الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خجي وسيامند: الفصل الثالث 2

دلور ميقري

2018 / 8 / 2
الادب والفن


الجوّ تعرّى من حرارة الظهيرة، مُعبِّقاً بعطر أزهار الليمون بشرتَهُ البنفسجية، المعفَّرة بالتراب والغبار. فترة الجفاف، يُستهل أوانُها اعتباراً من فاتح نيسان/ ابريل، وكأنما بُغيَة البرهنة على كذبة الربيع المراكشيّ. وإنها كذبة، كما يقول مَن تدعوه السيّدة السويدية " عبد "، مُقتَبِساً ربما عن كاتبٍ ما: " استهلت في واقع الحال منذ ألف عام؛ أي منذ تحويل واحة نخيل إلى قاعدة دولة بربرية، ستمدّ عُمرَ الإسلام في الأندلس قروناً ضافية. ولكن العنصر البربريّ نفسه، لن يقوم له قائمة في زمننا المعاصر إلا بصفة أكسسوار سياحيّ، أو ثقافيّ بأحسن الأحوال! وإنها صفة ضرورية لكسب ودّ دول الغرب، الأقرب جغرافياً. وفيما الإعلام المدجّن، يُردد خُطبَ أئمة المنابر عن تلك الدول الصليبية، المتخوفة من إمكانية اكتساح الأندلس مجدداً على يد ‘ بن تاشفين ‘ آخر؛ في الوقت نفسه، تُعرض أجساد صبايا البلد في سوق الرقيق على مرأى من أعين السيّاح والمقيمين الأجانب ".
" ها نحن وصلنا إلى الفيللا "، قال لها رفيق الرحلة مومئاً برأسه إلى جهة اليمين. " الفيللا! "، نطقها الرجلُ ببساطة دونَ أن يعلمَ ما تعنيه الكلمة من دلالاتٍ، تكاد تعني حياةً بأسرها. بلى، حياة صديقها الراحل، المراكشية، كانت بؤرتها هنا؛ في هذا المبنى المكوّن من دورين، المصبوغ باللون النبيذيّ والمطوّق من جهات ثلاث بالعَرَصات الخضراء. الفيللا تجثم على بُعد بضع عشراتٍ من الخطوات عن الأسوار، باسطةً أطرافها الأربعة ـ كما الهولة، المتصدية للفتى " أوديب " عند مدخل مدينة طيبة.
وهيَ ذي " تينا " أمام هولة أسطورة الشقيقين الدمشقيين، تلاحظ من خلال أعينهما المنظرَ العام، المنبسط على طول الطريق الرابط بين السور وساحة الحرية. الظلال الهيّنة لأشجار الليمون على جانبيّ الشارع ذي الاسم الملكيّ، تفصل رصيفيه الأنيقين عن العرصات المتربة، الكثيفة الأفياء. ضوضاء المركبات من كلّ صنف ولون، تتمادى في الجو أكثر من روائح تراب الدروب وأزهار أحواض الزينة وعطور بغايا الحيّ الراقي. تهيمن على المنظر كله السُحُبُ الشحيحة، وكانت ما تنفكّ مضاءة بأواخر الأشعة الوردية للشمس المحتضرة؛ تهيمن على كلمات المتسولين، المتصاعدة إلى الله عبرَ طبقات الجوّ المشحونة بأنفاس ملائكته وجنّه.

***
" إنها منارة الكتبيّة، أهم رمز في المدينة بعد ساحتها الشهيرة "
قال لها رفيقُ الرحلة رداً على سؤالها عن ذلك البرج الغامض، الذي أدهشها بارتفاعه وضخامته وتصميمه المعماريّ. كان يتقمّصُ صفةَ الدليل، مع علمه بالطبع أنها لم تأتِ إلى مراكش كسائحة. ولكنه لاحَ مندهشاً بدَوره، فيما كانت عيناه ترتفعان إلى الأبراج الأربعة للفيللا، المنسوخة معمارياً عن طريقة بناء القصبة البربرية في ورزازات. هذه الحاضرة، مثلما سيعلم لاحقاً، هيَ مسقط رأس " السيّد الفيلالي "؛ صاحب الفيللا ومَن بناها بيديه قبل نحو عقدٍ من الأعوام. ولقد أختار الرجلُ المكانَ، عن دراية وقصد، كونه على مقربة من المنارة.
بلى، إنّ " تينا " لم تأتِ كسائحة بل هيَ في مهمّة لا تقل قداسة عن موقع المكان. وإنها لتعترف ضمناً في ضميرها، أنّ المهمة ستخلّصها ربما من حالة الاكتئاب، التي أوغلت فيها بسبب حادثة رحيل شريك حياتها، المأسوية. ولعل الأسرة المحسنة تُشاركها حزنها، ومن ثمّ تعينها عليه مثلما يفعل رمزُ اليد الزرقاء، " الخميسة "، المطبوع كميدالية أو لوحة في كلّ بيتٍ مغربيّ. وإنها هنا أخيراً، تدلفُ من باب السيارة لتقابل المبنى المتبدّي شبهَ مهجورٍ في منتصف المسافة بين السور وساحة الحرية. تلتفتُ حائرةً إلى مرافقها، منتبهةً إلى خلو يدها من هدية نتيجة انشغال بالها طوال اليوم بأمر المهمّة. فلما فهمَ منها حقيقةً حرَجها، فلم يتوانَ عن إطلاق ضحكته المكتومة قائلاً: " لا عليكِ. في المرة القادمة، بالوسع القدوم مع شيء من الحلوى بحسب تقاليدنا المحلية. إنما بشرط أن نكون مدعوَيْن للغداء! "
" أخمّنُ أنّ المحل ذاك، الملتصق بجدار الفيللا الخارجيّ، ما يفتأ مخصصاً لبيع الحلويات؟ "، قالتها حين بلغت منتصفَ الدرب الضيّق، المتفرّع عن الشارع ذي الاسم الملكيّ. من وراء كتفيها شبه العاريين، نظرَ " عبد الإله " إلى شخصٍ منتصب على مدخل المحل كأنه طودٌ من لحم أسمر. أدركَ رفيق الرحلة، على الأرجح، أن الفتاة كانت تنظرُ إلى الماضي من خلال ذكريات صديقها الراحل. فأجابها بعدما استردَ نظره من تلك الناحية: " يبدو المحل وقد تحوّل إلى كشك، ومن المحتمل أيضاً أن صاحبه قد استُبدل بآخر "
" محتمل، محتمل.. "، رددت باللغة الانكليزية ساهمةً وبطريقة توحي أنها ما تزال تطير بأجنحة الذكرى. ذبابة مزعجة، لها أجنحة الحاضر، شاءت الطنين فوق رأس المرأة فجعلتها تجفل وتفيق من غفوة الماضي. عندئذٍ تقدّم الرجلُ بخطى واسعة، ليضع أصبعه على جرس باب الفيللا: " المنزل، هوَ مكتبةُ الأسرار! "، خاطبها منتحلاً هذه المرة نبرةً غامضة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما