجرمين ممن كانوا يأتمرون بأوامره الشيطانية الخبيثة. فما ضاع حق وله مُطالِب. فلَم تذهب دماء الحسين دون عقاب. فقد كان المختار نِعمَ الآخِذ بِثَأرِهم. اللهم، فإن كنت مستحقا لأن أكون آخذاً بِالثأر، ثأر آل الصدر، بل الإسلام كافـة، فلك الحمد على ذلك، وإلا فاجعل قـتلَهم وتشريدهم على يد مولانا الإمام المهدي، أو أيدي المؤمنين".
إن هذه الإجابات النموذجية تعكس طبيعة التفكير والذهنية الصدرية، بمعنى اتصافها بالمباشرة وتوليفها المعقول لما اسميه باللاهوت الشيعي والناسوت العراقي. وهو توليف يتمحور ويتجسد من خلال الأبعاد الأربعة الكبرى للفكرة الصدرية الحالية، ألا وهي "مواجهة المحتل" و"عراق الداخل" و"التضحية الاجتماعية" و"الانتقام التاريخي". وإذا كان البعد الأخير (الثأر والانتقام) هو الأكثر والأوسع انتشارا وترسخا في إجاباته فلأنه يتعامل مع الإشكالية الأشد إثارة بالنسبة للأبعاد الأخرى. من هنا تركز فكرة الثار فيها بوصفها جزء من معترك البدائل. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بان غياب المنظومة الفكرية والأيديولوجية الواضحة لا يعني انعدامها. على العكس إننا نستطيع لمح ما يمكن دعوته بالمنظومة الخفية لتعايش عناصر التشيع والنزعة العراقية والروح العربي من خلال الأبعاد الأربعة التي جرت الإشارة إليها أعلاه .
كل ذلك يعطي لنا إمكانية القول، بان التشيع والعراقية والعربية هو ملك وملكوت وجبروت التيار الصدري، أي ثالوث التشيع المذهبي وليس الطائفي، والوطنية العراقية العامة وليس الجهوية، والنزوع العربي الجامع لكليهما. لكنه ثالوث لم يتكامل بعد في منظومة فكرية واضحة المبادئ وأيديولوجية سياسية لها أطرها الدقيقة وتنظيمها العملي. الأمر الذي يجعلها جزء من آفاق التيار وحركته المنظمة. وهي آفاق تتفاعل فيها أربعة أبعاد جوهرية وهي أبعاد الداخل، والمواجهة للمحتل، والتضحية الوجدانية والاجتماعية، والانتقام التاريخي. كما أنها الأبعاد التي تتفاعل فيما بينها في مجرى الصراع العشوائي والعنيف السائد في ظروف العراق الحالية. من هنا غلبة الطابع التجريبي فيها. لكننا نلمح في الوقت نفسه تهذبها تحت ضغط تفاعلات القوى المحلية والإقليمية والدولية. حيث يجري تهذيبها من خلال توسع وتعمق العناصر الواقعية والعقلانية في التعامل مع القوى والأحداث. وهي عملية تحد من فاعلية المزاج والأهواء الراديكالية في التيار الصدري، وذلك بسبب التكامل النسبي الأولي والعملي لثالوث التشيع العراقي العربي بأبعاده الأربع المشار إليها أعلاه. من هنا تباين نسب هذا البعد أو ذاك في المواقف العملية للتيار الصدري، لكنها تعمل في ظروف العراق الحالية من خلال التعامل مع الإشكاليات الأكثر واقعية وإلحاحا وضغطا على التيار نفسه.
وليس مصادفة أن نرى بروز هذه الأبعاد بصورة متباينة من حدث لآخر، لكنها تعكس في ديناميكيتها حركة التيار الصدري وتحرره من العقائد المذهبية. ففي الأسابيع الأولى التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق انتشر أنصار الصدر في شوارع الأحياء الشيعية الفقيرة من العاصمة بغداد وقاموا بتوزيع الغذاء. كما تم إلغاء اسم "مدينة صدام" واستبدالها ليس عبر الرجوع إلى اسمها الأول (مدينة الثورة) بل تقديمها باسمها الاجتماعي الجديد: "مدينة الصدر". وحالما جرى تأسيس "مجلس الحكم المؤقت" نرى التيار الصدري ينشأ حكومة منافسة. كما نراه يرفض دعوة الحكومة للمشاركة في مؤتمر وطني. ثم يهاجم إياد علاوي، بوصفه رئيس وزراء الحكومة المؤقتة، ويعتبره استمرار للاحتلال الأمريكي للعراق. ثم اشتبك أنصار الصدر مع أتباع آية الله السيستاني في مجرى التحضير لتسليم السلطة (الشكلي) للحكومة العراقية. واعتبر الائتلاف العراقي الموحد لا يمثلون سوى أنفسهم. كما صرح بعدم شرعية الانتخابات العراقية مادام الاحتلال موجوداً. دون أن يفرض على المجتمع ذلك أو أن يجرد حتى أنصاره من حق المشاركة في الانتخابات. كما نراه يهدد الحاكم الأمريكي للعراق آنذاك بول بريمر بالثورة في حال عدم جعل الإسلام مصدرا رئيسيا للتشريع في العراق.
وفي الوقت الذي يحارب بقوة الاتجاهات التكفيرية والطائفية السياسية "السنّية" ويدعو رجال الدين الشيعة للمشاركة الفعالة في الحياة السياسية، نراه ينظم مظاهرات تضم شيعة وسنّة في بغداد ومدن أخرى في مجرى معارك الفلوجة والنجف وغيرها. وفي الوقت الذي وجهت إليه اتهامات "فرق الموت" في مواجهة "النواصب"، فان خطابه السياسي ظل مشحونا بنبذ الطائفية، والدعوة للوحدة الوطنية. ودعم أقواله بالأعمال كما كان ذلك جليا في موقفه مع أهل مدينة الفلوجة في مجرى المعارك العنيفة آنذاك. كما أرسل بعض قواته لدعم التركمان والعرب في كركوك ضد التجاوزات والجرائم العرقية للأحزاب الكردية. بل نراه يتعدى حدود العراق ليعلن نفسه اليد الضاربة لحزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية. وقد كانت اغلب مواقفه محكومة بهاجس التحرر الوطني العراقي من الاحتلال. فقد شدد دائما على عدم قبول "العيش بين حفر الاحتلال"، وأن "الواجب الديني والوطني" يلزمه بالسعي من اجل الحصول على المطالب حسب المستطاع، لكنه "لن يرضى بالاحتلال"، وأن من يقر بالاحتلال ليس بعراقي"، وان "الحركة لا تسمع قولا لغير العراقيين". وانه يرغب بأن "تكون العملية السياسية أو الوطنية ضمن الحوزة العلمية والمرجعية"، كما أن من الممكن "التعاون مع الأمريكان بالجهد الذي نقدر عليه، لكنهم محتلون ويجب أن يرحلوا". ووضع هذه الفكرة في قوله:"إننا مع أي نوع من أنواع المفاوضات مادامت جدية ولا تتضمن ما يخالف ثوابتنا من وجوب رحيل المحتل وفق سقف زمني مدعم بضمانات دولية". وظل متمسكا بهذه الفكرة حتى في مجرى ونتائج تعرضه للضربة العنيفة بأثر "معركة النجف".
لقد اخذ التيار الصدري يتمرن ويتمرس في دهاليز اللعبة السياسية، لكنه ظل أكثر وضوحا وأمانة في التعبير عن مبادئه الكبرى ألا وهي: معارضة الاحتلال، والوحدة الوطنية، والمعارضة السياسية للسلطة بوصفها استمرار أو أداة بيد الاحتلال. لكنها ممارسة كانت تتشبع بمعايير الرؤية الواقعية، التي وضعها الصدر في إحدى كلماته التي تقول "نحن نعمل بعدة تكتيكات تبعا لظروف المرحلة الراهنة. ومن الممكن أن تستمر مرحلة من المراحل فترة زمنية قصيرة، وقد تمتد فيشتبه الأمر على البعض فيظنها طرحا نهائيا غير قابل للتبدل. نعمل بعون الله وفق ظروف مختلفة تتطلب تغيير بعض توجيهاتنا من دون الخروج على أهدافنا الرئيسية". ومن الممكن رؤية مختلف المظاهر العملية والسياسية لهذه الفكرة في مجرى تطور الحركة الصدرية وبالأخص في السنوات الأربع التالية للاحتلال. ذلك يعني، أننا نقف أمام ديناميكية محدودة بشروط الحياة العراقية الحالية الخربة، وفساد اغلب قواها السياسية، وضعف البدائل العقلانية والوطنية العامة، لكنها الأكثر فاعلية ومن ثم الأكثر إشكالية بالنسبة للبدائل.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما التصريحات الجديدة في إسرائيل على الانفجارات في إيران؟


.. رد إسرائيلي على الهجوم الإيراني.. لحفظ ماء الوجه فقط؟




.. ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت فيه إسرائيل


.. بوتين يتحدى الناتو فوق سقف العالم | #وثائقيات_سكاي




.. بلينكن يؤكد أن الولايات المتحدة لم تشارك في أي عملية هجومية