الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا و أنت ( 5 )

هيثم بن محمد شطورو

2018 / 7 / 22
الادب والفن


" فرنسا أمنا الحنون".. هكذا كان يـردد دوما عمي "محمد"، عم أبي..
السياسة ليست غريـبة عن العائلة الموسعة، بل هي عائلة سياسية في مضمونها و وجودها و فعلها.
عمي "محمد" يحب فرنسا و يعتبر ان لها رسالة تـنويـرية في العالم، و هو كان ينظر بحزن و احتـقار الى ما حوله، حتى أني لازلت أحتـفـظ في ذاكرتي بوجهه الواجم المحتـفظ بذاك الغضب الساكن الدائم. انه لا يـبتسم لنا ( أي الأطفال) مثـل البقية و لم أعثر في ذاكرتي عن أي حدث او حديث او موقـف كان فيه عم "محمد" مرحا او متكلما او مبتسما حتى. كل ما أتـذكره مشيته البطيئة بعكازه و كأنه يقيس مساحة الأرض. أتـذكر فـقط وجوده الدائم مع زوجته "فطومة". لقد وصل به إيمانه بفرنسا ان خدم متطوعا في جيشها، فـقد قـدم نفسه طواعية للخدمة العسكرية، و ليس مثل الأغلبية اللذين كانت فرنسا تختطفهم من أهلهم لأجل الزج بهم في حروبها. لقد حارب في الشام. حارب المقاومة السورية الباسلة. حارب في الاتجاه المعاكس لفكرة القومية العربية التي كان يؤمن بها أبي. و رغم ذلك فقد كان أبي يحبه بل استضافه في بيتـنا الجديد الذي انتـقـلنا اليه في أواخر سنة 1982. حين كنت أفكر في هذه المسألة لما تملكت الوعي السياسي، كان هذا الحب الذي يغمر به أبي عم "محمد" يشكل نقطة استـفهام دون إجابة، فوفق ما نعرفه عن الوطنية و القومية العربية و البعث الذي كان حاملا شعلته في تونس، فإن عم "محمد" هو بلا ريب خائن و عميل، و إن لم يتم إعدامه واقعيا فالمفترض ان يتم اعدامه اجتماعيا و رمزيا. إلا أن الحاصل ان "فرنسا أمنا الحنون" أصبح يُرددها كثيرون من الأحفاد بين الحين و الآخر سواء على سبيل التهكم او على سبيل التأثيث اللغوي للفكرة التي يطرحها.. تلك الأفكار التي ترى فرنسا شمس الحضارة و باريس قبلة حج و لو لمرة في الحياة بالنسبة لكثيرين.. الحقيقة ان فرنسا او روح فرنسا تسربت بعمق لدى الطبقة المثـقـفة برمتها، إضافة الى العامة و لو من زاوية مختلفة تـتلمس المظاهر و سطح الاشياء شأن العامة في نظرتها الى الاشياء برمتها..
كان أخاه عم "علي" الوجه المناقض تماما برغم تماثلهما في الوجوم و الغضب الساكن الدائم و انعدام الابتسامة. كان عم "علي" مناضلا في الحزب الدستوري و مقاوما بالسلاح كذلك حتى أن الزعيم "بورقيبة" أقطعه ضيعة زيتون بعد الاستـقلال. الرواية المشهورة في العائلة، هي أنه كان دوما ملاحقا من طرف "الجندرمة" اي الجيش و قوات الامن الفرنسية، و ان أفراد العائلة كانوا حريصين على إخـفاء مكان اختبائه عن عم "محمد" لأنهم متأكدون من ارشاد "الجندرمة" الفرنسيـين عن مكانه إن علم به..
كان كليهما قد عاش غاضبا من نـفـس الحياة او طريقة الحياة التي أخذا في مواجهتها طريقين متـناقضين.. لقد حافظا على الروح الغاضبة الساكنة الى غاية مماتهما لأن ما من شيء قد لمحاه يبعث الأمل الحقيقي في عالم أفضل..
كانت جدتي "بيه" أم أبي المرأة الحديدية بيضاء اللون ذات العينين الخضراوين المتلألئتين الجميلتين اللتين ورثـتهما عنها، تعـشق "بورقيبة" و تدافع عنه بكل شراسة، و تـفـتخر أنها قابلته في احدى مناسبات تخفيه هناك أيام نضاله ضد الاستعمار الفرنسي و انها تحدثت معه، و انها لن تـنسى مدى حياتها تلك الكلمات القصيرة المتسرعة نظرا لإحاطته بمجموعة هائلة من الرجال و النساء.. قال لها و للجميع و لكنه كان ينظر اليها حين قال : " انتوما نساء تونس النار اللي تحـرق أعـداء تونس و تـنور تونس و تـدفي تونس ايام البرد الشديد..".. حفظت امي "البيه" هذه الكلمات عن ظهر قلب و ربما كانت ترددها في صلواتها الخاطفة السريعة عكس صلاة جدي "المكي" الطويلة.. كانت توجيهات السيد الرئيس التي كانت تُـذاع قبل نشرة الأخبار موعـدا مقـدسا لديها حيث تأمر الجميع بالصمت، و هي تُـتابعها بكل اهتمام برغم تكرارها الى غاية انقلاب 07 نوفمبر 1987..
من بين نـقاط التضاد الكثيرة بين جدي و جدتي هو الموقف من الزعيم "بورقيبة". ربما لأن أمي "البيه" تعشقه فإن جدي "المكي" يكرهه. كان يقول عنه عميلا لفرنسا و كان يُمجد "صالح بن يوسف"..
كان أبي عبارة عن عُـصارة لكل تلك الشخصيات و تجاوز لها بمعنى تضخمها ثـقافيا و فكريا، بمن فيهم الجد الأكبر الحاج "سعيد"، و لو من باب الكره لتلك الشخصية الاقطاعية الشهوانية و الصلفة و التي تكاد تخلو من الرحمة و الشفـقة حتى على نفـسه. فقد رُوي أنه لما أصابه مرض السكر أمره الطبيب الفرنسي بأن يقطع ابهام رجله و إلا فانه سيموت بعد عام، فأخذ يسب الطبيب و يقول:( " الحج سعيد" يلعن بوها الحياة اللي يعيشها ناقص و لو صبع لنهار واحد..).. و فعلا فقد مات بعد عام بكل كبرياء و صلف..
تلك الشخصيات شكلت الروحية العامة للأبناء و الاحفاد..ليس من ذات فردية في ذاتها. الذات كلية اي تحمل ميراثا و تأريخا جماعيا نحنويا في الوعي.. أفضل من يعبر عن الذات هو سباق تبادل المشعـل..تلك الرياضة اليونانية الحكيمة جدا التي تعبر عن حقيقة الذات.. فعندما يـبتـغي الانسان فهم نفـسه موضوعيا، فإنه لا مناص له من الحفر الاركيولوجي في تأريخه الشخصي الذي هو تأريخ عائلته الموسعة، لتبـين حقيقة القاعدات النفسية التي يقبع فوقها. ذاك ان الوعي هو مجموع الاصوات التي نـتلـقاها مثلما يقول "نيتشه". تشكلات الوعي اساسها تلك الاصوات في الطفولة..
هذا لمن يبتغي ان يكون حقيقيا راسخا قويا و ليس ريشة في مهب الريح لذات شاحبة باهتة المعالم أمام نـفـسها فلا تكاد تُبصر العالم و كيف لذات محجوبة عن ذاتها ان تُبصر العالم بمثل ما هو العالم ان لم تكن ذاته في وعيه بمثل ما هي ذاته فعليا.. فأكبر عملية قتل للذات هي الحجاب..انتهكوا الحُجُب لتربحوا ذواتكم و تخرجوا من منطق خسارة الحياة المفعمة بالحياة و الموت المفعم بغبطة الاتناهي..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا