الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أصحاب دانتي المترجمون: من اللقاء والتعارف إلى اشتكال المعاني وغموض الأسرار

أسماء غريب

2018 / 7 / 14
الادب والفن


(1)
لماذا نترجم؟

بعيدا عن الكلام المنمّق والمزخرف بشأن الترجمة ومدى حاجة المجتمعات لها من أجل تحريك عجلة التقدّم والتحضّر، فإنّ هذه الأخيرة تبقى في كلّ الأحوال ضرورة وجودية لا يمكن الاستغناء عنها أبدا، ليس لأن الإنسان معرّض في حياته لمواقف تضطره إلى التعامل بلغة أخرى غير لغته الأمّ، ولكن لأنّ الحياة نفسها تدفعه إلى التعامل بمفاتيح الترجمة في كلّ لحظة من يومه، دونما أن يشعر بذلك تماما، فإذا كانت الترجمة هي نوع من النّقل من أجل فهم لغة الغير وتحقيق نوع من التواصل بين كلا طرفي المعادلة اللغوية، فهذا يعني أن كلّ فرد في أيّ مجتمع كان، هو معني بأمر هذا النقل، أو هذه الترجمة بكل ما فيها من تفاصيل، والتي يكون لها في معظم الأحيان دور التأويل والشرح، وهو الدور الذي يدفع المتلقي بعدم الاكتفاء فقط باللغة في مفهومها التقليدي وإنما بمعانقة العلامة والإشارة المحيطة بهذه اللغة. ولا عجب أن يكون كل إنسان مترجما، بغض النظر عن سنه أو جنسه أو مسقط رأسه، فالأمُّ تترجم بكاء ابنها وتعرف من نبرات صوته، إذا كان في حاجة إلى الأكل أو النوم أو اللعب، والأب وهو يقود سيارته يترجم علامات السير التي يصادفها في طريقه، والجدّ وهو في حقله يترجم لغة الأنواء فيعرف متى ستمطر السماء، أو متى سيكون الجو دافئا ومشمسا، وهكذا دواليك من العلامات والإشارات التي نترجمها دونما أن نضطر إلى الحديث بلغة أخرى ليست بلغتنا تماما، وملاحظتي هذه نبعت من لحظات تأملية انتابتني عندما كنتُ أتابع بكل تركيز واهتمام مبادرة الفنّان الإيطالي روبيرتو بينيني (1) ، حينما قرر سنة 2006 أن "يُتَرْجِمَ" أشهر عمل ونتاج أدبي في تاريخ الأدب الإيطالي والعالمي بأسره، وإذ أقول "يترجم"، فإني أعني هنا "يشرح" للإيطاليين ما كتبه دانتي أليغييري في كوميدياه الإلهية، والعجيب في الأمر أن مبادرته تلك لاقت نجاحا ساحقا، وكانت تتواصل عروضها لمدة ثلاث عشرة ليلة بساحة سانتا كروشي طيلة شهري تمّوز وآب، وكانت تبثّها من هناك كلّ القنوات التلفزيونية الإيطالية، وهي المبادرة نفسها التي تمّت إعادتها في سنتي 2012 و2013 بالساحة نفسها، وحضرها الآلاف من الإيطاليين وكأنهم يسمعون الكوميديا الإلهية لأول مرّة. ولا يفوتني طبعا أن أشيد بالطريقة المبدعة التي قدّم بها روبيرتو بنيني هذا العمل الرائع، وهو يحاول أن يبسّط لغة دانتي ويقدّمها إلى عامّة الناس بطريقته الفكاهية المحبوبة، مُسقطاً أحداث الماضي الوسيط على الواقع السياسي الإيطالي المعاصر، وكأنه كان يريد أن يقول لجمهوره ألا شيء قد تغير؛ فالفساد الذي كان يعاني منه دانتي مازال مستشريا ولا بد من التصدّي له وإن عن طريق الفن والإبداع. عندئذ وجدتني أطرح هذا السؤال: هل كان من الضروري أن "يترجم" روبيرتو للإيطاليين كوميدياهم الإلهية وهم الذين يعرفونها عن ظهر قلب؟ أو بمعنى آخر؛ هل كان عند روبيرتو بينيني وعند من دَعَم مبادرتَهُ تلك شكٌّ في أنّ الإيطاليين لا يعرفون جيّدا لغتهم التي صهرها وشكّلها لهم دانتي أليغييري؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن الناس هم بحاجة أولا وقبل كل شيء إلى من يُترجم لهم لغتهم الأمّ، ثم بعد ذلك يأتي دور اللغات الأخرى، إذ لا يمكن الاطلاع على لغة ثانية ما لم يتقن الإنسان لغته الأصل. وهذا هو ما أراد بالضبط إيصاله روبيرتو بينيني، حتّى أنه أوصل الكوميديا الإلهية سنة 2015 إلى مجلس الشيوخ الإيطالي بحضور الرئيس الإيطالي سيرجو ماتّاريلّا، وهناك قرأ الأنشودة الثالثة والثلاثين من كتاب (الفردوس)، وقال إنّ هذا العمل الدانتي الكبير هو معجزة إلهية حقة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. وهنا أجدني أعقّب على كلمات الكاتب والفنان روبيرتو قائلة: إنها لحقا كذلك، وهي تحمل صفات الإعجاز اللغوي واللاهوتي والجمالي الإستيطيقي معا: اللغوي لأنها جاءت للإيطاليين وللعالم أجمع بلغة جديدة، واللاهوتي لأنها جددت الرؤية الكنيسية تجاه عقيدة المسيح، والجمالي لأن دانتي بلغ قمة الإبداع في تقديم صور جديدة غير مألوفة لدى القارئ في كل أنحاء العالم ومن كل مختلفات الديانات والاعتقادات والملل، ولهذا وجبت ترجمتها، حتّى نتعرّف كلّ يوم أكثر فأكثر إلى ذواتنا وأنفسنا ونصبح أكثر قدرة على مخاطبة الآخر والتحاور معه، وتأسيس عالم يعمه السلام والأمان في ظل الكلمة الحية والمتجددة بسرّ الحرف وأصحابه المبدعين والمترجمين في كل أنحاء هذا الكوكب الجميل.


(2)
لماذا دانتي أليغييري؟

سُكب الكثيرُ من الحِبْرِ للحديث عن هذا البَحْرِ، وأدلى العديد من الدّارسين والبحّاثة بدُليِّهِم فيه، كل حسب تخصصه ودرجة محبّته لدانتي ألغييري وإعجابه بأدبه وغزارة علومه، إلّا انني وأنا أمام موقف الكوميديا الإلهية لا أعرف بأيّ حرف سأكتب عن هذا القطب الذي نفخ الرّوح في الأبجدية الإيطالية وجعل صيتها يجاوز الأرض والسماء، أبحرف العشق والإعجاب، أمْ بحرف النقد والتمحيص، أم بهذا وذاك، لا سيما وأنا أعرف جيدا أنّ كلا الأمرين يستوجبان الصبر وإجادة الوقوف عند كلّ عمل خطّه هذا الأديب الجهبذ، لأنه هكذا فقط يمكن أن نعرف حقيقةً من هو دانتي، أو بصيغة أخرى لماذا دانتي؟
منذ سنوات مراهقتي الأولى لم تكن اللغة العربية ولا الإيطالية هما اللتان قادتاني لدانتي أليغييري، وإنما الفرنسية، وأذكر أنني آنذاك قرأت ترجمة الفيلسوف ورجل اللاهوت الفرنسي فيليسِتي دو لامونيهFélicité de Lamennais (2)، فازداد شغفي بالأدب الإيطالي، وأحببت كلّ يوم أكثر فأكثر الطريقة التي كان يعبّر بها دانتي عن فكره العرفاني الشّاهق، مما جعل إيماني بمدى أهمية الترجمة والمترجمين في تلاقح الحضارات وتزاوج العقول وتلاقح القلوب المتنورة، ونشر الفكر القائم على المحبّة السّامية، يترسّخُ بداخلي بشكل أقوى وأعمق يوما بعد يوم، لا سيما بعد ما قرأته في مقدمة فيليسِتي دو لامونيه من شروحات وافية شملت حياة دانتي، والظروف السياسية السائدة آنذاك، وما اعتور الكنيسة من فساد في الحكم والإدارة لدرجة جعلت من دانتي يموضع في الجحيم العديد من الأسماء البابوية والكهنوتية الشهيرة (3)، وهذا أمر كان فيه نوع من الإشراق والاستشراف المستقبلي لما كان يجب أن تكون عليه أمور الحياة والدين بشكل عام، ولطريقة تعايش هذا الأخير مع الواقع السياسي السائد، وهذا في حدّ ذاته طرح مبكّر لقضية فصل الدين عن السياسة على ضوء ما تناوله في كوميدياه من الصراع القائم بين الكنيسة والحكم الإمبراطوري. فدانتي كما قال عنه البابا الحالي فرانسيس بيرجوليو في عيد ميلاده السبعمائة والخمسين، هو "نبي" من أنبياء الأمل، وأقول عنه إنه "مبشّر" بالخلاص وبالتغيير العميق لكل إنسان على هذه الأرض، لأنه يدعوه مرّة أخرى إلى إيجاد ذلك المعنى الذي فُقِدَ خلال هذا السفر الإنساني العجيب الذي هو الحياة، لذا فإني أعتبر دانتي من خلال كوميدياه الإلهية بابا من أبواب عدّة قد تفيد الإنسان في العبور بالروح من غياهب الظلمات والضياع، والوصول بها إلى فراديس النور، حيث الحبّ وحده المخلّص، والمحبة وحدها تحرّك الشمس وباقي الكواكب (4).

(3)
أصحاب دانتي من المترجمين العرب:
حسن عثمان وكاظم جهاد

أ) الدكتور حسن عثمان
كتب العديد من البحّاثة العرب عن دانتي أليغييري وأعماله بما فيها الكوميديا الإلهية (5)، ولربّما باتوا منشغلين به منذ الثلاثينيات حينما قام على سبيل المثال المترجم طه فوزي سنة 1930 بنشر ملخّص بيوغرافي عن دانتي مع تحليل موجز لأعماله الصغرى وكذا لأجزاء الكوميديا الإلهية الثلاثة، وبعد طه ظهر في لبنان سنة 1933 عبّود أبو رشيد الإيطالي الجنسية وقام بتقديم ترجمة نثرية للعمل نفسه، ثم بعد ذلك قام الأردني أمين أبو شعر بترجمة أنشودة الجحيم، مع الحرص على نشرها سنة 1938 بمدينة القدس، وكان قد اعتمد فيها على ترجمة هنري وادسورث لونج فيلو. إلا أن الاسم الذي بقي عالقا في ذاكرتي بشكل أكبر وأوضح، هو اسم المترجم المصري الدكتور حسن عثمان، والذي لم أتعرف إليه مباشرة من خلال عمله الترجميّ الجبّار للكوميديا الإلهية، ولكن عبر كتابه (منهج البحث التاريخي) (6)، والذي مكنني من اكتشاف كيف أنه لا يمكن فهم الدوافع التي حدت به حقيقة إلى دراسة دانتي أليغييري وأدبه الرفيع ما لمْ أجمع في السعي نحو حسن عثمان بين العملين، أي بين (منهج البحث التاريخي)، و(الكوميديا الإلهية) مترجمة إلى اللغة العربية.
يقول حسن عثمان في تصديره للطبعة الثانية من (منهج البحث التاريخي): [ورأيت أخيرا أن أعيد طبع هذا الكتاب، وأسفت لأن وقتي لم يتسع لتعديل مضمونه على نحو أوسع، إذ أنّ أكثر وقتي مستغرق في عمل، يجمع بين الأدب والفن والتاريخ، بدأته منذ ربع قرن، وأرجو أن تتاح لي فرصة إكماله] (7)، وكما هو موضّح في نصّ التقديم ذاته فإنّ أول طبعة من (منهج البحث التاريخي) صدرت سنة 1943، في حين أن الجزء الأول من الكوميديا الإلهية، أيْ الجحيم صدر سنة 1959 (8) وهذا يعني أن العمل الذي أشار إليه حسن عثمان في نص التصدير والذي كان يشغل كل وقته ولم يسمح له بطبع النسخة الثانية من (منهج البحث التاريخي) هو بدون شكّ، (الكوميديا الإلهية) التي اقترب منها بدايةً عبر مجموعة من الدراسات التي كان ينشرها عن دانتي منذ سنة 1934 فما فوق (9)، وهو الأمر الذي تؤكده وتوثقه بشكل لا جدال فيه الصفحات الأخيرة من (منهج البحث التاريخي) والتي تطالعنا فيها العديد من عناوين الأبحاث والمقالات ذات الطابع الدانتيّ المحض أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- دانتي أليجييري: حياته وشخصيته، مجلة الكاتب المصري، مجلد 8، عدد 31. القاهرة نيسان 1948؛
- أوجولينو دلا جيراردسكا في جحيم دانتي، ترجمة وتحليل وشروح وتعليقات مع تقديم نص من ((الجحيم))، بمجلة كلية الآداب بجامعة (القاهرة)، مجلد 12 ج 2، القاهرة، كانون الأول 1950؛
- أفريقيا في جحيم دانتي، ترجمة وتحليل وشروح وتعليقات مع تقديم نصوص من ((الجحيم))، بمجلة كلية الآداب الإسكندرية، عدد 10، الإسكندرية 1956؛
- ثمّ، أفريقيا في مطهر دانتي، ترجمة وتحليل وشروح وتعليقات مع تقديم نصوص من ((المطهر))، بمجلة كلية الآداب الإسكندرية، عدد 14، الإسكندرية 1960.
ماذا يعني هذا كله؟ أن الدكتور حسن عثمان قبل أن يبدأ في ترجمة الكوميديا الإلهية استعدّ لها استعداداً جيّدا، وتعامل معها بعقلية رجل التأريخ قبل عقلية رجل الأدب والترجمة والشعر والموسيقى، لأنه كان يعلم علم اليقين، أنه لم يكن بصدد ترجمة الكوميديا الإلهية فقط، وإنما كان بصدد تقديم نظرة شاملة عن التاريخ الإيطالي وخاصة ذاك المترتبط بالحقبة التي عاش فيها دانتي أليغييري، لذلك كان لا بد من وضع منهجية تأريخية محددة كتلك التي تحدث عنها بتفصيل في كتابه الأول حينما قال: [ومن شروط العرض التاريخي أن يكون للباحث في التاريخ المقدرة على حسن التعبير باللغة التي يكتب بها، فعليه أن يعرف كيف يختار الألفاظ والأساليب التي تعبّر عن غرضه (...) وليس المقصود أن يكتب قطعة أدبية مثيرة للعواطف، بل المقصود أن يعرض على القارئ بوضوح النتائج التي وصل إليها، ويا حبذا لو كانت للباحث ملكة الكتابة، التي يجمع فيها بين البساطة والدقة وروح الفن لكي يعرض الحقائق والحوادث كما كانت أو كما فهمها بالصورة التي تجتذب القارئ إلى الإقبال عليه والإفادة بما كتبه (...) وينبغي أن يلاحظ الباحث أن القارئ لم يطّلع على الأصول والمصادر التي رجع إليها، فعليه أن يوضّح ما توصّل إليه في موضوع بحثه من حيث كلياته وجزئياته، بتقديمه الأدلة والبراهين (...) والمسألة التالية هي مسألة الهوامش والحواشي، فينبغي أن تكون الهوامش جزءا مهمّا في أسفل الصّفحات أو في نهاية الفصل أو في نهاية الكتاب، لكي تضبط الوقائع الواردة في متن التاريخ] (10) وهي كلّها هذه الخطوات التي اتبعها الدكتور حسن عثمان في ترجمته للكوميديا الإلهية، سواء من حيث الأسلوب الذي جاء واضحا وخاليا من كل تصنع وقعقعة بلاغية أو بهرجية، أو من حيث عمق المعنى المترجم، أو من حيث الطريقة المتبعة في تقديم كل أنشودة على حدة، بدءاً من الجحيم وصولا إلى الفردوس، مع الحرص على أن يدعم كل جزء بتقديم يشرح فيه الظروف السياسية والتاريخية والاجتماعية التي كتب فيها دانتي أليغييري كوميدياه، مع الاهتمام بإثراء الترجمة بهوامش وحواشي وتعليقات في غاية الأهمية، لأنها تفتح عين القارئ على عوالم دانتي بشكل إبصاري وتبصيري بديع، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه في سفر استكشافيّ مستمر، فتزداد المتعة وتعظم الإفادة ويتعمق الفكر من خلال اطلاعه على أدب ونتاجات الحضارات الأخرى(11).
حينما قرأت الترجمة العربية للكوميديا الإلهية، وجدت نفسي مسافرة ليس فقط في عوالم دانتي وإنما أيضا في عوالم المترجم نفسه وأعني به هنا د. حسن عثمان، وهذا في اعتقادي من أهمّ علامات الترجمة الجيدة والناجحة، لا سيما وأنني كنت أجد نفسي أعرف كل مكان زاره حسن عثمان وهو يتتبع خطوات دانتي من أجل اكتشاف الطريقة التي كتب بها كوميدياه، وليس هذا فحسب، فحتى الأسماء التي ذكرها في تصديره لكل أجزاء الكوميديا وأحيانا في الخاتمة والحواشي، وجدتني أعرفها بلا ريب، وكيف لا يكون الأمر كذلك وأنا ممّن درس في إيطاليا وأعرف جيدا معنى أن أقرأ له، ليس لأنه مترجما وكفى، ولكن لأنه من كبار من ساهم بأعماله في إثراء مكتبات معاهد الدراسات العربية في الجامعات الإيطالية سواء في نابولي، أو روما أو مدينة إقامتي باليرمو، والتي زارها هو الآخر لأكثر من مرّة وحاز فيها على تكريم قيّم من طرف ((جمعية دانتي أليغييري)) وهي الحقيقة التي يؤكّدها هذا الجزء المقتطف من التذييل الخاصّ برحلاته إلى أوروبا ما بين سنوات 1965 و1967: [وبعد أيّام قليلة دعاني ريزيتانو(12) إلى الحضور إلى جامعة باليرمو لأن ((جمعية دانتي أليجييري)) في باليرمو قررت تكريمي في مبنى الجامعة (...) وذهبت مساء 15 ديسمبر 1966 في صحبة بلفيوري إلى مقر الجامعة في شارع ماكويدا، وهناك رأيت الباب الكبير للجامعة مفتوحا على مصراعيه، وشهدت ممشاة حمراء طويلة ممتدة عبر الفناء الكبير، وصاعدة على درجات سلم كبير حتى قاعة الجامعة الكبرى، وانتشرت أصص الزهر هنا وهناك. فقلت لبلفيوري، ماهذا كله! فقال إنه من أجلي! فقلت له لماذا لا يعطونني الميدالية في حجرة الجامعة مثلا وتنتهي المسألة في هدوء وسلام! (...) ونهض ريتزيتانو، وتحدث عن ذكريات الدراسة في جامعة روما، ونوّه بجهودي في دراسة دانتي، وبأثر ذلك في مجالات الثقافة العربية والأفريقية والإيطالية والعالمية. وقال إن إيطاليا قد أنشأت حتى الآن أربعة كراس للأستاذية في كلّ من جامعات روما ونابولي وباليرمو والبندقية، لدراسة اللغة والحضارة العربية، وإن جامعتي تورينو وكالياري تدرسان الآن هذه الحضارة، وسوف ينشأ بهما كرسيان لهذه الدراسة في المستقبل. وسألني أمام ذلك الحشد المجتمع أن أسعى لدى المسؤولين في مصر لإنشاء كرسي واحد على الأقل في إحدى الجامعات المصرية، لدراسة اللغة والحضارة الإيطالية، نظرا للروابط المتنوعة الوثيقة بين إيطاليا والبلاد العربية عبر القرون] (13)
توفي الدكتور حسن عثمان بالقاهرة سنة 1973 (14)، وترك لنا كنوزا من الكتابات، وإني لأرى في ترجمته للكوميديا الإلهية وحدها معينا لا ينضب من الإبداع الذي تجاوز مجرّد نقل عمل من لغة إلى أخرى، حتى أنني كلّما أخذتها لأقرأها وجدتني أتوقف طويلا لأتأمل ما فعله هذا الأديب المصري بعين المحبّة والتقدير، وأتأمل تواضعه وإيمانه الكبير بأنّ كلّ عمل مهما كان عظيما فهو ناقص ويحتاج دائما لمزيد من التدقيق والتعديل والتصويب، إلى أن يظهر في الساحة من يقدم أفضل أو أكمل منه وإلا لما كان حسن عثمان نفسه ختم ترجمته للفردوس قائلا: [فإنّي أؤمل أن يأتي من بعدي من يدرس، ويرتحل، ويصبر، ويستوعب، ويتأمل، ويستلهم، ويمسك باليراع لكي يعبّر عن دانتي في صورة أوفى وأجمل، ولا ريب فهذه هي سنة الزمان] (15)
ب) الدكتور كاظم جهاد
وبالفعل ظهر في الساحة بعد الدكتور حسن عثمان العديد من المترجمين ممن ترجموا الكوميديا الإلهية مستعينين بالنسخ القديمة، وبترجمات من سبقوهم في هذا المجال وفي جميع اللغات، لكن تبقى تجربة المترجم العراقي كاظم جهاد في مجال الدراسات والترجمات الدّانتية تستحقّ التوقف عندها أكثر من غيرها لما فيها من ثراء وتميّز لم أجده في باقي الترجمات.
ولد كاظم جهاد في الناصرية سنة 1955، وغادر بغداد في صيف 1976 متجها إلى باريس التي أصبحت وطنه الجديد، ومنذ ذلك الحين لم يعد إلى العراق، وهذا بالنسبة لي لا يعني سوى شيء واحد؛ باريس هي منفاه، كما كانت فيرونا بالنسبة لدانتي أليغييري، وعلى ذكر قضية المنفى تحضرني هنا أبيات للشاعر والمترجم والناقد كاظم جهاد من قصيدة بعنوان (عراقيون) يقول فيها:
"عاثرين وسط فخاخ من الظلام
كذلك كنّا
دائرين طويلا حول العالم
بإزاء هامشه المزنّر بالأحداث
فكرتنا عن الخطيئة
كانت مُبَسترة وغامضة
وليست تحتاج إلى شروح
[...]
فجأة ارتطمنا باليابسة
كان ذلك كمثل سقوط في الديمومة
غطسة في الزمن، نعاس دون انتهاء"(16)
هذه الأبيات تلخّص تماما تلك الفكرة التي طالما كتبتُ عنها في مقالاتي، والتي مفادها أن كلّ مبدع هو في الحقيقة لا يتوخى من عملية الإبداع ذاتها سوى إيجاد نظيره الروحي، هذا النظير الذي قد يتجسد ويتجلى أمامه بعدّة صور وأشكال، وهو في حالة كاظم جهاد أصبح متجسّدا في التجربة الدّانتية، لما فيها من تشابه كبير يجمع بينها وبين تجربته الحياتية الكبرى، حتّى ولكأن أجواء الكوميديا الإلهية ومعاناة دانتي السياسية تبدو بشكل أو بآخر قريبة من تجربة العراق والتغيرات الدّامية الكبيرة التي طرأت عليه منذ السنة التي غادره فيها كاظم إلى اليوم، وهذا واضح جدّا في ديوانه (معمار البراءة) الذي هو عبارة عن إعادة استذكار المكان الأمّ جغرافيا وإنسانيا وخياليا، لأن الأمر فيه نوع من ترميم ذاكرة العراق عبر ترميم الذاكرة الفردية من أجل الوصول إلى مرحلة المصالحة مع الذات وتجلي الروح في أبهى صور النقاء والعطاء الخلاق، وما من عبث قسّم دانتي أليغييري نفسه كوميدياه الإلهية إلى ثلاثة أقسام، أولها الجحيم وثانيها المطهر وثالثها الفردوس، باعتبار أن كل إنسان هو منفي، وهو في الوقت ذاته كائن مهاجر يحتاج إلى ثلاث مراحل في حياته بالضبط كتلك التي تحدّثَ عنها كاظم جهاد في حواره ببرنامج روافد حينما قال: [كلمة المرارة تلخص تجربة المهاجر والمنفي، وهي تشكل جوهر العلاقة بالثقافة الأصلية وبثقافة المحل الذي يهاجر إليه المثقف، وهي علاقة صراعية لا يمكن الخروج منها إلى محطة إبداعية إذا لم يتم تطويع هذه العلاقة. أعتقد أن المنفي أو المثقف المنفي يمر بثلاث مراحل، هناك أولاً مرحلة الانبهار عندما يأتي إلى أرض منفاه أو أرض الهجرة أو المهجر وفيها يعتقد أن كل ما يأتي من الآخر هو بالضرورة متفوق وساحر وجميل، ثم تأتي مرحلة تصفية وبلورة وغربلة يرافقها شيء من الشعور بالخسارة والفقدان، لاسيما وأن ما يحدث في البلاد الأصلية لا يشجعه على الفرح. مسألة المرارة هنا مسألة أساسية لأنه إن سقط فيها الإنسان أصبح اجترارياً وتكرارياً وتسيطر عليه الهواجس والذكريات المتسلطة والشعور بنوع من الخيبة والنكوس والارتكاس. إذا اقتصر على هذه المرارة بدأ الطور الثالث الذي لا يشهده الجميع للأسف ولا يمر فيه إلا من تجاوز مرحلة المرارة، وهو نوع من الولادة الثانية أو ما يدعى بالبراءة المستعادة، يعني يجب اختراق الذاكرة، سواء ذاكرة المعيش السابق في البلد الأصلية، وذاكرة المعيش لأول الهجرة والانطلاق إلى هجرة ثانية تكون في الأوان ذاته برانيه وجوانيه في المشهد الغريب وفي داخل الإنسان نفسه. ينبعي المصالحة بين الماضي والحاضر ينبغي تصفية الخسارات واستخلاص العبرة أو الدرس من هذه الخسائر، وصياغتها في تجربة تكون فرحة لأنه في النهاية يجب أن تكون انتصار للحياة] (17).
إنها هي، هذه الغربة، وهذه المراحل الاختمارية الثلاث التي يتحدث عنها كاظم جهاد في معظم كتاباته (18)، وهي نفسها التي جعلت ترجمته لكوميديا دانتي الإلهية فريدة من نوعها، بل تتمتع بسحر خاصّ وجاذبية عذبة، والسبب في ذلك أن الأرضية التي تكونت فيها عجينة الإبداع لدى الدكتور كاظم تختلف تماما عن الأرضية التي انطلق منها سلفه الدكتور حسن عثمان، فهو يحمل بداخله عبق ريف الجنوب العراقي المضمخ بدفء وأصالة وعمق حضارة بلاد ما بين النهرين، وكذا ثراء الفكر الفرنسي الذي سمح له بالاطلاع على أمهات الكتب التي تركها كبار مفكري فرنسا، إضافة إلى حميمية علاقته بباريس مدينة الأنوار والشعر والشعراء، وهذا أمر جعل نظرته للأدب العالمي تكون ذات بعدي روحي جامع وشامل، ثم مُسْتَقْبِلٍ ومُحْتَضِنٍ بنوع من الأبوة الفكرية والثقافية التي لا يمكنها أن تنبع إلا من فكر فُراتيّ جنوبيّ ناصريّ بكل ما في هذه الصفات من المعاني الروحية والفكرية العميقة والطيبة.
حينما قرر كاظم جهاد ترجمة الكوميديا الإلهية، حاول أن يحاذيها بروح التحديث والمعاصرة؛ وأقول التحديث لما بذله من جهد من أجل تفادي ما وقع فيه المترجمون السابقون من الأخطاء المنهجية والترجمية، محاولا قدر الإمكان أن يحفظ للنص المترجَم موسيقيته وهندسته المعمارية الموجودة في النص الدّانتيّ الأصليّ مدعّما إياه بمدخل شامل يجمع بين التاريخ والفلسفة والأدب والنقد، وبحواشي وهوامش تجعل من قراءة أجزاء الكوميديا الإلهية متعة لا تضاهيها متعة(19)، أما بالنسبة للروح المعاصرة فأعني بها أن كاظم جهاد أفاد ليس فقط من ترجمات ودراسات من سبقه من البحّاثة والأدباء كحسن عثمان مثلا، وخورخي لويس، وبورخيس، وأنغاريتّي، وفيليب جاكوتيه، وإنما من ترجمات حديثة لا سيما تلك التي كانت باللغة الفرنسية، ولعلّ أهمها ترجمة الشاعرة والباحثة الفرنسية جاكلين ريسّيه والتي تعرّف إليها كاظم في لقاء شعري انعقد في المغرب سنة 1967، وهي الترجمة التي أصبحت من أهم المصادر المعتمدة لديه، مّما جعل عمله تجديديا بامتياز، ففي الوقت الذي كان فيه معظم الشراح والمترجمين يعتقدون الكوميديا الإلهية شكلا من أشكال التصوّر المسيحيّ المحض للعدالة والكون، فإن كاظما حاول أن يتعمق في الأمر بشكل أكبر ويؤكد أن العكس هو الصواب، وإلا فلماذا اختار دانتي فرجيليو مرشدا له في رحلتي الجحيم والمطهر «إن لم يدلّ هذا على اعتزازه بهذا الشاعر اللاتيني الذي توفّي في الوثنية قبل أن تظهر رسالة المسيح إلى العالم؟ وهل بمقدور أحد أن يعمى أمام تضافر الأفكار الأرسطية والإكوينية والرّشدية في الأجزاء الثلاثة، وأمام هذا التجاوز الدّائم للاهوت نحو رؤية صوفية-شعرية؟» (20)

(4)
الكوميديا الإلهية وقضية المصادر الإسلامية

شكك العديد من البحاثة والدارسين في المصادر التي اعتمد عليها دانتي من أجل تقديم كوميدياه إلى قارئ إيطاليا القرون الوسطى، ومنهم من قال إن كل المصادر التي اعتمد عليها هي مصادر عربية إسلامية محضة مرتبطة خاصة بكتب الإسراء والمعراج المُحَمّدِيَيْنِ التي كانت تتداول في تلك الفترة بالأوساط الدينية والثقافية العربية.
ومن بين هؤلاء ظهر الألماني شارل شيير(21) الذي نشر في سنة 1866 دراسة تحليلية يهدف من ورائها إلى التأكيد على الفكرة القائلة إنّ دانتي كانت له دراية واسعة باللغات السامية وخاصة منها اللغة العربية!(22) وفي سنة 1901 ظهر بعده باحث آخر فرنسي متخصص هذه المرة في الفكر الفارسي اسمه إدغار بلوشيه حاول هو أيضاً من خلال كتابه (المصادر الشرقية في الكوميديا الإلهية) أن يعبّر عن نفس الشكوك التي أشار إليها الباحث الألماني السابق. وظلت الأمور على هذه الشاكلة إلى أن ظهر الباحث الإسباني ميغيل آسين بلاشوس سنة 1919 ببحثه الشهير (دانتي والإسلام) ليوجه الضربة القاضية لكل من كان آنذاك يدافع عن الهوية الإيطالية للكوميديا الإلهية الدانتية ويعتبرها خالية من أيّ أثر لقصة الإسراء والمعراج المحمديين والتي كانت تتداولها خاصة الكتب أو الرسومات الفارسية والتركية لتلك الفترة والتي جابت العديد من مناطق العالم شرقا وغربا (23).
يبقى على قدر كبير من الأهمية أن نقول مدفوعين في هذا بوازع الأمانة والنزاهة العلمية إنّ هناك فروق كبيرة جدا بين ما ورد في كوميديا دانتي وبين إسراء محمد (ص)، وبين ما يشير إليه الباحثون من أوجه تشابه بين القضيتين، إذ تكفي مجرد قراءة أولية للفصل الذي يتحدث فيه دانتي عن محمد (ص) وعن المكان الذي خصصه له في الجحيم رفقة ابن عمه علي (ع) كي نكتشف أن دانتي لم يكن يعلم شيئا عن محمد (ص) ولا عن حقيقة وجوهر الإسلام إلا ما كان يصله سماعا. وعلى ذكر محمد وابن عمه في جحيم دانتي، فإنه تجب الإشارة إلى ما قام به كلا المترجميْن، وأعني بهما حسن عثمان وكاظم جهاد من تصرف في ترجمتهما لهذا الجزء من أنشودة الجحيم، حيث قام الأول بحذفه تماما( 24)، أما الثاني فتصرفّ فيه ولم يذكر لا اسم محمد ولا عليّ (25)
وكي لا نتوقف كثيرا عند هذا الموضوع ونغيّب الحديث عن مواطن الجمال الأدبي في كوميديا دانتي فإنه تجدر الإشارة إلى حقيقة أخرى تثبت عكس ما رغب الباحثون التأكيد عليه من أوجه التشابه بين إسراء محمد (ص) ورحلة دانتي في عالم الملكوت الإلهي: ليست بحوزتنا أيّة معطيات أو حقائق تثبت أن دانتي قد أسري به كما محمد (ص)، وكل ما حدث هو أن الرجل ألهم له كمبدع وأديب، وكرجل معرفة وتصوف مسيحي وليس كنبي أو رسول، وشتان بين الأمرين، وعليه فلا يجب الخلط بين الوحي والإلهام لأنهما مساران روحيان يختلفان اختلافا جذريا الواحد عن الآخر، فالإلهام غالبا ما يتعلق بموضوع ما يختمر بفكر المرء ويتفجر بعدها بشكل مفاجئ من خلال حلم يقظة أوحلم في المنام، أما الوحي الإلهي فهو مسألة مطلقة ونعمة ربانية لا يتلقاها إلا الأنبياء عن وعي كامل وحق، سواء من خلال حجاب أو عن طريق الملائكة، وهذا يدفعنا ولا شك إلى أن نقول إن محمدا (ص) هو الأحق بأن نقول عنه إن ما عاشه من رحلة هو أمر لا يشاركه فيه أحد ووحي إلهي لا يمكن مقارنته بل لا يجوز بأي شكل من الأشكال تشبيهه بما عاشه دانتي من إلهام، وكل ما يمكن تأكيده في هذا الصدد هو أنه من الممكن أن يحدث ما سمّاه سابقا الشيخ نديم الجسر بتلاقي العبقريات، وتلاقح العباقرة عبر الفيوضات والإلهامات حتى ليبدو كأنهم يأخذون عن بعضهم بعضا، لما يكون في كلامهم من تشابه(26).
دانتي كان يعيش ضغوطات نفسية قاهرة بسبب الظروف السياسية المريرة التي كانت تتخبط فيها إيطاليا آنذاك بما فيها الحروب الأهلية التي كانت مندلعة في مناطقها الشمالية بالخصوص، وهذا النفس المرير ينعكس بشكل واضح في كوميدياه، ويعبّر عن نظرة متشائمة وحزينة نتيجة التجارب القاسية التي خاضها كرجل سياسة ثم كمنفيّ بعيدا عن وطنه وبلده الذي كان يكن له حبا صادقا وكبيرا، فواقعه إذن هو واقع يمثل عالما تحكمه فوضى رهيبة وفساد سياسي أرهب، لذا فالنظام الإلهي بالنسبة له الذي يعدّ هدفه الأسمى هو تحقيق التوازن والسعادة لبني البشر تعرض هو الآخر إلى التشويه والتحريف وعليه فإن الحل الأمثل لكل هذا السواد الذي يعيشه دانتي نجده ينبلج في عقله عن طريق رؤيا تمت أحداثها بالعالم الأعلى من خلال حلم قاد فكره إلى حيث الجحيم مرورا بالمطهر ووصولا إلى الجنة أو النعيم.
أما محمدا (ص) فلا هو تخيل ولا حتى حلم ولكن أسري به حقا روحا وجسدا بالرغم من كون هذه الحقيقة مازالت حتى اليوم محط جدل واسع من طرف علماء وفقهاء الأمة الإسلامية والتي لا يمكننا أن نعلق عليها سوى من خلال الدعوة إلى قراءة متمعنة لسطور الآية التي تحدث فيها البارئ عن إسراء نبيه حينما قال عز علاه:
"سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (27)،
والجدير بالملاحظة الدقيقة في هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل استعمل مصطلح (أسرى) كي يؤكد بأنه أخذ عبده روحا وجسدا وأن الأمر لم يكن مجرد حلم أو رؤيا عادية.
استعمل أيضا عبارتي (لنريه وآياتنا) وهذا يدل على أن رؤية الآيات لا يمكنها أن تتم إلا عبر أجساد واعية وفي كامل قواها ويقظتها العقلية وإلا فما معنى كون الرسول (ص) عاد من إسرائه ليحكي بعد ذلك لأصحابه كل مارآه هناك بأدق التفاصيل وأدهشها وخاصة منها تلك التي تتعلق بمرحلة وصوله إلى المقام الأعلى قرب سدرة المنتهى حسب تفسيرات العديد من فقهاء وشيوخ تفسير الذكر الحكيم، وما أشاروا إليه وبشكل خاص في سورة النجم:
"وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9) فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17) لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ"
ولكن شفيع الأمة لم ير فقط في رحلته هذه مناظر بهذا الشكل من الجمال والبهاء المطلق ولكن مشاهد أخرى من العذاب والقسوة التي سيجازى بها الإنسان العاصي كل حسب حجم معصيته وخطيئته، كذاك المشهد الذي رأى فيه مجموعة من الأشخاص منهمكين في أكل أحجار من نار ملفوفة بالأشواك كعقاب لهم على ما ارتكبوه في حياتهم الدنيوية من معصية البخل والشح وآخرون كانت تسحق رؤوسهم باستمرار بصخور ضخمة لأنهم على الأرض كانوا من تاركي الصلاة، أما الزناة فكانوا يعاقبون بأكل اللحم المتعفن من أواني أشد نتانة وعفنا، وقد كانت بالذات هذه هي المشاهد التي دفعت الباحث الإسباني ميكيل بلاشوس أن يقول إن هناك شبه كبير ونقط مشتركة بين رحلة دانتي وإسراء محمد (ص)، وأن الأول أخذ فكرة مؤلفه من قصة إسراء الثاني، الشيء الذي عجّل بظهور باحث آخر إيطالي في هذه المرة واسمه إنريكو تشيرولّي (28) الذي استطاع من خلال مؤلفه (الإسراء والمعراج وقضية المصادر العربية الإسبانية في الكوميديا الإلهية) أن يوضح كيف أن دانتي كان قد توصل بشكل أو بآخر إلى قراءة الكتب التي أرّخت لرحلة الإسراء والمعراج من خلال حصوله إما على نسخة من كتاب الإسراء الذي ترجمه الموثق الإيطالي بونافينتورا أو على نسخة من الدراسة التي قام بها المبعوث الديبلوماسي الإيطالي برونيتّو لاتيني لدى البلاط الأموي بقرطبة آنذاك. وجدير بالذكر، أن برنيتّو لاتيني هذا كان من أهم الأسماء التي أشار إليها الأديب دانتي في كوميدياه الإلهية معتبرا إياه من كبار أساتذته الذين أفادوه بخبراتهم الكبيرة في الأدب.
لم يكن دانتي رجل أدب وفلسفة فحسب، ولكنه قبل هذا وذاك كان رجلا روحيا ومن كبار متصوفي الديانة المسيحية آنذاك رغما من مواقفه اللاذعة تجاه الكنيسة والفاسدين من رجالها. شخصيته الصوفية هذه تبدو واضحة بشكل أكثر في الجزء الأخير من الكوميديا أي بالفردوس، وهو جزء تسبح أبياته في فضاءات لامتناهية من النور، ذاك النور والبهاء الذي لا يستطيع التعبير عنه بكل هذا العشق وبكل تلك الدقة والدهشة سوى رجل خبر معنى الحب الإلهي، وهذا يتجلى بشكل أكثر حينما يجد دانتي نفسه منجذبا إلى تلك الأفلاك السماوية المنيرة وإلى تلك الموسيقى الملائكية والنور المقدس الذي ما بعده نور والمجسد بجمال أدبيّ يسلب العقول في أبيات الأنشودة الثالثة والثلاثين، إذ يبدو دانتي وقد ولج ببصره في النور الإلهي إلى أن فقد أيّ إحساس بالعالم الخارجي فوصل بذلك إلى مقام اللذة والسكينة والرضا الإلهيين مما يجعلنا نتساءل عن المدى الذي يمكننا القول عبره إن دانتي في وصفه لكل هذا النعيم وبهذا الشكل من الحب والصفاء قد استند بحق على مصادر عربية أو حتى غيرها وخاصة تلك التي تتحدث عن الإسراء والمعراج المحمدييْن؟
النور الإلهي هو ملك للجميع، والله عز وجلّ هو للجميع أيضا، خالقهم ومتوليهم، وسلامه وصفاؤه ومحبته هي للجميع، وفي هذا يتفق كل رجال التصوف سواء منه الإسلامي أو غير الإسلامي، فدانتي إذن لم يأتنا بشيء جديد، وتجربته ليست كتجربة محمد ولا يمكنها أن ترقى إلى مصاف تجربة الأنبياء، ولكن يمكنها أن تصل إلى تجارب الأولياء وشيوخ المعرفة وهذا يقودنا إلى الحديث عن صاحب أسمى نظريات الحب والعشق الإلهي، دفين دمشق الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الذي تحدث هو الآخر كما تحدث دانتي عن مفهوم النور الإلهي بالملكوت الأعلى من خلال شرحه لسورة النور في (كتابه الفناء بعد المشاهدة) وهو نور لا يمكن التوصل إليه إلا من خلال حب كامل ومتكامل، وهو الحب الذي يتحدث عنه كل متصوفي الديانات السماوية التوحيدية الثلاث بالرغم من تعدد أشكاله وتمظهراته، ويعد ابن عربي والسهروردي ورابعة العدوية من أهم النماذج التي يشار إليها بالبنان والخالدة في هذا النوع من الحب والتوحد الإلهي، فلا رابعة ولا ابن عربي ولا السهروردي أو الحلاج ولا حتى دانتي نفسه كان هدفهم جعل هذا النوع من الحب فوق الأرض كشيء مقدس مطلق، ولكن هدفهم كان هو التوصل إلى ذلك الخيط الرفيع الذي يربط الله عز وجل بالكون، أيْ كذاك الذي كان يربط ابن عربي بحبيبة قلبه ابنة مكين الدين الأصفهاني السيدة الفاضلة "نظام" ودانتي بمعشوقته "بياتريشه" التي تمكن من خلال حبها كما حدث لابن العربي إلى التوصل إلى ذلك الرابط الرفيع من حب عظيم بشكل لا يمكن أن يتجلى عنه حضور آخر سوى تجل واضح من تجليات الله عز وجل من خلال النور الحق، كي يقود دانتي إلى حقيقة وأسرار الديانة المسيحية، ويقود محمد عليه أفضل صلاة وسلام إلى اكتشاف معنى وحدانية وصمدية رب السماوات والأرض. وعليه فإن الوردة الصوفية المذكورة في الكوميديا الإلهية والتي يلتقي بداخلها دانتي بقديسي النصرانية تعوم كلها في بحر من النور الإلهي، وسدرة المنتهى التي حدثنا عنها نبي الإسلام تسبح هي الأخرى في بحار من النور، والمصباح الذي حدثنا عنه الله عز وجلّ في سورة النور يشع هو الآخر نورا على نور، فالله إذن هو نور السماوات والأرض ويهدي لنوره من يشاء، نور غالبا ما يعجز لسان المتصوفين عن وصفه، الشيء الذي يدفعنا بالذات إلى قول إنّ كل تجربة صوفية هي تجربة خاصة بالشخص الذي يعيشها، وإن كانت تقود إلى نفس النتيجة، أيْ إلى اكتشاف عظمة الخالق من خلال مراحل ومقامات في غاية الصعوبة والدهشة، لذا تبقى تجربة دانتي تجربة خاصة مختلفة تمام الاختلاف عن تجربة وإسراء الرسول محمد (ص) ومختلفة حتى عما تحدث عنه أبو العلاء المعري (29) في كتابه رسالة الغفران والتي اعتقد البعض من الباحثين أنها هي الأخرى كانت مصدرا من المصادر التي اعتمد عليها دانتي من أجل تأليف كوميدياه، الشيء الذي يمكن اعتباره مسألة غريبة ولا أساس لها من الصحة، لأن قراءة بسيطة لكلا المؤلفين يمكنها أن توضح وجه الغرابة في هذا القول وتوضح بالتالي مدى اختلاف المؤلفين الواحد عن الآخر في العديد من النقط والتي سنكتفي بذكر الأهم منها؛ كمثلا تلك التي تخص الفترة التي كتبت فيها رسالة الغفران، والتي تختلف اختلافا كبيرا عن تلك التي كتبت فيها الكوميديا الإلهية والتي يؤرخ فيها دانتي لأحداث مهمّة تتعلق بأوروبا القرون الوسطى من خلال منظور يمزج بين ماهو سياسي وديني، وبين ماهو أدبي وصوفي. أما أبو العلاء المعري فيظهر من خلال كتابه رجل فكر ونقد بارع وعبقري استطاع بحنكة وخبرة لا مثيل لهما أن يجعل بينه وبين الأحداث مسافة عقلانية يراقب من خلالها الشخصيات بحياد متناه.
نقطة أخرى تستحق الذكر في ما نقوم به الآن من مقارنة متواضعة بين العملين وتخصّ حضور المرأة في مساق أحداث الكتابين، ففي الكوميديا نجد أن بياتريشه لعبت دورا أساسيا في توجيه حياة دانتي ومساره الصوفي بل أصبحت حسب المؤلف رمزا للخلاص الأبدي وللحلول في الذات الإلهية، وهو مفهوم لم يأت ذكره أبدا في عمل أبي العلاء خاصة وأننا نعلم أنه لم يحدثنا أبدا في سيرته الذاتية عن حب قوي وجارف اضطرمت نيرانه في قلبه تجاه امرأة ما، بل كل ما نعرف عنه أنه عاش طيلة حياته حصورا، ولا كان مجنون ليلى ولا حتى شيخ "نظام".
دانتي في كوميدياه كان دائم الحضور، يحرك بشكل درامي الأحداث وبتفاعل كبير ورغبة شديدة في معرفة أسرار العالم الآخر، ومصير المفكرين الذين تركهم على سطح الأرض وهو شيء لم نلاحظه في رسالة أبي العلاء.
أبو العلاء المعري كتب رسالة الغفران من أجل الرد على رسالة صديقه ابن القارح الحلبي وحلل من خلالها مظاهر وأسباب انحطاط الدولة العباسية آنذاك، وهي أسباب ليست لها أية صلة لا من قريب ولا من بعيد بتلك التي دفعت دانتي إلى كتابة كوميدياه، أي أنه لو لم تكن رسالة أبي القارح لأبي المعري لما أتحفنا هذا الأخير برائعته رسالة الغفران.
ولأجل كل هذا فإننا نعتقد بأن الكاتبة والدارسة الجليلة عائشة بنت الشاطئ كانت محقة حينما حذرت العرب من كتابات الباحث الإسباني آسين بلاشوس ومن نواياه السياسية البحتة التي دفعته إلى القول بنظرية المصادر العربية الإسلامية في كوميديا دانتي، أي أنه كان يرغب بشكل أو بآخر أن يؤكد على مسألة السبق الثقافي والاستعلاء الإسباني تجاه الثقافة والحضارة الإيطالية، لأنه يعتقد بأن إيطاليا عليها أن تبقى دائما مدينة ومعترفة بالجميل الذي قدمته إسبانيا لدانتي من خلال ما منحتهُ من ترجمات إسبانية عن الفكر العربي الإسلامي والتي لولاها لما استطاع دانتي أن يؤلف كوميدياه الثلاثية الأجزاء (30).
وحتى لا ندخل في متاهات أخرى حول قضية المصادر يكفي إلقاء نظرة خاطفة على أولى أبيات الأنشودة الخاصة بجزء الجحيم كي نكتشف حقيقة المصادر التي اعتمد عليها دانتي والتي تخص الحضارة الإغريقية من خلال شخصية الفيلسوف والأديب الكبير فيرجيليو الذي قال عنه:
"إيه يا نور جميع الشعراء ويا فخرهم كلهم
ألا فليُعنّي الحبّ العارم والدّرس الطويل
اللذان دفعاني للبحث في أثركَ
إنك لأستاذي ومرجعي؛
منك وحدك أقتبس
الأسلوب الرفيع الذي زادني مجداً" (31)
وجدير بالإشارة أن فيرجيليو لم يكن مصدره الوحيد، ولكن أيضا الكتاب المقدس وخاصة العهد الجديد الذي يتبين لنا من خلال قراءته أنه أيضا يحوي أجزاء كثيرة تتحدث عن الرحلات التي حققها رسل الديانة المسيحية إلى العالم العلوي، وخاصة تلك التي أشار إليها دانييل ويوحانا في رؤياه اللاهوتية دون التغاضي طبعا عن الكلمات التي ذكرها بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورينتوس بالأصحاح الثاني عشر والتي يقول فيها:
"إنه لا يوافقني أن أفتخر. فإني آتي إلى مناظر الرب وإعلاناته، أعرف إنسانا في المسيح قبل عشرة سنة، أفي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد، لست أعلم. الله يعلم. اختطف إلى السماء الثالثة. وأعرف أن هذا الإنسان، أفي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد، لست أعلم. الله يعلم. أنه اختطف إلى الفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلّم بها. من جهة هذا أفتخر".

(5)
دانتي وبياتريشه: أسرار بعين ماكرة

من ضروريات النقد الجيّد، العين الماكرة، وأقصد بها، تلك التي تنظر إلى ماوراء الحقيقة البادية لكلّ الناس، وكوميديا دانتي تحتاج بالذات إلى هذه العين الماكرة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، دانتي لم يكن أديبا كنيسيا، وإن كانت الكنيسة بكل شيوخها الأجلاء الكبار لليوم تحاول أن تجتذبه إليها وتدّعي انتماءه وولاءه لها. دانتي قبل أن يكون أديبا، فهو عارف كبير، والعارف الحقّ لا يطيق الانتماء لأحد، لا لحزب، ولا لدين رسميّ قد يكون بعيدا عن جوهر المحبّة بشكل تنمحي معه كل أوجه القداسة والخلاص التي جاء بها أنبياء ورسل الرحمة. دانتي في كوميدياه الإلهية هذه يقول بأعلى صوته: لكم دينكم ولي دين، وهو لأجل هذا جعل أسلوبه وحروفه فيها مشفّريْنِ، حتى لا يفهمهما سوى أهل المحبّة الخالصة ممن اكتووا مثله بنور القدسية والبهاء. إن الكوميديا الإلهية ختاما هي في الحقية سفر روحي خاص بدانتي لا غير، وقد استطاع بذكاء خارق أن يدفن بين أبياتها كنوزه وأسراره، وهي كثيرة جدّا ولكنّي أفضل الوقوف عند أهمّها لأستخرجها بعين القراءة الماكرة على شكل سؤال جديد ربما لم يسبقني إليه أحد وأقول: أية علاقة هذه التي كانت تجمع دانتي ببياتريشه؟ هل هي حقّا علاقة المرشدة الروحية، التي تقود إلى الفردوس، أم علاقة المرأة الغاوية التي تقود إلى الجحيم؟!
إن فكرة دانتي عن الجحيم والفردوس تختلف تماما عن تلك التي كانت سائدة لدى معظم شيوخ الكنيسة الوسيطية، حتى أنه وضع في الفردوس رجالا ربّما هم في عرف الكنيسة من أهل الجحيم، والشأن ذاته فعل بالجحيم التي وضع فيها رجالا هم في عرف أهل اللاهوت من أهل الجنة، وهذا بحد ذاته يعني ثورة على كل الأعراف والتقاليد السائدة آنذاك، ولذا فلربّما حتى نظرته للأنثى المرشدة أو الأنثى الدليل قد تكون مختلفة عن تلك الصورة السائدة آنذاك لدى الجميع، إذ لا يجب أن ننسى أن بياتريشه نفسها كانت سيّدة متزوجة، وكذا دانتي، ولن يغيّر في الأمر شيئا كونه أغرم بها حينما كان طفلا، أي حينما رآها لأول مرّة وعمره تسع سنوات. إننا هنا أمام شيء شبيه بما يسمى بالعشق الممنوع أو الحبّ المستحيل، وهذا أمر يذكرنا بقصة داوود (ع) مع زوجة أوريا التي أفقدته عقله وصوابه بجمالها الساحر وهي تستحم على سطح بيتها وقيل على شط بركة في أحد البساتين (32)، فقرر الزواج بها، وعمل كل ما في وسعه حتى يُقتل زوجها المحارب في إحدى ساحات الوغى التي كان يكلّفه بالقتال فيها، فأصبحت المرأة بعد وفاة زوجها، زوجةَ داوود الجديدة وأمّ ابنه سليمان. وهي القصة التي تبلبلُ العديد من أهل التفسير مثلما تبلبلُ قصةُ بياتريشه العديد من المهتمين بالأدب الدانتيّ، فكيف يجتمع العشق الممنوع والمحبة الإلهية التي تؤدي إلى الخلاص الأبدي؟ وهو الجواب الذي يمدّ به دانتي صحبَه من العارفين في أكثر من جزء من كوميدياه الإلهية، إذ على كلّ سالك أن ينزل أولا إلى جحيم نفسه ويوغل في البحث بدواخله حتى يجد لحمة العفونة التي عادة ما توجد داخل كلّ إنسان، ويواجه بالتالي نفسه بكل شدة وقسوة، ويرى وجهه في المرآة كما هو، بكل تشظياته وخطاياه وانكساراته، وهي المواجهة التي نجدها قد تجلت في الأنشودة التاسعة عشرة حينما تراءت لدانتي امرأة قبيحة تزداد جمالا كلما اقترب منها، وتلحّ عليه شارعة في إغوائه كما تفعل حوريات البحر مع عوليس، إلى أن تقترب منه امرأة أخرى لا نعرف من هي، وتنادي فيرجيليو لينقذ تلميذه السالك، ويرفع المرأة الغاوية ويشقّ خمارها، فيرى دانتي بطنها المتعفّن، وهي نفسها الصورة التي تذكرني بعقاب الزناة في قصة الإسراء والمعراج المحمدية، إذ أن الرسول رآهم بصورة أناس يتنافسون على اللحم النتن ويتركون الجيد.
كل الحقيقة توجد في هذا اللحم النتن أو المتعفن، وهي صورة تحتاج لأن نضعها تحت المجهر الفرويديّ حتى نكتشف أن اللحم هو جوهر الأشياء التي نراها، وهو يوجد في أعماق سرّ السرّ، لأنه يعني المعاناة والألم، وهو كشفٌ ساعد دانتي على رؤية نفسه من الأعماق، ومن هنا تبدأ التجربة الحقّة، أيْ السعي من أجل تطهير تلك العفونة وكيِّ ذالك اللحم وتعقيمه، وذلك لن يتمّ إلا عبر بلوغ قطب الرؤية، بالضبط كما حدث لداوود (ع) حينما خرّ ساجدا لأربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة ملحة، أو أداء صلاة مكتوبة، وبقي يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو يناجي ربّه ويسأله التوبة.
هذا هو سرّ دانتي، وما كوميدياه سوى اعتكاف في محراب الدمع والبكاء، ليطهر روحه ويصل بها إلى مدارج الخلاص، التي بلغت أوجها حينما كتب في مديح سيدة الأكوان مريم العذراء (ع) قائلا:
"أيتها العذراء، يا ابنة ابنكِ
يا من أنت أكثر تواضعا وعلوا من كل إنسان،
يا حدّا مقررا لمجلس أزليّ
أنت يا من أضفيت كلّ هذه النبالة
على طبيعتنا الإنسانية حتى أن خالقها
لم يأنف من أن يكون لها مخلوقا
في بطنك اشتعل الحبّ
الذي بفضل حرارته في السّلم الأبدي
تفتحت على هذه الشاكلة هذه الزهرة.
هنا أنت لنا من أجل المحبّة
مشعل الهاجرة ولدى البشر الفانين
أنت النبع الحيوي لكل رجاء" (33).

*
الهوامش:
(1) كانت هذه المبادرة تحمل عنوان (كلّهُ دانتي /Tutto Dante)، وقد حرص الفنان على عرض أولى حلقاتها بالمسرح الروماني في مدينة باتراسّو باليونان، وكانت تتعلق بأنشودة عوليس السادسة والعشرين من كتاب الجحيم لدانتي أليغييري، وقد استقبلها الجمهور اليوناني بحفاوة بالغة.
(2) Dante Alighieri, La divine comèdie, traduction par Félicité Robert de Lamennais, Didier, Paris, 1863.
(3) انظر الأنشودة التاسعة عشر من الكوميديا الإلهية (الجحيم)، في نسخة المترجم الفرنسي فيليستي دو لامونيه، ص 35، والتي يقول فيها دانتي ما يلي (وهي الأبيات التي سأدرج تحتها ترجمتي لها باللغة العربية، مع تذييلها بنسختها الأصلية الإيطالية):
Vous vous êtes fait un dieu d’or et d’argent-
et, entre vous et l’idolâtre, quelle différence-
sinon qu’il en prie un, et vous cent ?
]Hugues-Félicité Robert de Lamennais[
أنتُمْ يا منْ صنعتُم منَ الذهب والفضّة إلهاً
فما الفرقُ بينكم وبين الوثنيّ
سوى أنّهُ يعبدُ إلها واحداً، وأنتم تعبدون مئة!
[أسماء غريب]
Fatti v’avete Dio d’oro e d’argento-
e che altro è da voi a l’idolatre,
se non ch’elli uno e voi ne orate cento?
]Dante alighieri, Divina commedia, a cura di Manuela Scuccato,Demetra, 2ª ed, maggio 1999, P.106[.
وتجدر الإشارة إلى أنه من هذه الترجمة الفرنسية لصاحبها فيليستي دو لامونيه، صدرت طبعتان بباريس؛ الأولى عن دار ديديي سنة 1863، والثانية عن إيرنيست فلامّاريون سنة 1910، بغض النظر عن الترجمات الأخرى التي صدرت باللغة الفرنسية عن أدباء وناشرين آخرين كتلك التي نشرت سنة 1908 وكان صاحبها هو بيير آنجلو فيورينتينو، وكذا النسخة التي صدرت سنة 1943 وكان مترجمها إيرنيست دو لامين. أما بالنسبة للنسختين الصادرتين سنة 1863 و1910، لاحظت أنّ النص قد طرأت عليه بعض التغييرات خلال عملية النّقل، ففي الطبعة الأولى مثلا، تمّ اللجوء إلى ترقيم الأبيات مع تحويل هذه الأخيرة من نظام الثلاثية إلى نظام بيتين في كل مقطع، والأمر أصبح أكثر درامية حينما تحولت الثلاثيات إلى نصوص نثرية، أي أنه إذا كان دانتي قد تبنى نظام الثلاثية في أنشوداته الثلاث، فإن هذا الرقم قد تمّ تدميره في معظم التراجم التي صدرت إلى الآن، ولم تنج منها إلا القليل من النسخ، لا سيما تلك التي صدرت في الفترة الأخيرة حيث تمّ ما أمكن معالجة أخطاء المترجمين السابقين، خاصة وأنه قد تمّ استيعاب فكرة أن دانتي لم يختر نظام التثليث بشكل عبثي، ولا شاء أن يكون كلّ نشيد مكونا من ثلاث وثلاثين أنشودة بشكل اعتباطي، وإنما هي هندسة معمارية تمّ التفكير فيها بعمق، وفي غايتها وماورائيات معانيها النادرة، لذا وجب الحفاظ عليها كما هي حتى وهي مترجمة إلى لغات أخرى.
(4) Dante alighieri, Divina commedia, a cura di Manuela Scuccato, Paradiso, Canto 33, Demetra, 2ª ed, maggio 1999, P.190.
(5) كان دانتي قد ألف كوميدياه في العقد الأخير من حياته. وكان العنوان الأصلي يقتصر فقط على كلمة "كوميديا" دونا عن "الإلهية"، وقد كان يقصد بها آنذاك، ذلك النوع الأدبي الذي يمزج بين ماهو تراجيدي وبين ماهو شعر رثائي. المؤلف مقسم إلى ثلاثة أجزاء: 1 الجحيم/ 2 المطهر/ 3 الفردوس، وكل جزء يتألف من ثلاث وثلاثين أنشودة، وهنا يلاحظ مدى أهمية الرقم ثلاثة بالنسبة لدانتي أليغييري.
تبدأ رحلة الشاعر سنة 1300، وبالضبط في أيام الأسبوع المقدس من السنة الميلادية المسيحية، والتي يرى نفسه فيها وسط غابة موحشة وكثيفة الأشجار وهي رمز للمعاصي والأخطاء التي يرتكبها الإنسان في حياته. وبينما هو كذلك إذا به يلتقي الأديب والفيلسوف الإغريقي فرجيليو، كرمز للعقل والضمير الإنساني الذي من خلاله ينشد الشاعر المساعدة والإرشاد بهدف الخروج من هذه الغابة، أو من مملكة المعاصي والوصول إلى المطهر ثم بعدها إلى الجنة بقيادة بياتريشه رمز الخلاص والنجاة الأبديين.
(6) دكتور حسن عثمان، منهج البحث التاريخي، دار المعارف، مصر، الطبعة الثامنة، 2000.
(7) المصدر نفسه، ص8.
(8) Francesco Gabriele, Saggi Orientali, Caltanissetta-Roma 196, Pp 167/172.
(9) دانتي أليجييري، الكوميديا الإلهية / الجحيم، ترجمة حسن عثمان، الطبعة الثالثة، دار المعارف، مصر، 1988، ص7.
(10) دكتور حسن عثمان، منهج البحث التاريخي، دار المعارف، مصر، الطبعة الثامنة، 2000، ص 199.
(11) راجع في هذا الصدد ما قاله حسن عثمان عن كيفية ترجمة الكوميديا الإلهية: [(...) لا بدّ لترجمة الكوميديا من أن تتوافر للمترجم فرص الثقافة العامة والخاصة، وفرص الانتقال والسفر والمشاهدة، وتذوّق الفنون التشكيلية، والفنون الموسيقية والمسرحية، واستيحاء أماكن الذكريات، والاتصال بالعارفين من أهل الأدب والفن والعلم، والنهل من ينابيع المعرفة، ولا بدّ كذلك من المشاركة والمعايشة، ومزج التجربة الذاتية بالتجربة الإنسانية العامّة، وبتجربة دانتي الإنسانية المشتركة في كلّ مكان وزمان، مع المشاركة في الخلق والإحياء. وإذا ما تمّت الترجمة بغير هذا كله، فلا يمكن أن تعدّ ترجمة جديرة بالاسم. وهي في هذه الحالة ستكون مجرد نقل حرفي من لغة إلى أخرى، وقد تكون مثل ترجمة جلسة نيابية أو جلسة قضائية، وإن كانت مثل هذه الترجمة الحرفية قادرة على أن تعين التلميذ الأجنبي في المدرسة]. دانتي أليجييري، الكوميديا الإلهية / الفردوس، ترجمة حسن عثمان، دار المعارف، مصر، 1969، صص 606/607.
(12) ويقصد به الأديب أومبيرتو ريتزيتانو: ولد في مصر بالإسكندرية سنة 1913، وتوفي بمدينة باليرمو سنة 1980. درس في مصر بالمدارس الإيطالية، وهناك تعلّم اللغة العربية جيّدا، وكانت أطروحة تخرجه من جامعة روما عن الشاعر أبي محجن نصيب بن رباح سنة 1937، والذي قدّم عنه دراسة وافية في مؤتمر بروكسيل للمستشرقين سنة 1938. وبعد أن أصبح أستاذا للأدب واللغة العربية، عاد إلى مصر وهناك بدأ يدرّس اللغة الإيطالية في جامعتي القاهرة وعين شمس. وفي سنة 1959 افتتحت بصقلية في مدينة باليرمو مؤسسة جامعية لتدريس اللغة العربية وآدابها وكان هو من اهتم بتطويرها والمضيّ بها قدما على مدارج النجاح والتفوق إلى أن أصبحت هذه المؤسسة من أكثر المؤسسات شهرة في أوروبا والعالم بأسره من حيث اهتمامها بالدراسات الشرقية والإسلامية. ومن أهمّ أعماله وبحوثه التي ترك للقارئ العربي والغربي على السواء نجد في الأدب والتاريخ ما يلي:
- «تاريخ الأدب العربي من أقدم العصور إلى اليوم»؛
- «تاريخ العرب من أقدم العصور إلى اليوم»؛
- «القصة والرواية في الأدب العربي الحديث»؛
- «الثقافة العربية في صقلية».
أمّا في الترجمة فقد نقل من العربية إلى الإيطالية الكتب التالية:
- «الأيام» - طه حسين؛
- «زينب» - محمد حسين هيكل؛
- «أهل الكهف» - توفيق الحكيم.
(13) دانتي أليجييري، الكوميديا الإلهية، الفردوس، ترجمة حسن عثمان، دار المعارف، 1969 صص، 624/625/626.
(14) محمد إسماعيل محمد، الأهرام 9 / 11 / 73 وقائمة مطبوعات ج. ع. م 1967 ص 90.
(15) دانتي أليجييري، الكوميديا الإلهية، الفردوس، ترجمة حسن عثمان، دار المعارف، 1969، ص 638.
(16) كاظم جهاد، معمار البراءة، منشورات الجمل، ألمانيا-بغداد، 2006، صص 12/13.
(17) انظر الحوار الذي أجراه أحمد علي الزين مع كاظم جهاد في برنامج روافد بيوم 22/04/2005.
(18) كاظم جهاد، الماء كله وافد إليّ، الطبعة الأولى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999، ص 132.
(19) دانتي أليغييري، الكوميديا الإلهية، ترجمة وتقديم كاظم جهاد، منظمة اليونسكو، ضمن (سلسلة روائع الأدب العالمي)، الطبعة الأولى 2002، ص 9.
(20) المصدر نفسه ص12.
(21) Edgar Blochet, les sources orientales de La divine commédie, Paris, Maisonneuve éditeur, 1901
(22) Charles H .Shcier, Ciel et enfer ou de--script--ion du globe céleste arabe conservé au Musée Mathématique Royale de Dresde en latin et en allemand suivie d’un supplément des commentaires sur la Divine Comédie, Dresde et Lipse, Tenber, 1866
(23) وأكبر دليل على ذلك الترجمة التي قام بها الموثق ورجل القانون الإيطالي بونافينتورا لأحد كتب الإسراء والمعراج المحمدي ناقلا إياها من ترجمة أخرى كان قد قام بها الطبيب اليهودي إبراهيم الحكيم آنذاك.
(24) انظر النشيد 28 من الجحيم، ترجمة حسن عثمان، الطبعة الثالثة، دار المعارف، مصر، 1988، صص 364-366.
(25) دانتي أليغييري، الكوميديا الإلهية، ترجمة وتقديم كاظم جهاد، منظمة اليونسكو، ضمن (سلسلة روائع الأدب العالمي)، الطبعة الأولى 2002، ص 368.
(26) الشيخ نديم الجسر، قصّة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن، دار العربية، ط1، ط2، ط3، 1961-1963-1969، ص 121.
(27) الإسراء: 01
(28) مستشرق إيطالي 1898-1988 كان حاكما بإحدى مقاطعات إيتيوبيا في فترة الاستعمار الإيطالي لهذه المنطقة، تعددت رحلاته بين الصومال وإيتيوبيا واستطاع من خلالها أن يترك لنا كتبا في غاية الأهمية باللغة الإيتيوبية يدافع فيها عن الحضارة ، الثقافة واللغة الإيتيوبية والصومالية. اهتم أيضا بالثقافات المقارنة وترك في هذا المجال كتابيه الشهيرين: إيتيوبيا الغربية 1929-1933 وإيتيوبيون في فلسطين 1947، ثم كتاب الإسراء والمعراج وقضية المصادر العربية الإسبانية في الكوميديا الإلهية، 1949، وأخيرا كتاب تاريخ الأدب الإيتيوبي 1956.
(29) ولد بالمعرة 972-1075، مني منذ نعومة أظافره بمرض الجدري الذي تسبب له في عاهة العمى، ولكن قوة وصلابة إرادته مكنتاه من تحدي هذه الإعاقة والانغماس بالتالي في بحور العلم والفلسفة والأدب خاصة في الفترة التي انتقل فيها للاستقرار ببغداد حيث أصبح من أكبر مفكري العصر آنذاك وأشهرهم، الشيء الذي جر عليه حسد الحاقدين من أعداء الفكر والنجاح والذين اتهموه بالزندقة والإلحاد.
(30) دور المرأة في إثراء اللغة العربية وآدابها عبر العصور- لفرحانة صديقى، ص: 229-230.
(31) دانتي أليغييري، الكوميديا الإلهية، ترجمة وتقديم كاظم جهاد، منظمة اليونسكو، ضمن (سلسلة روائع الأدب العالمي)، الطبعة الأولى 2002، صص140-141.
(32) أبو اليمن مجير الدين الحنبلي، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، النجف: منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، جـ1، ص 107- 111.
(33) دانتي أليغييري، الكوميديا الإلهية، ترجمة وتقديم كاظم جهاد، منظمة اليونسكو، ضمن (سلسلة روائع الأدب العالمي)، الطبعة الأولى 2002، صص 1026-1027.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا