الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البصرة: مرضعه العراق الاقتصادية ونافذته الحضارية و.....ثورته المستقبلية!! .... (1))

خلف الناصر
(Khalaf Anasser)

2018 / 7 / 21
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


البصرة هي باب العراق المائي الوحيد المطل على الخليج العربي وهي مفتاحه إلى بحار العالم كلها، وحدود البصرة على الماء كانت ـ وعلى مدى تاريخ العراق القديم والوسيط ـ تمتد دون انقطاع على ضفتي الخليج العربي وصولاً إلى مضيق هرمز، الذي مثل بوابتها الكبرى إلى العالم.. ولولا هذا الامتداد الشاسع والمفتوح على بحار الدنيا كلها، لما أخذ العراق هذه المكانة المرموقة والدور المميز في التاريخ والحضارة الإنسانية .
وقد كان هذا الخليج، وإلى وقت قريب يسمى بــ "خـــلــــيـــج الـــبــــصـــرة"(1: صوره الخارطة).

لكن الاستعمار البريطاني باتفاقيات "سايكس/بيكو" ومعاهداته مع الكيانات القبلية المتوطنة على ضفتي الخليج العربي، والممتدة بامتداد شواطئه، تمكن من تحويل هذه الكيانات القبلية إلى دويلات وكيانات سياسه، فتقلصت بهذا الفعل الاستعماري السياسي والاستراتيجي النوعي، حدود البصرة إلى ما دون الــ10% بالمائة من حدودها الطبيعية السابقه، وتقلصت حدود العراق التاريخية إلى ما دون النصف عما كانت عليه!.
ثم جاءت اتفاقات "خيمه صفوان" التي عقدها النظام السابق مع الأمريكان بعد حرب الكويت عام 1991، وتنازل بموجبها ـ أو أجبر على التنازل ـ للكويت عن نصف مدينه [أم قصر] وقاعدتها البحرية العملاقة وامتدادها الصحراوي وضمهما إلى الكويت، بقرار من "مجلس الأمن"!
وقد سجل هذا القرار المجحف كسابقه قانونية خطيرة ووحيدة وفريدة في تاريخه، فشكل هذا التشريع الأممي خطراً مدمراً على حياه الشعوب ومستقبل أجيلها وخرائط أوطانها، إذا ما اعتمدت قرارات مجلس الأمن في تحديد حدودها الدولية!

وبهذا القرار المجحف وهذا (الضم القسري) للأراضي الوطنية العراقية للكويت، تقلصت حدود البصرة من جديد إلى حدودها الحالية، وتقلصت معها موانئها واطلالتها البحرية على الخليج العربي إلى [ستين كيلومتراً] فقط . وهي مساحه صغيره جداً وموانئها المحدودة لا تكفي لدويلة صغيره، وليس دوله كبيره بحجم العراق .
ولما كان العراق بلداً مقفلاً بحريا، وعلى خصام دائم مع جيرانه وأشقائه ـ من العرب والمسلمين ـ لأسباب موضوعيه في بعض الأحيان، أو اختلقها النظام السابق أو جيرانه هئولاء لبعضهم، فإن العراق من الناحية الواقعية كان يعيش دائماً [حصار أو شبه حصار] وعزله دائمة مفروضة عليه باستمرار .
ومن هنا تبدأ مشاكل العراق ومشاكل البصرة وهنا تنتهي، إذا ما صححت هذه الأوضاع المختلة.. وبدون هذا التصحيح ستستمر تداعيات هذا الوضع الجيوسياسي المفروض على العراق فرضاً، بالتفاعل السلبي في كل حقبه تاريخيه قادمة أو مقبلة، وكما كانت في جميع الحقب الماضية .
وهذه قضية جيوبولوتيكية صرفة سلبت من العرق كل المميزات الجيوبلوتيكية التي أعطتها له الطبيعة، ومكنته من ذلك الدور التاريخي والحضاري المميز.. وهي قضية تختص بموقع العراق وحياة أبنائه، وليس لها علاقه بالسياسة ولا بالأشخاص الحاكمين ونزقهم وطيشهم وطموحاتهم، إنما علاقتها بجوهر حياه العراق والعراقيين مباشره!
*****
والبصرة مدينه قديمة سبق أحيائها أو تأسيسها تأسيس العاصمة بغداد نفسها بأكثر من قرن كامل من الزمان، فتم إحيائها من جديد واتخذت عاصمه للخلافة الراشدية لبرهه قصيرة من زمن خلافة الإمام علي .
وإذا كان العراق في الماضي يسمى بأرض السواد فإن البصرة كانت هي المقصودة تقريباً، لكثره نخيلها وزروعها ومياهها الوفيرة، حتى أن البعض اسماها بــ "فينيسيا العرب أو بندقيه العرب" تشبيهاً لها بمدينه البندقية الإيطالية الشهيرة!

والبصرة بحكم تفردها كميناء بحري وحيد للعراق:
كانت على احتكاكٍ دائم بالعالم الخارجي أكثر من أي مدينه أو محافظه عراقية أخرى، حتى من بغداد نفسها.. ولهذا السبب الموضوعي أصبحت متفتحة ومنفتحة اجتماعياً وثقافياً ودينياً وحتى سياسياً، لكل التيارات الفكرية والدينية والسياسية العالمية ولإقليمه والمحلية، القديمة والحديثة منها على حد سواء.. مما أهلها لأن تلعب دوراً ثقافياً جوهرياً، بالإضافة إلى دورها اقتصادي الفريد في حياة العراق والعراقيين، وفي جميع مراحل تاريخ العراق القديم والوسيط والحديث!

فعمق البصرة التاريخي هذا وأجوائها الثقافية والفكرية المتفتحة، مكنتها من انجاب الكثير من العلماء والمفكرين والمثقفين، كما مكنتها من أن تكون مستقراً وموطناً لكم كثير آخر منهم .
فكانت هي موطن وبلد "الحسن البصري" أول مجتهد وصاحب مدرسه دينيه في الإسلام، وكانت موطن "واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد" شيوخ الاعتزال ومدرسته ومذهبه المتنور ـ مذهب المعتزلة ـ الذي أكلته السلفية المتحجرة، كما أكل في طريقها الخرافي كل بصيص ضوء متنور في حياه العرب والمسلمين .. وكذلك كانت البصرة مدينه الفراهيدي وابن الهيثم والأحنف ابن قيس و "مدرسه البصرة اللغوية" والسندباد البحري ونصف حكايات ألف ليله وليله......الخ
وفي العصر الحديث قدمت البصرة إلى العالم كثيراً من القادة والمفكرين والمناضلين والمثقفين والفنانين والأدباء المجددين، يأتي (بدر شاكر السياب) في طليعتهم، لأنه جدد روح الشعر العربي، وجعل نبضه يتصل بنبض وروح العصور الحديثة!

ولكل هذا، وبحكم تاريخها العريق وتفردها كمدينه بحريه وميناء البلاد الوحيد، لعبت البصرة في حياه العراقيين دور الشباك والواسع، المطل على العالم الخارجي بشقيه: [المتطور والمتخلف] ومتفاعلة معه بعمق وكثافه متناهيه!
وبهذا أصبحت البصرة هي نافذة العراق المفتوحة على العصر الحديث دائماً، وهي أيضاً بلد النفط والغنى والتحضر والتمدن وصيحات الفن والأدب والأزياء والثقافة المعاصرة، بإشراقاتها المتواصلة على العاصمة بغداد والعراق ومدن العراق ومحافظاته كلها، دون ان تشعر هي بهذا الدور التمدني الكبير، ودون أن يشعر بدورها العظيم هذا غالبية العراقيين!
*****
في العصور العباسية المتأخرة تطورت حضارة العباسيين في العراق وعموم العالم الإسلامي إلى الحد الذي أوجب عليها ـ موضوعياً ـ الخروج من ربقه العصور الوسطى ومحدداتها وحدودها الجامدة، إلى العصور الحديثة وحركتها الديناميكية الوثابة .
لكن الاجتياح المغولي للشرق المسلم ـ وتزامنه مع الاجتياح الصليبي للشرق العربي ـ ولمدينه بغداد عاصمه الدنيا وجوهرتها المتلألئة، واستباحتها لأربعين يوماً متواصلة وقتلهم لـ ((ألف ألف وثمانمائة ألف نفس من أهلها))(1:أبن شاكر الكتبي) وتدميرهم لإرثها الحضاري الثمين العظيم، قد قلب جميع معادلات الحياة الشرقية وغير جميع الأولويات العربية والإسلامية، ووضعها جميعها باتجاه حفظ الذات في صراع البقاء مع هذه الجحافل المتوحشة!.
فبدلاً من حشد جميع الجهود والقوى الذاتية للأمه العربية والشعوب الإسلامية لنهضه كبرى، تخرجهم من كوابح العصور الوسطى ومحدداتها القاصرة إلى العصور الحديثة وديناميكيتها الباهرة، أصبحت الأولوية لصد هذا العدوان الخارجي والحفاظ على الذات، في صراع مصير ليس ورائه إلا الفناء التام(1)

وبالنتيجة النهائية لذلك الصراع المصيري :
فقد تم احتواء ذلك العدوان المغولي الصليبي المزدوج فعلاً، والانتصار عليه.. لكن بثمن باهض جداً، كلف العرب والمسلمين نهضتهم وثروتهم وتقدمهم ومستقبل أجيالهم :
ـ فقد أبيدت في ذلك الصراع المرير وعلى مدى عده قرون متتاليه ومتواصلة دون انقطاع، عشرات الأجيال من شبابهم، الذين يمثلون في كل أمه ومجتمع قواها الحيوية المنتجة!
ـ ودمرت وأهملت الزروع والسدود والطرق والمدارس والجامعات والجسور، وجميع المنشئات الفكرية والثقافية والإنتاجية والخدمية، حتى اندرست جميعها خلال تلك القرون الدمويه!
ـ وتوقف الانتاج العلمي والعقلي في المجتمعات العربية الإسلامية، وأصبحت تجتر ـ دون فهم ـ ما أنتجته أجيالها السابقة!
ـ فأجهضت ـ نتيجة لهذا ـ تلك النهضة العربية الإسلامية التي كانت تطرق الأبواب بقوه وتوقف نسغها الصاعد، وحل محلها الكسل والقدرية والتواكل والخمول ـ العقلي والروحي ـ وشاعت الأساطير والخرافات بين الناس، وحل الدجل والشعوذة والتكايا ولطم الخدود والصدور والتأويلات الدينية الخرافية والتدين المظهري ـ كما هو شائع اليوم ـ بدلاً من الدين الحقيقي وروحه المتنورة .
فأفضت هذه النتائج المدمرة ـ بحكم طبيعتها الخرافية موضوعياً ـ بمجموعها، إلى فتح أبواب الجهل والتخلف والضياع على كل مصاريعها، وأدت إلى كل ما نعيشه اليوم من دمار وخراب وانتحار جماعي!.
وكان من الطبيعي جداً :
أن تغلق تلك (الأبواب الخرافية الخربة) كل طرق الإبداع والتحضر والنهضة في وجوهنا، أن تجعلنا عاجزين عن انتاج أدب وفن وثقافة رفيعة متميزة، ولا علم يبني الحياه ويديم زخم تطورها وصعودها الدائم إلى مراتب الحضارة الإنسانية والعلمية التكنلوجية، أو على الأقل فهمها والتفاعل معها إيجابياً.. فكان الطبيعي جداً هو، أن تنتج لنا تلك الأبواب الخرافية في النهاية: الدكتاتورية والاستبداد والتخبط والعشوائية وداعش والقاعد والنصرة وبوكو حرام وجيوش المتأسلمين الجرارة ...الخ

وفي كلا الحالتين كانت البصرة ضحيه:
ضحيه لتطور الحضارة العباسية.. وضحية لبعض تداعياتها السلبية!
وضحيه لسقوطها على يد المغول/ التتار الهمج المتوحشين!
*****
لقد بلغ تطور الحضارة العباسية الشامل أوجه أنذك (القرن الثالث الهجري) :
حداً شمل جميع مجالات الحياه الإنسانية في العراق والعالم الإسلامي، وتسرب إلى جميع خلايا الناس العقلية والروحية والعلمية والاجتماعية والسياسة والاقتصادية المنتجة على وجه الخصوص: كالزراعة والتجارة والعلوم والصناعة ......الخ مما استوجب موضوعياً ـ كما أسلفنا ـ الانتقال بها إلى طور حضاري جديد، ينبثق عنه مجتمع جديد وعالم جديد!.
وكانت البصرة في قلب هذا التطور الحضاري الشامل والمتشعب الفروع والاتجاهات، وخصوصاً في مجال الزراعة والفلاحة وإحياء الأرض واستصلاحها .
فقد توسعت الزراعة أنذك في عموم أرض السواد وفي البصرة خصوصاً، وتطورت عن المساحات الصغيرة والعائلية المحدودة في الغالب، إلى المساحات الواسعة والشاسعة، والتي تستخدم آلاف العمال الزراعين في مكان واحد وآن واحد! .
وكانت البصرة واحده من أهم أماكن هذه الزراعات الواسعة :
حتى أن البعض قد شبه أوضاعها في حينها بوضع ولايات الجنوب الأمريكي قبل وأثناء (الحرب الأهلية الأمريكية).. سواء: بتشابه ملاك الأراضي والاقطاعيين وأصحاب رؤوس الأموال المستثمرة في الزراعة، أو بتشابه وضع العبيد (الزنوج) فيها!

فقد احتاج هذا التوسع الزراعي الهائل في عموم أرض السواد :
وفي البصرة خصوصاً، إلى أيدي عامله كثيره ورخيصة الثمن، لكنها لم تكن متوفرة في البصرة بهذه المواصفات أنذك . ولهذا أضطر أصحاب الأراضي والملاك ورؤوس الأموال إلى جلب أعداداً كبيره من زنوج الصومال وزنجبار [ولهذا السبب نرى أعداد كبيره من ذوي الأصول الأفريقية يستوطنون البصرة بالذات] واستخدامهم في هذه الزراعات الواسعة، وفي أماكن عديده من البصرة!.
ويجسد (الطبري) في تاريخه لنا مأساة هئولاء الزنوج قائلاً:
 ((استخدم الزنوج في ((سهول البصرة (فرات البصرة) في كسح السباخ لجعل الأرض قابله للزراعة والاستفادة من الأملاح المتجمعة (2). وانضم إليهم جماعات من العبيد الهاربين (الأباق) من القرى والمدن المجاورة، تخلصاً من وضعهم السيء وهرباً من الضغط الشديد الذي ينؤون بثقله(3).))الدوري
وكانت أعداد هئولاء الزنوج في هذه المزارع كبيرة جداً :
 ((وكانوا يشتغلون عاده جماعات تتراوح بين 1000ـ 5000 (4) بل قد يكون العدد أكبر من هذا بكثير ، إذ بلغ عدد إحدى الجماعات التي كانت تشتغل على نهر الدجيل 15000خمسه عشر ألفاً (5) . مما يدل على سعه تمركز العمل بين هئولاء الزنوج)).
*****
ولما كانت أعداد هئولاء الزنوج المساكين كبيره جداً ومتمركزه في مكان واحد، ويعملون في ظروف بالغه السوء والاجحاف والتعقيد، ومجاناً تقريباً، فقد تجمعت لديهم كل الأسباب للسخط والتذمر، ثم للكراهية الشديدة لمالكي ومستثمري الأرض هئولاء ولعمالهم الغلاظ شديدي الفضاضة القسوة وعديمي الرحمة عليهم!.
ثم تطور هذا السخط والتذمر والكراهية لدى هئولاء الزنوج تدريجياً، إلى ثوره عارمه بين عامي [26رمضان 255ـ 2صفر270هـ........ 5آب 889ـ 11آب 883م] عرفت في التاريخ باسم ((ثوره الزنج)) واستمرت لأربعه عشر عاماً، وكادت أن تطيح بالدولة العباسية وتجعلها في ذمة التاريخ!
*****
لقد ارتكبت في تلك الثورة الزنجية ـ من الطرفين ـ فضائع وجرائم يعجز الوصف عن تجسيدها في كلمات، وأدت نتائجها إلى خراب البصرة بالكامل، حتى أصبح يضرب بها المثل : ((بـــعــــد خــــراب الــــبــــصــرة)).. وهو مثل قيل بعد تأخر العباسيين عن نجده البصرة، والتي لم تأتيهم إلا بعد "خراب البصرة" الكامل.. وقد أصبح هذا مثلاً يضرب لكل عمل أو إصلاح يأتي متأخراً، وبعد وفوات الأوان!
وقد خرب البصرة بعد خرابها التاريخي ـ على يد الزنج ومستغليهم ـ مرتين :
مرة على يد نظام صدام حسين: لأنها تحملت ثقل حرب الثمان سنوات العجاف مع إيران، وحرب الكويت وغزو الأمريكان! وهذه المرة على يد ـ من تركهم لها الأمريكان ـ الذين يدعون أنهم أبناء البصرة وحماتها ممثليها الحقيقين!!

فهل تصلح "ثورة البصرة" المشتعلة الآن: ما أفسد الزنج وصدام والأمريكان وخلفائهم الفاسدين؟؟
[يــــــــــــــتــــــــــــــــــــــــبــــــــــــــــع]


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ:
(1) لدينا دراسة معززه بالوثائق والحقائق حول هذا الموضوع سننشرها قريبا .
(5,3,2) تاريخ الطبري .
(4) دائرة المعارف الإسلامية .
عن د. عبد العزيز الدوري: كتابه: "دراسات في العصور العباسية المتأخرة"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري