الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خجي وسيامند: الفصل الأول 3

دلور ميقري

2018 / 7 / 24
الادب والفن


خلف نافذة العربة، كانت الشمسُ تعيد تشكيلَ ألوان المشهد، مذيبةً كلّ الأشياء بخامة أشعتها الذهبية؛ بيارات البرتقال، دساكر الزيتون، كروم العنب، جدعات الصبّار، مراعي الأغنام، منازل المزارعين، اهراءات الغلال.. وأيضاً، خزائن كنوز المياه؛ أين يختفي الجنُّ ذووا الغلاصم الفخارية. وكانت " تينا " ما تنفك مواظبة على صمتها الرصين، ملقيةً رأسها إلى مسند المقعد الجلديّ. حواسها، أغلقت للتو بوجه الرجل اللجوج، الجالس بمقابلها ـ كما هوَ شأنُ سياج المزرعة، المكلّف بمنع مرور الحيوانات العابثة.
في حقيقة الحال أنّ هيئة وشكل الرجل، طبعه ومزاجه وطريقة كلامه، كل ذلك قد أعادَ صورةً قديمة، مشوّهة وبغيضة، حاولت دوماً دفنها في طيّات الذاكرة. على الرغم من شخصيتها، المُعرّفة بالتسامح وأناة البال، إلا أنّ الغضبَ عصف بنفسها ممتزجاً بالاشمئزاز. كان الأمرُ يداور حول أول شخصٍ أجنبيّ عرفته صديقاً، بوصفه لاجئاً مضطهداً في بلاده، ثم عاشت معه تحت سقفٍ واحد لأزيد من ثلاثة أعوام. وإنها الأعوام الضرورية، وفق القانون، كي يحصل الأجنبيّ على المواطنة وجواز السفر ذي اللون النبيذيّ!
" لوركا "؛ هوَ الاسمُ الأدبيّ لذلك الصديق، وكان يذيّل به أشعاره المكتوبة باللغتين الكردية والسويدية. إنّ اسمه هذا بحدّ ذاته، خليقٌ بأن يفجّر في نفسها ذكرى لا تقل قرفاً. بلى، تبجّحَ أمامها ذات مرة عن معرفته لامرأة أربعينية تمتهن الكتابة ولديها وظيفة مهمة في اتحاد الأدباء: " أذهلتها أشعاري، فضلاً عن طريقة إلقائي لها. فلما نزلتُ من على المنصة، تقدمت إليّ لتقول أنني أشبه فعلاً الاسبانيّ لوركا إن كان بالشكل أو العبقرية! شدة إعجابها، دفعتها إلى اصطحابي بسيارتها مباشرةً من القاعة إلى الفيللا الفخمة، التي تقيم فيها "، قال جملته مشيّعاً إياها بابتسامة ساخرة، مسمومة. ولكن كيفَ برر خيانته أمام شريكة الحياة، المفترضة: " كنتِ أنت يومئذٍ في مستهل مناوبتك الليلية بالمستشفى؛ وهيَ مناوبات تثير حفيظتي، لأنها تسلمني للوحدة والسأم! على أيّ حال، معرفة تلك المرأة ضرورية بالنسبة لي. وأعتقدُ أنكِ توافقينني على ذلك؟ ". في هذه المرة، كسا سحنته بتعبير ذليل خانع ـ كما الحالُ مع أولئك المتطبّعين بالمكر القرويّ.

***
أفاقت من غفوة الذكريات على صوت صاحبنا، المتربع على عرش المقعد المقابل. كان قادماً من الحمّام، وقد وجده قذراً على ما لاحَ من سخطه: " هؤلاء الأوباش، تركوا الدرجة العادية لكي يتطفلوا علينا بروائحهم النتنة ومظاهرهم القميئة "، قال لها بانكليزيته الركيكة مشيراً بيده إلى من يعنيهم. انتبهت بدَورها إلى امتلاء المقاعد الشاغرة بأشخاص على جانب من رثاثة الحال، وكانوا بغالبيتهم من الفتيَة. وهذا الرجلُ الغاضب، يظهر أن نزوة جديدة دهمته وجعلته راضٍ عن نفسه الرضا كله بحيث آبَ إلى الصراخ ثانية وبنبرة متوعدة. كان يخاطبهم باللهجة الدارجة، مما تعذر على السيّدة السويدية فهمَ شيءٍ؛ اللهم سوى بعض العبارات الفرنسية، المتداخلة بكلامه. على الأثر، انسحب جميع " المتطفلين " باستثناء رجل واحد وكان في أواسط العُمر. ولكنه ما عتمَ أيضاً أن لحق بالآخرين بعد مجادلة قصيرة مع المتربع على العرش، انتهت بإبراز الأخير لبطاقة ما.
" إنها بطاقة صادرة مباشرةً عن جلالة الملك، تبيح لحاملها ليس فقط ركوب الدرجة الأولى في أية وسيلة نقل، بل وأيضاً حضور احتفالات العرش مع كبار ضيوف الدولة ورجالاتها وأعضاء الهيئات الدبلوماسية "، نفخ أوداجه بهذه الكلمة قبل أن يطلقها باتجاه السيّدة السويدية. وعليها كان التبسم بسلامة طويّة، طالما أنّ الرجلَ سبقَ وتجرع عدة أقداح من النبيذ الفرنسيّ، مجاناً، في الطائرة القادمة من باريس.. وربما على متن الدرجة الأولى، جنباً لجنب مع كبار ضيوف الدولة ورجالاتها والخ!
اندفعَ بعد ذلك إلى إيضاح جلية أمر المعركة المنتهية بانتصاره، قائلاً أنّ بعض ركاب الدرجة العادية يتسللون عادةً إلى الدرجة الأولى لمحاولة سرقة حقيبة من يجدونه فيها نائماً: " إنهم شديدو المكر، يتظاهرون بأنهم يودون استعمال المرحاض النظيف. فلو أنهم لم يروا راكباً واحداً نائماً، فلا يترددوا عن الجلوس في المقاعد الشاغرة تحيناً لفرصة مناسبة للانقضاض. أما لو خابَ رجاؤهم تماماً، فماذا يفعلون يا سيّدتي؟ سينتقمون باستعمال المرحاض، ليملئونه بأوساخهم! "، قالها ثم أردفَ على الأثر بنبرة مبيتة " هؤلاء هم أصدقاء محمد شكري، زملاؤه السابقون في الشقاوة والسلب والسرقة واللواط! بلى، وبفضلهم صار غنياً ومشهوراً! فيما بقوا هم كما هم لا ينتظرون منه حتى درهماً واحداً، نظراً لبخله المأثور والمستمد من بيئته الريفية.. "
" ألستَ أنتَ بنفسك من الريف، مسيو عبد؟ "، سألته بطريقة استطلاعية كيلا تجرح شعوره. جحظت عيناه قليلاً، كأنما السؤال باغته. أجابها كالمستغرب: " أنا..! لا، بل إنني من بني ملال. لقد أخبرتكِ بذلك قبلاً، ولعلكِ لم تفهمي فرنسيتي بشكل جيد؟ ". جواباً، خاطبته في سرّها: " هذا محتمل جداً. بيْدَ أنني صرتُ الآنَ أفهمكَ بشكل أفضل! ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي