الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خجي وسيامند: بقية الفصل الأول

دلور ميقري

2018 / 7 / 25
الادب والفن


4
اهتز داخل " تينا " لفكرةٍ أكثر جدّة، وهيَ أنها قد تكون تسرعت في الحكم على الرجل الجالس في مقابلها، وخصوصاً، مقارنتها بينه وبين ذلك الشخص الكريه، الذي كاد أن يدمّر حياتها. فمهما يكن من أمر الأول، فإنها بالكاد عرفته خلال ساعتين من رحلة القطار وقد لا تلقاه مرة أخرى قط. ومع ذلك، استفزتها كلماته الأخيرة والتي يبدو أنه ينتظر رداً عليها كما لاحَ من نظراته المتعلقة بعينيها. على أنه عادَ وانشغل بموسيقى الذباب، المشكّل سيمفونية داوية حول وجبة الغداء الصغيرة، وكان قد استلها تواً من حقيبة السفر الكبيرة، المحشورة في ركن ضيق مستطيل بأعلى حجرة العربة. رائحة السمك القوية، أيقظت جوعَ المسافرين الأربعة الآخرين ممن يشغلون مقاعد العربة؛ حيث عمدوا هم أيضاً إلى إخراج ما تيسّر من سندويش وحلوى وفاكهة. هكذا دبت الحيوية في الحجرة، مرفقة بسيمفونية أسراب الذباب، فلم يبقَ أثرٌ للنكد المتخلّف عن اقتحام بعض ركاب الدرجة العادية لحُرمة الدرجة الأولى. انتبهت إلى أنّ أولئك الركاب، المتعرفين على بعضهم البعض ومَن تسامروا طوال الرحلة، لم يتشاركوا في الطعام. ولا أيضاً الرجل الجالس بمقابلها، الذي باشرَ التهام وجبته دون أن يدعوها. هكذا ملاحظة عن شيمة المغاربة، المختلفة عما ألفته هيَ من أهل المشرق، ستحتفظ بها مثل بقية تذكارات رحلتها.
" أنتِ إذاً في مراكش للمرة الأولى، فهل حجزتِ مسبقاً في أحد فنادقها أو رياضاتها؟ "
استفهم منها مَن دعته، " عبد "، بعدما سرّح حلقه بجرعة وافرة من زجاجة مياه معدنية. بدَورها، كان على السؤال أن يوقظ في نفسها هماً انشغلت عنه بما جدّ خلال طريق السفر من محادثة وأحداث ومشاهد. فلما علمَ بأنها لم تفعل ذلك، فإن حلقه أصدرَ ضحكة مكتومة: " لا عليكِ. إن مراكش، على أي حال، ليست مدينة تعج بالسياح كباريس، مثلاً. وسنتدبر الموضوعَ سويةً بمجرد وصولنا "، قالها نافخاً أوداجه. كان صعباً عليها أن تظهر غشيمةً أمام هذا الرجل المُجرّب، وبغض الطرف عما يفصل بينهما من عُمر، فتذعن لما يقترحه عليها. ولكنها هزت رأسها علامة على الشكر، قبل أن توليه إلى جهة النافذة.
" هيه! لم يرضكِ اقتراحي، وربما أبدو كثيرَ الفضول. أليس كذلك؟ "، عاد كرةً أخرى إلى النق. تفحّصت سحنته، وكانت ما تفتأ محتفظة ببسمة ودية. بادلته الابتسامَ، قبل أن تجيبه كالمعتذرة: " لا، أسعدني التعرّف على شخصك وبالأخص لأن لدينا ذات الاهتمام بالأدب ". ثم استطردت ضاحكة " مع أنني مجرد ممرضة في مستشفى ". تسامحَ الرجلُ بضحكة أكثر ضجيجاً، ليعقب من ثم بالقول: " ولا أنا متفرغٌ للأدب، بالرغم من أنني أملك مئات الأقاصيص بالوسع ضمّها في عشرات المجلدات ". عند ذلك، أطلقت السيّدة السويدية ضحكة مجلجلة حقّ لها أن تُدهش رفيقَ الرحلة. وإذ لحظت ما اعترى ملامحه من تغيّر، فإنها بادرت للاستدراك في جدية: " لقد عرفتُ شاباً بمثل موهبتك، ولكنه يقرض الشعر. إنه محتارٌ بالآلاف الثلاث من قصائده، لناحية النشر والطباعة "
" أهوَ سويديّ أم أجنبيّ؟ "
" بل أجنبيّ ومن كرد تركيا.. "
" بصراحة، لا يعجبونني هؤلاء الكرد.. واعذريني لو كان الشاب صديقك! "، نطق جملته الأخيرة بلغته الانكليزية البليغة. وتابع على الأثر، ملطفاً من تعبيره " عرفتُ كرداً من مختلف بلدان الشرق الأوسط. هم عموماً ماهرون في أعمال المطاعم، لأنها تدر الكثير من الربح طالما لا يدفعون شيئاً من الضرائب تقريباً! الاهتمام بجمع المال، وبصرف النظر عن الوسيلة، يُمكن أيضاً ملاحظته عند العديد منهم! إلا أنّ هذا لا يمنع المرءُ من الإعجاب بهم، على الأقل لتحررهم من النزعة الدينية المهيمنة اليوم على غالبية الجاليات الأوروبية المسلمة. ويؤلمني بالأخص جماعتنا، الأمازيغ، سواءً المغاربة أو الجزائريين ممن أعمى التدين بصيرتهم وشغلهم عن تغذية قضيتهم الثقافية. بل إنهم يكيدون لبعضهم البعض، وذلك بتحريضٍ من حكومتيّ بلديهما "
" المغاربة قلة قليلة في السويد، فلم أحظَ بمعرفة أحد منهم. كذلك، كانت رحلتي الأولى لأغادير سياحية.. "، قالت له. ولم تكمل جملتها، كونه أوقفها متسائلاً: " وهل أنتِ تبغين زيارة مراكش في أمر آخر، غير السياحة؟ ". وافقته بهزة من رأسها، ثم أوضحت باقتضاب أنها في مهمة تتعلق بابنة صديق كردي رحل عن الدنيا في نهاية العام الفائت وكان متزوجاً من مغربية. عادَ ليسألها وقد نما فضوله: " أظنه ذات الشاعر الشاب، صاحب الآلاف الثلاث من القصائد! ".
تبسمت عندئذٍ بمرارة، فيما رأسها يتحرك كالمروحة تعبيراً عن النفي.

5
أقرب الركاب إلى مجلس بطلة قصتنا، وكان رجلاً قاتم البشرة في نحو الثلاثين من عمره، دأبَ خلال الرحلة على إيداع نظراته في شق ثوبها الأعلى؛ أين ثوى ثديان بلون البشرة العسلية، لهما استدارة ثمرتَيْ جوز هند. وكانت " تينا " تلبس ذلك اليوم بلوزة صيفية، خفيفة، فوق بنطلون من قماش هفهاف، يُبرز أيضاً حُسن ردفيها. فلما نهضت من مكانها، بغيَة تحريك رجليها في الممشى المفضي للعربة الأخرى، فإنّ الراكب الجار تبعها وهوَ يُخرج سيجارة من علبة تبغ أجنبيّ.
" ما شأنك هنا، يا هذا؟ "، هتفَ من الخلف صوتٌ مزمجر. وكان ذلك الراكب يلتصق بالسيّدة الأجنبية من وراء، طالباً منها شعلة نار للفافة التبغ، حينَ تدخل " عبد الإله ". ومنه علمت هيَ، فيما بعد، بفحوى حديثه مع الرجل باللهجة الدارجة. وكان صاحبنا قد أردف بالنبرة نفسها، مخاطباً الآخر مُربد الوجه: " على أيّ حال، التدخين ممنوع في عربة الدرجة الأولى. والأسوأ، أن تكون متسللاً إليها من الدرجة العادية! ". تمتم الشابُ بكلمات مبهمة وقد بدا محرجاً بشدة، إلا أنّ صاحبنا المتعالي لم يلقِ نحوه نظرةً أخرى.
" ذلك الشخص الكريه، أمثاله كثر في مراكش. فلتأخذي حذرك، وبالأخص في الأماكن المتطرفة غير المطروقة والتي يتيه فيها السائح فيعترضه المنحرفون سواء أكان رجلاً أو أنثى. ثمة قصص تملأ الجرائد عن هكذا حوادث اغتصاب وسلب. الشرطة شبه غائبة، لا تتدخل إلا بعد فوات الأوان. أمر مؤسف، حقاً. غيرَ أنني منذ اللحظة أعتبر نفسي مسئولاً عن حمايتكِ؛ وبحَسَب رغبتك طبعاً! فإنني لستُ ذلك المتطفل على الآخرين، بل أعدك بمثابة ابنة لي "، استرسل في كلامه وكأنما آثارُ أقداح النبيذ الفرنسيّ ما انفكت تتلاعبُ برأسه. رمقته بنظرة امتنان. ثم شاءت أن تجامله ببعض الكلمات، وإذا هوَ يندفعُ بالحديث وقد ازداد انفعاله: " نعم، أنا لستُ ذلك الشخص المتطفل. ولكنني لحظتُ أنكم معشر أوروبيي الشمال تبالغون في الانطواء على النفس، وهيَ خصلة تعارض ما يتصف به أوروبيو البحر المتوسط من تبسط وانفتاح على الآخرين. فمثلاً، أنتِ لا تهتمين بالسؤال عن مهنتي وعائلتي وإقامتي في مراكش وهلمجرا.. "
" أنت محق في ملاحظتك، مع أننا لم نكد نتعرف على بعضنا إلا منذ نحو ثلاث ساعات. ولعلك ستدهش، إذا قلتُ لك أنني أعد مسرفة في الانفتاح على الآخرين قياساً بمواطني بلدي. اهتماماتي الأدبية، جعلتني قريبة من الأجانب لدرجة أنني ارتبطتُ بشابين منهما.. "
" عاشرتِ كلاهما، معاً؟ "، سألها وهوَ يتمعن فيها بعينين تفيضان دهشةً وفضولاً. ابتسمت " تينا " في نعومة وسماحة، ثم أوضحت ما التبسَ عليه من الأمر. ثم استدركت قائلة: " أعلمُ أنّ ثمة الكثير مما يُحال لأخلاق أهل اسكندينافيا، ومن ذلك ما يُشاع عن ميلهم لحياة الإباحة. إلا أننا نعيش حياة عادية، لا تختلف عن بقية الأوروبيين. ولكن من ناحية أخرى، أجد الفرنسيين وقد أضحوا أكثر محافظةً مما كانوا عليه في نهاية القرن الماضي. وعلى سبيل المثال، فإنّ الحرية الجنسية هيَ ما جذب العديد من الفنانين والكتّاب إلى باريس قادمين من شمال وجنوب أوروبا ومن الولايات المتحدة أيضاً "
" أما نحن المغاربة، فمشهورون بالسحر الأسود! "، قالها وهوَ يطلق ضحكته المكتومة. تابعَ في جدية وقد دبت فيه الحيوية من جديد: " على أنّ طنجة، التي تمتعت سابقاً بنظام دولي خاص، جاز لها أن تكون مقصدَ العديد من الأدباء والرسامين. لقد قدموا إليها من الغرب الأوروبي والأمريكي، ومنهم من بقيَ مقيماً لعقود طويلة "
" هل قصدوها من أجل السحر الأسود؟ "
" لا، لا هاهاها! "، أجاب ضاحكاً بصخب هذه المرة. وانتبهت هيَ إلى سذاجة سؤالها، فقالت مستدركة: " السحر والعِرَافة والفلك، كلها كانت من ضمن ما يُعرف بالموضة الأدبية في النصف الأول من هذا القرن. إنّ كاتباً بحجم الأمريكي هنري ميللر، على سبيل المثال، قام بزيارة مدينة سان ريمي من أجل معاينة منزل المتنبئ الشهير، نوستراداموس.. "
" المعذرة لو أنّ تعبيرك عن سحرنا الأسود، قد أثار ضحكتي. لم أقرأ شيئاً لميللر هذا، ولكنني قرأت لمواطنه، فردريك بوول، فضلاً عن أنني أعرفه حق المعرفة. إذا بقيَ لديك وقت، فإنني أتعهد بأخذك إليه. إنه يعيش بصورة متواصلة في طنجة، منذ أواخر الأربعينيات. وإنه هوَ سببُ شهرة صاحبنا محمد شكري، حيث ترجم له ولأمثاله من المنحرفين والمتسكعين! "
" أتمنى لو أتيحت لي الفرصة، سواءً في هذه الزيارة أو غيرها "، ردت وهيَ تكبت ضحكةً أثارها مختتمُ جملته. ثم عوضتها بابتسامة حيية، قائلة: " مهما يكن، فإنني سررت حقاً بمعرفتك. والآن، بالوسع أن نتعارف أكثر وأن تذكر لي ما يتعلق بعملك وأسرتك؟ ". نظرَ أولاً إلى حركة الركاب في المقصورة، ثم أطلق عينيه إلى الخارج عبرَ النافذة: " يبدو أن الحديث كان شائقاً، حتى لم أنتبه لوصولنا إلى المحطة. على أي حال، سأوافيك بالمعلومات في فندق السعدي. أنصحك بالنزول فيه، ليسَ لكونه أعرق نزل في مراكش حَسْب، بل وأيضاً لأنني أعرف مديره شخصياً. سأمكث معك هنالك بعض الوقت، لحين اطمئناني عليك. ثم ألحق بأقارب لي، يعيشون في المدينة القديمة. هلمِ بنا، إذاً! "، قال ذلك ثم ما لبثَ أن أعانَ السيّدة السويدية بإنزال حقيبتها الكبيرة من الرف العلويّ. عند عتبة سلم عربة القطار، شدّت " تينا " على يده شاكرة. بُهتَ الرجلُ، معتقداً أنها تود المضي وحدها. ثم ما عتمَت أساريره أن تفتحت، كوردة، آنَ إمساكها بمعصمه. هكذا سارا متلاصقين، يلفحهما ريح الظهيرة الساخن، ليخرجا من المحطة الأشبه بكوخ فلاحين كبير. ثمة أمام مدخل المحطة، صارَ يستحثها مردداً: " من هنا، من هنا.. ". فاعتقدت أن سيارة ما بانتظاره، بالنظر لما كان يضفيه من أهمية على شخصه خلال طريق السفر. إلى أن أشارَ بيده لسيارة أجرة عابرة، ليطلب من ثم من سائقها التوجه إلى ذلك الفندق العريق، الذي يعرفه مديره شخصياً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه