الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لسلام العالمي (2)

راندا شوقى الحمامصى

2018 / 7 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إِنَّ النِّعَم التي اختُصَّ بها الإنسان مُمَيِّزةً إِيّاه عن كلّ نوع آخر من المخلوقات يمكن تلخيصها في ما يُعرف بالنّفس البشريّة، والعَقْلُ هو الخاصيّة الأساسيّة لهذه النّفس. ولقد مَكَّنَتْ هذه النِّعَمُ الإنسان من بِناء الحضارات، وبلوغ الرّفاهيّة والازدهار الماديّ،
ولكنّ النّفس البشريّة ما كانت لتكتفي بهذه الإنجازات وَحْدَها. فهذه النّفس بحُكم طبيعتها الخفيًّة تَوَّاقَةٌ إلى السّموّ والعلاء، تتطلّع نحو رِحاب غير مرئيّة، نحو الحقيقة الأسمى، نحو هذا الجوهر الذي لا يمكن إدراك سِرِّه، جوهر الجواهر الذي هو الله سُبْحانَه وتَعَالى. فالأديان التي نُزِّلت لهداية الجنس البشريّ بواسطة شموسٍ مُشْرِقةٍ تَعاقَبَتْ على الظّهور كانت بمثابة حَلْقة الوَصْل الرّئيسيّة بين الإنسان وتلك الحقيقة الأسمى. وقد شَحَذت هذه الأديان قدرة الإنسان وهَذَّبتها لِيُتَاحَ له تحقيق الإنجازات الرّوحيّة والتّقدّم الاجتماعيّ في آنٍ معاً.
وليس في إمكان أيّة محاولة جدِّية تهدف إلى إصلاح شؤون البشر، وتسعى إلى إحلال السّلام العالميّ، أن تتجاهل الدّين. فلقد حاك التّاريخُ إلى حدٍّ بعيد نسيجَ ردائه من مفهوم الإنسان للأديان وممارستِهِ لها. وقد وصف أَحد المؤرِّخين البارزين الدّين بأنه "إحدى قدرات الطّبيعة الإنسانيّة"، ومما يَصْعب إنكاره هو أَنَّ إفساد هذه القدرة قد أَسهم في خَلْق كثيرٍ من البلبلة والاضطراب في المجتمع الإنسانيّ، وزَرَعَ الصّراع والخصام بين أفراد البشر وفي نفوسهم. كما أَنَّه ليس في إمكان أيّ شاهد مُنْصِف أن ينتقص من الأثر البالغ للدّين في المظاهر الحضاريّة الحيويّة، يُضاف إلى ذلك، أَنَّ الأثر المباشِر للدّين في مجالات التّشريع والأخلاق قد برهن تِباعاً على أنّه عاملٌ لا يمكن الاستغناء عنه في إقرار النّظام في المجتمع الإنسانيّ.
فقد كتب بهاءالله عن الدّين كعامل اجتماعيّ فعّال قائلاً: "إِنَّه السّبب الأعظم لنَظْم العالم واطمئنان من في الإمكان". وأَشار إلى أُفول شمس الدّين أو فساده بقوله: "فلو احتجب سِراج الدّين لتطرَّق الهرج والمرج وامتنع نَيِّر العدل والإنصاف عن الإشراق وشمسُ الأمن والاطمئنان عن الإِنوار". والآثار البهائيّة تُقرِّر في تَعْدادها وحَصْرها للنتائج المُترتِّبة على مثل هذا الفساد بأنَّ "انحراف الطّبيعة الإنسانيّة، وانحطاط السّلوك الإنسانيّ، وفساد النُّظُم الإنسانيّة وانهيارها، تَظْهر كلّها في مثل هذه الظّروف على أبشع صورة وأكثرها مَدْعَاةً للاشمئزاز. ففي مثل هذه الأحوال ينحطّ الخُلُق الإنسانيّ، وتتزعزع الثّقة، ويتراخى الانتظام، ويَخْرَس الضّمير، ويغيب الخجل والحياء، وتندثر الحشمة والأدب. وتعوجّ مفاهيم الواجب والتّكاتف والوفاء والإخلاص وتَخْمُد تدريجيّاً مشاعر الأمل والرّجاء، والفرح والسّرور، والأمن والسّلام".
إِذن، فإذا كانت الإنسانيّة قد وصلت إِلى هذا المنعطف من الصّراع الذي أصابها بحالة من الشّلل، فإنّه بات لِزاماً عليها أنْ تثوب إلى رشدها، وتنظر إلى إِهمالها، وتُفكِّر في أمر تلك الأصوات الغَاوية التي أَصْغَتْ إِليها، لكي تكتشف مصدر البلبلة واختلاف المفاهيم التي تُروَّج باسم الدّين. فأولئك الذين تمسّكوا لمآرب شخصيّة تمسُّكاً أعمى بحَرْفيَّةِ ما عندهم من آراء خاصة مُتزمِّتَة، وفرضوا على أتباعهم تفسيرات خاطئة متناقضة لأقوال أنبياء الله ورسله – إِنَّ أولئك يتحمّلون ثِقْل مسؤوليّة خلق هذه
البلبلة التي ازدادت حِدَّةً وتعقيداً بِمَا طرأ عليها من حواجز زائفة اختُلِقت لتَفْصِلَ بين الإيمان والعقل، وبين العِلم والدّين. وإذا راجعنا بكلّ تجرُّد وإنصاف ما قاله حقّاً مؤسِّسو الأديان العظيمة، وتَفَحَّصْنا الأوساط التي اضطُرّوا إلى تنفيذ أعباء رسالاتهم فيها، فلن نجد هناك شيئاً يمكن أن تَسْتَنِد إِليه النّزاعاتُ والتّعصّباتُ التي خَلَقت البلبلة والتّشويش في الجامعات الدّينيّة في العالم الإنسانيّ وبالتّالي في كافّة الشّؤون الإنسانيّة.
فالمبدأ الذي يفرض علينا أن نُعامِلَ الآخَرين، كما نُحِبّ أن يُعامِلَنا الآخَرون، مبدأٌ خُلُقِيّ تكرَّر بمختلف الصّور في الأديان العظيمة جميعاً، وهو يؤكّد لنا صِحَّة الملاحظة السّابقة في ناحيتَيْن مُعيَّنتَيْن: الأُولَى، أنّه يُلخِّص اتِّجاهاً خُلُقِيّاً يختصّ بالنّاحية التي تؤدّي إلى إحلال السّلام، ويمتدّ بأصوله عبر هذه الأديانِ بغَضّ النّظر عن أماكن قيامها أو أوقات ظهورها، والثّانية، أنّه يشير إلى ناحيةٍ أُخْرَى هي ناحية الوحدة والاتِّحاد التي تُمثِّل الخاصيّة الجوهريّة للأديان، هذه الخاصيّة التي أَخْفَقَ البشر في إدراك حقيقتها نتيجةَ نَظْرَتهم المُشوَّهة إلى التّاريخ.
فلو كانت الإنسانيّة قد أدركت حقيقة أولئك الذين تولَّوا تربيتها في عهود طفولتها الجماعيّة كمُنفِّذين لمسيرِ حضارةٍ واحدة، لجَنَتْ دون شكّ من الآثار الخَيِّرة، التي اجتمعت نتيجة تَعَاقُب تلك الرّسالات، محصولاً أكبر من المنافع التي لا تُحْصَى ولا تُعَدّ. ولكن الإنسانيّة فَشِلَت، ويا للأسف، في أن تفعل ذلك.
إِنَّ عودة ظهور الحَمِيَّة الدّينيّة المُتطرِّفة في العديد من الأقطار لا تعدو أن تكون تشنُّجاتِ الرَّمَق الأخير. فالماهيّة الحقيقيّة لظاهرة العنف والتّمزُّق المتَّصلة بهذه الحميّة الدّينيّة تشهد على الإفلاس الرّوحيّ الذي تُمثِّله هذه الظّاهرة. والواقع أَنَّ من أغرب الملامح الواضحة وأكثرها مدعاةً للأسف في تفشِّي الحركات الرّاهنة من حركات التّعصّب الدّينيّ هي مدى ما تقوم به كلّ واحدة منها ليس فقط في تقويض القِيَم الرّوحيّة التي تسعى إلى تحقيق وحدة الجنس البشريّ، بل وتلك الإنجازات الخُلُقِيّة الفريدة التي حقَّقها كلّ دين من هذه الأديان التي تدّعي تلك الحركات أنّها قائمة لخدمة مصالحها.
ورَغْمَ ما كان للدّين من قوّة حيويّة في تاريخ الإنسانيّة، ورغم ما كان لظهور الحميّة الدّينيّة أو حركات التّعصّب المتَّصفة بالعنف من آثارٍ تُثير النّفوس، فقد اعتبر عددٌ متزايدٌ من البشر، حِقَباً طويلةً من الزّمن، أنَّ الأديان ومؤسَّساتها عديمةُ الفائدة ولا محلّ لها في الاهتمامات الرّئيسيّة للعالم الحديث. وبدلاً من الاتِّجاه نحو الدّين اتَّجه البشر إِمّا نحو لَذَّة إشباع أطماعهم الماديّة، أو نحو اعتناق مذاهب عقائديّة صَنَعَها الإنسان بُغْيَةَ إِنقاذ المجتمع الإنسانيّ من الشّرور الظّاهرة التي يَنُؤ بحَمْلِها. ولكنّ المؤسف أنّ مذاهب عقائديّة متعدِّدة اتَّجهت نحو تأليه الدّولة، ونحو إخضاع سائر البشر لسَطْوَة أُمَّةٍ واحدة من الأُمَم، أو عِرْقٍ من الأعراق، أو طَبَقَةٍ من الطّبقات، بَدَلَ أن تَتَبَنَّى مبدأ وحدة الجنس البشريّ، وبَدَلَ أن تعمل على تنمية روح التّآخي والوئام بين مختلف النّاس. وباتت تسعى إلى خَنْق كلّ حوار ومَنْع أي تَبادُل للرّأي أو الفكر، وذهبت إلى التّخلِّي دون شفقة عن الملايين من الذين يموتون جوعاً تاركةً إِيّاهم تحت رحمة نظام سوق المعاملات التّجاريّة الذي يزيد بوضوحٍ من حدَّة المحنة التي يعيشها معظم البشر، بينما أَفسحت المجال لِقطاعات قليلة من النّاس لأن تتمتَّع بتَرَفٍ وثراءٍ قلَّما تصوَّرهما أسلافنا في أحلامهم.
فكم هو فاجعٌ سِجِلُّ تلك المذاهب والعقائد البديلة التي وضعها أولو الحكمة الدُّنيويّة من أهل عصرنا. ففي خِضَمِّ خَيْبَة الأمل الهائلة لدى مجموعات إنسانيّة بأسرها، لُقِّنت الأماثيل لتتعبَّد عند محاريب تلك المذاهب، نَستقرئ عِبْرَة التّاريخ وحُكْمَه الفاصل على قِيَم تلك العقائد وفوائدها. إِنَّ المحصول الذي جَنَيْنَاه من تلك العقائد والمذاهب هو الآفات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي نُكِبت بها كلّ مناطق عالمنا في هذه السّنوات الختاميّة من القرن العشرين، وذلك بعد انقضاء عقودٍ طويلة من استغلالٍ متزايد للنّفوذ والسّلطة على يد أولئك الذين يَدينون بما حققوه من سُؤدَد وصعود في مجالات النّشاطات الإنسانيّة إلى تلك العقائد والمذاهب. وترتكز هذه الآفات الظّاهريّة على ذلك العَطَب الرّوحيّ الذي تعكسه نَزْعَة اللاّمُبالاة المستَحْوِذةُ على نفوس جماهير البشر في كلّ الأُمم، ويعكسه خمود جَذْوَة الأمل في أفئدة الملايين مِمَّنْ يُقاسون اللَّوْعَة والحرمان.
لقد آنَ الأوانُ كي يُسأل الذين دَعَوا النّاس إلى اعتناق العقائد الماديّة، سواءً كانوا من أهل الشّرق أو الغرب، أو كان انتماؤهم إلى المذهب الرّأسماليّ أو الاشتراكيّ – آنَ الأوان ليُسأل هؤلاء ويُحاسَبوا على القيادة الخُلُقِيّة التي أخذوها على عواتقهم. فأَيْنَ "العالم الجديد" الذي وعَدَت به تلك العقائد؟ وأَين السّلام العالميّ الذي يُعلِنون عن تكريس جهودهم لخدمة مبادئه؟ وأين الآفاق الجديدة في مجالات الإنجازات الثّقافيّة التي قامت على تعظيم ذلك العِرق، أو هذه الدّولة، أو تلك الطّبقة الخاصّة؟ وما السّبب في أنَّ الغالبيّة العُظْمَى من أهل العالم تنزلق أكثر فأكثر في غياهب المجاعة والبؤس في وقتٍ بات في متناول يد أولئك الذين يتحكَّمون في شؤون البشر ثرواتٌ بَلَغَت حدَّاً لم يكن لِيَحْلُم بها الفراعنة، ولا القياصرة، ولا حتى القوى الاستعماريّة في القرن التّاسع عشر؟
إِنَّ تمجيد المآرب الماديّة – وهو تمجيد يُمثِّل الأصول الفكريّة والخصائص المشتركة لكلّ تلك المذاهب – إِنَّ هذا التّمجيد على الأخصّ هو الذي نجد فيه الجذور التي تُغذِّي الرّأي الباطل الذي يدَّعي بأنَّ الإِنسان أنانيٌّ وعدوانيٌّ ولا سبيل إلى إصلاحه. وهذه النّقطة بالذات هي التي يجب جلاؤها إذا ما أردنا بناء عالم جديد يكون لائقاً بأولادنا وأحفادنا.
فالقول بأنّ القِيَم الماديّة قد فشلت في تلبية حاجات البشريّة كما أَثبتت التّجاربُ التي مَرَّت بنا، يفرض علينا أَنْ نعترف بصدق وأمانة أَنَّه أصبح لِزاماً الآن بَذْلُ جَهْدٍ جديد لإيجاد الحلول
للمشكلات المُضْنِية التي يُعانيها الكوكب الأرضيّ. فالظّروف التي تحيط بالمجتمع الإنسانيّ، وهي ظروف لا تُطاق، هي الدّليل على أَنَّ فَشَلنا كان فشلاً جماعيّاً بدون استثناء، وهذه الحالة إِنَّما تُذْكِي نَعْرَة التّزمُّت والإصرار لدى كلّ الأطراف بَدَلَ أن تُزيلها. فمن الواضح إذَن أنَّ هناك حاجة مُلِحَّة إلى مجهودٍ مشترك لإصلاح الأمور وشفاء العِلَل. فالمسألة أساساً مسألةُ اتِّخاذ مَوْقِف. وهنا يَتَبادَر إلى الأذهان السّؤال التّالي: هل تستمرّ الإنسانيّة في ضلالها مُتمسِّكة بالأفكار البالية والافتراضات العقيمة؟ أم يَعْمِد قادتها متَّحدين، بِغَضِّ النّظر عن العقائد، إلى التّشاوُر فيما بينهم بعزيمةٍ ثابتة بحثاً عن الحلول المناسبة؟
ويجدُر بأولئك الذين يهمّهم مستقبل الجنس البشريّ أن يُنْعِموا النّظر بالنّصيحة التّالية: "إذا كانت المُثُل التي طال الاعتزاز بها، والمؤسَّسات التي طال احترامُها عبر الزّمن، وإذا كانت بعض الفروض الاجتماعيّة والقواعد الدّينيّة قد قَصَّرت في تنمية سعادة الإنسان ورفاهيته بوجهٍ عامّ، وباتت عاجزةً عن سدّ احتياجات إنسانيّة دائمةِ التّطوّر، فَلِتندثِرْ وتَغِبْ في عالم النّسيان مع تلك العقائد المُهْمَلة البالية. ولماذا تُستثنَى من الاندثار الذي لا بدّ أن يُصيب كلّ مؤسّسة إنسانيّة في عالمٍ يَخْضَع لقانونٍ ثابت من التّغيير والفَنَاء. إِنًّ القواعد القانونيّة والنّظريًّات السّياسيّة والاقتصاديّة وُضِعت أصلاً من أجل المحافظة على مصالح الإنسانيّة ككلّ، وليس لكي تُصْلَب الإنسانيّة بقصد الإبقاء على سلامة أي قانون أو مبدأ أو المحافظة عليه".(UHJ)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53


.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن




.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص