الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأديب الرائد عبد الله نيازي, حياة دون ضجيج ورحيل بصمت

هيثم الحلي الحسيني

2018 / 7 / 14
الادب والفن


الأديب الرائد عبد الله نيازي, حياة دون ضجيج ورحيل بصمت
دهيثم الحلي الحسيني.. باحث في الدراسات الإستراتيجية ومتخصص في التراث العلمي
نقل الأثير الوارد من أقصى الغرب الأوربي, من ضفاف بحر الشمال, لتزيد من قساوة برده وانجماده, من أرض الدانمارك, خبر رحيل المبدع العراقي, القاص الرائد, عبد الله نيازي, الذي قد يكون أخر الرعيل الأول, من رواد القصة والرواية العراقية.
وكما ذهبت في مقال سابق, في ذكرى فقيدة الأدب العربي, الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة, الموسوم "آخر ترنيمة الملائكة", وكأن قدر المبدع العراقي, الغربة في حياته, ثم الغربة الأخرى في رحيله ورقدته, بعيدا عن الوطن والأهل والرفاق والأصدقاء, وهكذا قد رحل ورقد في غربته عن الوطن, كبرياء العراق الجواهري الخالد, ومعه الخالدون جمال الدين والبياتي وبلند ونازك, وهكذا أيضا كان رحيل الأديب عبد الله نيازي, بصمت وسكينة, كما كانت حياته, دون صخب وضجيج, ولكن سني الغربة القاسية, لم تمنعه من أن يكون ذاته, قصة الأنسان العراقي المعطاء, العاشق لوطنه, والماسك بقيمه الوطنية والعروبية.
هو عبد الله علاء الدين عبد الوهاب عبد الرزاق, النيازي لقبا, والكاظمي سكنا, ولد في بغداد كما تشير بعض الأدبيات, وخاصة أعلام العراق في القرن العشرين, للباحث الموسوعي حميد المطبعي, غير أن صاحب "المطبوع من مؤلفات الكاظمية", الباحث الدكتور محمد مفيد آل ياسين, يشير أن ولادته في قلعة صالح, في العام 1926, وهو الأرجح بحسب العائلة.
وكان الأديب الراحل قد ورد الكاظمية في مطلع الخمسينات, وسكنها ردحا من الزمن, شارف على الثلاثة عقود, فأحبته وعشقها, وانخرط في مجتمعها, ذي التعاطي الثقافي والأدبي والسياسي, وكان إبنا بارا لها, وبها كوّن أسرته الوديعة, وفيها نشأ سائر أبنائه, وقد ضمنه وأثاره المطبوعة, الدكتور محمد مفيد آل ياسين, في مجموعته البحثية عن مؤلفي الكاظمية, التي نشرها في مجلة البلاغ, ثم صدرت في كتاب, في سبعينات القرن الماضي.
كان الأديب الراحل, قد ترك مقاعد الدراسة مبكرا, لأسباب قاهرة, قد ألمت به في صباه ومقتبل شبابه, ولكنه إستعاض عنها, بالكتاب والمطالعة, والتزود بالثقافة من شتى مناهلها, حيث اتجه الى القراءة منذ ريعان شبابه, ومقتبل عمره, حتى أدمن عليها, فكان لا يفارقها في نهاره وليله.
ومع مرور الزمن وإتساع رقعة القراءة, والمنهجية الإنتقائية فيها, والإطلاع بوعي ودراية, على نتاجات المبدعين, من الرواد الأوائل السابقين من الأدباء العرب, وتراكم التجارب الفكرية والثقافية والأدبية, في مخزونه العقلي والوجداني, تحولت الكتابة عنده الى عذاب دائم, وإدمان لا يقوى على التحرر منه, فكان زاده اليومي, حتى أفرغه في الكتابة الأدبية, فكانت القصة والرواية, شاغلة إهتمامه, حتى أصبح من المبدعين في فنونها الأدبية, في تفرده بشكل النص المحكم, وعمق المعنى, وجزالة اللفظ ودقة الصياغة.
وقد عرف عن الأديب الراحل, أنه كان يستمد مواضيع قصصه من الواقع, في تنقلاته اليوميه, ورصد تحركات المجتمع وإرهاصاته, ونماذجه المتميزة التي يلتقيها ويعايشها, والتي شكلت في دواخله ومتبنياته الفكرية, ومدركاته الشخصية, قصة الإنسان العراقي, وحكاية مجتمع وشعب وأمة, ثم يقوم بصياغة مشاهداته وتسجيلاته فنيا, حتى عدّ من الرواد, في القصة والرواية العراقية, لجهة الزمن المبكر لمنجزه الإبداعي, في هذا الفن الأدبي, في ساحة الثقافة العراقية, وحتى العربية.
وكان الأديب عضوا فاعلا في إتحاد الأدباء العراقيين, والإتحاد العربي, وكان حضوره المتميز بالساحة الثقافية العراقية والعربية, قد شد اليه إنتباه النقاد وإهتمامهم, سواء من العراقيين أو العرب, فكتب عن إبداعه الفني الأدبي, وعطائه الثقافي, وبوقت مبكر من مسيرته الأدبية, الكاتب العربي "سهيل إدريس" من لبنان, وكتب عن سيرته الأدبية, "الدكتور أحمد كمال زكي" من مصر, وسواهم.
ومن أثاره الأدبية, "نهاية حب" وهي رواية, صدرت في بغداد في العام 1949, و"همس الأيام" وهي مجموعة قصصية, نشرت في بغداد في العام 1949, و"شجن طائر" وهي مجموعة قصصية, نشرت في بغداد العام 1950, و"بقايا ضباب" وهي مجموعة قصصية, صدرت في العام 1951, و "أناهيد", وهي رواية, صدرت في بغداد في العام 1953, و"أعياد" وهي مجموعة قصصية, صدرت في بيروت في العام 1963, و"الهمس المذعور" وهي مجموعة قصصية, صدرت له في بغداد العام 1971.
وللأديب أيضا كتابات فكرية, انتشرت في مجموعة من الصحف والمجلات العراقية والعربية, وقد صدر له منها في بغداد في العام 1969, كتاب "في الأدب والثورة", كما كان الأديب الرائد ناشطا في الترجمة الأدبية, وقد صدرت له " السجود للشمس" وهي مجموعة قصصية مترجمة.
وكان الأديب الفقيد من المهتمين بالقضايا العربية, وله كتابات معمّقة في الفكر العربي, وكان يحتفظ بعلاقات واسعة بالنخب المثقفة العربية, وبالذات الناشطين السياسيين, من الأدباء العرب, ودعاة التحرر الوطني والقومي, في عموم الساحة العربية, من الجزيرة العربية الى الشام ومصر, وكان يحرص على التواصل معهم, ودعمهم في داخل العراق, وخارجه في ساحة الوطن العربي, مما تسبب له في الكثير من الحرج, على مستوى النظم السياسية العربية.
وفي الجانب الشخصي من حياة الأديب الفقيد, فكان يقيم علاقة وثيقة مع أدباء أسرتنا ووجوهها, ويحتفظ بصداقة خاصة مع المبدعين منهم, وقد تميزت هذه الأسرة بتوارث الإهتمام بالأدب والسياسة عموما, بعد ان هجر جيلها الجديد العمل الديني والفقهي, خاصة عند انتقالهم من النجف الأشرف الى بغداد, بين الأعظمية والكاظمية, بدءا بالسفير والأستاذ والسياسي هاشم الحلي, نجل العلامة المجتهد, السيد علي الحلي, عضو المجلس العلمي الأعلى للثورة العراقية الكبرى.
وكان الفقيد الأديب الرائد, صديقا مقربا لعميد الأسرة وفقيدها الراحل, الأستاذ الشاعر علي الحلي, السفير ورجل الدولة, والسياسي العروبي, أحد رواد الشعر الحر, والشعر الثوري العربي, وكان ذلك سببا, أن أتعرف عن قرب بالفقيد الأديب الأستاذ نيازي, ولازلت حينها صبيا يانعا, أسترق السمع في جلسات الأدب والسياسة والثقافة, التي تحفل بها لقاءات الأسرة.
وكنت الى ذلك أختلي بعض الوقت الى بيت الفقيد, وهو في جوار دارنا, لعلاقتي الوثيقة بأبنائه, فكان يشد انتباهي, ذلك الرجل الهادئ الوديع, كأنه الملاك في حركاته وسكناته, وكنت أستغرب إختلافه عن رجال أسرتنا, الذين غالبا ما يظهر الغضب عليهم سريعا, والتعصّب لما يعترضون عليه.
وكنت أرقبه باهتمام, وهو ينزوي الى منضدته المتواضعة, ينضّد أوراقه بترتيب ملفت, وكنت أعلم أنه كان يكتب القصة والرواية, فقد وعيت الأدب والثقافة مبكرا, ولكني الآن على أستغراب كبير, كيف وأنا أرقب عمله في الكتابة الأدبية, لم تكن بين يديه, الكثير من الأوراق المتناثرة, أو المسودات المتروكة والملغاة, وهذا ما يفعله الكاتب عموما, خاصة في زمن ما قبل الحاسوب, فكان وكأنه ينسخ النص الأصل, وهي حالة فريدة في الكتابة, وخاصة الأدبية منها, وبالذات الكتابة في القصة والرواية.
والحقيقة ان هذه الظاهرة, في مشهد وآلية الكتابة, هي جزء من طباع أديبنا الفقيد الرائد, وسمة مميزة لسلوكه الشخصي, وفي تعامله مع الآخر أيضا, مهما كان عنوانه ومنزلته, فكان الأديب الراحل, إنسانا مرتبا في حديثه, ومنظّما في حركاته, وهادئا في سكناته, وليس في جميعها ماهو في غير محله, أو فائض عن حاجته, بل كان يأسرالمراقب له, في سكينته وهدوئه الملائكي.
وعن منهجه السامي في الحياة, يجمل الفقيد آفاقه ومعالمه في "الدفاع عن الانسان ككائن حي وعاقل, يتمتع بمجتمعه بالكرامة والحرية, بأوسع أشكالها, وبالتعبير عن أفكاره وأحاسيسه, بكل ما يملك من قوة", وهي رؤية متقدمة في عصرها, للإنسان وعنوانه, في الحياة والمجتمع.
وقد جسد الفقيد هذا النهج في الحياة, في إتخاذه قراره الصعب, باختيار الغربة وطنا, والرحلة الى بلاد المهجر, بسسب ضغوطات الحياة, وعدم استيعابه لإرهاصاتها, وضعف قدرته على تقبلها, مع نرجسيته وصفاء روحه, وإنحسار سمات الصدام والتقاطع والعنف, في الخلاف والإختلاف, في شخصيته وطباعه, خاصة لجهة معطيات العقدين الأخيرين, وتداعياتها في مجتمع الثقافة والأدب, والمجتمع عموما.
فأختار مهجره أولا في المغرب العربي, حيث القرب والإحساس بالإنتماء, لكن موجة التغرب, دفعت به الى الضفة الأخرى من المتوسط, بعيدا عن تراب الوطن الكبير, حتى حلت رحاله في الدنمارك, التي إستقر فيها مع بعض أفراد أسرته, وليحكم القدر ان يلفظ فيها أنفاسه الأخيرة, بسكينة وصمت.
وعائلة الفقيد الوديعة, امتداد لسيرته ودماثة خلقه, بدءا بالسيدة زوجته, الملاك الحارس, وللأديب الراحل إبنان وبنت, النجل الأكبر هو الأستاذ ليث المحامي, الذي تخرج من كلية القانون والسياسة في بغداد, وعمل في سلك القضاء والعدل, والدكتور لؤي, الذي واصل تحصيله في العلوم الطبيعية, في جامعات أوروبا الشرقية, وأختار الإقامة في المهجر, وكذا هو إختيار كريمة الراحل, المتخصصة في تأريخ الفنون, عن وعي مستحق .
وبرغم أن تراب الغربة, يغمر المغترب اليه, حتى لا يكاد تسمع أنينه ونجواه, لكن عطاء الفقيد الأدبي في المهجر, لم تخمد جذوته, فقد استمر في تواصله الثقافي والأدبي, وكعادته في محطات حياته الأخرى, فقد عاش بسكون, دون صخب وضجيج, يقدم إبداعه بصمت, متحدّا لديه, عذاب الكتابة الدائم, في عذاب ولوعة فراق الوطن, والأهل والأحبة والأصدقاء والرفاق, الذين لم يألف فراقهم طيلة مسيرته في الحياة.
وإن أسرة الفقيد, نموذج لخزين الإبداع الفني والأدبي, وهي منجم موسوعي في الريادة الثقافية, فقد كان جد الأديب الفقيد, السيد عبد الوهاب بن عبد الرزاق الحسيني, المتوفي سنة 1909, سليلا لأسرة شريفة سكنت جنوب العراق, وكان مشرفا على جريدة الزوراء, باكورة الصحافة العراقية, وكان نائبا في المحكمة الشرعية.
وكان والده السيد عبد الرزاق, يعد أميرا للخط العربي دون منازع, وكان أيضا رساما بارعا, رسم نفسه أمام المرأة باتقان, وكان شاعرا مجيدا, ومن أثاره الخالدة كتابه "الجامع في الخط العربي وآدابه", الذي يعد من نوادر هذا الفن, ومن إبداعاته صورة الكعبة, والتحفة الإثنا عشرية للأسلمي.
وكان جد الأسرة, كما تشير مصادر الترجمة, قد تزوج من أرملة أستاذه, الخطاط الرائد نيازي الأذربيجاني, الذي يرجع له تطوير الخط اللؤلؤي, وهي السيدة "نرجس خانم", فتلقب بإسمه, لشدة تقديره لأستاذه, وتأثره به وعرفانه لفضله.
ويذكر حفيده, وابن عم الأديب الفقيد, عالم المخطوطات والتراث العربي الإسلامي, الموسوعي الأستاذ هلال ناجي, ان جدّه قد أخلف نحو خمسمائة مخطوط أثري, في شتى فنون المعرفة, تحتفظ بها مكتبة الأثار العامة في بغداد, وهو يحتفظ بمكتبته, التي تعد من كبريات المكتبات في بغداد والعراق, بمجموعة نفيسة منها, مثل آثار بن الجوزي, والنسخة النادرة من كتاب متحير الألفاظ لابن فارس, والتي نسخ بعضها جد الأسرة, بخطه الفني المتقن.
وقد حفظت هذه الأسرة العربية, نفائس قيمة من عيون التراث العربي الاسلامي, ضمّنها الأستاذ هلال ناجي في مكتبته, وقد أحال الكثير منها الى طلبة الدراسات العليا, وأتاحها للباحثين والمختصين, الذين حصلوا في تحقيقها ودراستها, أرفع الدرجات العلمية, وفق ثقافة "ان العلم يزكو بالإنفاق", من خلال تمكينهم من إعلاق المخطوطات والمصورات, المخزونة في مكتبته ذات الخمسين الف عنوان, مما لا يتحصل في الكثير من المكتبات العائدة للدول, وقد حقق بنفسه الكثير من أمهات التراث العلمي, بما يشار له بالريادة عربيا.
فمن هذه الأرومة العريقة, قد خرج الأديب الفقيد عبد الله نيازي, وفي تربتها المعطاء, نبت وترعرع, فلا عجب عنه الإبداع الأدبي والذائقة الفنية, فضلا عن سمو الخلق والسريرة, لقد عاش الأديب الرائد, عبد الله نيازي بسكينة, ودون ضجيج الاعلام وصخب الحياة, وأبى إلّا ان يرحل أيضا بصمت, فسلاما ووداعا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما