الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا و أنت (4)

هيثم بن محمد شطورو

2018 / 7 / 16
الادب والفن


كان يوم العرس الكبير يوم دخل علينا أبي في القيلولة الى بيت جدي قائلا بكل زهو:
ـ أخرجوا لرؤية السيارة.
كان مستـقرنا في بيت جدي "المكي" إثر عودتـنا من ليـبـيا. ساعتها كان بيت عمي "توفيق" في الواقع و من ثم بيته حتى في الميراث الى جانب قطعة الأرض الشاسعة المحيطة به. كانت أسرة عمي الى جانب زوجته الطيـبة ثلاث بنات و ولدين. تلك الدار و قطعة الأرض هي في نفـس الوقت جزء من أرض شاسعة ببـيوت أخرى تـتمحور حول البرج الرئيسي للحاج "سعيد" جد أبي. الضفة الشرقية مثلما يطلق عليها عمي "توفيق" كانت لجدي أحمد والد أمي و بـيتين لخالي "عبد اللطيف" و خالي "محسن" أما خالي الثالث "هادي" فكان ان اقتطع جزءا من البرج الرئيسي و سكن فيه مع أسرته. أما خالي يوسف فانه اضطر فيما بعد بنحو عشر سنوات من أخذ جزء من البرج و تحويله الى بيت. جزء آخر من البرج كان يقطنه عم أبي و الذي نناديه بدورنا بـ "عم محمد" و في قطعة الارض التي يملكها كان لابنه مصطفى ان ابتـنى بيتا. و اذكر كذلك بيت عمي "الحبيب" الذي هو عم أبي و هو يقع بجانب البرج الكبير و هو الرجل الذي لم أراه فـقد توفي قبل ولادتي، فهناك زوجته كريمة و ابنها "عبد الله" و بناتها الأربعة..ملخص الامر فإننا نتحدث عن شبه مستوطنة بيوتها مفتوحة بعضها على بعض لعائلة موسعة..
كان أبي قد أحضر السيارة التي اشتراها من فرنسا بواسطة المراسلة، من ميناء تونس صحبة عمي "سعيد" الذي هو عم أبي و لكنه يصغره سنا، فهو ابن آخر زوجة للحاج "سعيد" الذي تـزوج بتسع نساء آخرهن كانت أمي "دوجة" والدة عمي "سعيد". كان ساعتها يشتغل موظفا في ضيعة فلاحية ملك للدولة في منطقة "بوثدي". أتذكر أنه ساعتها قد باشر ببناء بيت في قطعة أرض شاسعة بجانب البرج الكبير.
المهم ان تلك الأسر بابناءها كلهم قد هلوا الى بيت عمي "توفيق" لرؤية السيارة الجديدة الآتية مباشرة من مصنعها في فرنسا. كان بمثابة عرس. وُزعت المشاريب، و جميعهم يحتـفون بالسيارة الخضراء اللون الملتمعة كبيرة الحجم و بصاحبها و أسرة صاحبها.
حين نتحدث عن سيارة جديدة كانت ام مستعملة في سنة 1980 فإننا نتحدث عن حدث جلل. كانت السيارات ساعتها قليلة جدا، و في ساقية الزيت برمتها كانت السيارات تُعد بالأصابع و اصحابها معروفون بل ان بعضهم يُنعتون بنوع سيارته.. كانت الطرقات لازالت عامرة بالعربات التي تجرها البغال، و الطريق الوحيد المعبد هو طريق تونس الرئيسي الذي كان ضيقا و شاغرا قليل الحركة.. لازال العالم ساعتها هادئا و لم يدخل بعد عصر الضجيج و القلق..
كان أبي متميزا بلباسه. ربطة العنق و الكسوة الحديثة. بورجوازي في عالم لازال يعيش على بقايا عصر الاقطاع. بورجوازي اخترق عالم الفلاحين و هو منهم و هكذا فالحداثة زلزلت الارض من تحت أقدام العالم القديم الذي كان ينهار دون أن يدري لعدم قدرته على الابصار وسط الانبهار. تجد اسطورة الكهف الافلاطونية حاضرة بشكل عجيب و كأن الشمس او شمس الشموس هي حداثة العصر الحديث.
الصورة في ظاهرها تعبر عن تميز و رفعة اضافة الى باطنها الذي يتمثل في عنوانين رئيسيـين يعرفونهما بإبهام متشابه لديهم، و هو كونه استاذ فلسفة و معارض. ربما جوهر الحداثة هو الفلسفة و المعارضة السياسية..
جميع أعمامي و أخوالي و ابناؤهم متأثرون بتلك الصورة لأبي، حتى انه طبع فيهم ما سماه أحدهم ذات يوم قائلا : " أن الشيخ أدخل جرثومة السياسة الى العائلة"..
"الشيخ" هو النعت الذي أطلـقوه على أبي لأنه درس بجامع الزيتونة، فهو متحصل على شهادة الباكالوريا من هناك، و ذلك قبل أن يُغلق الزعيم "بورقيبة" المدرسة الزيتونية لبناء تعليم عصري موحد. أما من ناحية السياسة فهذا الكلام غير دقيق فهي لم تـدخل الى العائلة عن طريق أبي، و ربما كان المقصود بذلك تحديدا و لو بشكل مبهم هو المعارضة السياسية للزعيم بورقيبة، و ربما كذلك بشكل مبهم ايديولوجية البعث و القومية العربية خاصة و انه بدأ يحدثهم عن نجم جديد ساعتها هو "صدام حسين"..
ما كان يُـبهر في صورة أبي هو في كونه لم يـرتضي بمهنة مدرس الابتدائية بل انه ذهب الى الشرق و أكمل تعليمه الجامعي في دمشق..
سوريا و العراق و مصر كانت تُعتبر مبعثا للسحر و الفخر و العظمة، و ربما الى اليوم لازال كثيرون يتعلقون بهذا الشرق بعاطفة ملؤها الحنين و الحب. كانت سوريا في الاربعينات و الخمسينات و الستينات نموذجا متـقدما يُنظر اليها بعين الإكبار و الدراسة الجامعية فيها تعتبر انجازا كبيرا و شهادة مرموقة.
اضافة الى ذلك فـقد أتى أبي من سوريا بإيديولوجية جديدة و حزب جديد سيحقـق التحرر و القوة للعرب مثلما كان يبشرهم. كان يقوم بالدعوى في كل مكان، و لكن نظرا لبساطة تـفكيرهم فإنه لم يكن يتحدث عن الجانب النظري و الفكري و انما عن المواقـف السياسية من مختلف الأحداث، فتكونت لديهم روحية معارضة سياسية بدائية لم تُـفدهم في التأصيل النظري المطلوب للقيام بعملية الانقلاب على ذواتهم و أوضاعهم التي لا يعتبرونها من حيث الاصل أوضاعا مشينة. لم يتحولوا الى قراء للكتب و لا تحرريون في تـفكيرهم اي انهم لم يتحولوا الى مثـقـفين.. جل ما في المسألة ان كان أبي نجما بطوليا بينهم..
و تجدني اليوم ألاحظ بكل وضوح ان تلك الحالة الخاصة هي حالة عامة..
فاليسار الثوري سواء في مضمونه الشيوعي او العروبي او البعثي، برغم كونه سيطر على الجامعة التونسية في وقت من الأوقات و برغم ان معنى الثورة تحرري و تـقدمي، إلا ان الاشتغال على المواقف السياسية الاحتجاجية دون الاشتغال على التأصيل النظري و على الثـقافة و الفكر سواء داخل التـنظيمات ذاتها او داخل المعاش النضالي اليومي، جعل من اليسار فقيرا جماهيريا من حيث التأثير، و غير قادر على تجديد رؤيته لمختلف المسائل و عاجزا عن تجاوز نفـسه و مكامن ضعفه و تحديداته القديمة البالية لعديد المسائل..
و اضافة الى ذلك فإن التيهان عن السر الحقيقي في تميز اليسار هو الذي أفـقده البوصلة تماما.. الحقيقة ان الثورية و النضال هي ذات مضمون فكري و ثـقافي حضاري. أي ان قوة اليسار في الفكر و النظر و في الحياة الفكرية التي تطمح الى التحرر و التـقدم و الانجاز الحضاري. فكل التـناقضات المرسومة للواقع تـقوم على تـناقض أساسي و هو بين المثـقـف التحرري التـقدمي و بين واقع السكونية و الانحطاط الفكري و بالتالي التـشرذم الانانوي الذاتوي الذي تعاني منه جل التيارات اليسارية ذاتها، قبل المجتمع السطحي الاستهلاكي و بقية المشتغلين في سوق السياسة و ليس السياسة كحلم و يوطوبيا و روحية الأنبياء..
الحالة المذهـلـة تـقول انه ليس من صلاة في محراب الحقيقة و الفكر، و انما هي تعبد كل لصنمه، و متى ما وجدنا عبادة الأصنام فإننا لا نجد تـثويرا للذات من الداخل و بالتالي تحررها الفعلي و بالتالي فعلا تـثويريا حقيقيا للواقع، و انما نجد تكريسا للعبودية باسم لينين او ستالين و عبد الناصر و صدام حسين..
و ها هي جل أحزاب اليسار المتبقية زعامات كالأصنام تـنهكها الرياح و العواصف الى ان تسقط ذات يوم..فيا لبؤس اليسار..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق