الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرانز كافكا والمسألة الوجودية:الصراع هم الآخرون

بلال سمير الصدّر

2018 / 7 / 31
الادب والفن


فرانز كافكا والمسألة الوجودية:الصراع هم الآخرون
نجد عند قراءة مقالات نقدية عن كافكا الروائي بأن البعض يعتقد أن كافكا ينتمي في حكاياته الكابوسية الى الفلسفة الوجودية..فهل هذا صحيح...هل من الممكن اقحام كافكا في الظل الواسع العريض لما يدعى بالفلسفة الوجودية..؟
في الحقيقة-وهذا معروف-أن الفلسفة الوجودية بدأت من عند سارتر الحاصل على لقب (عميد الأدب الغربي)،على أني افضل أن اطلق عليه بعميد الوجودية الأول.
عندما كتب سارتر روايته الأولى(الغثيان) وظلت هي الأشهر من بين كل كتبه التي كتبها لاحقا من الجدار والجحيم والدوامة والوجودية مذهب انساني وحتى الوجود والعدم.
هذه النزعة التي ظهرت بقوة في ثنايا كتبه والتي دعاها لاحقا بالوجودية،قائمة بشكل كبير على شعور انساني عميق ومكرر،وبذلك تكون الوجودية اختزلت الكثير،بل الكثير جدا من المذاهب الوجودية المشابهة تحت عنوان عام باسم الوجودية.
روكنتان في الغثيان يمارس الحياة بروتينها المتكرر يوميا،والوجود تنتفي قيمته وتخف كل يوم تحت هذا التأمل اليومي الخصب الذي لن يقود البطل سوى الى مزيد من الملل.
هو يعيش الحياة الاعتيادية اليومية من الجنس وحتى الكتابة في الساحات العامة،ولكن الوجود بالنسبة اليه يفقد قيمته ويعتقد بهزليته نتيجة تكراره ويصل الى مرحلة في التفكير:
حياة تنتهي بالموت هل جديرة بأن تعاش...؟
وجاءت رواية ألبير كامو(الغريب) التي تعتبر تحفة الوجودية الأولى-في هذا التيار- وربما هي أفضل من غثيان عميد الوجودية،عن ميرسول الذي يعامل الكون بسلبية كبيرة نتيجة ايمانه ان الحياة مصيرها الى زوال،فموت والدته لايثير فيه اي نحفة من مشاعر سوى تكثيف (السلبية) اتجاه النظرة العامة للكون...لأن الحياة ستزول في يوم ما وهذا المبدأ لايخصه وحده ولايخص الأحياء فقط،بل يخص كل ذرات الوجود،فليس من الداعي ان يثير فيه أي حنق بعدم حصوله على أي زيادة على الراتب.
مع ان هذا الخبر من أهم أخبار الحياة وموت الأم هو فاجعة ما بعدها فاجعة...
يتعامل ميرسول مع الحياة بوصفها وضع مؤقت،والأنكى من ذلك أنه يؤمن أن بعد الموت يوجد العدم ليس إلا...فهل هذا الكون يستحق ان نهدر من أجله أي شيء؟
إذا،وبعيدا عن تعاليم الوجودية من الآخرون هم الجحيم،والعلة والماهية،ومشكلة الحرية،تنطلق الوجودية من شعور انساني محض يمكن أن يشعر به أي واحد فينا..أي شخص على وجه الأرض من الممكن أن يخوض في هذا التفكير وهذه النظرة الى الكون مهما كانت بساطته ومستوى تعليمه،وبذلك تكون انطلاقة الوجودية من مبدأ انساني عام،وهذا التعميم يجعل الكثير من الروائيين ينتمون الى الوجودية من دون قصد ومن دون تعمد ومن منطلق اللاشعور وتوارد الافكار،وعلينا أن لاننسى أن سارتر اعتبر دوستيكوفسكي صاحب البذرة الوجودية الأولى من خلال رواية (مذكرات من تحت الأرض) وهو يسبق التيار الوجودي الذي ابتدعه سارتر بحوالي المائة عام،وعلينا أن لاننسى ايضا ان سارتر هو من اطلق المبادرة الشهيرة عن الاهتمام أكثر بكتابات كافكا قبل ان يحقق الأخير الشهرة بل بالكاد كان معروفا...وربما أصبح كافكا أكثر شهرة منه أي من سارتر نفسه.
إذا بطل الليالي البيضاء-دوستيوفسكي- عندما يتبوتق في غرفته داخل حزنه هو بطل وجودي،وصموئيل بيكيت قبل ان يبتدع-أو يبتدع النقاد- مصطلح مسرح العبث وصاحب مسرحية القرن العشرين-اي المسرحية التي اعتبرت أفضل مسرحية في القرن العشرين وهي في انتظار جودو-فهو وجودي بالأساس.
وهاروكي موراكامي-الكاتب متوسط المستوى والذي لايستحق كل هذا القدر من الشهرة-نجده في رواية (كافكا على الشاطئ)مثلا وجوديا بامتياز عندما يتأمل بطل الرواية المراهق كافكا من اعلى تلة بكتلة كبيرة من البشر باللباس الوظيفي تعبق بالروتين،وتحركاتهم من حيث الذهاب والمجيء غاية في العجلة،ليتساءل عندها:
ما الذي سيتفيده من كل ذلك وهم مصيرهم الى زوال...؟
هذه الفقرة في الرواية المذكورة تجعل من موراكامي وجوديا بامتياز ايضا...
وحدث ولا حرج عن روبرت موزيل صاحب احد اهم روايات القرن(رجل بلاصفات)،وهو الذي اثار استغراب صديقنا ميلان كونديرا،عندما وضعت هذه الرواية كأفضل رواية في الأدب الألماني مختزلة بهذه المتربة النقدية كل انتاج كافكا الابداعي وبالأخص المحاكمة،فنتحن نقول أن رجل بلاصفات هي اهم روايات الأدب الألماني في القرن العشرين حتى لوادى ذلك الى اختزال الأهمية الكبرى والحاسمة لكافكا.
رواية رجل بلاصفات هي من اكثر الروايات سلبية في تاريخ الرواية قاطبة،أي منذ ابتداع سرفانتس لفن الرواية.
فالرجل بلاصفات يحلل نفسه في الرواية على أنه آلة مسيرة لاتستحق منه الحياة ان يقوم بأي رد فعل اتجاهها،وهذا الذي يجعل منه رجل بلاصفات بصفة ممكنة تماما وسلبية على الاطلاق،وهي الحالة التي من الممكن ان ندعوها بالزهد الوجودي.
بينما في روايته الأخرى الأقل شهرة-تورليس الشاب-يعتبر موزيل ان قيام هندسة الكون على حالة أو فكرة رياضية أو معادلة وهمية،وهي الجذر التربيعي للناقص واحد يودي بنا الى معرفة مقدار الوهم والتفاهة التي تحيط بنا وتحملنا في هذا العالم...أي موزيل هو وجودي بامتياز ايضا..
الوجودية هي منهج في التفكير لايقودنا فقط الى الأسئلة الخالدة الثلاث منذ قديم الزمن:
من اين اتينا ولماذا نحن موجودون والى اين نحن ذاهبون؟!
كحالة ليفين بطل رواية آنا كارنينا لليف تولستوي
بل تدفعنا بالرد على كل ذلك بسلبية مطلقة خاصة مع انكار الخالق دوما تصل بنا الوجودية الى مرحلة العدمية.
قلنا ان الوجودية عبارة عن تفكير انساني من الممكن ان يمر به اي شخص،وبذلك يمكن ان يكون هذا الفكر مسقط على البشرية عامة تامة ومنذ عصور الفكر الأولى وهي لاترتبط بالزمن الذي ظهرت فيه (كتسمية) على الاطلاق.
في الماستر بيس( Masterpiece) لميلان كونديرا الخفة غير المحتملة للكائن،يعتبر كونديرا أننا لانملك الخيار في هذه الدنيا للمفاضلة بين خيارين،؟لأن معكوس القرار-لأي خيار كان-سينعكس مباشرة على الواقع،وبهذا فنجن معدمين الخيار بسبب حتمية الخيار الأول،وهذه الفكرة تحاكي الوجودية بأن الانسان وجد على هذه الدنيا مجبورا ولم يسأل ان كان يرغب بهذا الوجود أم لا...
عند وودي الن تكثر هذه الأسئلة على الدوام وفي كل افلامه،ولكن من الممكن اعتبار فيلم (حنا وأخواتها 1986) فيلما وجوديا بامتياز.
يتساءل المخرج وودي الن في احد مشاهد الفيلم-وهو بطل الفيلم بالمناسبة-عندما يرى بعض الأشخاص يمارسون الرياضة:ما الفائدة من ذلك...الكل مصيره الى زوال؟!
السؤال الآن:هل من الممكن اعتبار كافكا احد اعلام هذا التصور الذي قلنا بأنه لاينتمي الى اي عصر؟
حكاية كافكا مختلفة تمام الاختلاف عن الوجوديين لأنها حالة اعقد بكثير...
الشيء المشترك بين كل روايات كافكا،هو معيار الانسان كحالة الوجود الأولى،ومعيار وجوده في صراع مستمر مع الآخرين،وبذلك يحرف كافكا بشكل غير مقصود جملة سارتر الشهيرة:
الآخرون هم الجحيم الى الصراع هو الآخرون
وان كانت الجملة عند سارتر تعني الصراع ايضا...
لذا نحن بعيدون كل البعد عن الحالة الكابوسية التي يعالج فيها كافكا قصصه،وهي الحالة الاكثر شعبية بالتناول النقدي لروايات كافكا..
لنقف قليلا عند المسخ،فإذا كان بطل دوستيوفسكي في مذكرات من تحت الأرض يعاني من الدونية الشديدة،فبطل كافكا تحول الى حشرة أو مسخ،وبالتالي من الممكن اعتبار مسخ أو حشرة كافكا هي المعادل الموضوعي التام لبطل مذكرات من تحت الارض.
على ان الدونية عند كافكا ناشئة نتيجة صراع مع المجتمع ومن نظرة اجتماعية ثانيا،واذا كان بالامكان قياس ومعالجة رواية دوستيوفسكي (مذكرات من تحت الأرض) تامة ضمن مبدأ الدونية،فمن الخطأ الفادح قياس رواية كافكا (الحشرة أو التحول أو المسخ) ضمن هذه الزاوية فقط.
في القصة القصيرة(يوميات طبيب في الأرياف)،وابتعادا عن الحالة الكابوسية التامة الفنتازية في معالجة القصة-هذه المقالة ليست عن اسلوب كافكا-تبدو قصة الطبيب تدور في خضم قرارات اجتماعية صعبة،وينشأ القرار الأول المحتوم بالذهاب لمعالجة الصبي وترك الخادمة(روزا) في حالة غيبية مع شخص متوحش هو سائس الخيل يلمح كافكا اليه بأنه لاينتمي الى هذا العالم اصلا.
تنقلب القرارات...الأهل متأكدون ان الصبي مريض ولكن الطبيب لايعتقد ذلك،على ان الطبيب يرى لاحقا جرحا لايمكن شفاؤه في يد الصبي،والجرح يدل على الخضوع الاجتماعي من قبل الطبيب لقرار ومشاعر الأهل من شدة الإلحاح،ومن ثم يرتمي مصابا مهزوما هو الآخر بجانب الصبي المريض ويغادر منزل المريض مهزوما عاريا من ادنى قطعة من الممكن ان يستر بها نفسه.
ولكن ربما اهم حكاية لكافكا والتي تبرز قوة القرار الاجتماعي على الفرد ،بحيث يبدو هذا الفرد حبيسا داخل قفص من القرارات الاجتماعية التي لاترحم ولايمن ابدا للأنسان ان يتخلص منها،ولاحتى ان يفكر في مقاومتها هي المحاكمة،لأن ك-بطل الرواية-في النهاية سيعدم على على جرم ليس فقط لم يرتكبه بل لايعلم حتى ما هو...
وبهذا نجد كافكا على الدوام حبيسا داخل بوتقة فكرية في مقابل شعوره بالانهزام الداخلي والخارجي من قبل المجتمع،حيث يبدو كافكا كبطل راوية يحاول الخلاص ويحاول التحرر ولكنه لايستطيع ابدا.
في تحريات كلب،يصل بطل الرواية وهو كلب يناجي ويتحدث مع نفسه طوال الرواية الى نتيجة مفادها ان الاضطهاد الاجتماعي لايمكن محاربته مهما أوغل المرء في الفكر والتأمل.
تقريبا في نهاية الرواية،يتواجه الكلب بطل التحريات مع كلب آخر أكبر عمرا..وينتهي الحوار بينهما كالتالي:
يقول الكلب بطل التحريات متسائلا:
أي تضحية تؤثر القيام بها:أن تتخلى عن صيدك أو تتخلى عن طردي؟
فيرد الكلب الأكبر عمرا:أن أتخلى عن صيدي
قلت(الكلب موضوع الرواية):هكذا الا ترى إنك تناقض نفسك؟!

يختتم كافكا رواية تحريات كلب قائلا(على لسان الكلب طبعا):
لربما من أجل العلم نفسه،لكنه علم مختلف عن علم اليوم،علم مطلق...اضع الحرية في مكانة اسمى من اي شيء آخر!الحرية!يقينا أن حرية كتلك الممكنة اليوم هي امر بائس لكنها رغم ذلك حرية..رغم ذلك هي مقتنى نمسكه بأيدينا .
مشكلة الحرية عند كافكا:
هي ليست ذات طبيعة وجودية على الاطلاق..ليست بالانسان الذي رمي على هذا الكون ضعيفا معدوم الخيارات بالوجود نفسه..ليست الحرية التي تودي بنا الى قرار أن كل مايفعله الانسان هو مسؤول عنه...مسؤول عنه بالكامل.
لكن السؤال الذي يطرحه كافكا بكل رواياته،هل المؤسسة تعطي الفرد حرية القرار...هل الانسان فعلا ليس مغصوبا على كل افعاله،واذا كانت النظرة الدونية عند دوستيوفسكي (مذكرات من تحت الأرض) قائمة على نظرة ذاتية للنفس من خلال شعور داخلي،فالتحول الى حشرة عند كافكا كان اساسه المجتمع وليس الفرد نفسه.

كافكا من اكثر المباحث تشعبا على الاطلاق،وهذه النظرة لكافكا لن تزيد ولن تنقص هذه التشعبات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة