الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما بعد الكذب

سامي عبد العال

2018 / 7 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


واقع المجتمعات العربية كالرمال المتحركة لا يثبُت تحت الأقدام إنما يسحب قاطنيها نحو الهاوية. وإجمالاً يعدُّ الواقع صناعة بشرية خالصة يتلون بقدر تلون الحياة المشتركة وتفاعلاتها، فلن يكون التخلف إلاَّ تخلفاً ولن يكون التقدم إلاَّ تقدماً. وهو الصورة الإنسانية لتراكم الخبرات وخلاصة الأفعال التي يطرحها البشر في ممارساتهم. الواقع إذن ليس موضوعياً ولا هو حصيلة عوامل مجهولة حطت عليه من خارج سياقه.

ومن ثم فالحصاد العربي لسنوات التسلط والفوضى سينتج مزيداً من القهر والديكتاتورية. ليس معقولاً أنْ يخرج الحنظلُ تفاحاً مثلما لن تزهر الأشواك وروداً. والأدهى أن يستمر هذا الواقع الإشكالي كما هو رغم التغيرات الحادثة على الصعيد العالمي. بحيث اعتادت عليه العيون وألفه الوعي وظلت الشعوب دائرة في فلكه وحبيسة إفرازه بلا حراك.

تلك الفكرة تختبر نتاج المجتمع تجاه حياته وكيفية إدارة ماكينة التنمية وآفاق التغيير إنْ كانت هناك. ولذلك بسبب عجز العرب عن إدارة الحياة، ستكون الأنظمة السياسية في حاجة إلى تغطية خيباتها وسوء تصرفاتها والفشل في النهوض بالواقع. فالتعثر في مسيرة السياسة يستدعى مبررات غير معقولة من قبيل التعلل بالظروف والمؤامرات ووضع الرأي العام في حالة تأهب للأخطار المحدقة. واصطناع أعداءٍ هم في وضع خفاء دوماً انتظاراً لمعركة حاسمة لم ولن تأتي بعد.

إنَّ السمة السياسية التي تميز دول ما بعد الربيع العربي ( مصر، تونس، ليبيا،...) هي سيادة الكذب. سواء أكان كذباً بما يمكن تحقيقه أو ما لا يعجز عنه الحاكم. فالكذب الآن لم يعد جزئياً ولا مؤقتاً حتى تظهر مرحلة أخرى من الحقيقة.

أصبح الكذب جارفاً، غدا حقيقياً. وربما لأول مرة ينال الكذب مشروعية كلية من هذا الصنف، ليس بالغلبة على النقيض( الحقيقة )، إنما بالتداعي المباشر إزاء القضايا والمشكلات الكبرى كمشكلة الديمقراطية وبناء المجتمع وتداول السلطة والتقدم وتحقيق إنسانية الإنسان.

أي أخذ الكذب في تجاوز ذاته نحو ذوات أخرى، بملء الكلمة أصبح الفعل السياسي استعارة للكذب بمقدار ما يدير رؤى الحياة ومعطيات التنوع البشري. وتدريجياً بات ظهور الحاكم الراهن واضحاً بجميع الأقنعة، مرة عجوزاً ومرة متصابياً ومرة مختالاً غر فخور ومرة قائداً واثقاً من نفسه ومرة حازماً في اتخاذ القرارات، لكنه في جميع المرات يكذب ثم لا يجد حلاً من الكذب بصدد حالة الحرية وتطبيقات العدالة ومحاربة الإرهاب ومعدلات التنمية والتطور وحركة الإنتاج وعلاقات دولته بالدول الأجنبية.

في يوم من الأيام الحديثة عندما كان الأمير – من وجهة نظر مكيافيللي - يواجه رعيته عن طريق حيل يفلت بها من فخاخ السياسة ويقوي من شوكة سلطته، ربما يكون الكذب مفيداً في تسيير الأعمال وترسيخ الحكم. لكن هذا الكذب كان مجرد وسيلة داخل تدابير السياسة. والمشروعية تأتيه من جانب الغاية تبرر الوسيلة. مما يسمح بدخول أية وسائل ممكنة نحو أية غايات غير محتملة، ويظل هذا التواطؤ التبادلي بين الوسيلة والغاية على أشده.

كيف يكون الكذب هو الأساس؟ هل يوجد كذب يحمل نظاماً سياسياً؟ بل هل يمكن وصف نظام بهذا الوصف الشائع؟ ربما أنظمة ما بعد الربيع العربي جاءت على وهم ردم الهوة بين الثورات والواقع. ففي مصر نتيجة عملية الإفقار بأنواعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية كانت الهوة أكبر من أن تردم. حتى باتت الدولة مجرد لاصق طبي على جروح ودمامل لمريض منذ عشرات السنوات. واتسعت الآمال وتطلع الناس إلى حياة مغايرة فجاء الواقع كذوباً فيما بعد. حتى تقيحت الحياة العامة إلى حد الازدراء ولم يكن المجتمع المصري ليحتمل أية خطوة في طريق الفشل السياسي لنظام مبارك وتوابعه.

ومع مجيء نظامي " الأخوان والثلاثين من يونيو" أيضاً لم يوجد هنالك سوى الكذب بوصفه الأداة التي تعوض الفارق المهول. فلم يكن الأخوان على دراية حقيقية بما يعنيه الواقع، بل تحول الواقع لديهم إلى كذبة بحجم إساءة فهم التاريخ والجغرافيا والدين والسياسية في سلة واحدة. ونظام الثلاثين من يونيو سار على ذات الطريق، استعاد سريعاً هيمنة السلطة السياسية ونظام الحكم بكل مفارقاته: مرحلة جديدة بمفاهيم قديمة، عصر الجماهير بمركزية السلطة واحتكارها، حرية التعبير بتكميم الأفواه والحجر على الآراء، الانفتاح الإعلامي بوسائل إعلامية تقليدية وصوت الفرد المطلق وحجب المعارضة.

ولأن ردود الأفعال الجماهيرية عديمة التأثير، كان على النظامين دفع مركبة الكذب إلى مداها الأبعد. والإستراتيجية المتبعة أن الكذب يدفع المواطنين للعيش في نتائجه التي تتناسل كما لو كان حقائق. بمعنى أن الأصل في الموضوع( كل قضايا السياسة) سرعان ما يتم نسيانه. وليس هذا فقط، بل يجري البناء على نقيضه تماماً وهو نفسه نقيض الدولة. فلو قيل إن هناك دولة العدالة كما يزعم النظام المصري، فستكون الخطب والمقولات مستنده إلى هذا المعنى رغم أنه غير ذات صلة بشؤون الحياة. فالدولة كالعربة الطائشة لا تنضبط بقوانين ولا تلتزم بكوابح من أخلاقيات أو مراعاة الفوارق بين الفئات الاجتماعية.

بالتالي تترك الجماهير ماذا يقال من السلطة ومبرراتها في اتخاذ سياسات دون غيرها إلى اعتبار المقول حقيقة لها صدق ذاتي. بينما الاثنان ( الجماهير والسلطة ) يكذبان على بعضهما البعض. لأن هناك جهلاً بماهية الدولة وحقيقتها وإمكانياتها السياسية وكيفية استقبالها بعد الثورات في واقع فج.

أولاً: الكذب بالمعنى السابق ليس وصفاً، لكنه آلية عمل تخادع الشعوب لصالح سلطة غاشمة. فالدولة ما لم تكن كذلك تقنية سياسية لإدارة الحقوق والمطالب وإتاحة الفرص بكافة اختلافها وتناقضاتها، فهي بذاتها تتحول إلى كذبة كبرى. يضيع منطق المفاهيم والماصدق ويصبح لدى شعب الدولة جثث كبرى اسمها المؤسسات والقوانين والدستور والصحافة والهيئات والجامعات.

ثانياً: إن الوصف الأخلاقي وراء الكذب يعد جزئياً وقد لا تعترف به السياسة، فالأخيرة لا تتعلق بالقيم، لكنها ترتبط بمنطق السياسة التي توظف القيم لغايات اجتماعية وإنسانية أكبر من مجرد الأوصاف الفردية أو الجزئية. إن الحاكم المستبد يدرك ذلك تماماً فليس سهاً اصطياده بأوصاف من هذا القبيل عندما يقال له أنت مخادع وكذوب، لأن الدولة نفسها( بهذا المنطق العام ) لا تنتج إلى كذباً تجاه مواطنيها، وطالما تتعثر منذ البداية فهي لن تخرج من نفق الكذب سواء
أكان رئيسها هو المسئول عنه أم مسئوليها الصغار.

ثالثاً: إنَّ تجديد الأسس والمبادئ في تلك المرحلة هي الأهم. فالكذب الجزئي الذي يعزف على نغماته الرؤساء والحكام العرب إنما هو هدم لتلك الأسس. ولذلك فإن الوعي الناقد لا يتقبل بسهولة وقوع الحاكم في أخطاء جزئية إلاَّ بمقدار ما يستحضر حالة الأخطاء الكلية الأشد تهديداً. ولو يعلم أي حاكم عربي ماذا يدمر من أسس ما كان له أن يعد برفاهية العيش بينما هو يداهن لترسيخ سلطته. وما كان له ليطلق عبارات التزلف والنفاق دون حسيب ولا رقيب. فهذه الوقائع تشير أول ما تشير إلى مدى وهن الأسس والأطر التي تنهض عليها الدولة. وهذا ما يهدد المجتمع برمته ويحبط فئات الشعب وهم الأكثر إحساساً بكيانهم الكلي يتهاوى. فالدولة بالنسبة إليهم ليست مظلة بل طريق في الحياة ومسار يمكن تحقيق الغايات القصوى من خلاله.

رابعاً: ليس " ما بعد الكذب " مرحلة، لكنها للأسف عملية تكرارية طالما أن السلطة لا تمارس معاني الدولة. فالانحياز لسياسات تصب في مصلحة الأغنياء وتؤدي إلى إفقار الشعوب هو ما بعد الكذب. لأنه انتهك وجود الدولة وكيانها كمعيار إنساني حاكم وترك الساحة العامة كحلبة صراع يفترس فيها الغنى أي فقير يواجهه.

خامساً: الوعي بـ" ما بعد الكذب " هو الشرط الضروري لفهم الدولة. والحاكم الذي يعرف ذلك استناداً إلى تلك النقطة الجذرية سيظل يمارس بدوره الخطأ تجاه الشعب وتوفير فرص الحياة الكريمة له.

إنَّ نتاج الربيع العربي الهزيل أفرز أشباه الحكام الجدد بمصر وتونس وليبيا، وأدخل الدولة العربية إلى هذا النفق المظلم من الأكاذيب. فلم تكن التغيرات على مستوى الآمال كما أنَّ الشخصيات الحاكمة هي مجرد استجابة سمجة لعملية كذب طويل الأمد لن يفيق منه الحاكم قبل الشعب ما لم ينفض التراب عن طبيعة الدولة وفكرة القانون والدستور وتجديد الأطر التي تستند إليها. وبما أنَّ الشعوب هي صاحبة السلطة في أي نظام ديمقراطي حر، فإن وضع الشعوب يمثل معياراً لكشف مسلسل الأكاذيب مهما تكن أقنعتها وأبطالها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أهلا بكم في أسعد -أتعس دولة في العالم-!| الأخبار


.. الهند في عهد مودي.. قوة يستهان بها؟ | بتوقيت برلين




.. الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تزداد في الجامعات الأمريكية..


.. فرنسا.. إعاقات لا تراها العين • فرانس 24 / FRANCE 24




.. أميركا تستفز روسيا بإرسال صورايخ سراً إلى أوكراينا.. فكيف ير