الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسطين إسرائيل: الاستعمار الاستيطاني ودولة الاستثناء

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2018 / 7 / 27
القضية الفلسطينية


يميل الخطاب المؤيد لإسرائيل بشقيه الدعائي و التحليلي لتمثيلها ,بطريقة مقصودة و ملفتة للنظر بحيث تبدو كأنها دولة ديمقراطية عادية سويّة و مجتمع غربي سوي , وسواها استثناء :فهي دولة ديمقراطية يحيطها جيران معادين ،وهي دولة علمانية مستوفية تاريخياً المصير الديني لشعب ما ، وهي ديمقراطية تمتلك القدرة على تعريف نفسها كدولة لشعب واحد ودين واحد ، وهي علاوة على ذلك الديمقراطية الوحيدة في المنطقة.... وهكذا دواليك.ويزعم أصحاب هذا الخطاب ,في بعض الأحايين أن الحالة السوية تلك لإسرائيل تستوجب إعفائها من معايير قوانين حقوق الإنسان والقانون الدولي ، في حين يبدي البعض الآخر تذمرا من معاول النقد التي تستهدف هذه الدولة .تحاول هذه المقالة أن تبين القيمة الانتهازية في العلاقات العامة لمثل هذه التناقضات الواضحة ,فضلا على إمكانية تفسيرها بشكل أفضل لو حاولنا فهم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين كمشروع استعماري نموذجي ، تكمن تناقضاته في التأطير المبكر للحركة الصهيونية عبر منطق تحليلي تم استعراضه منذ أمد طويل على يد ألبرت ميمي وغيره من منظرين حالة الاستعمار الاستيطاني.
حاولت [في البداية] التفكير في فلسطين وفلسطين بذاتها ، ("بحد ذاتها" ، كما يقول الإيرلنديون). غير إني وجدت نفسي بدلا من ذلك أفكر وأكتب "فلسطين / إسرائيل" ، كما لو أن فلسطين لا يمكن التفكير فيها وحدها.لقد نجح مؤيدو الصهيونية في فرض مثل هذا الملمح كشرط للتفكير في فلسطين: فلا يمكن التفكير بفلسطين ، بل بالأحرى ، قد لا يمكن التفكير فيها ككيان مستقل ذي سيادة ، قادر على منح القوانين لذاته. فإذا كان من الممكن التفكير في دولة فلسطينية و جنسية-قومية فلسطينية بصورة عامة ,فمثل هذه الإمكانية غير متاحة إلا بقبول إسرائيل و من يدعمها .وعلى هذا يستبعد تماما التفكير أو الحديث عن فلسطين مثلما نتحدث عن أية أمة أخرى وعن معاييرها دون أن نضطر للعودة إلى مرجعية إلزامية لأمة أخرى .وبالمثل ،فثمة إمكانية متاحة للتفكير بذات القدر عن علاقات أمة ما بأية دولة مفترضة دون إنكار سيادة أي منهما إلا في حالة فلسطين. فالأمة ، التي قد يكون لها حضور ذهني أو ثقافي ولو بدون دولة ، لا تحقق السيادة إلا عندما تكون حاضرة في إطار المعنى الذي حدده ماكس فيبر , أي كدولة تحتفظ [وحدها]بحق احتكار العنف المشروع داخل أراضيها. وهذا بالضبط ما عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على حرمان فلسطين منه , فعمدت-هذه الحكومات-على احتجاز فلسطين كفضاء خاضع ليس للقانون فحسب ,وإنما لمتاهة متناثرة من القوانين ،مما يجعلها تفتقر لمنح ذاتها القوانين أو الحق في منح سكانها المواطنة الكاملة, ويعني مثل هذا الافتقار للسيادة -للفلسطينيين- العيش في ظل الحرمان من المواطنة أو الحصول الجزئي عليها. ويواجه من يعيش منهم هذه المعاناة داخل إسرائيل مثل هذه اللعبة القذرة الخبيثة المتمثلة في حصولهم على الجنسية الرسمية [للدولة] في الوقت الذي هم محرومون من حق الحصول على السمة القومية المخصصة لليهود فقط الذين يتحصلون على الحقوق الأساسية, بما في ذلك حق العودة. وتتأكد سيادة إسرائيل على فلسطين بإنكار حضور هذه الأخيرة كدولة لها حق السيادة على مواطنيها ,و تتمثل السيادة الإسرائيلية بصورة مباشرة على فلسطين وعلى مكانتها كعضو في ما يمكن أن نسميه الشبكة الحديثة من امتيازات الدول الفستفالية، التي تأسست بموجبها " السيادة كمؤسسة مركزية في النظام الدولي"(1).وكما يلاحظ داريو باتيستيلا فالنتيجة الطبيعية للعلاقة بين الدولة الفستفالية التي تتمتع بالسيادة و تلك التي لا سيادة لها تكمن في خلق تمييز يجعل من هذه الأخيرة تخضع للاحتلال و الاستيلاء دون رحمة من قبل الأولى : بعد ظهور النظام الفستفالي في أوروبا ، استمر النظر إلى الأراضي غير الأوروبية على أنها "أرض مهيئة لاحتلال" ، في ذات الوقت الذي صارت تدار الحرب في المجتمع الدولي الأوروبي بين "جيوش شخصيات اعتبارية " ، أي بين كيانات تعترف بحق الآخر في الوجود بشكل مستقل كوحدة سيادية(2).
تشكل البنية الثنائية التكاملية للعلاقة المتذبذبة بين القاعدة والاستثناء -كما سنرى-طبيعة التناقضات في العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية. وتسمح مثل هذه البنية بعدم الفصل بين الادعاء الإسرائيلي بأنها دولة غربية "طبيعية" أو "متحضرة" من جهة و بين وضعها كدولة "استعمارية استيطانية" من جهة أخرى يتيح لها وضعها هذا في استثمار استعمار "أرض مهيئة للاحتلال". ومن ثم ، يبدو من غير الممكن أيضًا التفكير في فلسطين دون التفكير بشكل متزامن بما يلغيها, فلا يمكن التفكير في فلسطين دون التفكير بما ومن يطمسها ، ويحل محلها ، أي إسرائيل والصهيونية. وسوف يواجه المرء مفارقة "الغائبين الحاضرين" كلما حاول التفكير في فلسطين .الغائبون الحاضرون أولئك الذين تغيب هويتهم بتعتيمهم و طمس وجودهم. وفي الحقيقة ,لا يعبر مثل هذا الكلام عن تصورات أو قضايا جديدة , فكما قال إدوارد سعيد منذ نحو ثلاثين عاما : "لقد استندت جميع الطاقات التأسيسية للصهيونية على الوجود المستبعد ، أي الغياب الوظيفي" للسكان الأصليين "في فلسطين" (3). فما هي البنية الطوبولوجية التي تنشأ من هذه الصيغة الغريبة و الجوهرية -وجوديا وقانونيا- في ذات الوقت ,أي صيغة "الحاضر الغائب" ، كحقل تعيين فعلي واستعارة رنانة على حد سواء للمأزق الدائم للفلسطينيين ، سواء في وطنهم أم على المسرح العالمي؟(4) .ويتبع هذا الشرط الخصوصي للغياب (حتى عندما يكون الجميع حاضرا ,أو الحضور في حضرة الغياب, أو يكون خارجا حتى عندما يكون الجميع في الداخل) -على الأقل من الناحية الميتافيزيقية-المنطق المكاني للتطهير العرقي والاحتلال كظاهرة مادية ويتطابق مع الفضاء المنطقي للاستثناء الذي تتجلى فيه قوة القانون أو الدولة الدستوريين في القدرة على تعطيله .
قد يكون مطلوب منا هنا في سياق هذه الحالة الفردية بأن نجعل من فلسطين / إسرائيل استثناءً لحكم الأمم ، أو أن نجعل فلسطين / إسرائيل مثالا. نموذج للدول المستعمرة الاستيطانية أو حتى نموذجا للدول الاستثناء؟ فهل تمثل هذه العلاقة بين الاستيطان و الطرد إرث الماضي الذي ألغيت خصائصه المحددة أو أهملت في مكان آخر؟ أم أنها مازالت تقف كنتوء على أعتاب تشكيلات جديدة تهدد سماتها بأن تصبح هي النمط العام للمستقبل؟ وكلما زاد الضغط الذي نضعه على هذه الأسئلة التي تبدو متناقضة أو غير متساوية ، كلما رأينا أنها ,بطريقة ما مميزة, تعين المسألة الفلسطينية وتعين إطارها مثلما تعين أيضا قضاياها الملموسة. كما يمكن للمرء أن يلحظ ميل الخطاب عن إسرائيل و بالتالي فلسطين نحو استدعاء درجة ما استثنائية تتعلق في جملة المزاعم المتناقضة على حد سواء بشأن النموذج و الاستثناء المشبع بها هذا الخطاب.
إذا كان التفكير في إسرائيل / فلسطين أصبح منقسمًا ,إلى حد استحال فيه إلى إمكانية التوصل إلى تفكير غير قابل للتجزئة ، فالأمر ذاته ينطبق على الفروقات بين النموذج والاستثناء. قد نبدأ بالبحث في الطرق التي يمكن أن تُصاغ فيها إسرائيل / فلسطين -بالمعنى العامي المسهب-على أنها نموذجية أو غير مألوفة ، وكذلك في السبل التي يكون بها هذا العرض الذاتي حاسما لمطالب إسرائيل بأن تكون سوية و شرعية. فمن ناحية ,تقدم إسرائيل نفسها كدولة مثالية وبالتالي "طبيعية" تقوم على بنيان ليس أقله تعبيرا عن رغبة طبيعية لشعب تاريخي في وطنه أو دولته القومية -مثل العديد من الدول التي قامت في أوروبا على وجه الخصوص في لحظة تأسيس الصهيونية. بيد أنه في ذات الوقت إسرائيل ليست أقل من مثالا لمستعمرة استيطانية ،ونموذجا للعديد من المستعمرات الاستيطانية التي -لا بأس من تكرار ذلك- أنتجت أوروبا القرن التاسع عشر العديد من الحالات الشبيهة به و بها [كنموذج و كمستعمرة], وكما يشير إدوارد سعيد لا يوجد هنا ما هو استثنائي مع بدايات ظهور الحركة الصهيونية :من الأهمية بمكان أن نتذكر أن الحركة الصهيونية لم تتحدث بطريقة لا لبس فيها عن نفسها كحركة تحرير يهودية في معمعان الانضمام للحماس الغربي العام في الاستحواذ على اقاليم ما وراء البحار، بل كانت ترى في نفسها حركة يهودية للاستيطان الاستعماري في الشرق(5).
وبالتالي ، لدى الصهيونية , هنا, ثمة "منظور إمبريالي شاذ [...] متجذر عميقا " حتى عندما تزعم - ولا تزال تزعم- أنها تمثل مشروع تحرّري يتشابه مع مشاريع موجودة لدى الأمم الصغيرة الأخرى في الرغبة في تقرير مصيرها .وعلى الرغم من الزعم الذي يصف فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" ، فقد كان الصهاينة الأوائل (في الواقع أكثر مما هو حال المدافعين المعاصرين عن إسرائيل) أكثر استعداداً للاعتراف بالبعد الاستعماري لحركتهم ، ومن ثم أكثر استعدادا للاعتراف بالوجود الشرعي للفلسطينيين كشعب. إن وجود دولة يهودية، يسكنها في الغالب مستوطنون قادمون من أوروبا ، سوف تشكل ، كما يصفها هرتزل ، "طرف حصن للدول الأوروبية ضد آسيا ، و معقلا للحضارة ضد البربرية" (6).ويبرز هنا سؤال حول ما إذا كان ممكنا بعد كل هذا التفكير في إسرائيل / فلسطين ، كما يطالبنا مؤيدو إسرائيل ، كمثال على نزاع يكون فعل الدولة السوية فيه يمضي باتجاه ضمان سيادتها ضد تهديد خارجي. "أي دولة متحضرة كانت ستفعل الشيء ذاته" ذلك هو التصريح الذي يتم التأكيد عليه في كل مرة تقوم فيها إسرائيل بالاعتداء على غزة أو غزو لبنان بحجة ردها في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب. ويتطلب مثل هذا التصريح استحضار "حالة الضرورة" التي تفحصها مؤخرا دينيس دا سيلفا باعتبارها السبب الحقيقي لظهور تشكيلات الدولة الناشئة ، في صيغة توحي للوهلة الاولى بالخطر الداهم الذي تواجهه واستبدال موضوعات عنفها بشرط الخضوع لطبيعة أو دوافع تغيبهم عن المجتمع المدني (7) . ومن ثم ينهار الزعم الداعي إلى الدولة السوية إلى مطلب ينادي بالهيمنة على أساس تمييز من النمط الفستفالي ، بين المتحضرين و بين أولئك الذين لا يفهمون كفاعلين أخلاقيا وأولئك الذين تصبح ,بالتالي أراضيهم قابلة للاستغلال. هل ينبغي لنا إذن أن نرى ديناميكيات الصراع على أنها مثالا تكشف عن نظام استعماري استيطاني وعن جهوده الرامية لاختزال السكان الأصليين في كلا الحالتين ؟ إذا كان الأمر كذلك ، فإن إحدى تناقضات الحالة الإسرائيلية هي أنه كلما ازدادت الضغوط على وضعها كمثال و نموذج ، كلما أصبحت حالتها الشاذة كدولة استثنائية أكثر وضوحا.
إن النموذج السابق الذي تستحضره إسرائيل و من يدافع عنها عموما يعرض إسرائيل ليس فقط كدولة قومية "سوية" بل كدولة تنتمي ,على وجه الخصوص, إلى مجتمع الدول الأوروبية أو الدول "الفستفالية". و تزداد وطأة هذا الادعاء على نحو ما إذا ما نظرنا إلى الأصول الإيديولوجية للحركة الصهيونية والدولة التي أسستها لاحقا و التي ميزتها-تلك الأصول-بصورة عميقة. برزت الحركة الصهيونية في العموم بين الجاليات اليهودية العلمانية المنتمية في غالبيتها العظمى لعلمانية وسط أوروبا ، وكان مؤسسها تيودور هرتزل ممثلاً نموذجياً لها. وتبعا لذلك، كانت الأسس الصهيونية مشبعة بتجاذبات النزعات القومية الأوروبية التي تنوس تحت ثقل تناقضاتها ما بين الاحتياج المتجه داخليا من أجل تقرير المصير والرغبة في التوسع خارجيا عن طريق استعمار الآخرين الذين يعتبرون أدنى من الأوروبيين .- تلك الأراضي – وأولئك الشعوب - "المهيئين ليكونوا محتلين " كما يقول باتيستيلا.
ويجسد المسار الصهيوني لهرتزل نفسه المصطلحات التي ستصاغ الصهيونية بها ومعها (8) ، من خلال إصراره على تساوي اليهود الأوروبيين مع القوميين الأوربيين الآخرين ، وبالتالي على حقهم في تقرير المصير في الوقت الذي كان يتفاوض فيه وزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشمبرلين مع القيصر الألماني ، والسلطان العثماني على الأراضي الواجب استعمارها .ويكمن مفهوم الصهيونية عن القومية في النزعات القومية الإثنية العلمانية التي ظهرت في أوروبا إلى حد كبير . فتأسست القومية الصهيونية -مثلها مثل سلفها الأوروبي-على فكرة الإيمان بالمصير التاريخي لشعب معين في حق تقرير المصير والسيادة. ترافق مع هذا الإيمان ( الذي ناقشه بصورة موسعة بنديكت أندرسون على أنه إيمانا ليس "متخيلًا" فحسب ,بل إيمان لا يمكن فصله أيضا عن علمنة المجال السياسي ) اعتقاد شبه ديني بوجود صلة عميقة شبه صوفية بين الناس و الأرض و اللغة ،وهو إيمان يجد جذوره في السياسة الثقافية لهيردر عبر القومية الجرمانية الأكثر شراسة لفيخته (9).
وبالنظر إلى هذا الإرث ، فقد حملت النزعات القومية الأوروبية بوجه عام تحيزًا عميقًا ضد التمازج العرقي المتناقض مع الإرث التنويري للمزاعم الليبرالية القائمة على النظرة الديمقراطية و العلمانية للدولة. وتبدي الصهيونية و إسرائيل ,لاسيما في هذه النواحي ، خصائص تكوين قومي أوروبي نموذجي. بيد أن الصهيونية كانت مشبعة , وعلى خلاف القوميات العلمانية التي صاغت أسسها, بإرث و أدبيات النزعة الميسيانية, ليس إيمانا في المصير التاريخي لليهود بعودتهم من الشتات إلى صهيون فحسب , بل أيضا ربط تلك العودة بظهور الميسيا و تنصيبه ملكا في آخر الزمان . وكما أوضحت جاكلين روز ، لم تتمكن حتى النسخة العلمانية من هذه النزعة الدينية الميسيانية من الإفلات من مفرداتها ولا حتى ،في معظم الحالات ،من دلالاتها. وفي الواقع لطالما كانت التقليد الخلاصي المسياني يطارد الصهيونية ، بحيث يمكننا أن "نتساءل عما إذا كان هناك ثمة ما هو حميمي بين الصهيونية و الميسيانية يمتلك من القوة و التقارب بمكان لأن يتم دون نجاح كبته ولو جزئيا. حملت لغة الصهيونية العلمانية وبطرق قصوى بما يكفي لتمييز تعابيرها عن تعابير التدين العلماني لجميع القوميات الأوروبية ولكن أكثر تطرفًا ، " آثارا وندوبا سردية مسيانية بالكاد تسعى أو تفشل في كبتها " (10). فحتى الإشارة الشائعة بما يكفي إلى هرتزل العلماني على أنه "موسى" أو "المسيح الصهيوني" تفضح دمج المزاعم العلمانية والدينية. كانت النتيجة النهائية حتما نبرة خلاصيه من العنف الإلهي المقدس المدمر، الذي يقابله قناعة بأن كل صراع ينطوي على تهديد وجودي قد لا يكون نهاية الزمان فقط بل نهاية إسرائيل نفسها. وفي الوقت ذاته لا تقل النبرة المسيانية في التعابير الصهيونية تبريرا في صيغها الدينية و العلمانية للتطهير العرقي للفلسطينيين من أجل إفساح الطريق لـ "جمع اليهود" استعدادًا لعودة المسيح عبر ما تفرض هذه النبرة المسيانية أكثر التعابير غير القابلة للجدل "دولة يهودية لشعب يهودي" (11).ويشير الغموض اللطيف لعبارة روز ، "بالكاد تسعى ، أو تفشل في كبتها " ، إلى السبل التي تتوج فيها "العلاقة الحميمة" بين الصهيونية العلمانية والنزعة الدينية الميسيانية لما يبدو للوهلة الأولى تناقضا لا يمكن حله بين تطبيع إسرائيل و استثنائيتها . فمن ناحية تسعى إسرائيل ,كدولة ،إلى قبولها كواحدة من بين الديمقراطيات المتقدمة , وتطالب من ناحية أخرى بأن تستثنى من قواعد القانون الدولي واتفاقيات حقوق الإنسان على أساس مصيرها الفريد كدولة يتم فيها تكريس القومية الإثنية والنبوة الدينية ومدعوة للدفاع عن هذا المصير . ومن الأهمية بمكان أن نلحظ أن هذا الربط الاستثنائي سبق ظهور الهولوكوست بفترة طويلة ، وهذا ما شكل بحد ذاته حتى ستينيات القرن الماضي حرجا [للقادة] الصهاينة مثل بن غوريون ، واعترافهم بأن مصير اليهود الأوروبيين (الذين لم يقيض لهم رؤية مستقبلهم ,على وجه العموم ، ناهيك عن عدم خلاصهم في الهجرة إلى فلسطين) قد يكون تم استغلاله لغايات التأثير السياسي.
لم تكن عبارة "دولة يهودية لشعب يهودي" شعارًا أو مشروعًا يستجيب ببساطة للإبادة الجماعية ليهود أوروبا أو مجرد تعبير تم تعيينه بدافع الحاجة إلى ملاذ آمن يضمن عدم حدوث المحرقة "مرة أخرى" .إن جذور مثل هذا المطلب القومي - الإثني - الذي يمكن رفضه في سياقات أخرى كـ "سياسة هوية" – تكمن في المنشأ المتناقض للصهيونية نفسها. وينتج مثل هذا المطلب ما يمكنه أن يعبر عن تناقض غير قابل للحل بالكامل في إطار الشروط المقبولة عادة للدولة الليبرالية العلمانية .ويطالب الإسرائيليون -على مستوى فردي- ومؤيدوهم الذين يراد أن يُنظر إليهم على أنهم ليبراليون ، وعالميون ، وإنسانيون ، بأن نضع استثناءً للممارسات والإيديولوجيا التي ترتكز عليها امتيازاتهم الحصرية الأساسية للدولة نفسها .وفي نهاية المطاف ,ترتكز المؤسسات الديمقراطية العلمانية الإسرائيلية على زعم أكثر تطرفا ينادي باستثناء إلهي أو مسياني لم يعد مسموحًا به لأي دولة أخرى في العالم(12). ومع ذلك ، فإن معايير هذا التناقض مألوفة و قابلة للتفسير من منظور آخر يقدمه نموذج الاستعمار الاستيطاني. هذا النموذج ، الذي رسمه ملامحه [إدوارد] سعيد ، لم يكن - كما عبرت وثائق أوري رام – منتشرا بين الباحثين المنتقدين لإسرائيل حاليا ، مثل سعيد ،بل يمكن أن نلمحه داخل التيار الرئيسي لعلم الاجتماع الإسرائيلي ، على الرغم من محاولات اختزاله لأغراض عملية في المناقشات العامة و تمثلات إسرائيل (13). ويمتلك النموذج الاستعماري الاستيطاني، في الواقع ، قوة تفسيرية مميزة في توصيف كل من الظاهرة وكذلك التناقضات الواضحة لفلسطين / إسرائيل. فمن حيث المبدأ, لا يمكن حلّ المأزق الذي واجه الصهاينة الأوائل إلا من خلال الاستعمار ، و المقصود بالمأزق هنا هو تلك الحالة الشاذة لشعب -أمة يفتقر إلى أرض شغلها بصورة متواصلة في أي لحظة في التاريخ الحديث . لقد كان من الأهمية بمكان تحديد الأرض التي يمكن أن يكون قد شغلها شعب آخر ، على الرغم من أن هذا الأمر[ أين ستقع تلك الأرض ] لم يكن يحمل مغزى حاسما للصهاينة العلمانيين ,فقد تصور هيرتزل في البداية ، على سبيل المثال ، تحديد الدولة اليهودية في الأرجنتين(14).
و ينبثق عن هذا المطلب الأساسي سلسلة من الظروف التي تجعل إسرائيل نموذجا لمجتمع استعماري استيطاني . فما يميز مستعمرة المستوطنين عن أي مستعمرة إدارية أو استكشافية أخرى تركيز المستوطنين على الاستحواذ للأرض بدلاً من تركيزهم على تبعية السكان الأصليين لهم سياسيا و اقتصاديا أو احتكار مواردهم ، أو التحكم بأسواقهم .و لا يخفى أن مصادرة أراضي السكان الأصليين بقصد تلبية احتياجات التوطن السكاني الاستيطاني الدائم كهدف صريح يتطلب واحدة من اثنتين من العلاقات المحتملة مع السكان الاصليين ، كما يقول باتريك وولف :إما استغلالهم كقوة عمل ثانوية ، كما حدث في كثير من دول أمريكا اللاتينية والجزائر و جنوب أفريقيا ، أو الإبادة العاجلة لهم إلى حد ما ، كما حدث في أستراليا وأمريكا الشمالية والكاريبي (15). و انخرطت إسرائيل بوضوح في منحى كلتا العلاقتين ، فنظرا لأن اعتمادها في البداية كان على العمالة الفلسطينية فقد سعت إلى تخفيضها من خلال جلب عمالة يهودية مهاجرة من أماكن مثل اليمن وشمال أفريقيا ،الأمر الذي فسح المجال للإقصاء التدريجي للعمال الفلسطينيين و المقيمين في مناطق المستوطنات الإسرائيلية واستبدالهم بالمهاجرين القادمين من جنوب شرق آسيا المحرومين من حقوق المواطنة(16). قام نافيه غوردون بطريقة مماثلة بتوصيف السبل التي شهدتها مرحلة ما بعد الاحتلال 1967 من خلال التحول في نمط الاستراتيجيات الحكومية من النموذج الحيوي السياسي الذي يتطلب إدماج وإدارة السكان الأقل عملاً والعاملين إلى نموذج السلطة السيادية الذي تهدف إلى إسكان السكان الفلسطينيين الأصليين وتهجيرهم في نهاية المطاف (17). وقد برهن الشعار الشهير ، "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض "، على أنه مقولة أدائية أكثر منه وصفية ، وهو ما يفسر الطرد التدريجي لشعب شكّل وجوده المستمر عقبة كأداء أمام استكمال المشروع الصهيوني.
يخضع السكان الفلسطينيون الأصليون ضمن ديناميكيات الاحتلال ,لعملية تخلص تدريجي و منظم لهم, و يتطلب كل من نمطي إخضاع السكان الأصليين السابقين [العلاقات المحتملة مع السكان الاصليين] افتراض تواجد تراتبية هرمية عنصرية ,كما يقترح العمل الرائد لألبرت ميمى حول الاستعمار الاستيطاني : حيث تعتمد هيبة وشرعية المستوطنين على قناعة راسخة بتفوقهم على السكان الأصليين سواء من حيث قيمهم الأخلاقية وثقافتهم المتطورة العالية أو من حيث الحضارة المادية. وكما يشير ميمي "تلخّص العنصرية وترمّز العلاقة الأساسية التي توحد المستعمَر بالمستعمِر " ؛وهي ليست "تفصيلاً عارضاً" بل "جزء هام من النزعة الاستعمارية" (18) . ومن ناحية أخرى تسوغ العنصرية عمليات التخلص أو طرد المستعمَر الذي تتجلى دونيته الثقافية والأخلاقية بسبب دونية ظروفه المادية, وتضفي هذه العنصرية, من ناحية أخرى الشرعية على امتيازات المستعمِر و "اغتصاب " أرض و موارد السكان .وعلى حد قول ميمي: ساهمت ثلاث عناصر إيديولوجية رئيسية في تشكيل العنصرية الاستعمارية : يتمثل العنصر الأول في الهوة بين ثقافة المستعمِر والمستعمَر ,بينما يمثل العنصر الثاني استغلال هذه الاختلافات لصالح المستعمِر. أما العنصر الثالث فهو استخدام هذه الاختلافات المفترضة كمعايير للحقيقة المطلقة(19). و يمكن القول أن هذه المكونات تعمل في إطار حلقة تقوية ذاتية بطريقة يبدو أنها تتكثف بدلاً من أن تنقص بمرور الزمن , وبالتحديد حين يصبح المستعمِر أكثر رسوخًا ،حيث تتعمق حدة الانقسامات أكثر ويزداد الفصل العنصري [الأبارتيد] بين المستوطنين والمستعمَرين ،لتصل الأمور إلى الحد الذي نعرفه من بناء الجدران والحواجز و مناطق منفصلة للإقامة والحركة و إنشاء نقاط مراقبة أكثر شدة يخضع لها السكان المحليين ,"فالجدار الحديدي" الذي دعى له زئيف فلاديمير جابوتنسكي بصورة مجازية أصبح , في النهاية, واقعا ملموسا (20). رسم جابوتنسكي تصوره عن الجدار من خلال وجود قوة عسكرية لا تهزم كوسيلة لجعل السكان العرب يصلون لحالة من اليأس في قدرتهم على استعادة أراضيهم المفقودة ، وهذا ما قام به الاحتلال حيث نصب حرفيا جدارا يحيط الضفة الغربية يعمل على تشظيتها إلى جزر متفرقة و يفصل بالمعنى الحرفي الفظ للكلمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وفي الوقت ذاته ،يتعزز شعور تفوق الثقافة المادية للمستعمِر داخل مناطقه المحمية بسبب من الاستعراض المادي لهذا التفوق وتأمينه عبر المدخل التمييزي للسلع الاجتماعية للمستعمرة و يصبح الإفقار الحتمي للسكان الأصليين في سياق ذلك إشارة إلى تخلفهم الفطري.
ومع كل هذه السياسات المتبعة في إفقار السكان الاصليين بتجريدهم من ملكياتهم ,فهم لن يختفوا, وبالتالي يشكلون "تهديداً وجودياً" و "قنبلة ديموغرافية موقوتة " لعالم ما بعد الهولوكوست حيث لم تعد الأشكال التقليدية للإبادة الجماعية للشعوب الأصلية مقبولة علناً. و بالتالي يتوجب الحفاظ على مقادير نسب تفوق المستوطنين مقابل السكان الأصليين عن طريق المزج بين أشكال الهجرة اليهودية المستمرة والتطهير العرقي التدريجي أو "الترانسفير الصامت" للفلسطينيين ,الأمر الذي يتطلب زيادة مصادرة الأراضي وتهجير سكانها وحجزهم في فضاءات متضائلة تجعل معيشهم مروعا و غير محتمل و حياتهم لا تطاق . وتؤدي الانتهاكات اليومية لحقوق الإنسان والقانون الدولي ، والنظام المطرد لعنف الدولة المطلوب للحفاظ عليه إلى تناقض عميق لا يمكن تجاوزه بين التطلع إلى تصور تطبيع إسرائيل وبين الممارسات الفعلية لها التي تشكل جوهر وجودها وتكوينها التأسيسي أكثر منها مجرد استجابة طارئة لتهديدات خارجية.
و نجد في التأكيد المشوب بالقلق بشأن الوضع الخاص للمستعمرة بوصفها ممثلة لـ "القيم الحضارية " في "منطقة متخلفة" ترويجا للذريعة التي يتم تكرارها باستمرار بخصوص تفوق المستعمرة الاستيطانية ، سواء في نظام حكمها أو في قيمها الاجتماعية والأخلاقية ، بالنسبة إلى السكان المجردين من ملكياتهم والحالات التي ترافق ذلك .و ما عبر عنه ميمي بإشارة ثابتة على أنه "البلد الأم", يصبح في حالة إسرائيل "الحضارة الغربية" وهي الإشارة الأكثر انتشارا و لكن ليس الأقل فاعلية التي آمنت بها الصهيونية و اعتبرت نفسها ممثلا لهذه الحضارة منذ الأيام الأولى لاستعمار فلسطين(21). على أنه يتطلب الحفاظ من الناحية العملية على "دولة يهودية لشعب يهودي" وضع قوانين وتدابير تتجنبها الأمم "المتحضرة"من حيث المبدأ ،وتبدأ تلك التدابير في التميز الإثني شديد التفرد "لدولة يهودية لليهود" ينبغي لها أن تحافظ على التمييز بين "المواطنة" و "القومية" وصولا إلى حد إنكار الحقوق الأساسية لحرية الحركة والتجمع ، أو الوصول إلى الموارد الأساسية مثل المياه والأراضي الزراعية. وفي النهاية ، يتطلب الأمر حالة حصار دائم يقضي فيه غالبية الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية حياتهم. إن هذا التطبيع ذو المستوى المنخفض من العنف (بعيدًا تمامًا عن إطلاق العنان للعنف غير المتناسب ضد السكان المدنيين والذي أصبح جزءاً مقبولاً لوضعه الاستراتيجي) يجد شرعيته في عنصرية مؤسسية تناقض و تفضح إيمان إسرائيل في شرعيتها وديمقراطيتها وقيمها المدنية ويعتمد وجودها ذاته على حرمان السكان الأصليين هناك من الحقوق الأساسية بسبب هويتهم الإثنية باعتبارها ليست يهودية.
ولا يعد هذا التناقض ثابتًا ، ولكنه ينكشف ماديا ونفسيا مع الوقت . وكما يقر ميمي ، يسعى الاستعمار الاستيطاني بادئ ذي بدء إلى شرعنة غزوه للأرض باستحضاره للمثل الحضارية والالتزام بتطوير أو تحسين شروط حياة المستعمَرين وأرضهم. وهكذا اعتبر هيرتزل السكان الأصليين بدائيين ومتخلفين ولكنه كان يأمل في أن تعود المنافع الاقتصادية بين السكان العرب على المشروع الصهيوني في فلسطين (22). بيد أنه في نهاية المطاف يتحدد مصير مثل هذه المثل العليا ، الصادقة أو الانتهازية حسب الحالة ،بتصليب عقلية الحصار التي تُصنّف المجتمعات الاستعمارية منذ البداية, ففي سبيل مواجهة أي مقاومة فعلية أو وهمية على المستعمِر أن يبقى على أهبة الاستعداد وفي حالة يقظة و حراسة على الدوام خلف "جدار حديدي" تحافظ مأسسته على مفهوم أقلية استعمارية داخل هياكل الدولة ذاتها. ومع مرور الوقت يمر مجتمع المستوطنين بحالة تصلب تدريجي لهياكله المؤسساتية و بناه النفسية الدفاعية , بدلا من اكتساب الثقة وبالتالي الانفتاح على إمكانات التغيير والتكيف الذي يكسبه القوة والأمن . وعوض عن توسيع نطاق الحريات الديمقراطية و شموليتها ،نرى أن كلما تم الاستحواذ على التصلب باسم الأمن والتنمية ، كلما أصبح المجتمع يميل أكثر للعسكرة ، و يصبح شكل القوانين أكثر وحشية وتصبح القيود أشد بخصوص حقوق المستعمِرين. وكما يوضح ميمي , تحمل كل دولة استعمارية في أحشائها "بذور الإغراء الفاشي " (23) .أو كما قال ديفيد غروسمان في العام 2004 ، حتى قبل الغزو الثاني للبنان ، وقبل عملية الرصاص المصبوب ، وحتى قبل صدور القوانين المناهضة لإحياء ذكرى النكبة أو معاقبة المدافعون عن المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات: "من المستحيل على الدولة أن تحافظ على ديمقراطية حقيقية وتحافظ في ذات الوقت على نظام قمع واحتلال "(24). وبعبارات ميمى ، تنتج مثل هذه التناقضات عند "المستعمِر الذى يقبل" ردة فعل "غضب وكراهية ,غالبا ما يتم تفريغها ضد المستعمَر البريء وفوق ذلك هو السبب الحتمي لحالته الدرامية هذه "(25). ويتجلى هذا الغضب في ما يسميه إيلان بابيه "الغضب المبرر أخلاقيا " بوصفه "ظاهرة دائمة في استحواذ إسرائيل ، وقبلها الصهيونية على فلسطين ". وهو للوهلة الأولى سبيل لإضفاء الشرعية على العنف المفرط ، و وسيلة تحمي من الرأي العام العالمي ، ومقياس "لعقلية الحصار" التي تميز جميع المستعمرات الاستيطانية ، حتى في لحظة هيمنتها و سطوتها المطلقة (26).
غضب المستوطنين في الطرف الآخر هو نقيض الغضب الداخلي للمستعمَر الذي يزعم [فرانز] فانون أنه قد أثر على سلوك السكان الاصليين والذي صدر في أعمال عنف غير عقلانية ضد طبيعته"(27). ويشدد ميمي على التأثير الثابت للرد "غير المتناسب" للمستوطنين ضد أي اعتداء أو على الأقل ضد أي إهانة . وكما يشير بابيه ، فإن مثل هذا الغضب يكمن وراء المجزرة المفرطة ضد المدنيين في غزة التي أسفرت عن مقتل عدد من الفلسطينيين يفوق بمائة ضعف مقدار القتلى من الجانب الإسرائيلي, و وراء المجزرة التي ارتكبت أيضا ضد المدنيين في جنوب لبنان في العام 2006 وفي الاستخدام المتكرر للأسلحة غير المشروعة مثل الفسفور الأبيض و قذائف الدايم من [غزو] بيروت في العام 1982 وصولا إلى[العدوان على] غزة في العام 2009.
وحاليا يعتبر الرد غير المتكافئ بمثابة العقيدة العسكرية الرسمية للجيش الإسرائيلي ، والمصمم ,كما يرى بعض الجنرالات, لخلق الانطباع أن إسرائيل قادرة على الرد "بجنون " بفائض دفاعاتها الخاصة ضد أي عدوان (28). غير أننا , وإذا تتبعنا معايير ميمي سوف نجد أن القبول غير النقدي لمثل هذا الرد في المجتمع الذي يدّعي أنه مجتمع ليبرالي وديمقراطي و يمتلك الجيش الأكثر أخلاقية في العالم ،إنما يستمد وجوده من صراع نفسي و مادي لمأزق المستوطنين ،فمثل هذا الرد غير المتكافئ يقتضي إبادة السكان الأصليين وليس مجرد تنظيمهم أو احتواهم . إذا كان "الغضب[الإسرائيلي] المبرر أخلاقيا " يجد له وقوداً سخيا ومميزاً في المسيانية الصهيونية ، فإن أنماطه ومظاهره الفعلية ليست غريبة على العقلية الاستعمارية الاستيطانية كما تعرفنا عليها و حللناها في مواقع أو حالات أخرى .
بالنسبة لمثال ميمي بخصوص "المستعمِر الرافض"، لاتعد الاستجابة النفسية أقل إثارة للقلق ، كما هو حال "المستعمِر اليساري بوصفه جزء من الجماعة المضطهِدة ،التي يتقاسم مصيرها مضطرا". وبناءً على ذلك فهو يشك في أنه "يتحمل مسؤولية جماعية من خلال حقيقة انتمائه لجماعة قمعية قومية" حتى لو لم يكن -كفرد- "مذنبا بأي شكل من الأشكال ". وهو-هي في سياق هذه المعضلة يرغب في إبداء تعاطفه ، أو على الأقل أن يكون جزء من "حوار" (صناعة الحوار اللامحدود في "عملية السلام") ، في القوت الذي يظل فيه غير قادر على التخلي عن الامتيازات الممنوحة له من الوضع الاستعماري أو المشروع الشامل للدولة المستعمِرة الاستيطانية التي ترتكز قيمها الحضارية المفترضة على القيم الأخلاقية التي تؤدي إلى رفض تجاوزاتها.وينشأ نتيجة ذلك "قلق المعضلة الأخلاقية , كما يصفها غروسمان (وهو أحد الأصوات الصهيونية الليبرالية المثالية) وذلك عندما يعلم " كل شخص في مكان ما يقع بعيدا […] أنه يرتكب ظلما أو يتواطأ معه "(29).
و الأمر بالنسبة للمستوطن الصهيوني سواء كان ذلك في حالة غضب أو شعور بالذنب ،أو ذم أو مهادنة ، أنه يواجه "وضعاً تاريخياً مستحيلاً" ، حيث "تحدد العلاقات الاستعمارية[باعتبارها مؤسسة] [...] مثلها مثل أي مؤسسة مكانه ومكانته ومكان و مكانة المستعمَر". بل تحدد في نهاية المطاف ، علاقتهما الحقيقية "(30). وسواء أحببنا ذلك أم لا ,تنصقل تناقضات المجتمع الاستعماري الاستيطاني التاريخية تلك باطراد في سياق عملية الانحدار التدريجي لهذا المجتمع إلى مجتمع أقل مرونة فأقل ، سواء بالنسبة للمستعمِر أو للمستعمَر الذي تقع على عاتقه هذه التناقضات. فما كان صحيحا بالنسبة للفرنسيين في الجزائر ، والوحدويين في إيرلندا الشمالية ، والأفريكان وغيرهم من البيض في جنوب أفريقيا ، يثبت أنه أكثر واقعية بالنسبة لإسرائيل.
وإذا كانت إسرائيل مستعمرة استيطانية ، فهي في الواقع نموذج عادي ومعياري في جميع النواحي تقريباً. ومع ذلك ، لا يمكننا أن نتغاضى عن حقيقة أن نموذج إسرائيل يتضمن حقيقة ترى أن "حالة الاستثناء" ليست سوى ممارسة نموذجية للمستعمرات الاستيطانية. بالنسبة لخاصية عقلية الحصار المستعمرة الاستيطانية تصدر في إعلان "حالة حصار" تحت ستار مجموعة من المسميات ، من تشريعات جيم كرو وصولا إلى إعلان الأحكام العرفية. ويكون المعطى في جميع الحالات الاستعمارية متمثلا في تعليق القانون في مواجهة المقاومة الشرعية أو العنيفة أو اللاعنيفة ، أو حتى الوجود المستمر للشعوب الأصلية المستعمَرة . ولكن بسبب الصلة اللصيقة و المميزة بين المستوطنين و السكان الأصليين ، فإن مثل هذا التعليق يتحول افتراضيا إلى عنصر أساسي في المجتمع الاستعماري الاستيطاني ، حيث يطغى على جميع علاقاته مثلما يشكل التكوين الجيولوجي العميق السمات الدائمة للمشاهد المكانية. وهكذا – جلبت الحكومة البريطانية إلى إيرلندة في الفترة بين 1800 حتى 1921 ,وفقا للناشط الحقوقي مايكل فاريل نحو 105 قانونا من قوانين الإكراه للتعامل مع إيرلندا. وهذا يعني أن استمرار فعلية و قوة مذكرات الجلب و المثول أمام القضاء كما كانت غالبا تعلق في إيرلندا في القرن التاسع عشر(31). وتواصلت هذه القوانين ،مع أشكال أخرى مختلفة من التمييز المقوننة ، في شكل قانون الصلاحيات الخاص الدائم في إيرلندا الشمالية في الفترة بين 1922-1972 ، في حين أن ايرلندا الشمالية كانت لا تزال مدمجة من الناحية الاسمية في المملكة المتحدة ، وبالتالي تأكيد وإضفاء الطابع المؤسسي على الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للدولة على الرغم من ادعاءاتها بالحالة الديمقراطية. كان هذا القانون بدوره مسعى هندريك فيرفورد رئيس وزراء جنوب إفريقيا ومهندس الفصل العنصري هناك ، الذي كان سيرغب بمقايضة عبارة واحدة منه بكل قانون الأبارتيد مجتمعا (32). وبصورة مماثلة حافظت إسرائيل على "لوائح الطوارئ" الانتدابية البريطانية التي لا غنى عنها والتي تم نشرها باستمرار لأغراض الرقابة أو هدم المنازل أو ترحيل الفلسطينيين (33).
تسلط استمرارية القانون الاستعماري الضوء على الطوبولوجيا المميزة لحالة الطوارئ الاستعمارية الاستيطانية التي تخلق معيارا يبدو في النهاية كاستثناء. ويمكننا ، في حقيقة الأمر أن نطالع بدء من عقلية الحصار للدولة المستعمرة الاستيطانية إلى "حالة الحصار" التي تتزايد تعميمًا والتي تحكم الحياة الفلسطينية دائمًا باسم أمن إسرائيل ، أو أمن مستوطنيها الذين يزرعون الإحساس بالحصار وبالتهديد الوجودي. ومع ذلك ، فالفلسطينيون هم من يحتل الموقع الطوبوغرافي المميز داخل هذا التخييل للحصار كونهم خارجين .لاحظ [إدوارد]سعيد المصير الشاذ للفلسطينيين الذين بقوا في إسرائيل بعد العام 1948 بقوله أن "كل ما تبقى لتحدي إسرائيل لم يُنظر إليه على أنه شيء "هناك" ، وإنما كدليل على شيء "خارج" إسرائيل وخارج الصهيونية يسعى لتدميرها - من الخارج "(34). وتم توسيع هذا الشرط الشاذ ليشمل فلسطين المحتلة بعد أن اصبحت [الأرض] أكثر فأكثر ضمن حدود إسرائيل غير المعلنة. وبقدر ما يستمر تجزئة فلسطين واحتلالها وحصارها (ويبدو أن هذا الأمر يمضي قدما) تُدمج فلسطين داخل إسرائيل ككيان غريب دائم الوجود مثل توالد الطيات داخل حدودها غير المعلنة. ومع ذلك ، هذه الأراضي المحاصرة يتم تصورها على أنهم يحاصروها . وكما تصف نعومي كلاين الأمر ببلاغة ، "لقد حولت دولة بأكملها نفسها إلى مجتمع مسور محصن ، محاط بأشخاص محاصرين يعيشون في مناطق حمراء مستبعدة بشكل دائم"(35).هذا التأثير للداخل المستبعد ،يكون مرئي ظاهريا في أي خريطة معاصرة لفلسطين المحتلة والمستوطنات الإسرائيلية غير القانونية التي تقسمها إلى قطع من أرخبيل يتوافق مع طوبولوجيا الاستثناء. وكما يصف جورجيو أغامبين البنية الطوبولوجية للاستثناء في ما هو الآن صيغ كلاسيكية: تمثل حالة الاستثناء إدراج واستيعاب فضاء ليس بالداخل و ليس بالخارج […].. أن يكون خارجا ومع ذلك منتميا : هذا هو الهيكل الطوبولوجي لحالة الاستثناء (36).
تظهر دولة الاستثناء كنوع من النتوء الكارثي ، ذلك المجال الذي يختفي ، ويمتد تحت الخريطة الطوبولوجية ، ومع ذلك يستمر تأثيره ، ليكون موضع التغيير وعدم الاستقرار. وتبدو طوبولوجيا الاستثناء بالنسبة لآراء أغامبين (المبنية هنا على خطى كتابات كارل شميت حول السيادة و "القرار" في حالة الطوارئ مع الإشارة إلى الدولة الأوروبية و النظرية القانونية) من الأساس آراء نظرية و تطرح جملة من الأسئلة فيما يتعلق بالدور التأسيسي لتعليق القانون في جوهر القانون نفسه. وحالما تعتبر دولة الاستثناء من ضمن القانون, فإنها تؤخذ بعين الاعتبار من قبل القانون ، وحتى خارج القانون فلا تحكمها أو يمكن أن تحكمها إجراءات قضائية ، لأنها هي تعليق للقانون.وفي هذا الصدد ، فإن دولة الاستثناء تكرر العنف الذي تتشكل فيه الدولة ، وهو العنف الذي يحدد القانون ولكن من خلال عملية مستمرة في القانون ومن خلال قانون يفضل القانون أن يهمله(37).وبالتالي يمكننا القول بتوسيع بسيط لحجج أغامبين ، أن دولة الاستثناء هي حقيقة القانون ،وهي حقيقة غيابه غير المعترف به لكنه الأساس الدائم لها. وبينما يسعى أغامبين إلى تجسيد ما كان طبولوجيا خطابية أو نظرية للاستثناء ، فإن "المعسكرات " [ مراكز الإبادة في الهولوكوست] تظهر كمثال نموذجي لها ، فهي مواقع حيث تتركز منطقة الاستبعاد الداخلية على أولئك الذين اختزلوا إلى ما يسميه "الحياة العارية ". وكما أشار الكثيرون ، في تركيزهم على التدمير النازي لليهود الأوروبيين وعلى مثال محدد هو أوشفيتز ، يتجاهل أغامبين التاريخ الطويل للإبادة الجماعية والهيمنة الاستعماريتين التي تم فيها تطوير تقنيات وفضاءات الهولوكوست أولا (38). وبرفضه صراحة لاهتمام المؤرخين بأصل معسكر الاعتقال والمواقع ذات الصلة في مجتمعات استعمارية أو مزارع استيطانية محددة ورؤيتهم ، كآثار عرضية "لحالة الاستثناء المرتبطة بالحرب الاستعمارية" (ما بين قوسين من عندي ) ، يتجاهل أغامبين السوية المطلقة لدولة الاستثناء في ظل النظم الاستعمارية. ويستمر بالتالي في القول بفردانية المعسكر النازي فيما يتعلق بدولة الاستثناء: المعسكر هو الفضاء الذي ينفتح عندما تستحيل دولة الاستثناء إلى قاعدة . وبهذا ، تستحوذ دولة الاستثناء ، التي كانت في الأساس تعليقًا مؤقتًا لدولة القانون ، على ترتيب مكاني دائم لتبقى بالتالي خارج دولة القانون على الدوام (39).
يصف أغامبين هذه البنية الطوبولوجية المادية للمعسكر ، على الرغم من أنه يجسّد بشكل ملموس التناقضات النظرية لدولة الاستثناء التي تقف على "عتبة" القانون ، باعتباره أرضًا "يتم الاستيلاء عليه من الخارج ، أي أنه متضمنا بموجب استبعاده الشديد "(40). إذا كانت "منطقة التمييز بين الخارج والداخل" قد أصبحت "البنية التي تتحقق فيها دولة الاستثناء بشكل دائم" ، فمن المهم أن ندرك أن كل من دولة الاستثناء والمستبعدين داخليا كانوا العناصر التأسيسية للاستعمار ، وخاصة التكوينات الاستعمارية الاستيطانية ، من المحميات الهندية وصولا لمنظومة البانتوستونات وقوانين العبور ، ومن الاستخدام المنتظم لحجز الفيليبينيين من قبل كل من إسبانيا والولايات المتحدة إلى مزارع العبيد وعمارتها الحديثة المبكرة. لقد وفر قانون الاستعمار والمزارع منذ زمن طويل الوسائل التي حرم تماما من خلالها السكان المستعمَرون والمستعبدين "من حقوقهم وامتيازاتهم إلى درجة أن ارتكاب أي فعل تجاههم لم يعد يظهر له بوصفه جريمة"(41).بينما مثلت المعسكرات النازية تركيزًا خبيثًا غريبًا لمثل هذه التقنيات ، تم تزييفها في المختبرات الاستعمارية أكثر مما هو عليه الحال في المؤسسات التأديبية الحديثة ، ولم تكن فريدة من نوعها كما يحاول أن يزعم أغامبين ، ولم يكن المعسكر بمعناه هو المسار الوحيد الذي استمرت معه الأنظمة الاستعمارية الاستيطانية أو يمكن من خلاله أن تظهر الحالة الاستثنائية نفسها كمعيار دائم. وكما يقول أشيل مبيمبي ، فإن "الروابط بين الحداثة والإرهاب تنبع من مصادر متعددة" ، ولا يمكننا أن نتغاضى عن صلة القرابة الاستعمارية لما يجب أن نراه كتطبيع للاستثناء.
وإذن , إذا كان إعلان الطوارئ الوسيلة التي يستطيع بموجبها النظام الاستعماري الاستيطاني أن يبرر استنكاره لدولة استثناء معممة ودائمة فعليًا ، فإن الاستثناء كان محكومًا بدرجة أقل بغياب القانون أو التعليق المطلق له أكثر من كونه محكوما بعدد لا يحصى من البروتوكولات القانونية وشبه القانوني الموضوعة لمأسسة تنظيم الاستثناء . ومن المؤكد أن ما أعلن عنه في مستعمرة المستوطنين ، في إسرائيل / فلسطين ، هو نفسه دولة استثناء تحددها إلى حد كبير رغبة إسرائيل الملحة في تطبيع الوضع الاستثنائي لنظام احتلالها بما يتفق مع القانون. وفي غياب الإعلان الفعلي عن حالة الطوارئ ، فما ينتج هو انتشار وليس تعليق للقانون. إن نظام التصاريح والإغلاق والضوابط والطرد والهدم ، كل ذلك يتم وفقاً لشبكة من القانون المدني والمرسوم العسكري ، ثمة نحو "5000 أمر عسكري إسرائيلي ، ينظم حياة الفلسطينيين" ، والتي تشكل النظير القانوني للعقبات المادية والفيزيقية للحركة في الأراضي المحتلة ، كل هذه المعيقات وصفها بدقة ساري مقدسي (42). إن ما يصفه مقدسي بـ "تنظيم إسرائيل المفرط للحياة اليومية" يتوافق مع ما وصفه ناصر حسين بنظام الفظاظة الذي يصور حالة مكافحة الإرهاب المعاصرة: تكاثر القوانين والفئات القضائية بدلاً من حالة الشذوذ التي يستكشفها أغامبين (43).
من خلال هذا الملحق لنموذج أغامبين ، يمكننا أن ندرك أن ما أصبح معيارا معمما على مستوى العالم هو الجمع بين نظام فرط التقنين و الطوبولوجيا المتنوعة والاحتضان الذاتي لـ "مناطق الاستبعاد" لتشكيل نموذج لـ" دولة استثناء" جديدة . وكما يقول أغامبين ، "لقد أصبح الخلق الطوعي لحالة طوارئ دائمة (رغم عدم الإعلان عنها بالمعنى التقني) أحد الممارسات الأساسية للدول المعاصرة ، بما في ذلك ما يسمى بالدول الديمقراطية" (44). وهو بالنسبة لـه, النموذج النازي الذي أصبح معممًا. وتقترح نعومي كلاين نموذجاً آخر للتطبيع العالمي للاستثناء والتقنيات التي صقلت في دولة الاستيطان , فالنسبة لها ,أصبحت إسرائيل مثالاً على هذه الحالة الاستثنائية المعمّمة ، حيث قدمت نموذج "الدولة الأمنيّة المتقدّمة "(45). ولكي تصبح إسرائيل على هذه الدرجة العالية من التقدم الأمني، أجبرت مناطق الضفة الغربية وغزة على أن تصبح " المختبر لصراع إقليمي وحضري يمكن أن يحدث في أماكن أخرى" كما يرى المهندس المعماري و المنظر إيال وايزمن. فهذه المناطق لا تؤثث فقط تقنيات المراقبة(كما تلاحظ كلاين بشكل ملموس) بل تقدم أيضا التنظيم المكاني للسيطرة السياسية, وبالنسبة لوايزمن يصوغ الاحتلال والاستيطان المتواصل غير الشرعي "شكل نسيج المنازل و البنى التحتية بصورة محبوكة و لصيقة "- كأفعال للاستبعاد المكاني الذي يخلق أسافين تفصل موطن السكان المصنفين" كخارجين" من الناحية السياسية وينظر إليهم على أنهم تهديد سياسي "(46). ويمكننا باستخدام نموذج وايزمن تتبع الصلات بين طوبولوجيا الاستبعاد المقيَّد هذه والاستثناء لدى مستعمرات المستوطنين السابقة في الجزائر وجنوب أفريقيا ، وأضيف ، في إيرلندا الشمالية ، التي تظهر استمرار استيراد الممارسات الاستعمارية إلى المتروبول ، من تقنيات مكافحة التمرد الحضرية التي تم إنشاؤها في القرن التاسع عشر في الجزائر إلى تقنيات المراقبة المتقدمة في بلفاست والتي أصبحت الآن في لندن وبرمنغهام. وتماشيا مع هذه الصلات ، يبدو التناقض الظاهري بين ادعاء إسرائيل بأنها ديمقراطية ليبرالية سوية ووضعيتها الظاهرة للعيان كمجتمع استعماري استيطاني من خلال قرارات جارية حتى الساعة تهدف إلى نزع ملكية أراضي السكان الأصليين بطريقة تدعو للتشاؤم .
تفرض إسرائيل بشكل دائم تلك الحالة الاستثنائية التي وجدها بنيامين لتكون المعيار التاريخي للمضطهدين (47).وبهذا لم تعد استثنائية ، رغم أنها قد تقدم لدول أخرى نموذجًا أكثر تقدمًا لمستقبل السيادة يصبح فيه التمييز الفستفالي بين الأشخاص الأخلاقيين في الداخل والمتوحشين خارج القانون على نحو متزايد بمثابة علاقة الاستبعاد عن طريق الاشتمال ،إذا ما رغبنا بالقيام بتعديل طفيف على مقولة أغامبين.
وإذن ، مع قيام الدول النيوليبرالية بإدارة ودعم الملكية الخاصة للموارد العامة داخل أراضيها على نحو متزايد كما فعلت الدول الليبرالية فيما يتعلق بالدول الاستعمارية والمستعمرات الجديدة خارجها بينما تواجه بشكل متزايد الغزارة في شرائح كبيرة من سكانها ، وهكذا تصبح طبولوجيا وبروتوكولات حالة الاستثناء أكثر اعتياداً. وتقدم إسرائيل بالنسبة لهذا المعيار الجديد النموذج الأكثر أهمية ونضجًا: بعد أن نجحت في دمج الأراضي المحتلة ضمن حدودها غير المعلنة باعتبارها مستثناة منها ، فقد قسمت السكان إلى مستوطنين دائمين يتمتعون بامتيازات ومتبقين فلسطينيين زائدين عن الحاجة حيث تمارس حكم الأمر الواقع على كامل خطوط الفصل العنصري [الأبارتيد].
تعد التقنيات والتكنولوجيات التي تحتفظ بها وتطبق حكمها الاستعماري ، والبعيدة كل البعد عن التسبب في فضيحة للديمقراطيات الغربية ،مرغوبة و يتم شراؤها من قبلهم وكما تشير كلاين ، يعتمد ازدهار إسرائيل الاقتصادي على تطوير تقنيات القمع في مختبر الأراضي المحتلة وتصديرها إلى العالم الليبرالي الجديد ؛ وقد استفاد افتراضيا كل قسم شرطة رئيسي في الولايات المتحدة من هذه التعليمات التقنية في التنميط العنصري وغيره من أساليب مكافحة الإرهاب (48).
وفي هذا الصدد ، تقدم مستعمرة المستوطنين ، التي تدير دولتها الاستثنائية الدائمة ، نموذجاً لمستقبل الدول الليبرالية الجديدة على مستوى العالم ، ليس أقله تلك الدول التي انسحبت من مستعمراتها ولكنها لم تتخل عن تاريخها الاستعماري الاستيطاني. وقد تنجم مخاوفنا من أن يتم تسليط الضوء على ذلك المعيار التاريخي من نموذج دولة الاستثناء ,أي إسرائيل / فلسطين إلى الشكل المعمم لمستقبلنا الجماعي. فإذا كان الأمر كذلك ، فإن هذا يبرر بسخرية مطالبة إسرائيل بأن تكون دولة غربية سوية ، وإن لم يكن بالمعنى الذي يرغب مؤيديها في تعيينه . قد يكون أملنا في أن مقاومة الفلسطينيين المستمرة والتي لا تهزم لترحيلهم والاستحواذ على أرضهم و استعمارها تقدم نموذجًا مضادًا وإلهامًا قد تظهر فيه بذور مستقبل بديل.
......................
العنوان الاصلي للمقالة : Settler Colonialism and the State of Exception: The Example of Palestine/Israel
المؤلف: David Lloyd
تاريخ النشر:2012
الناشر: https://doi.org/10.1080/2201473X.2012.10648826
ترجمة:محمود الصباغ
ملاحظات
1 Dario Battistella, The Return of the State of War: A Theoretical Analysis of Operation Iraqi Freedom (Colchester: ECPR Press, 2008), p. 5. Battistella notes here that among the exceptions to this norm is Israel/Palestine.
2 Battistella, Return of the State of War, p. 85.
3 Edward W. Said, ‘Zionism from the Standpoint of its Victims’, Social Text, 1 (1979), p. 29.
4 For this term, which designated ‘Palestinian refugees who were wandering about the state of Israel [after the Nakba], homeless and stateless’, and therefore subject to deportation by Israel, see Ilan Pappé, A History of Modern Palestine, 2nd edition (Cambridge: Cambridge University Press, 2006), p. 157. Present absentees included the poet Mahmoud Darwish and his family. On the ethnic cleansing of Palestine, see Pappe, Modern Palestine, pp. 122-140, and, in greater detail, Ilan Pappé, The Ethnic Cleansing of Palestine (Oxford: Oneworld Publications, 2006).
5 Said, ‘Zionism’, p. 23. For a similar genealogy of Zionist settlement, see Avi Shlaim, The Iron Wall: Israel and the Arab World (New York: Norton, 2000), pp. 1-27.
6 Theodor Herzl, The Jewish State, cited in Abu-Manneh Bashir, ‘Israel in the U.S.Empire’, Monthly Review, 58, 10 (2007). Available at: http://monthlyreview.org/2007/03/01/israel-in-the-u-s-empire Accessed:12/11/11. On the attitudes to the Palestinians and the colonial project, from Chaim Weizman and Ze’ev Jabotinsky to David Ben Gurion, see Shlaim, The iron Wall, pp. 7-19.
7 Denise da Silva, ‘No-Bodies: Law, Raciality, and Violence’, Griffith Law Review 18,2 (2009), pp. 214-219.
8 Shlaim, The Iron Wall, p. 5.
9 Benedict Anderson, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism, revised edition (London: Verso, 2006), pp. 9-36. For a detailed, if largely antagonistic account of the genealogy of modern European nationalism from Herder and, in particular, Fichte, see Elie Kedourie, Nationalism (London: Hutchinson, 1960).
10 Jacqueline Rose, The Question of Zion (Princeton: Princeton University Press, 2005), pp. 33, and 42-43. Rose elaborates the logic of messianism’s interweaving with secular Zionism – to the extent that even socialists like Ben Gurion are finally absorbed by its language – throughout the chapter entitled ‘Zionism as Messianism’, pp. 1-57.
11 Rose, Question of Zion, pp. 48-52.
12 For only one example of how such religious claims saturate the discourse on Israel, see Benjamin Netanyahu’s speech to the US Congress, May 24, 2011: ‘This is the land of our forefathers, the Land of Israel, to which Abraham brought the idea of one God, where David set out to confront Goliath, and where Isaiah saw a vision of eternal peace. No distortion of history can deny the four thousand year old bond, between the Jewish people and the Jewish land’. Re-print-ed in the Jerusalem Post, http://www.jpost.com/LandedPages/-print-Article.aspx?id=222056 Viewed:13/08/11.
13 See Uri Ram, ‘The Colonization Perspective in Israeli Sociology’, in Ilan Pappé (ed.), The Israel/Palestine Question: A Reader, second edition (London and New York, Routledge 2007), pp. 53-79. For a comparative, exploration of the settler colonial paradigm as an explanatory framework for Israel and Palestine, see Lorenzo Veracini, Israel and Settler Society (London: Pluto, 2006), pp. 16-40 and passim.
14 Shlaim, The Iron Wall, p. 2. Lloyd, ‘Settler Colonialism and the State of Exception’
15 Patrick Wolfe, ‘Race and the Trace of History: For Henry Reynolds’ in Fiona Bateman and Lionel Pilkington (eds), Studies in Settler Colonialism: Politics, Identity and Culture (London: Palgrave Macmillan, 2011), pp. 275-77 and passim.
16 Ram, ‘Colonization Perspective’, pp. 64-70.
17 Neve Gordon, Israel’s Occupation (Berkeley and Los Angeles: University of California Press, 2008), pp. 11-21.
18 Albert Memmi, The Colonizer and the Colonized (Boston: Beacon Press, 1967), pp. 70, 74.
19 Memmi, The Colonizer and the Colonized, p. 71.
20 On Jabotinsky, see Shlaim, The Iron Wall, pp. 11-16.
21 Memmi, The Colonizer and the Colonized, p. 67 On founding Zionist leaders’ attitudes to the Arabs of Palestine and often pragmatic affiliation with Western powers, see Shlaim, The Iron Wall, pp. 1-27, and Said, ‘Zionism’, pp. 21-29.
22 Shlaim, The Iron Wall, p. 4.
23 Memmi, The Colonizer and the Colonized, p. 62.
24 David Grossman, ‘Contemplations on Peace’, in David Grossman, Writing in the Dark: Essays on Literature and Politics (New York: Picador, 2008), p. 115.
25 Memmi, The Colonizer and the Colonized, pp. 66-67.
26 Ilan Pappé, ‘Israel’s righteous fury and its victims in Gaza’, Electronic Intifada, 2 (2009). Available at: http://electronicintifada.net/content/israels-righteous-furyand-its-victims-gaza/7912 Accessed: 08/08/11.
27 Frantz Fanon, ‘Concerning Violence’, in Frantz Fanon, The Wretched of the Earth, (New York: Grove Press, 1968), pp. 54-55.
28 On the Israeli military thinking ‘like serial killers’, see Eyal Weizman, Hollow Land: Israel’s Architecture of Occupation (London: Verso, 2007), p. 197, citing Brigadier General Shimon Naveh. On the association of the peculiar destructive violence of Zionsim and its messianic entanglements, see Rose, Question of Zion,pp. 42-47.
29 Grossman, Writing in the Dark, p. 103.
30 Memmi, The Colonizer and the Colonized, pp. 38-9.
31 Michael O’Farrell, quoted in Mike Tomlinson, ‘Imprisoned Ireland’, in Vincenzo Ruggiero, Mick Ryan, and Joe Sim (eds), Western European Penal Systems: A Critical Anatomy (London: Sage, 1995), p. 196.
32 See, for this widely disseminated comment, Ed Moloney, ‘Israel has taken over from Northern Ireland as a factory of grievances’, Mondoweiss, January 24, 2011.Available at: http://mondoweiss.net/2011/01/israel-has-taken-over-from-northernireland-as-a-factory-of-grievances.html Accessed: 08/08/2011.
33 Gordon, Israel’s Occupation, pp. 36 and 52. On the history of British emergency legislation, see Nasser Hussain, The Jurisprudence of Emergency: Colonialism and the Rule of Law (Ann Arbor: University of Michigan Press, 2003).
34 Said, ‘Zionism’, p. 33.
35 Naomi Klein, ‘Losing the Peace Incentive: Israel as Warning’, in Naomi Klein, The Shock Doctrine: The Rise of Disaster Capitalism (New York: Picador, 2007), p. 558.
36 Giorgio Agamben, State of Exception (Chicago: University of Chicago Press, 2005), p. 35.
37 Agamben sees Schmitt’s thinking of the exception as involved in a dialogue with WBenjamin’s 1921 essay, ‘Critique of Violence’, which elaborates the relation between violence and ‘law-making’. See Benjamin, ‘Critique of Violence’, in WBenjamin, Reflections: Essays, Aphorisms, Autobiographical Writings (New York,1978), pp. 283-287, and Agamben, State of Exception, pp. 52-64.
38 See especially Achille Mbembe, ‘Necropolitics’, Public Culture 15, 1 (2003), pp.11-40.
39 Giorgio Agamben, ‘What is a Camp?’, in Giorgio Agamben, Means without Ends:Notes on Politics (Minneapolis: Minnesota University Press, 2000), pp. 37 and 38 (Agamben’s emphasis).Lloyd, ‘Settler Colonialism and the State of Exception’
40 Agamben, ‘What is a Camp?’, p. 39 (Agamben’s emphasis).
41 Agamben, ‘What is a Camp?’, p. 40. For a thoroughgoing demonstration of the genealogy of modern law and carceral practice from slavery, see Colin Dayan, The Law is a White Dog: How Legal Rituals Make and Unmake Persons (Princeton, NJ:Princeton University Press, 2011).
42 Saree Makdisi, Palestine Inside Out: An Everyday Occupation (New York: Norton, 2008), p. 6.
43 Makdisi, Palestine Inside Out, p. 6 Nasser Hussain, ‘Hyperlegality’, New Criminal Law Review, 10, 4 (2007), pp. 514-531.
44 Agamben, State of Exception, p. 2.
45 Naomi Klein, ‘Losing the Peace Incentive’, p. 551.
46 Eyal Weizman, interviewed by Philipp Misselwitz, ‘Military Options as Human Planning’, in Eduardo Cadava and Aaron Levy, Cities Without Citizens (Philadelphia: Slought Books, 2003), pp. 195-6. For a more extensive exploration of the spatiality of Israel’s occupation, see also Eyal Weizman, Hollow Land, chaps 4 and 5.
47 WBenjamin, ‘Theses on the Philosophy of History’, in WBenjamin, Illuminations: Essays and Reflections, (New York: Schocken Books, 1968), p. 257.
48 Klein, ‘Israel as Warning’, pp. 549-557.


فلسطين-إسرائيل: الاستعمار الاستيطاني ودولة الاستثناء
يميل الخطاب المؤيد لإسرائيل بشقيه الدعائي و التحليلي لتمثيلها ,بطريقة مقصودة و ملفتة للنظر بحيث تبدو كأنها دولة ديمقراطية عادية سويّة و مجتمع غربي سوي , وسواها استثناء :فهي دولة ديمقراطية يحيطها جيران معادين ،وهي دولة علمانية مستوفية تاريخياً المصير الديني لشعب ما ، وهي ديمقراطية تمتلك القدرة على تعريف نفسها كدولة لشعب واحد ودين واحد ، وهي علاوة على ذلك الديمقراطية الوحيدة في المنطقة.... وهكذا دواليك.ويزعم أصحاب هذا الخطاب ,في بعض الأحايين أن الحالة السوية تلك لإسرائيل تستوجب إعفائها من معايير قوانين حقوق الإنسان والقانون الدولي ، في حين يبدي البعض الآخر تذمرا من معاول النقد التي تستهدف هذه الدولة .تحاول هذه المقالة أن تبين القيمة الانتهازية في العلاقات العامة لمثل هذه التناقضات الواضحة ,فضلا على إمكانية تفسيرها بشكل أفضل لو حاولنا فهم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين كمشروع استعماري نموذجي ، تكمن تناقضاته في التأطير المبكر للحركة الصهيونية عبر منطق تحليلي تم استعراضه منذ أمد طويل على يد ألبرت ميمي وغيره من منظرين حالة الاستعمار الاستيطاني.
حاولت [في البداية] التفكير في فلسطين وفلسطين بذاتها ، ("بحد ذاتها" ، كما يقول الإيرلنديون). غير إني وجدت نفسي بدلا من ذلك أفكر وأكتب "فلسطين / إسرائيل" ، كما لو أن فلسطين لا يمكن التفكير فيها وحدها.لقد نجح مؤيدو الصهيونية في فرض مثل هذا الملمح كشرط للتفكير في فلسطين: فلا يمكن التفكير بفلسطين ، بل بالأحرى ، قد لا يمكن التفكير فيها ككيان مستقل ذي سيادة ، قادر على منح القوانين لذاته. فإذا كان من الممكن التفكير في دولة فلسطينية و جنسية-قومية فلسطينية بصورة عامة ,فمثل هذه الإمكانية غير متاحة إلا بقبول إسرائيل و من يدعمها .وعلى هذا يستبعد تماما التفكير أو الحديث عن فلسطين مثلما نتحدث عن أية أمة أخرى وعن معاييرها دون أن نضطر للعودة إلى مرجعية إلزامية لأمة أخرى .وبالمثل ،فثمة إمكانية متاحة للتفكير بذات القدر عن علاقات أمة ما بأية دولة مفترضة دون إنكار سيادة أي منهما إلا في حالة فلسطين. فالأمة ، التي قد يكون لها حضور ذهني أو ثقافي ولو بدون دولة ، لا تحقق السيادة إلا عندما تكون حاضرة في إطار المعنى الذي حدده ماكس فيبر , أي كدولة تحتفظ [وحدها]بحق احتكار العنف المشروع داخل أراضيها. وهذا بالضبط ما عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على حرمان فلسطين منه , فعمدت-هذه الحكومات-على احتجاز فلسطين كفضاء خاضع ليس للقانون فحسب ,وإنما لمتاهة متناثرة من القوانين ،مما يجعلها تفتقر لمنح ذاتها القوانين أو الحق في منح سكانها المواطنة الكاملة, ويعني مثل هذا الافتقار للسيادة -للفلسطينيين- العيش في ظل الحرمان من المواطنة أو الحصول الجزئي عليها. ويواجه من يعيش منهم هذه المعاناة داخل إسرائيل مثل هذه اللعبة القذرة الخبيثة المتمثلة في حصولهم على الجنسية الرسمية [للدولة] في الوقت الذي هم محرومون من حق الحصول على السمة القومية المخصصة لليهود فقط الذين يتحصلون على الحقوق الأساسية, بما في ذلك حق العودة. وتتأكد سيادة إسرائيل على فلسطين بإنكار حضور هذه الأخيرة كدولة لها حق السيادة على مواطنيها ,و تتمثل السيادة الإسرائيلية بصورة مباشرة على فلسطين وعلى مكانتها كعضو في ما يمكن أن نسميه الشبكة الحديثة من امتيازات الدول الفستفالية، التي تأسست بموجبها " السيادة كمؤسسة مركزية في النظام الدولي"(1).وكما يلاحظ داريو باتيستيلا فالنتيجة الطبيعية للعلاقة بين الدولة الفستفالية التي تتمتع بالسيادة و تلك التي لا سيادة لها تكمن في خلق تمييز يجعل من هذه الأخيرة تخضع للاحتلال و الاستيلاء دون رحمة من قبل الأولى : بعد ظهور النظام الفستفالي في أوروبا ، استمر النظر إلى الأراضي غير الأوروبية على أنها "أرض مهيئة لاحتلال" ، في ذات الوقت الذي صارت تدار الحرب في المجتمع الدولي الأوروبي بين "جيوش شخصيات اعتبارية " ، أي بين كيانات تعترف بحق الآخر في الوجود بشكل مستقل كوحدة سيادية(2).
تشكل البنية الثنائية التكاملية للعلاقة المتذبذبة بين القاعدة والاستثناء -كما سنرى-طبيعة التناقضات في العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية. وتسمح مثل هذه البنية بعدم الفصل بين الادعاء الإسرائيلي بأنها دولة غربية "طبيعية" أو "متحضرة" من جهة و بين وضعها كدولة "استعمارية استيطانية" من جهة أخرى يتيح لها وضعها هذا في استثمار استعمار "أرض مهيئة للاحتلال". ومن ثم ، يبدو من غير الممكن أيضًا التفكير في فلسطين دون التفكير بشكل متزامن بما يلغيها, فلا يمكن التفكير في فلسطين دون التفكير بما ومن يطمسها ، ويحل محلها ، أي إسرائيل والصهيونية. وسوف يواجه المرء مفارقة "الغائبين الحاضرين" كلما حاول التفكير في فلسطين .الغائبون الحاضرون أولئك الذين تغيب هويتهم بتعتيمهم و طمس وجودهم. وفي الحقيقة ,لا يعبر مثل هذا الكلام عن تصورات أو قضايا جديدة , فكما قال إدوارد سعيد منذ نحو ثلاثين عاما : "لقد استندت جميع الطاقات التأسيسية للصهيونية على الوجود المستبعد ، أي الغياب الوظيفي" للسكان الأصليين "في فلسطين" (3). فما هي البنية الطوبولوجية التي تنشأ من هذه الصيغة الغريبة و الجوهرية -وجوديا وقانونيا- في ذات الوقت ,أي صيغة "الحاضر الغائب" ، كحقل تعيين فعلي واستعارة رنانة على حد سواء للمأزق الدائم للفلسطينيين ، سواء في وطنهم أم على المسرح العالمي؟(4) .ويتبع هذا الشرط الخصوصي للغياب (حتى عندما يكون الجميع حاضرا ,أو الحضور في حضرة الغياب, أو يكون خارجا حتى عندما يكون الجميع في الداخل) -على الأقل من الناحية الميتافيزيقية-المنطق المكاني للتطهير العرقي والاحتلال كظاهرة مادية ويتطابق مع الفضاء المنطقي للاستثناء الذي تتجلى فيه قوة القانون أو الدولة الدستوريين في القدرة على تعطيله .
قد يكون مطلوب منا هنا في سياق هذه الحالة الفردية بأن نجعل من فلسطين / إسرائيل استثناءً لحكم الأمم ، أو أن نجعل فلسطين / إسرائيل مثالا. نموذج للدول المستعمرة الاستيطانية أو حتى نموذجا للدول الاستثناء؟ فهل تمثل هذه العلاقة بين الاستيطان و الطرد إرث الماضي الذي ألغيت خصائصه المحددة أو أهملت في مكان آخر؟ أم أنها مازالت تقف كنتوء على أعتاب تشكيلات جديدة تهدد سماتها بأن تصبح هي النمط العام للمستقبل؟ وكلما زاد الضغط الذي نضعه على هذه الأسئلة التي تبدو متناقضة أو غير متساوية ، كلما رأينا أنها ,بطريقة ما مميزة, تعين المسألة الفلسطينية وتعين إطارها مثلما تعين أيضا قضاياها الملموسة. كما يمكن للمرء أن يلحظ ميل الخطاب عن إسرائيل و بالتالي فلسطين نحو استدعاء درجة ما استثنائية تتعلق في جملة المزاعم المتناقضة على حد سواء بشأن النموذج و الاستثناء المشبع بها هذا الخطاب.
إذا كان التفكير في إسرائيل / فلسطين أصبح منقسمًا ,إلى حد استحال فيه إلى إمكانية التوصل إلى تفكير غير قابل للتجزئة ، فالأمر ذاته ينطبق على الفروقات بين النموذج والاستثناء. قد نبدأ بالبحث في الطرق التي يمكن أن تُصاغ فيها إسرائيل / فلسطين -بالمعنى العامي المسهب-على أنها نموذجية أو غير مألوفة ، وكذلك في السبل التي يكون بها هذا العرض الذاتي حاسما لمطالب إسرائيل بأن تكون سوية و شرعية. فمن ناحية ,تقدم إسرائيل نفسها كدولة مثالية وبالتالي "طبيعية" تقوم على بنيان ليس أقله تعبيرا عن رغبة طبيعية لشعب تاريخي في وطنه أو دولته القومية -مثل العديد من الدول التي قامت في أوروبا على وجه الخصوص في لحظة تأسيس الصهيونية. بيد أنه في ذات الوقت إسرائيل ليست أقل من مثالا لمستعمرة استيطانية ،ونموذجا للعديد من المستعمرات الاستيطانية التي -لا بأس من تكرار ذلك- أنتجت أوروبا القرن التاسع عشر العديد من الحالات الشبيهة به و بها [كنموذج و كمستعمرة], وكما يشير إدوارد سعيد لا يوجد هنا ما هو استثنائي مع بدايات ظهور الحركة الصهيونية :من الأهمية بمكان أن نتذكر أن الحركة الصهيونية لم تتحدث بطريقة لا لبس فيها عن نفسها كحركة تحرير يهودية في معمعان الانضمام للحماس الغربي العام في الاستحواذ على اقاليم ما وراء البحار، بل كانت ترى في نفسها حركة يهودية للاستيطان الاستعماري في الشرق(5).
وبالتالي ، لدى الصهيونية , هنا, ثمة "منظور إمبريالي شاذ [...] متجذر عميقا " حتى عندما تزعم - ولا تزال تزعم- أنها تمثل مشروع تحرّري يتشابه مع مشاريع موجودة لدى الأمم الصغيرة الأخرى في الرغبة في تقرير مصيرها .وعلى الرغم من الزعم الذي يصف فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" ، فقد كان الصهاينة الأوائل (في الواقع أكثر مما هو حال المدافعين المعاصرين عن إسرائيل) أكثر استعداداً للاعتراف بالبعد الاستعماري لحركتهم ، ومن ثم أكثر استعدادا للاعتراف بالوجود الشرعي للفلسطينيين كشعب. إن وجود دولة يهودية، يسكنها في الغالب مستوطنون قادمون من أوروبا ، سوف تشكل ، كما يصفها هرتزل ، "طرف حصن للدول الأوروبية ضد آسيا ، و معقلا للحضارة ضد البربرية" (6).ويبرز هنا سؤال حول ما إذا كان ممكنا بعد كل هذا التفكير في إسرائيل / فلسطين ، كما يطالبنا مؤيدو إسرائيل ، كمثال على نزاع يكون فعل الدولة السوية فيه يمضي باتجاه ضمان سيادتها ضد تهديد خارجي. "أي دولة متحضرة كانت ستفعل الشيء ذاته" ذلك هو التصريح الذي يتم التأكيد عليه في كل مرة تقوم فيها إسرائيل بالاعتداء على غزة أو غزو لبنان بحجة ردها في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب. ويتطلب مثل هذا التصريح استحضار "حالة الضرورة" التي تفحصها مؤخرا دينيس دا سيلفا باعتبارها السبب الحقيقي لظهور تشكيلات الدولة الناشئة ، في صيغة توحي للوهلة الاولى بالخطر الداهم الذي تواجهه واستبدال موضوعات عنفها بشرط الخضوع لطبيعة أو دوافع تغيبهم عن المجتمع المدني (7) . ومن ثم ينهار الزعم الداعي إلى الدولة السوية إلى مطلب ينادي بالهيمنة على أساس تمييز من النمط الفستفالي ، بين المتحضرين و بين أولئك الذين لا يفهمون كفاعلين أخلاقيا وأولئك الذين تصبح ,بالتالي أراضيهم قابلة للاستغلال. هل ينبغي لنا إذن أن نرى ديناميكيات الصراع على أنها مثالا تكشف عن نظام استعماري استيطاني وعن جهوده الرامية لاختزال السكان الأصليين في كلا الحالتين ؟ إذا كان الأمر كذلك ، فإن إحدى تناقضات الحالة الإسرائيلية هي أنه كلما ازدادت الضغوط على وضعها كمثال و نموذج ، كلما أصبحت حالتها الشاذة كدولة استثنائية أكثر وضوحا.
إن النموذج السابق الذي تستحضره إسرائيل و من يدافع عنها عموما يعرض إسرائيل ليس فقط كدولة قومية "سوية" بل كدولة تنتمي ,على وجه الخصوص, إلى مجتمع الدول الأوروبية أو الدول "الفستفالية". و تزداد وطأة هذا الادعاء على نحو ما إذا ما نظرنا إلى الأصول الإيديولوجية للحركة الصهيونية والدولة التي أسستها لاحقا و التي ميزتها-تلك الأصول-بصورة عميقة. برزت الحركة الصهيونية في العموم بين الجاليات اليهودية العلمانية المنتمية في غالبيتها العظمى لعلمانية وسط أوروبا ، وكان مؤسسها تيودور هرتزل ممثلاً نموذجياً لها. وتبعا لذلك، كانت الأسس الصهيونية مشبعة بتجاذبات النزعات القومية الأوروبية التي تنوس تحت ثقل تناقضاتها ما بين الاحتياج المتجه داخليا من أجل تقرير المصير والرغبة في التوسع خارجيا عن طريق استعمار الآخرين الذين يعتبرون أدنى من الأوروبيين .- تلك الأراضي – وأولئك الشعوب - "المهيئين ليكونوا محتلين " كما يقول باتيستيلا.
ويجسد المسار الصهيوني لهرتزل نفسه المصطلحات التي ستصاغ الصهيونية بها ومعها (8) ، من خلال إصراره على تساوي اليهود الأوروبيين مع القوميين الأوربيين الآخرين ، وبالتالي على حقهم في تقرير المصير في الوقت الذي كان يتفاوض فيه وزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشمبرلين مع القيصر الألماني ، والسلطان العثماني على الأراضي الواجب استعمارها .ويكمن مفهوم الصهيونية عن القومية في النزعات القومية الإثنية العلمانية التي ظهرت في أوروبا إلى حد كبير . فتأسست القومية الصهيونية -مثلها مثل سلفها الأوروبي-على فكرة الإيمان بالمصير التاريخي لشعب معين في حق تقرير المصير والسيادة. ترافق مع هذا الإيمان ( الذي ناقشه بصورة موسعة بنديكت أندرسون على أنه إيمانا ليس "متخيلًا" فحسب ,بل إيمان لا يمكن فصله أيضا عن علمنة المجال السياسي ) اعتقاد شبه ديني بوجود صلة عميقة شبه صوفية بين الناس و الأرض و اللغة ،وهو إيمان يجد جذوره في السياسة الثقافية لهيردر عبر القومية الجرمانية الأكثر شراسة لفيخته (9).
وبالنظر إلى هذا الإرث ، فقد حملت النزعات القومية الأوروبية بوجه عام تحيزًا عميقًا ضد التمازج العرقي المتناقض مع الإرث التنويري للمزاعم الليبرالية القائمة على النظرة الديمقراطية و العلمانية للدولة. وتبدي الصهيونية و إسرائيل ,لاسيما في هذه النواحي ، خصائص تكوين قومي أوروبي نموذجي. بيد أن الصهيونية كانت مشبعة , وعلى خلاف القوميات العلمانية التي صاغت أسسها, بإرث و أدبيات النزعة الميسيانية, ليس إيمانا في المصير التاريخي لليهود بعودتهم من الشتات إلى صهيون فحسب , بل أيضا ربط تلك العودة بظهور الميسيا و تنصيبه ملكا في آخر الزمان . وكما أوضحت جاكلين روز ، لم تتمكن حتى النسخة العلمانية من هذه النزعة الدينية الميسيانية من الإفلات من مفرداتها ولا حتى ،في معظم الحالات ،من دلالاتها. وفي الواقع لطالما كانت التقليد الخلاصي المسياني يطارد الصهيونية ، بحيث يمكننا أن "نتساءل عما إذا كان هناك ثمة ما هو حميمي بين الصهيونية و الميسيانية يمتلك من القوة و التقارب بمكان لأن يتم دون نجاح كبته ولو جزئيا. حملت لغة الصهيونية العلمانية وبطرق قصوى بما يكفي لتمييز تعابيرها عن تعابير التدين العلماني لجميع القوميات الأوروبية ولكن أكثر تطرفًا ، " آثارا وندوبا سردية مسيانية بالكاد تسعى أو تفشل في كبتها " (10). فحتى الإشارة الشائعة بما يكفي إلى هرتزل العلماني على أنه "موسى" أو "المسيح الصهيوني" تفضح دمج المزاعم العلمانية والدينية. كانت النتيجة النهائية حتما نبرة خلاصيه من العنف الإلهي المقدس المدمر، الذي يقابله قناعة بأن كل صراع ينطوي على تهديد وجودي قد لا يكون نهاية الزمان فقط بل نهاية إسرائيل نفسها. وفي الوقت ذاته لا تقل النبرة المسيانية في التعابير الصهيونية تبريرا في صيغها الدينية و العلمانية للتطهير العرقي للفلسطينيين من أجل إفساح الطريق لـ "جمع اليهود" استعدادًا لعودة المسيح عبر ما تفرض هذه النبرة المسيانية أكثر التعابير غير القابلة للجدل "دولة يهودية لشعب يهودي" (11).ويشير الغموض اللطيف لعبارة روز ، "بالكاد تسعى ، أو تفشل في كبتها " ، إلى السبل التي تتوج فيها "العلاقة الحميمة" بين الصهيونية العلمانية والنزعة الدينية الميسيانية لما يبدو للوهلة الأولى تناقضا لا يمكن حله بين تطبيع إسرائيل و استثنائيتها . فمن ناحية تسعى إسرائيل ,كدولة ،إلى قبولها كواحدة من بين الديمقراطيات المتقدمة , وتطالب من ناحية أخرى بأن تستثنى من قواعد القانون الدولي واتفاقيات حقوق الإنسان على أساس مصيرها الفريد كدولة يتم فيها تكريس القومية الإثنية والنبوة الدينية ومدعوة للدفاع عن هذا المصير . ومن الأهمية بمكان أن نلحظ أن هذا الربط الاستثنائي سبق ظهور الهولوكوست بفترة طويلة ، وهذا ما شكل بحد ذاته حتى ستينيات القرن الماضي حرجا [للقادة] الصهاينة مثل بن غوريون ، واعترافهم بأن مصير اليهود الأوروبيين (الذين لم يقيض لهم رؤية مستقبلهم ,على وجه العموم ، ناهيك عن عدم خلاصهم في الهجرة إلى فلسطين) قد يكون تم استغلاله لغايات التأثير السياسي.
لم تكن عبارة "دولة يهودية لشعب يهودي" شعارًا أو مشروعًا يستجيب ببساطة للإبادة الجماعية ليهود أوروبا أو مجرد تعبير تم تعيينه بدافع الحاجة إلى ملاذ آمن يضمن عدم حدوث المحرقة "مرة أخرى" .إن جذور مثل هذا المطلب القومي - الإثني - الذي يمكن رفضه في سياقات أخرى كـ "سياسة هوية" – تكمن في المنشأ المتناقض للصهيونية نفسها. وينتج مثل هذا المطلب ما يمكنه أن يعبر عن تناقض غير قابل للحل بالكامل في إطار الشروط المقبولة عادة للدولة الليبرالية العلمانية .ويطالب الإسرائيليون -على مستوى فردي- ومؤيدوهم الذين يراد أن يُنظر إليهم على أنهم ليبراليون ، وعالميون ، وإنسانيون ، بأن نضع استثناءً للممارسات والإيديولوجيا التي ترتكز عليها امتيازاتهم الحصرية الأساسية للدولة نفسها .وفي نهاية المطاف ,ترتكز المؤسسات الديمقراطية العلمانية الإسرائيلية على زعم أكثر تطرفا ينادي باستثناء إلهي أو مسياني لم يعد مسموحًا به لأي دولة أخرى في العالم(12). ومع ذلك ، فإن معايير هذا التناقض مألوفة و قابلة للتفسير من منظور آخر يقدمه نموذج الاستعمار الاستيطاني. هذا النموذج ، الذي رسمه ملامحه [إدوارد] سعيد ، لم يكن - كما عبرت وثائق أوري رام – منتشرا بين الباحثين المنتقدين لإسرائيل حاليا ، مثل سعيد ،بل يمكن أن نلمحه داخل التيار الرئيسي لعلم الاجتماع الإسرائيلي ، على الرغم من محاولات اختزاله لأغراض عملية في المناقشات العامة و تمثلات إسرائيل (13). ويمتلك النموذج الاستعماري الاستيطاني، في الواقع ، قوة تفسيرية مميزة في توصيف كل من الظاهرة وكذلك التناقضات الواضحة لفلسطين / إسرائيل. فمن حيث المبدأ, لا يمكن حلّ المأزق الذي واجه الصهاينة الأوائل إلا من خلال الاستعمار ، و المقصود بالمأزق هنا هو تلك الحالة الشاذة لشعب -أمة يفتقر إلى أرض شغلها بصورة متواصلة في أي لحظة في التاريخ الحديث . لقد كان من الأهمية بمكان تحديد الأرض التي يمكن أن يكون قد شغلها شعب آخر ، على الرغم من أن هذا الأمر[ أين ستقع تلك الأرض ] لم يكن يحمل مغزى حاسما للصهاينة العلمانيين ,فقد تصور هيرتزل في البداية ، على سبيل المثال ، تحديد الدولة اليهودية في الأرجنتين(14).
و ينبثق عن هذا المطلب الأساسي سلسلة من الظروف التي تجعل إسرائيل نموذجا لمجتمع استعماري استيطاني . فما يميز مستعمرة المستوطنين عن أي مستعمرة إدارية أو استكشافية أخرى تركيز المستوطنين على الاستحواذ للأرض بدلاً من تركيزهم على تبعية السكان الأصليين لهم سياسيا و اقتصاديا أو احتكار مواردهم ، أو التحكم بأسواقهم .و لا يخفى أن مصادرة أراضي السكان الأصليين بقصد تلبية احتياجات التوطن السكاني الاستيطاني الدائم كهدف صريح يتطلب واحدة من اثنتين من العلاقات المحتملة مع السكان الاصليين ، كما يقول باتريك وولف :إما استغلالهم كقوة عمل ثانوية ، كما حدث في كثير من دول أمريكا اللاتينية والجزائر و جنوب أفريقيا ، أو الإبادة العاجلة لهم إلى حد ما ، كما حدث في أستراليا وأمريكا الشمالية والكاريبي (15). و انخرطت إسرائيل بوضوح في منحى كلتا العلاقتين ، فنظرا لأن اعتمادها في البداية كان على العمالة الفلسطينية فقد سعت إلى تخفيضها من خلال جلب عمالة يهودية مهاجرة من أماكن مثل اليمن وشمال أفريقيا ،الأمر الذي فسح المجال للإقصاء التدريجي للعمال الفلسطينيين و المقيمين في مناطق المستوطنات الإسرائيلية واستبدالهم بالمهاجرين القادمين من جنوب شرق آسيا المحرومين من حقوق المواطنة(16). قام نافيه غوردون بطريقة مماثلة بتوصيف السبل التي شهدتها مرحلة ما بعد الاحتلال 1967 من خلال التحول في نمط الاستراتيجيات الحكومية من النموذج الحيوي السياسي الذي يتطلب إدماج وإدارة السكان الأقل عملاً والعاملين إلى نموذج السلطة السيادية الذي تهدف إلى إسكان السكان الفلسطينيين الأصليين وتهجيرهم في نهاية المطاف (17). وقد برهن الشعار الشهير ، "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض "، على أنه مقولة أدائية أكثر منه وصفية ، وهو ما يفسر الطرد التدريجي لشعب شكّل وجوده المستمر عقبة كأداء أمام استكمال المشروع الصهيوني.
يخضع السكان الفلسطينيون الأصليون ضمن ديناميكيات الاحتلال ,لعملية تخلص تدريجي و منظم لهم, و يتطلب كل من نمطي إخضاع السكان الأصليين السابقين [العلاقات المحتملة مع السكان الاصليين] افتراض تواجد تراتبية هرمية عنصرية ,كما يقترح العمل الرائد لألبرت ميمى حول الاستعمار الاستيطاني : حيث تعتمد هيبة وشرعية المستوطنين على قناعة راسخة بتفوقهم على السكان الأصليين سواء من حيث قيمهم الأخلاقية وثقافتهم المتطورة العالية أو من حيث الحضارة المادية. وكما يشير ميمي "تلخّص العنصرية وترمّز العلاقة الأساسية التي توحد المستعمَر بالمستعمِر " ؛وهي ليست "تفصيلاً عارضاً" بل "جزء هام من النزعة الاستعمارية" (18) . ومن ناحية أخرى تسوغ العنصرية عمليات التخلص أو طرد المستعمَر الذي تتجلى دونيته الثقافية والأخلاقية بسبب دونية ظروفه المادية, وتضفي هذه العنصرية, من ناحية أخرى الشرعية على امتيازات المستعمِر و "اغتصاب " أرض و موارد السكان .وعلى حد قول ميمي: ساهمت ثلاث عناصر إيديولوجية رئيسية في تشكيل العنصرية الاستعمارية : يتمثل العنصر الأول في الهوة بين ثقافة المستعمِر والمستعمَر ,بينما يمثل العنصر الثاني استغلال هذه الاختلافات لصالح المستعمِر. أما العنصر الثالث فهو استخدام هذه الاختلافات المفترضة كمعايير للحقيقة المطلقة(19). و يمكن القول أن هذه المكونات تعمل في إطار حلقة تقوية ذاتية بطريقة يبدو أنها تتكثف بدلاً من أن تنقص بمرور الزمن , وبالتحديد حين يصبح المستعمِر أكثر رسوخًا ،حيث تتعمق حدة الانقسامات أكثر ويزداد الفصل العنصري [الأبارتيد] بين المستوطنين والمستعمَرين ،لتصل الأمور إلى الحد الذي نعرفه من بناء الجدران والحواجز و مناطق منفصلة للإقامة والحركة و إنشاء نقاط مراقبة أكثر شدة يخضع لها السكان المحليين ,"فالجدار الحديدي" الذي دعى له زئيف فلاديمير جابوتنسكي بصورة مجازية أصبح , في النهاية, واقعا ملموسا (20). رسم جابوتنسكي تصوره عن الجدار من خلال وجود قوة عسكرية لا تهزم كوسيلة لجعل السكان العرب يصلون لحالة من اليأس في قدرتهم على استعادة أراضيهم المفقودة ، وهذا ما قام به الاحتلال حيث نصب حرفيا جدارا يحيط الضفة الغربية يعمل على تشظيتها إلى جزر متفرقة و يفصل بالمعنى الحرفي الفظ للكلمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وفي الوقت ذاته ،يتعزز شعور تفوق الثقافة المادية للمستعمِر داخل مناطقه المحمية بسبب من الاستعراض المادي لهذا التفوق وتأمينه عبر المدخل التمييزي للسلع الاجتماعية للمستعمرة و يصبح الإفقار الحتمي للسكان الأصليين في سياق ذلك إشارة إلى تخلفهم الفطري.
ومع كل هذه السياسات المتبعة في إفقار السكان الاصليين بتجريدهم من ملكياتهم ,فهم لن يختفوا, وبالتالي يشكلون "تهديداً وجودياً" و "قنبلة ديموغرافية موقوتة " لعالم ما بعد الهولوكوست حيث لم تعد الأشكال التقليدية للإبادة الجماعية للشعوب الأصلية مقبولة علناً. و بالتالي يتوجب الحفاظ على مقادير نسب تفوق المستوطنين مقابل السكان الأصليين عن طريق المزج بين أشكال الهجرة اليهودية المستمرة والتطهير العرقي التدريجي أو "الترانسفير الصامت" للفلسطينيين ,الأمر الذي يتطلب زيادة مصادرة الأراضي وتهجير سكانها وحجزهم في فضاءات متضائلة تجعل معيشهم مروعا و غير محتمل و حياتهم لا تطاق . وتؤدي الانتهاكات اليومية لحقوق الإنسان والقانون الدولي ، والنظام المطرد لعنف الدولة المطلوب للحفاظ عليه إلى تناقض عميق لا يمكن تجاوزه بين التطلع إلى تصور تطبيع إسرائيل وبين الممارسات الفعلية لها التي تشكل جوهر وجودها وتكوينها التأسيسي أكثر منها مجرد استجابة طارئة لتهديدات خارجية.
و نجد في التأكيد المشوب بالقلق بشأن الوضع الخاص للمستعمرة بوصفها ممثلة لـ "القيم الحضارية " في "منطقة متخلفة" ترويجا للذريعة التي يتم تكرارها باستمرار بخصوص تفوق المستعمرة الاستيطانية ، سواء في نظام حكمها أو في قيمها الاجتماعية والأخلاقية ، بالنسبة إلى السكان المجردين من ملكياتهم والحالات التي ترافق ذلك .و ما عبر عنه ميمي بإشارة ثابتة على أنه "البلد الأم", يصبح في حالة إسرائيل "الحضارة الغربية" وهي الإشارة الأكثر انتشارا و لكن ليس الأقل فاعلية التي آمنت بها الصهيونية و اعتبرت نفسها ممثلا لهذه الحضارة منذ الأيام الأولى لاستعمار فلسطين(21). على أنه يتطلب الحفاظ من الناحية العملية على "دولة يهودية لشعب يهودي" وضع قوانين وتدابير تتجنبها الأمم "المتحضرة"من حيث المبدأ ،وتبدأ تلك التدابير في التميز الإثني شديد التفرد "لدولة يهودية لليهود" ينبغي لها أن تحافظ على التمييز بين "المواطنة" و "القومية" وصولا إلى حد إنكار الحقوق الأساسية لحرية الحركة والتجمع ، أو الوصول إلى الموارد الأساسية مثل المياه والأراضي الزراعية. وفي النهاية ، يتطلب الأمر حالة حصار دائم يقضي فيه غالبية الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية حياتهم. إن هذا التطبيع ذو المستوى المنخفض من العنف (بعيدًا تمامًا عن إطلاق العنان للعنف غير المتناسب ضد السكان المدنيين والذي أصبح جزءاً مقبولاً لوضعه الاستراتيجي) يجد شرعيته في عنصرية مؤسسية تناقض و تفضح إيمان إسرائيل في شرعيتها وديمقراطيتها وقيمها المدنية ويعتمد وجودها ذاته على حرمان السكان الأصليين هناك من الحقوق الأساسية بسبب هويتهم الإثنية باعتبارها ليست يهودية.
ولا يعد هذا التناقض ثابتًا ، ولكنه ينكشف ماديا ونفسيا مع الوقت . وكما يقر ميمي ، يسعى الاستعمار الاستيطاني بادئ ذي بدء إلى شرعنة غزوه للأرض باستحضاره للمثل الحضارية والالتزام بتطوير أو تحسين شروط حياة المستعمَرين وأرضهم. وهكذا اعتبر هيرتزل السكان الأصليين بدائيين ومتخلفين ولكنه كان يأمل في أن تعود المنافع الاقتصادية بين السكان العرب على المشروع الصهيوني في فلسطين (22). بيد أنه في نهاية المطاف يتحدد مصير مثل هذه المثل العليا ، الصادقة أو الانتهازية حسب الحالة ،بتصليب عقلية الحصار التي تُصنّف المجتمعات الاستعمارية منذ البداية, ففي سبيل مواجهة أي مقاومة فعلية أو وهمية على المستعمِر أن يبقى على أهبة الاستعداد وفي حالة يقظة و حراسة على الدوام خلف "جدار حديدي" تحافظ مأسسته على مفهوم أقلية استعمارية داخل هياكل الدولة ذاتها. ومع مرور الوقت يمر مجتمع المستوطنين بحالة تصلب تدريجي لهياكله المؤسساتية و بناه النفسية الدفاعية , بدلا من اكتساب الثقة وبالتالي الانفتاح على إمكانات التغيير والتكيف الذي يكسبه القوة والأمن . وعوض عن توسيع نطاق الحريات الديمقراطية و شموليتها ،نرى أن كلما تم الاستحواذ على التصلب باسم الأمن والتنمية ، كلما أصبح المجتمع يميل أكثر للعسكرة ، و يصبح شكل القوانين أكثر وحشية وتصبح القيود أشد بخصوص حقوق المستعمِرين. وكما يوضح ميمي , تحمل كل دولة استعمارية في أحشائها "بذور الإغراء الفاشي " (23) .أو كما قال ديفيد غروسمان في العام 2004 ، حتى قبل الغزو الثاني للبنان ، وقبل عملية الرصاص المصبوب ، وحتى قبل صدور القوانين المناهضة لإحياء ذكرى النكبة أو معاقبة المدافعون عن المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات: "من المستحيل على الدولة أن تحافظ على ديمقراطية حقيقية وتحافظ في ذات الوقت على نظام قمع واحتلال "(24). وبعبارات ميمى ، تنتج مثل هذه التناقضات عند "المستعمِر الذى يقبل" ردة فعل "غضب وكراهية ,غالبا ما يتم تفريغها ضد المستعمَر البريء وفوق ذلك هو السبب الحتمي لحالته الدرامية هذه "(25). ويتجلى هذا الغضب في ما يسميه إيلان بابيه "الغضب المبرر أخلاقيا " بوصفه "ظاهرة دائمة في استحواذ إسرائيل ، وقبلها الصهيونية على فلسطين ". وهو للوهلة الأولى سبيل لإضفاء الشرعية على العنف المفرط ، و وسيلة تحمي من الرأي العام العالمي ، ومقياس "لعقلية الحصار" التي تميز جميع المستعمرات الاستيطانية ، حتى في لحظة هيمنتها و سطوتها المطلقة (26).
غضب المستوطنين في الطرف الآخر هو نقيض الغضب الداخلي للمستعمَر الذي يزعم [فرانز] فانون أنه قد أثر على سلوك السكان الاصليين والذي صدر في أعمال عنف غير عقلانية ضد طبيعته"(27). ويشدد ميمي على التأثير الثابت للرد "غير المتناسب" للمستوطنين ضد أي اعتداء أو على الأقل ضد أي إهانة . وكما يشير بابيه ، فإن مثل هذا الغضب يكمن وراء المجزرة المفرطة ضد المدنيين في غزة التي أسفرت عن مقتل عدد من الفلسطينيين يفوق بمائة ضعف مقدار القتلى من الجانب الإسرائيلي, و وراء المجزرة التي ارتكبت أيضا ضد المدنيين في جنوب لبنان في العام 2006 وفي الاستخدام المتكرر للأسلحة غير المشروعة مثل الفسفور الأبيض و قذائف الدايم من [غزو] بيروت في العام 1982 وصولا إلى[العدوان على] غزة في العام 2009.
وحاليا يعتبر الرد غير المتكافئ بمثابة العقيدة العسكرية الرسمية للجيش الإسرائيلي ، والمصمم ,كما يرى بعض الجنرالات, لخلق الانطباع أن إسرائيل قادرة على الرد "بجنون " بفائض دفاعاتها الخاصة ضد أي عدوان (28). غير أننا , وإذا تتبعنا معايير ميمي سوف نجد أن القبول غير النقدي لمثل هذا الرد في المجتمع الذي يدّعي أنه مجتمع ليبرالي وديمقراطي و يمتلك الجيش الأكثر أخلاقية في العالم ،إنما يستمد وجوده من صراع نفسي و مادي لمأزق المستوطنين ،فمثل هذا الرد غير المتكافئ يقتضي إبادة السكان الأصليين وليس مجرد تنظيمهم أو احتواهم . إذا كان "الغضب[الإسرائيلي] المبرر أخلاقيا " يجد له وقوداً سخيا ومميزاً في المسيانية الصهيونية ، فإن أنماطه ومظاهره الفعلية ليست غريبة على العقلية الاستعمارية الاستيطانية كما تعرفنا عليها و حللناها في مواقع أو حالات أخرى .
بالنسبة لمثال ميمي بخصوص "المستعمِر الرافض"، لاتعد الاستجابة النفسية أقل إثارة للقلق ، كما هو حال "المستعمِر اليساري بوصفه جزء من الجماعة المضطهِدة ،التي يتقاسم مصيرها مضطرا". وبناءً على ذلك فهو يشك في أنه "يتحمل مسؤولية جماعية من خلال حقيقة انتمائه لجماعة قمعية قومية" حتى لو لم يكن -كفرد- "مذنبا بأي شكل من الأشكال ". وهو-هي في سياق هذه المعضلة يرغب في إبداء تعاطفه ، أو على الأقل أن يكون جزء من "حوار" (صناعة الحوار اللامحدود في "عملية السلام") ، في القوت الذي يظل فيه غير قادر على التخلي عن الامتيازات الممنوحة له من الوضع الاستعماري أو المشروع الشامل للدولة المستعمِرة الاستيطانية التي ترتكز قيمها الحضارية المفترضة على القيم الأخلاقية التي تؤدي إلى رفض تجاوزاتها.وينشأ نتيجة ذلك "قلق المعضلة الأخلاقية , كما يصفها غروسمان (وهو أحد الأصوات الصهيونية الليبرالية المثالية) وذلك عندما يعلم " كل شخص في مكان ما يقع بعيدا […] أنه يرتكب ظلما أو يتواطأ معه "(29).
و الأمر بالنسبة للمستوطن الصهيوني سواء كان ذلك في حالة غضب أو شعور بالذنب ،أو ذم أو مهادنة ، أنه يواجه "وضعاً تاريخياً مستحيلاً" ، حيث "تحدد العلاقات الاستعمارية[باعتبارها مؤسسة] [...] مثلها مثل أي مؤسسة مكانه ومكانته ومكان و مكانة المستعمَر". بل تحدد في نهاية المطاف ، علاقتهما الحقيقية "(30). وسواء أحببنا ذلك أم لا ,تنصقل تناقضات المجتمع الاستعماري الاستيطاني التاريخية تلك باطراد في سياق عملية الانحدار التدريجي لهذا المجتمع إلى مجتمع أقل مرونة فأقل ، سواء بالنسبة للمستعمِر أو للمستعمَر الذي تقع على عاتقه هذه التناقضات. فما كان صحيحا بالنسبة للفرنسيين في الجزائر ، والوحدويين في إيرلندا الشمالية ، والأفريكان وغيرهم من البيض في جنوب أفريقيا ، يثبت أنه أكثر واقعية بالنسبة لإسرائيل.
وإذا كانت إسرائيل مستعمرة استيطانية ، فهي في الواقع نموذج عادي ومعياري في جميع النواحي تقريباً. ومع ذلك ، لا يمكننا أن نتغاضى عن حقيقة أن نموذج إسرائيل يتضمن حقيقة ترى أن "حالة الاستثناء" ليست سوى ممارسة نموذجية للمستعمرات الاستيطانية. بالنسبة لخاصية عقلية الحصار المستعمرة الاستيطانية تصدر في إعلان "حالة حصار" تحت ستار مجموعة من المسميات ، من تشريعات جيم كرو وصولا إلى إعلان الأحكام العرفية. ويكون المعطى في جميع الحالات الاستعمارية متمثلا في تعليق القانون في مواجهة المقاومة الشرعية أو العنيفة أو اللاعنيفة ، أو حتى الوجود المستمر للشعوب الأصلية المستعمَرة . ولكن بسبب الصلة اللصيقة و المميزة بين المستوطنين و السكان الأصليين ، فإن مثل هذا التعليق يتحول افتراضيا إلى عنصر أساسي في المجتمع الاستعماري الاستيطاني ، حيث يطغى على جميع علاقاته مثلما يشكل التكوين الجيولوجي العميق السمات الدائمة للمشاهد المكانية. وهكذا – جلبت الحكومة البريطانية إلى إيرلندة في الفترة بين 1800 حتى 1921 ,وفقا للناشط الحقوقي مايكل فاريل نحو 105 قانونا من قوانين الإكراه للتعامل مع إيرلندا. وهذا يعني أن استمرار فعلية و قوة مذكرات الجلب و المثول أمام القضاء كما كانت غالبا تعلق في إيرلندا في القرن التاسع عشر(31). وتواصلت هذه القوانين ،مع أشكال أخرى مختلفة من التمييز المقوننة ، في شكل قانون الصلاحيات الخاص الدائم في إيرلندا الشمالية في الفترة بين 1922-1972 ، في حين أن ايرلندا الشمالية كانت لا تزال مدمجة من الناحية الاسمية في المملكة المتحدة ، وبالتالي تأكيد وإضفاء الطابع المؤسسي على الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للدولة على الرغم من ادعاءاتها بالحالة الديمقراطية. كان هذا القانون بدوره مسعى هندريك فيرفورد رئيس وزراء جنوب إفريقيا ومهندس الفصل العنصري هناك ، الذي كان سيرغب بمقايضة عبارة واحدة منه بكل قانون الأبارتيد مجتمعا (32). وبصورة مماثلة حافظت إسرائيل على "لوائح الطوارئ" الانتدابية البريطانية التي لا غنى عنها والتي تم نشرها باستمرار لأغراض الرقابة أو هدم المنازل أو ترحيل الفلسطينيين (33).
تسلط استمرارية القانون الاستعماري الضوء على الطوبولوجيا المميزة لحالة الطوارئ الاستعمارية الاستيطانية التي تخلق معيارا يبدو في النهاية كاستثناء. ويمكننا ، في حقيقة الأمر أن نطالع بدء من عقلية الحصار للدولة المستعمرة الاستيطانية إلى "حالة الحصار" التي تتزايد تعميمًا والتي تحكم الحياة الفلسطينية دائمًا باسم أمن إسرائيل ، أو أمن مستوطنيها الذين يزرعون الإحساس بالحصار وبالتهديد الوجودي. ومع ذلك ، فالفلسطينيون هم من يحتل الموقع الطوبوغرافي المميز داخل هذا التخييل للحصار كونهم خارجين .لاحظ [إدوارد]سعيد المصير الشاذ للفلسطينيين الذين بقوا في إسرائيل بعد العام 1948 بقوله أن "كل ما تبقى لتحدي إسرائيل لم يُنظر إليه على أنه شيء "هناك" ، وإنما كدليل على شيء "خارج" إسرائيل وخارج الصهيونية يسعى لتدميرها - من الخارج "(34). وتم توسيع هذا الشرط الشاذ ليشمل فلسطين المحتلة بعد أن اصبحت [الأرض] أكثر فأكثر ضمن حدود إسرائيل غير المعلنة. وبقدر ما يستمر تجزئة فلسطين واحتلالها وحصارها (ويبدو أن هذا الأمر يمضي قدما) تُدمج فلسطين داخل إسرائيل ككيان غريب دائم الوجود مثل توالد الطيات داخل حدودها غير المعلنة. ومع ذلك ، هذه الأراضي المحاصرة يتم تصورها على أنهم يحاصروها . وكما تصف نعومي كلاين الأمر ببلاغة ، "لقد حولت دولة بأكملها نفسها إلى مجتمع مسور محصن ، محاط بأشخاص محاصرين يعيشون في مناطق حمراء مستبعدة بشكل دائم"(35).هذا التأثير للداخل المستبعد ،يكون مرئي ظاهريا في أي خريطة معاصرة لفلسطين المحتلة والمستوطنات الإسرائيلية غير القانونية التي تقسمها إلى قطع من أرخبيل يتوافق مع طوبولوجيا الاستثناء. وكما يصف جورجيو أغامبين البنية الطوبولوجية للاستثناء في ما هو الآن صيغ كلاسيكية: تمثل حالة الاستثناء إدراج واستيعاب فضاء ليس بالداخل و ليس بالخارج […].. أن يكون خارجا ومع ذلك منتميا : هذا هو الهيكل الطوبولوجي لحالة الاستثناء (36).
تظهر دولة الاستثناء كنوع من النتوء الكارثي ، ذلك المجال الذي يختفي ، ويمتد تحت الخريطة الطوبولوجية ، ومع ذلك يستمر تأثيره ، ليكون موضع التغيير وعدم الاستقرار. وتبدو طوبولوجيا الاستثناء بالنسبة لآراء أغامبين (المبنية هنا على خطى كتابات كارل شميت حول السيادة و "القرار" في حالة الطوارئ مع الإشارة إلى الدولة الأوروبية و النظرية القانونية) من الأساس آراء نظرية و تطرح جملة من الأسئلة فيما يتعلق بالدور التأسيسي لتعليق القانون في جوهر القانون نفسه. وحالما تعتبر دولة الاستثناء من ضمن القانون, فإنها تؤخذ بعين الاعتبار من قبل القانون ، وحتى خارج القانون فلا تحكمها أو يمكن أن تحكمها إجراءات قضائية ، لأنها هي تعليق للقانون.وفي هذا الصدد ، فإن دولة الاستثناء تكرر العنف الذي تتشكل فيه الدولة ، وهو العنف الذي يحدد القانون ولكن من خلال عملية مستمرة في القانون ومن خلال قانون يفضل القانون أن يهمله(37).وبالتالي يمكننا القول بتوسيع بسيط لحجج أغامبين ، أن دولة الاستثناء هي حقيقة القانون ،وهي حقيقة غيابه غير المعترف به لكنه الأساس الدائم لها. وبينما يسعى أغامبين إلى تجسيد ما كان طبولوجيا خطابية أو نظرية للاستثناء ، فإن "المعسكرات " [ مراكز الإبادة في الهولوكوست] تظهر كمثال نموذجي لها ، فهي مواقع حيث تتركز منطقة الاستبعاد الداخلية على أولئك الذين اختزلوا إلى ما يسميه "الحياة العارية ". وكما أشار الكثيرون ، في تركيزهم على التدمير النازي لليهود الأوروبيين وعلى مثال محدد هو أوشفيتز ، يتجاهل أغامبين التاريخ الطويل للإبادة الجماعية والهيمنة الاستعماريتين التي تم فيها تطوير تقنيات وفضاءات الهولوكوست أولا (38). وبرفضه صراحة لاهتمام المؤرخين بأصل معسكر الاعتقال والمواقع ذات الصلة في مجتمعات استعمارية أو مزارع استيطانية محددة ورؤيتهم ، كآثار عرضية "لحالة الاستثناء المرتبطة بالحرب الاستعمارية" (ما بين قوسين من عندي ) ، يتجاهل أغامبين السوية المطلقة لدولة الاستثناء في ظل النظم الاستعمارية. ويستمر بالتالي في القول بفردانية المعسكر النازي فيما يتعلق بدولة الاستثناء: المعسكر هو الفضاء الذي ينفتح عندما تستحيل دولة الاستثناء إلى قاعدة . وبهذا ، تستحوذ دولة الاستثناء ، التي كانت في الأساس تعليقًا مؤقتًا لدولة القانون ، على ترتيب مكاني دائم لتبقى بالتالي خارج دولة القانون على الدوام (39).
يصف أغامبين هذه البنية الطوبولوجية المادية للمعسكر ، على الرغم من أنه يجسّد بشكل ملموس التناقضات النظرية لدولة الاستثناء التي تقف على "عتبة" القانون ، باعتباره أرضًا "يتم الاستيلاء عليه من الخارج ، أي أنه متضمنا بموجب استبعاده الشديد "(40). إذا كانت "منطقة التمييز بين الخارج والداخل" قد أصبحت "البنية التي تتحقق فيها دولة الاستثناء بشكل دائم" ، فمن المهم أن ندرك أن كل من دولة الاستثناء والمستبعدين داخليا كانوا العناصر التأسيسية للاستعمار ، وخاصة التكوينات الاستعمارية الاستيطانية ، من المحميات الهندية وصولا لمنظومة البانتوستونات وقوانين العبور ، ومن الاستخدام المنتظم لحجز الفيليبينيين من قبل كل من إسبانيا والولايات المتحدة إلى مزارع العبيد وعمارتها الحديثة المبكرة. لقد وفر قانون الاستعمار والمزارع منذ زمن طويل الوسائل التي حرم تماما من خلالها السكان المستعمَرون والمستعبدين "من حقوقهم وامتيازاتهم إلى درجة أن ارتكاب أي فعل تجاههم لم يعد يظهر له بوصفه جريمة"(41).بينما مثلت المعسكرات النازية تركيزًا خبيثًا غريبًا لمثل هذه التقنيات ، تم تزييفها في المختبرات الاستعمارية أكثر مما هو عليه الحال في المؤسسات التأديبية الحديثة ، ولم تكن فريدة من نوعها كما يحاول أن يزعم أغامبين ، ولم يكن المعسكر بمعناه هو المسار الوحيد الذي استمرت معه الأنظمة الاستعمارية الاستيطانية أو يمكن من خلاله أن تظهر الحالة الاستثنائية نفسها كمعيار دائم. وكما يقول أشيل مبيمبي ، فإن "الروابط بين الحداثة والإرهاب تنبع من مصادر متعددة" ، ولا يمكننا أن نتغاضى عن صلة القرابة الاستعمارية لما يجب أن نراه كتطبيع للاستثناء.
وإذن , إذا كان إعلان الطوارئ الوسيلة التي يستطيع بموجبها النظام الاستعماري الاستيطاني أن يبرر استنكاره لدولة استثناء معممة ودائمة فعليًا ، فإن الاستثناء كان محكومًا بدرجة أقل بغياب القانون أو التعليق المطلق له أكثر من كونه محكوما بعدد لا يحصى من البروتوكولات القانونية وشبه القانوني الموضوعة لمأسسة تنظيم الاستثناء . ومن المؤكد أن ما أعلن عنه في مستعمرة المستوطنين ، في إسرائيل / فلسطين ، هو نفسه دولة استثناء تحددها إلى حد كبير رغبة إسرائيل الملحة في تطبيع الوضع الاستثنائي لنظام احتلالها بما يتفق مع القانون. وفي غياب الإعلان الفعلي عن حالة الطوارئ ، فما ينتج هو انتشار وليس تعليق للقانون. إن نظام التصاريح والإغلاق والضوابط والطرد والهدم ، كل ذلك يتم وفقاً لشبكة من القانون المدني والمرسوم العسكري ، ثمة نحو "5000 أمر عسكري إسرائيلي ، ينظم حياة الفلسطينيين" ، والتي تشكل النظير القانوني للعقبات المادية والفيزيقية للحركة في الأراضي المحتلة ، كل هذه المعيقات وصفها بدقة ساري مقدسي (42). إن ما يصفه مقدسي بـ "تنظيم إسرائيل المفرط للحياة اليومية" يتوافق مع ما وصفه ناصر حسين بنظام الفظاظة الذي يصور حالة مكافحة الإرهاب المعاصرة: تكاثر القوانين والفئات القضائية بدلاً من حالة الشذوذ التي يستكشفها أغامبين (43).
من خلال هذا الملحق لنموذج أغامبين ، يمكننا أن ندرك أن ما أصبح معيارا معمما على مستوى العالم هو الجمع بين نظام فرط التقنين و الطوبولوجيا المتنوعة والاحتضان الذاتي لـ "مناطق الاستبعاد" لتشكيل نموذج لـ" دولة استثناء" جديدة . وكما يقول أغامبين ، "لقد أصبح الخلق الطوعي لحالة طوارئ دائمة (رغم عدم الإعلان عنها بالمعنى التقني) أحد الممارسات الأساسية للدول المعاصرة ، بما في ذلك ما يسمى بالدول الديمقراطية" (44). وهو بالنسبة لـه, النموذج النازي الذي أصبح معممًا. وتقترح نعومي كلاين نموذجاً آخر للتطبيع العالمي للاستثناء والتقنيات التي صقلت في دولة الاستيطان , فالنسبة لها ,أصبحت إسرائيل مثالاً على هذه الحالة الاستثنائية المعمّمة ، حيث قدمت نموذج "الدولة الأمنيّة المتقدّمة "(45). ولكي تصبح إسرائيل على هذه الدرجة العالية من التقدم الأمني، أجبرت مناطق الضفة الغربية وغزة على أن تصبح " المختبر لصراع إقليمي وحضري يمكن أن يحدث في أماكن أخرى" كما يرى المهندس المعماري و المنظر إيال وايزمن. فهذه المناطق لا تؤثث فقط تقنيات المراقبة(كما تلاحظ كلاين بشكل ملموس) بل تقدم أيضا التنظيم المكاني للسيطرة السياسية, وبالنسبة لوايزمن يصوغ الاحتلال والاستيطان المتواصل غير الشرعي "شكل نسيج المنازل و البنى التحتية بصورة محبوكة و لصيقة "- كأفعال للاستبعاد المكاني الذي يخلق أسافين تفصل موطن السكان المصنفين" كخارجين" من الناحية السياسية وينظر إليهم على أنهم تهديد سياسي "(46). ويمكننا باستخدام نموذج وايزمن تتبع الصلات بين طوبولوجيا الاستبعاد المقيَّد هذه والاستثناء لدى مستعمرات المستوطنين السابقة في الجزائر وجنوب أفريقيا ، وأضيف ، في إيرلندا الشمالية ، التي تظهر استمرار استيراد الممارسات الاستعمارية إلى المتروبول ، من تقنيات مكافحة التمرد الحضرية التي تم إنشاؤها في القرن التاسع عشر في الجزائر إلى تقنيات المراقبة المتقدمة في بلفاست والتي أصبحت الآن في لندن وبرمنغهام. وتماشيا مع هذه الصلات ، يبدو التناقض الظاهري بين ادعاء إسرائيل بأنها ديمقراطية ليبرالية سوية ووضعيتها الظاهرة للعيان كمجتمع استعماري استيطاني من خلال قرارات جارية حتى الساعة تهدف إلى نزع ملكية أراضي السكان الأصليين بطريقة تدعو للتشاؤم .
تفرض إسرائيل بشكل دائم تلك الحالة الاستثنائية التي وجدها بنيامين لتكون المعيار التاريخي للمضطهدين (47).وبهذا لم تعد استثنائية ، رغم أنها قد تقدم لدول أخرى نموذجًا أكثر تقدمًا لمستقبل السيادة يصبح فيه التمييز الفستفالي بين الأشخاص الأخلاقيين في الداخل والمتوحشين خارج القانون على نحو متزايد بمثابة علاقة الاستبعاد عن طريق الاشتمال ،إذا ما رغبنا بالقيام بتعديل طفيف على مقولة أغامبين.
وإذن ، مع قيام الدول النيوليبرالية بإدارة ودعم الملكية الخاصة للموارد العامة داخل أراضيها على نحو متزايد كما فعلت الدول الليبرالية فيما يتعلق بالدول الاستعمارية والمستعمرات الجديدة خارجها بينما تواجه بشكل متزايد الغزارة في شرائح كبيرة من سكانها ، وهكذا تصبح طبولوجيا وبروتوكولات حالة الاستثناء أكثر اعتياداً. وتقدم إسرائيل بالنسبة لهذا المعيار الجديد النموذج الأكثر أهمية ونضجًا: بعد أن نجحت في دمج الأراضي المحتلة ضمن حدودها غير المعلنة باعتبارها مستثناة منها ، فقد قسمت السكان إلى مستوطنين دائمين يتمتعون بامتيازات ومتبقين فلسطينيين زائدين عن الحاجة حيث تمارس حكم الأمر الواقع على كامل خطوط الفصل العنصري [الأبارتيد].
تعد التقنيات والتكنولوجيات التي تحتفظ بها وتطبق حكمها الاستعماري ، والبعيدة كل البعد عن التسبب في فضيحة للديمقراطيات الغربية ،مرغوبة و يتم شراؤها من قبلهم وكما تشير كلاين ، يعتمد ازدهار إسرائيل الاقتصادي على تطوير تقنيات القمع في مختبر الأراضي المحتلة وتصديرها إلى العالم الليبرالي الجديد ؛ وقد استفاد افتراضيا كل قسم شرطة رئيسي في الولايات المتحدة من هذه التعليمات التقنية في التنميط العنصري وغيره من أساليب مكافحة الإرهاب (48).
وفي هذا الصدد ، تقدم مستعمرة المستوطنين ، التي تدير دولتها الاستثنائية الدائمة ، نموذجاً لمستقبل الدول الليبرالية الجديدة على مستوى العالم ، ليس أقله تلك الدول التي انسحبت من مستعمراتها ولكنها لم تتخل عن تاريخها الاستعماري الاستيطاني. وقد تنجم مخاوفنا من أن يتم تسليط الضوء على ذلك المعيار التاريخي من نموذج دولة الاستثناء ,أي إسرائيل / فلسطين إلى الشكل المعمم لمستقبلنا الجماعي. فإذا كان الأمر كذلك ، فإن هذا يبرر بسخرية مطالبة إسرائيل بأن تكون دولة غربية سوية ، وإن لم يكن بالمعنى الذي يرغب مؤيديها في تعيينه . قد يكون أملنا في أن مقاومة الفلسطينيين المستمرة والتي لا تهزم لترحيلهم والاستحواذ على أرضهم و استعمارها تقدم نموذجًا مضادًا وإلهامًا قد تظهر فيه بذور مستقبل بديل.
......................
العنوان الاصلي للمقالة : Settler Colonialism and the State of Exception: The Example of Palestine/Israel
المؤلف: David Lloyd
تاريخ النشر:2012
الناشر: https://doi.org/10.1080/2201473X.2012.10648826
ترجمة:محمود الصباغ
ملاحظات
1 Dario Battistella, The Return of the State of War: A Theoretical Analysis of Operation Iraqi Freedom (Colchester: ECPR Press, 2008), p. 5. Battistella notes here that among the exceptions to this norm is Israel/Palestine.
2 Battistella, Return of the State of War, p. 85.
3 Edward W. Said, ‘Zionism from the Standpoint of its Victims’, Social Text, 1 (1979), p. 29.
4 For this term, which designated ‘Palestinian refugees who were wandering about the state of Israel [after the Nakba], homeless and stateless’, and therefore subject to deportation by Israel, see Ilan Pappé, A History of Modern Palestine, 2nd edition (Cambridge: Cambridge University Press, 2006), p. 157. Present absentees included the poet Mahmoud Darwish and his family. On the ethnic cleansing of Palestine, see Pappe, Modern Palestine, pp. 122-140, and, in greater detail, Ilan Pappé, The Ethnic Cleansing of Palestine (Oxford: Oneworld Publications, 2006).
5 Said, ‘Zionism’, p. 23. For a similar genealogy of Zionist settlement, see Avi Shlaim, The Iron Wall: Israel and the Arab World (New York: Norton, 2000), pp. 1-27.
6 Theodor Herzl, The Jewish State, cited in Abu-Manneh Bashir, ‘Israel in the U.S.Empire’, Monthly Review, 58, 10 (2007). Available at: http://monthlyreview.org/2007/03/01/israel-in-the-u-s-empire Accessed:12/11/11. On the attitudes to the Palestinians and the colonial project, from Chaim Weizman and Ze’ev Jabotinsky to David Ben Gurion, see Shlaim, The iron Wall, pp. 7-19.
7 Denise da Silva, ‘No-Bodies: Law, Raciality, and Violence’, Griffith Law Review 18,2 (2009), pp. 214-219.
8 Shlaim, The Iron Wall, p. 5.
9 Benedict Anderson, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism, revised edition (London: Verso, 2006), pp. 9-36. For a detailed, if largely antagonistic account of the genealogy of modern European nationalism from Herder and, in particular, Fichte, see Elie Kedourie, Nationalism (London: Hutchinson, 1960).
10 Jacqueline Rose, The Question of Zion (Princeton: Princeton University Press, 2005), pp. 33, and 42-43. Rose elaborates the logic of messianism’s interweaving with secular Zionism – to the extent that even socialists like Ben Gurion are finally absorbed by its language – throughout the chapter entitled ‘Zionism as Messianism’, pp. 1-57.
11 Rose, Question of Zion, pp. 48-52.
12 For only one example of how such religious claims saturate the discourse on Israel, see Benjamin Netanyahu’s speech to the US Congress, May 24, 2011: ‘This is the land of our forefathers, the Land of Israel, to which Abraham brought the idea of one God, where David set out to confront Goliath, and where Isaiah saw a vision of eternal peace. No distortion of history can deny the four thousand year old bond, between the Jewish people and the Jewish land’. Re-print-ed in the Jerusalem Post, http://www.jpost.com/LandedPages/-print-Article.aspx?id=222056 Viewed:13/08/11.
13 See Uri Ram, ‘The Colonization Perspective in Israeli Sociology’, in Ilan Pappé (ed.), The Israel/Palestine Question: A Reader, second edition (London and New York, Routledge 2007), pp. 53-79. For a comparative, exploration of the settler colonial paradigm as an explanatory framework for Israel and Palestine, see Lorenzo Veracini, Israel and Settler Society (London: Pluto, 2006), pp. 16-40 and passim.
14 Shlaim, The Iron Wall, p. 2. Lloyd, ‘Settler Colonialism and the State of Exception’
15 Patrick Wolfe, ‘Race and the Trace of History: For Henry Reynolds’ in Fiona Bateman and Lionel Pilkington (eds), Studies in Settler Colonialism: Politics, Identity and Culture (London: Palgrave Macmillan, 2011), pp. 275-77 and passim.
16 Ram, ‘Colonization Perspective’, pp. 64-70.
17 Neve Gordon, Israel’s Occupation (Berkeley and Los Angeles: University of California Press, 2008), pp. 11-21.
18 Albert Memmi, The Colonizer and the Colonized (Boston: Beacon Press, 1967), pp. 70, 74.
19 Memmi, The Colonizer and the Colonized, p. 71.
20 On Jabotinsky, see Shlaim, The Iron Wall, pp. 11-16.
21 Memmi, The Colonizer and the Colonized, p. 67 On founding Zionist leaders’ attitudes to the Arabs of Palestine and often pragmatic affiliation with Western powers, see Shlaim, The Iron Wall, pp. 1-27, and Said, ‘Zionism’, pp. 21-29.
22 Shlaim, The Iron Wall, p. 4.
23 Memmi, The Colonizer and the Colonized, p. 62.
24 David Grossman, ‘Contemplations on Peace’, in David Grossman, Writing in the Dark: Essays on Literature and Politics (New York: Picador, 2008), p. 115.
25 Memmi, The Colonizer and the Colonized, pp. 66-67.
26 Ilan Pappé, ‘Israel’s righteous fury and its victims in Gaza’, Electronic Intifada, 2 (2009). Available at: http://electronicintifada.net/content/israels-righteous-furyand-its-victims-gaza/7912 Accessed: 08/08/11.
27 Frantz Fanon, ‘Concerning Violence’, in Frantz Fanon, The Wretched of the Earth, (New York: Grove Press, 1968), pp. 54-55.
28 On the Israeli military thinking ‘like serial killers’, see Eyal Weizman, Hollow Land: Israel’s Architecture of Occupation (London: Verso, 2007), p. 197, citing Brigadier General Shimon Naveh. On the association of the peculiar destructive violence of Zionsim and its messianic entanglements, see Rose, Question of Zion,pp. 42-47.
29 Grossman, Writing in the Dark, p. 103.
30 Memmi, The Colonizer and the Colonized, pp. 38-9.
31 Michael O’Farrell, quoted in Mike Tomlinson, ‘Imprisoned Ireland’, in Vincenzo Ruggiero, Mick Ryan, and Joe Sim (eds), Western European Penal Systems: A Critical Anatomy (London: Sage, 1995), p. 196.
32 See, for this widely disseminated comment, Ed Moloney, ‘Israel has taken over from Northern Ireland as a factory of grievances’, Mondoweiss, January 24, 2011.Available at: http://mondoweiss.net/2011/01/israel-has-taken-over-from-northernireland-as-a-factory-of-grievances.html Accessed: 08/08/2011.
33 Gordon, Israel’s Occupation, pp. 36 and 52. On the history of British emergency legislation, see Nasser Hussain, The Jurisprudence of Emergency: Colonialism and the Rule of Law (Ann Arbor: University of Michigan Press, 2003).
34 Said, ‘Zionism’, p. 33.
35 Naomi Klein, ‘Losing the Peace Incentive: Israel as Warning’, in Naomi Klein, The Shock Doctrine: The Rise of Disaster Capitalism (New York: Picador, 2007), p. 558.
36 Giorgio Agamben, State of Exception (Chicago: University of Chicago Press, 2005), p. 35.
37 Agamben sees Schmitt’s thinking of the exception as involved in a dialogue with WBenjamin’s 1921 essay, ‘Critique of Violence’, which elaborates the relation between violence and ‘law-making’. See Benjamin, ‘Critique of Violence’, in WBenjamin, Reflections: Essays, Aphorisms, Autobiographical Writings (New York,1978), pp. 283-287, and Agamben, State of Exception, pp. 52-64.
38 See especially Achille Mbembe, ‘Necropolitics’, Public Culture 15, 1 (2003), pp.11-40.
39 Giorgio Agamben, ‘What is a Camp?’, in Giorgio Agamben, Means without Ends:Notes on Politics (Minneapolis: Minnesota University Press, 2000), pp. 37 and 38 (Agamben’s emphasis).Lloyd, ‘Settler Colonialism and the State of Exception’
40 Agamben, ‘What is a Camp?’, p. 39 (Agamben’s emphasis).
41 Agamben, ‘What is a Camp?’, p. 40. For a thoroughgoing demonstration of the genealogy of modern law and carceral practice from slavery, see Colin Dayan, The Law is a White Dog: How Legal Rituals Make and Unmake Persons (Princeton, NJ:Princeton University Press, 2011).
42 Saree Makdisi, Palestine Inside Out: An Everyday Occupation (New York: Norton, 2008), p. 6.
43 Makdisi, Palestine Inside Out, p. 6 Nasser Hussain, ‘Hyperlegality’, New Criminal Law Review, 10, 4 (2007), pp. 514-531.
44 Agamben, State of Exception, p. 2.
45 Naomi Klein, ‘Losing the Peace Incentive’, p. 551.
46 Eyal Weizman, interviewed by Philipp Misselwitz, ‘Military Options as Human Planning’, in Eduardo Cadava and Aaron Levy, Cities Without Citizens (Philadelphia: Slought Books, 2003), pp. 195-6. For a more extensive exploration of the spatiality of Israel’s occupation, see also Eyal Weizman, Hollow Land, chaps 4 and 5.
47 WBenjamin, ‘Theses on the Philosophy of History’, in WBenjamin, Illuminations: Essays and Reflections, (New York: Schocken Books, 1968), p. 257.
48 Klein, ‘Israel as Warning’, pp. 549-557.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصف إسرائيلي على مركز رادارات في سوريا قبيل الهجوم على مدينة


.. لماذا تحتل #أصفهان مكانة بارزة في الاستراتيجية العسكرية الإي




.. بعد -ضربة أصفهان-.. مطالب دولية بالتهدئة وأسلحة أميركية جديد


.. الدوحة تضيق بحماس.. هل تحزم الحركة حقائبها؟




.. قائد القوات الإيرانية في أصفهان: مستعدون للتصدي لأي محاولة ل